الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #48
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الثانية والثلاثون

هذه الكلمة ذيل يوضح اللمعة الثامنة من الكلمة الثانية والعشرين. وهي تفسير لأول لسان من خمسة وخمسين لساناً من ألسنة الموجودات الشاهدة على وحدانية الله سبحانه وتعالى، والتي اشير اليها في رسالة ((قطرة من بحر التوحيد))(1) وهي في الوقت نفسه حقيقة من الحقائق الزاخرة للآية الكريمة ] لو كان فيهما آلهةٌ إلاّ الله لفسدتا[ لبست ثوب التمثيل.

الموقف الأول

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] لوكان فيهما آلهةٌ إلاّ الله لفسدتا[ (الانبياء: 22)

(لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت بيده الخير وهو على كل شئ قدير واليه المصير)

كنت قد بينت في احدى ليالي رمضان المبارك؛ ان في كلٍ من الجمل الاحدى عشرة من هذا الكلام التوحيدي بشارة سارة، ومرتبة من مراتب التوحيد. وقد بسطت الكلام بسطاً يقرب من فهم العوام لتوضيح ما في جملة (لا شريك له ") وحدها من معانٍ جميلة؛ وذلك على صورة محاورة تمثيلية ومناظرة افتراضية، واتخاذ لسان الحال على هيئة لسان المقال. وادرج الآن تلك المحاورة اسعافاً لطلب اخوتي الاعزاء الذين يعينونني في شؤوني، ونزولاً عند رغبة رفقائي في المسجد ونظراً لطلبهم. وهي على النحو الآتي:

نفترض شخصاً يمثل الشركاء الذين يتوهمهم جميع انواع اهل الشرك والكفر والضلال من امثال عبدة الطبيعة والمعتقدين بتأثير الاسباب والمشركين. ونفرض ان ذلك الشخص المفترض يريد أن يكون رباً لشئ من موجودات العالم، ويدّعي التملك الحقيقي له!

وهكذا فقد قابل ذلك المدّعي اولاً ما هو أصغر شئ في الموجودات وهو الذرة، فقال لها بلسان الطبيعة وبلغة الفلسفة المادية أنه ربها ومالكها الحقيقي!

فاجابته تلك الذرة بلسان الحقيقة وبلغة الحكمة الربانية المودعة فيها:

انني اؤدي وظائف واعمالاً لا يحصرها العدّ. فأدخل في كل مصنوع على اختلاف انواعها، فان كنت ايها المدّعي مالكاً علماً واسعاً يحيط بجميع تلك الوظائف وصاحب قدرة شاملة توجّه جميعها، ولك حكم نافذ وهيمنة كاملة على تسخيري وتوجيهي مع امثالي(1) من الذرات العاملة والمتجولة في الوجود.. وكذا لو كنت تتمكن من أن تكون مالكاً حقيقياً للموجودات التي أنا جزء منها - كالكريات الحمر - وتتصرف فيها بانتظام تام.. فلك أن تدّعي المالكية عليّ، وتسند أمري الى غير خالقي سبحانه.. والاّ فاسكت! اذ لا تقدر على أن تتدخل في شؤوني فضلاً عن انك لا تستطيع أن تكون رباً لي؛ لأن ما في وظائفنا واعمالنا وحركاتنا من النظام المتقن الكامل بحيث لن يقدر عليه من لم يكن ذا حكمة مطلقة وعلم محيط، فلو تدخّل غيره لأفسد.

فأنّى لك ايها المدعي أن تمد اصبعك في شؤوننا وانت العاجز الجامد الاعمى الأسير بيد الطبيعة والمصادفة العمياويين!

فقال المدعي ما يقوله الماديون:

- اذن كوني مالكة لنفسك، فَلِمَ تقولين انك تعملين في سبيل غيرك؟ فاجابته الذرة:

- لو كان لي عقل جبار كالشمس وعلم محيط كضوئها وقدرة شاملة كحرارتها وحواس ومشاعر واسعة كالالوان السبعة في ضيائها ووجه متوجّه الى كل مكان أسيح فيه وعين ناظرة وكلام نافذ الى كل موجود أتوجه اليه.. ربما كنت أتغابى مثلك فأدّعي الحاكمية لنفسي!. تنحّ عني فليس لك موضع فينا.

وعندما يئس داعية الشرك من الذرة. قابل كرية حمراء من الدم، علّه يظفر منها بشئ. فقال لها بلسان الاسباب ولغة الطبيعة ومنطق الفلسفة:

- انا لكِ رب ومالك!

فردّت عليه الكرية الحمراء بلسان الحقيقة وبلغة الحكمة الربانية:

- انني لست وحيدة منفردة، فأنا وأمثالي جميعاً في جيش الدم الكثيف، نظامنا واحد ووظائفنا موحدة، نسير تحت إمرة آمر واحد. فان كنت تقدر على أن تملك زمام جميع ما في الدم من امثالي، ولك حكمة دقيقة وقدرة عظيمة تحكمان سيطرتهما على جميع خلايا الجسم التي نجول فيها ونُستخدم لإنجاز مهمات فيها بكل حكمة وانتظام، فهاتها. فلربما يكون عندئذٍ لدعواك معنى. ولكنك ايها المدعي لا تملك سوى قوة عمياء وطبيعة صماء فلا تقدر على أن تتدخل في شؤوننا ولو بمقدار ذرة، فضلاً عن ادّعاء التملك علينا؛ لأن النظام الذي يهيمن علينا دقيق وصارم الى حدّ لا يمكن أن يحكمنا الاّ من يرى كل شئ ويسمع كل شئ ويعلم كل شئ ويفعل ما يشاء. ولهذا فاسكت. اذ لا تدع وظائفنا الجليلة ودقتها ونظامها مجالا ً لنا لنسمع هذرك.. وهكذا تطرده الكرية الحمراء.

ولما لم يجد ذلك المدّعي بغيته فيها. ذهب فقابل خلية في الجسم فقال لها بمنطق الفلسفة ولسان الطبيعة:

- لم اتمكن من ان اُسمع دعواي الى الذرة، ولا الى الكرية الحمراء، فلعلي اجد منك اُذناً صاغية؛ لأنك لست الاّ حجيرة صغيرة حاوية على اشياء متفرقة! ولهذا فانني قادرة على صنعك . فكوني مصنوعتي ومملوكتي حقاً!

فقالت لها الخلية بلغة الحكمة والحقيقة:

انني صغيرة جداً حقاً، ولكن لي وظائف جليلة وجسيمة، ولي علاقات وروابط وثيقة ودقيقة جداً مع جميع خلايا الجسم. فلي وظائف متقنة مع جميع الاوعية الدموية من شرايين واوردة واعصاب محركة وحسية، ومع جميع القوى التي تنظم الجسم كالقوة الجاذبة والدافعة والمولّدة والمصوّرة وامثالها؛ فان كان لك ايها المدّعي علم واسع وقدرة شاملة تنشئ تلك العروق والاعصاب والقوى المودعة في الجسم وتنسقها وتستخدمها في مهماتها.. وكذا ان كانت لديك حكمة شاملة وقدرة نافذة تستطيع ان تتصرف في شؤون اخواتي من خلايا الجسم كلها، والتي تتشابه في الاتقان والروعة النوعية، فهيا اظهرها، ثم ادّع بانك تتمكن من صنعي. والاّ فاغرب عنا. فان الكريات الحمر تزودني بالارزاق، والكريات البيضاء تدافع عني تجاه الامراض المهاجمة. فلي اعمال جسام، لا تشغلني عنها. فان عاجزاً قاصراً أعمى مثلك ليس له حق التدخل في شؤوننا الدقيقة ابداً؛ لأن فينا من النظام المحكم الكامل(1) ما لو يحكمنا غير الحكيم المطلق والقدير المطلق والعليم المطلق لفسد نظامنا وانفرط عقدنا.

وهكذا يئس المدّعي من الخلية كذلك، ولكنه قابل جسم الانسان، فقال له كما يقول الماديون، بلسان الطبيعة العمياء والفلسفة الضالة:

- انت ملكي. فانا الذي صنعتك، أو في الأقل لي حظٌ فيك!

فردّ عليه ذلك الجسم الانساني بحقيقة النظام الحكيم الذي فيه:

- ان كان لك ايها المدعي علم واسع وقدرة شاملة لها التصرف المطلق في جميع اجسام البشر من امثالي، لوضع العلامات الفارقة الظاهرة في وجوهنا، والتي هي طابع القدرة وختم الفطرة.. وكــذا لــو كــانـت لـك ثروة طــائــلة وحــاكمية مهيمــنــة تتحكم في مخازن أرزاقي الممتدة من الهواء والماء الى النبــاتـات والحيوانات.. وكذا لو كانت لك حكمة لا حدّ لها وقدرة لا منتهى لها بحيث تمكّن اللطائف المعنوية الراقية الواسعة من روح وقلب وعقل في بودقة صغيرة مثلي وتسيّرها بحكمة بالغة الى العبودية، فأرنيها ثم ادّع الربوبية لي، والاّ فاسكت، فان صانعي الجليل قادر على كل شئ عليم بكل شئ بصير بكل شئ، بشهادة النظام الاكمل الذي يسيّرني، وبدلالة طابع الوحدانية الموجود في وجهي، فلا يقدر عاجز وضال مثلك أن يمدّ اصبعه الى صنعته البديعة ابداً ولا أن يتدخل فيها ولو بمقدار ذرة.

فانصرف داعية الشرك حيث لم يستطع ان يجد موضعاً للتدخل في الجسم، فقابل نوع الانسان، فحاور نفسه قائلاً: ربما أجد في هذه الجماعة المتشابكة المتفرقة موضعاً، فأتدخل في احوال فطرتهم ووجودهم مثلما يتدخل الشيطان بضلاله في أفعالهم الاختيارية وشؤونهم الاجتماعية. وعندها اتمكن من أن اجري حكمي على جسم الانسان الذي طردني هو وما فيه من خلايا.

ولهذا خاطب نوع الانسان بلسان الطبيعة الصماء والفلسفة الضالة ايضاً:

- انتم ايها البشر تبدون في فوضى، فلا أرى نظاماً ينظمكم، فانا لكم رب ومالك، أو في الاقل لي حصة فيكم.

فردّ عليه حالاً نوع الانسان بلسان الحق والحقيقة وبلغة الحكمة والانتظام:

- ان كنت مالكاً - ايها المدعي - قدرةً تتمكن من أن تُلبس الكرة الارضية حلّة قشيبة ملونة بألوان زاهية منسوجة بكمال الحكمة بخيوط انواع النباتات والحيوانات التي تنوف على مائة الف نوع الشبيهة بنوعنا الانساني، وتكون بوسعها نسج ذلك البساط البديع المفروش على الارض من خيوط مئات الالوف من انواع الكائنات الحية، والتي هي في ابدع نقش واجمله.. وفــضلاً عن خـلق هذا البساط الرائع، تجدده دوماً وبحكمة تامة! فان كانت لديك قدرة محيطة وحكمة شاملة كهذه، بحيث تتصرف في كرة الارض التي نحن من ثمارها، وتدبّر شؤون العالم الذي نحن بذوره، فترسل بميزان الحكمة لوازم حياتنا الينا من اقطار العالم كله.. وان كنت تنطوي - ايها المدعي- على اقتدار يخلق علامات القدرة الإلهية المميزة الموحدة في وجوهنا، وفي امثالنا من السالفين والآتين.. فان كنــت مالــكاً لما ذكـرنا فلربما يكون لك حقّ ادّعاء الربوبية علىّ. والاّ فاخرس! ولا تقل انني اتمكن من أن أتدخل في شــؤون هــؤلاء الــذين يبدون في اخــتــلاط وتشـــابك، اذ الانتظــام عــنــدنا على أتمه، وتلك الاوضاع التي تظنها فوضى انما هي استنساخ للقدرة الإلهية بكمال الانتظام على وفق القدر الإلهي. فلئن كان النظام دقيقاً في ادنى درجات الحياة كالنباتات والحيوانات ويرفض اي تدخلٍ كان، فكيف بنا ونحن في قمة مراتب الحياة؟ أليس الذي يبدو اختلاطاً وفوضى هو نوع من كتابة ربانية حكيمة؟ أفيمكن للذي مكّن خيوط النقوش البديعة لهذا البساط، كلٌ في موضعه المناسب، وفي اي جزء وطرف كان، ان يكون غير صانعه، غير خالقه الحقيقي، فهل يمكن أن يكون خالق النواة غير خالق ثمرتها؟ وهل يمكن أن يكون خالق الثمرة غير خالق شجرتها؟ ولكنك اعمى لا تبصر! ألاترى معجزات القدرة في وجهي وخوارق الصنعة في فطرتي؟ فان استطعت ان تشاهدها، فستدرك أن خالقي لا يخفى عليه شئ ولا يصعب عليه أمر، ولا يعجزه شئ، يدير النجوم بيسر ادارة الذرات، ويخلق الربيع الشاسع بسهولة خلق زهرة واحدة، وهو الذي ادرج فهرس الكون العظيم في ماهيتي بانتظام دقيق، أفيمكن لعاجز أعمى مثلك أن يحشر نفسه فيتدخل في ابداع هذا الخالق العظيم والصانع الجليل.. ولهذا فاسكت واصرف وجهك عني.. فيمضى مطروداً.

ثم يذهب ذلك المدّعي الى البساط الزاهي المفروش على وجه الارض والحلة القشيبة المزينة التي اُلبست، فخاطبه باسم الاسباب وبلغة الطبيعة ولسان الفلسفة:

- انني اتمكن من التصرف في شؤونك، فانا اذن مالك لك ولي حظ فيك في الأقل.

وعند ذلك تكلم ذلك البساط المزركش، وتلك الحلة القشيبة(1) وخاطبا ذلك المدعي بلغة الحقيقة وبلسان الحكمة المودعة فيهما:

- ان كانت لك قدرة نافذة واتقان بديع يجعلانك تنسج جميع هذه البسط المفروشة والحلل البهية التي تخلع على الارض بعدد القرون والسنين ثم تنزعها عنها بنظام تام وتنشرها على حبل الزمان الماضي، ومن بعد ذلك تخيط ما تخلع عليها من حلل زاهرة بنقوشها وتفصّل تصاميمها في دائرة القدر.. وكذا ان كنت مالكاً ليد معنوية ذات قدرة وحكمة بحيث تمتد الى كل شئ ابتداءً من خلق الارض الى دمارها، بل من الازل الى الأبد، فتجدد وتبدّل أفراد لحمة بساطي هذا وسداه.. وكذا ان كنت تستطيع أن تقبض على زمام الارض التي تلبسنا وتكتسي بنا وتتستر.. نعم إن كنت هكذا فادعّ الربوبية عليّ.. والاّ فاخرج مذموماً مدحوراً من الارض. فليس لك مقام هنا؛ اذ فينا من تجليات الوحدانية وأختام الأحدية بحيث مَن لم يكن جميع الكائنات في قبضة تصرفه ولم ير جميع الاشياء بجميع شؤونها دفعة واحدة، ولم يستطع أن يعمل اموراً لا تحد في آن واحد، ولم يكن حاضراً ورقيباً في كل مكان ومنزّهاً عن المكان والزمان.. لا يتمكن أن يكون مالكاً لنا ابداً، بل لا يمكن أن يتدخل في امورنا مطلقاً. اي من لم يكن مالكاً لقدرة مطلقة وحكمة مطلقة وعلم مطلق، لا يمكن أن يتحكم فينا ويدّعي المالكية علينا.

وهكذا يذهب المدّعى مخاطباً نفسه: لأذهب الى الكرة الارضية علني استغفلها وأجد فيها موضعاً.. فتوجه اليها قائلاً لها(2) باسم الاسباب وبلسان الطبيعة مرة اخرى:

- ان دورانك هكذا دون قصد يشف عن انك سائبة دون مالك. ولهذا يمكن ان تكوني طوع أمري!

فردت عليه الارض بصيحة كالصاعقة منكرة دعواه بلسان الحق والحقيقة المضمرة فيها:

- لا تهذر ايها الاحمق الابله!. كيف اكون هملاً بلا مالك ومولى! فهل رايت في ثوبي الذي البسه خيطاً واحداً فقط نشازاً بغير حكمة ومن دون اتقان! حتى تزعم ان حبلى على غاربي وانني بلا مولى ولا مالك؟ انظر فحسب الى حركاتي، ومنها حركتى السنوية(1) التي اسير فيها مسافة خمس وعشرين الف سنة في سنة واحدة فقط، منجزة وظائفي الملقاة عليّ بكمال الميزان والحكمة.. فان كانت لديك حكمة مطــلـقــة وقدرة مطلـقة فــتسيـّر وتجــري معي رفــقائــي من الســيــارات العــشر من امثالي في افلاكها العظمى، وتخلق الشمس المنيرة التي هي قائدنا وامامنا والتي تربطنا واياها جاذبة الرحمة فتديرنا وتجري بنا انا والسيارات جميعاً حول الشمس بنظام تام وحكمة كاملة. نعم ايها المدعّي ان كانت لديك قدرة مطلقة وحكمة مطلقة على ادارة هذه الامور الجسام وتدبيرها فادّع بدعواك. والاّ فاترك هذا الهذيان المفرط، وسحقاً لك في جهنم وبئس المصير، فلا تشغلني عن مهماتي العظيمة. اذ إن ما فينا من الانتظام الرائع والتناسق المهيب والتسخير الحكيم يدل بوضوح على ان جميع الموجودات من الذرات الى النجوم والى الشموس طوع أمر صانعنا ومسخّرة له. اذ مثلما ينظم الشجرة بسهولة ويزّين ثمراتها فانه بالسهولة نفسها ينظم الشمس بسياراتها. فهو الحكيم ذو الجلال والحاكم المطلق ذو الكمال.

ثم يتوجه ذلك المدعي الى الشمس بعد أن لم يجد له موضع قدم في الارض فحاورنفسه قائلاً: إن هذه الشمس شئ عظيم، لعلّي أجد فيها ثغرة أمرر فيها دعواي واسخّر بدوري الارض كذلك.

فقال للشمس بلسان الشرك وأضاليل الفلسفة الشيطانية، وكما يقوله المجوس:

- انت يا شمس سلطانة العالم، وانت حتماً مالكة لنفسك، وتتصرفين في العالم كيف تشائين.

وعلى الفور اجابته الشمس بلسان الحق والحقيقة:

- كلا والف مرة كلا.. بل لست الاّ مأمورة مطيعة مسخرة بوظيفة تنوير مستضاف سيدي. فلست مالكة لنفسي ابداً بل لست مالكة حتى لجناح ذبابة ملكاً حقيقياً، لأن في جسم الذباب من الجواهر المعنوية النفيسة، كالعين والاذن ومن بدائع الصنعة، ما لا املكه قط وما هو خارج عن طوقي. وهكذا يوبّخ المدّعي.

فينبرى ذلك المدّعي قائلا بلسان الفلسفة المتغطرسة المتفرعنة:

- ما دمت لست مالكة لنفسك، بل خادمة، فاذن انت مملوكة لي وتحت تصرفي باسم الاسباب.

فردت عليه الشمس رداً قوياً باسم الحق والحقيقة وبلسان العبودية قائلة:

- انما انا اكون مملوكة لمن خلق نجوماً عالية من امثالي، واسكنَها في سمائه بكمال حكمة، وأدارها بكمال هيبة، وزيّنها بكمال زينة.

ثم ان ذلك المدّعي بدأ يحدّث نفسه: ان النجوم مختلطة مزدحمة، وهي مشتتة متباعدة بعضها عن بعض، فلعلي أجد منها موضعاً باسم موكلي فاظفر منها بشئ.. فيدخل بين النجوم.

فقال لها كما يقول الصابئة عباد النجوم باسم الاسباب وفي سبيل شركائه وبلسان الفلسفة الطاغية:

ـ ايتها النجوم! ان حكاماً كثيرين يتحكمون فيكم لشدة تشتتكم وتبعثركم.

فاجابته نجمة واحدة نيابة عن النجوم: ما اشد بلاهتك ايها المدعي الاحمق.ألا ترى علامة التوحيد وطغراء الاحدية على وجوهنا، ألا تفهمها؟. ألا تعلم انظمتنا الراقية وقوانين عبوديتنا الصارمة؟ اتظننا بلا نظام؟

فنحن مخلوقون عبيداً لواحد أحد يمسك في قبضته امورنا وامور السموات التي هي بحرنا والكائنات التي هي شجرتنا وفضاء العالم الواسع الذي هو مسيرنا. فنحن شواهد نورانية كالمصابيح المنيرة ايام المهرجانات نبيّن كمال ربوبيته سبحانه، ونحن براهين ساطعة نعلن عن سلطنة ربوبيته، فكل طائفة منا خدمة عاملون نورانيون ندل على عظمة سلطنته في منازل علوية سفلية دنيوية برزخية اخروية.

نعم، اننا معجزة باهرة من معجزات قدرة الواحد الأحد. وثمرة يانعة لشجرة الخلقة. وبرهان منور للوحدانية. فنحن للملائكة منزل وطائرة ومسجد، وللعوالم العلوية مصباح وشمس، وعلى سلطنة الربوبية شاهد، ولفضاء العالم وقصره زينة وزهرة. وكأننا اسماك نورانية تسبح في بحر السماء، وعين جميلة لوجه السماء(1). فكما ان كلاً منا هكذا فان في مجموعنا: سكوت في سكون.. وحركة في حكمة.. وزينة في هيـبة.. واستواء خلقة في انتــظام.. واتقان صنــعة في مــوزونية. لهــذا نشهد بألسنة غير محدودة على وحدانية صانعنا الجليل وبأحديته وصمدانيته وعلى اوصاف جمـاله وكماله وجــلاله ونعــلن هذه الشـهادة على اشهاد الكائنات جــمـيعــها.. أفبعــد هذا تـتـهمــنــا ونحن العـبيد الطـاهرين المطـيعـين المسخرين باننا في فوضى واختلاط وعبث بل بلا مولى ومالك؟ فانك لا شك تستحق التأديب على اتهامك هذا.. فترجم نجمةٌ واحدة ذلك المدعي فتطرحه من هناك الى قعر جهنم وبئِس المصير. وتقذف معه الطبيعة ومدّعيها الى وادي الأوهام(1) وتلقي المصادفة الى بئر العدم، والشركاء الى ظلمات الامتناع والمحال، والفلسفة المعادية للدين الى اسفل سافلين.

فترتل تلك النجمة مع النجوم كلها قوله تعالى:

] لو كان فيهما آلهةٌ إلاّ الله لفسدتا[

معلنة أن لا مجال لشريك قط ولا حدّ له ان يتدخل حتى في ادنى شئ اعتباراً من جناح ذبابة الى قناديل السماء.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سراج وحدتك في كثرة مخلوقاتك ودلاّل وحدانيتك في مشهر كائناتك وعلى آله وصحبه اجمعين.

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] فَانْظُر اِلى آثَارِ رَحْمتِ الله كَيْفَ يُحيْىِ الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها[ (سورة الروم:50)



هذه الفقرة العربية تشير الى زهرة واحدة من البستان الازلي لهذه الآية الكريمة .

حتى كأن الشجرة المزهّرة.. قصيدة منظومة محرّرة .. وتُنشد للفاطر المدائح المبهّرة.

او فتحتْ بكثرةٍ عيونَها المبصّرة.. لتنظر للصانع العجائب المنشّرة.

او زيّنت لعيدها اعضاءها المـخـضّرة.. ليشهدَ سُلطانُها آثارَه المنوّرة .. وتشهر في الـمحـضر مرصّعات الجوهر.. وتعلن للبشر حكمة خلق الشجر.. بكنزها المدخر من جود رب الثمر.

سبحانه ما احسن احسانه! ما ازين برهانه ما أبين تبيانه!.

خيال بيند ازين اشجار ملائك را جسد آمد سماوي با هزاران نى.. ازين نيها شنيدت هوش ستايشهاى ذات حي.. ورقهارا زبان دارند همه هو هو ذكر آرند بدر معناى حي حي.. جو لا إله الاّ هو برابر ميزند هر شئ.. دمادام كويدند يا حق سراسر كويدند يا حى برابر ميزند الله.

] ونزّلنا من السماءِ ماءً مُباركاً[ (ق:9).

ذيل صغير

للموقف الاول

فاستمع للآية الكريمة:

] أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّناها...[ الى آخر الآية (ق:6)

ثم انظر الى وجه السماء! كيف ترى سكوتاً في سكونة، حركة في حكمة، تلألؤاً في حشمة، تبسماً في زينة، مع انتظام الخلقة، مع اتزان الصنعة. تشعشُعُ سراجِها، تهلُلُ مصباحِها تلألؤ نجومها، تعلن لأهل النهى، سلطنة بلا انتهاء.

هذه الفقرات (العربية) انما هي ترجمة بعض معاني الآية الكريمة المتصدرة، وهي تعني: ان الآية الكريمة تلفت نظر الانسان الى وجه السماء الجميل المزّين. ليرى بتلك الملاحظة وانعام النظر؛ سكوتاً وصمتاً في سكون وهدوء، وليعلم ان السماء قد اتخذت ذلك الوضع الهادئ، بأمر قدير مطلق القدرة وبتسخيره. اذ لولا تلك القدرة المطلقة، اي لو كانت السماء مفلوتة الزمام، طليقة في حركاتها وسكناتها، لكانت تلك الاجرام الهائلة، المتداخل بعضها في البعض، وتلك الكرات الضخمة، تحدث بحركاتها الرهيبة اصواتاً مدوية مخيفة تصم سمع الكائنات قاطبة، ولحدث من الاختلاط والاضطراب ما تتلاشى من شدته الكائنات كلها، اذ من المعلوم انه لو ثار عشرون جاموساً في حقل لاختلط الحابل بالنابل، ولتسبب الدمار والهرج والمرج، فكيف باجرام سماوية اضخم من ارضنا بألف مرة، تنطلق في سرعةٍ هي أسرع من القذيفة بسبعين مرة، كما هو ثابت في علم الفلك! فافهم من هذا ان الهدوء الذي يعم الاجرام ويخيم على السماء انما يبيّن مدى سعة قدرة القدير ذي الكمال ومدى هيمنة تسخير الصانع الجليل لها، ومدى انقياد النجوم وخضوعها لأوامره تعالى.

(حركةً في حكمة): ثم ان الآية الكريمة تأمر ايضاً بمشاهدة ما في وجه السماء من حركة ضمن حكمة. اذ إنها حركات عظيمة تسير ضمن حكمة دقيقة واسعةٍ تتحير منها الالباب ويقف امامها الانسان باعجاب واكبار.. فكما ان صناعاً ماهراً يدير دواليب معمل وتروسه على وفق حكمة محددة، انما يبين بعلمه هذا درجة مهارته ودقة صنعته ضمن عظمة المعمل وانتظامه، كذلك القدير المطلق الجليل (وله المثل الاعلى) الذي يعطى للشمس وسياراتها وضعاً خاصاً شبيهاً بوضع معمل عظيم. فيدير تلك الكرات الهائلة، كأنها احجار مقلاع صغيرة، ودواليب معمل بسيط، يديرها حول الشمس، امام الأنظار ليدرك الانسان بتلك النسبة طلاقة قدرته وسعة حكمته.

(تلألؤا في حشمة، تبسماً في زينة): اي أن في وجه السماء ايضاً سطوعاً باهراً وتهللاً مهيباً، وتبسماً وبشاشة في زينة وجمال، مما يبيّن عظمة سلطنة الصانع الجليل، ومدى الدقة في صنعته الجميلة. اذ كما أن إضاءة مصابيح وانوار واظهار مظاهر الفرح والبهجة في يوم اعتلاء السلطان العرش، إنما هو لبيان درجة كماله في مضمار الرقي الحضاري. كذلك السموات العظيمة بنجومها المهيبة تُظهر لنظر المتأمل كمال سلطنة الصانع الجليل وجمال صنعته البديعة.

(مع انتظام الخلقة، مع اتزان الصنعة): تقول العبارة: انظر الى انتظام المخلوقات في وجه السماء، وافهم وزان المصنوعات بموازين دقيقة، وادرك من هذا: ما اوسع قدرة صانع هذه المخلوقات ومَا اعمّ حكمته!

نعم! ان ادارة مواد صغيرة او اجرام وحيوانات، وتدويرها وتسخيرها، وسوق كل منها الى طريق خاص يعيّن بميزان مخصص، تبين مدى قدرة القائم بها ومدى حكمته ومدى طاعة تلك المواد والحيوانات وانقيادها لأوامره. كذلك الأمر في السموات الواسعة جداً. فانها تبين بعظمتها المحيرة، وبنجومها الجسيمة التي لا يحصرها العد وبحركاتها الفائقة، مع عدم تجاوزها عمّا قدّر لها من حدود ولو قيد أنملة وعدم تخلفها عنها ولو بلحظة، وعدم توانيها عن اداء ما وكل بها من واجب ولو بعشر معشار الدقيقة.. اقول انها تبين للانظار ان صانعها وخالقها الجليل يظهر ربوبيته الجليلة باجرائه هذه الامور بميزان دقيق خاص.

(تشعشع سراجها، تهلل مصباحها، تلألؤ نجومها، تعلن لأهل النهى سلطنة بلا انتهاء).

اي ان تسخير الشمس والقمر والنجوم الوارد في آيات كثيرة امثال هذه الآية المتصدرة وما ورد في سورة (النبأ) وغـيــرها، كلها تبين أن تعليــق ســراج كالشمس في سقف السماء المزين، وهو السراج الوهاج الذي يشع النور وينشر الدفء وجعل ذلك النور كأنه حبر لكتابة مكاتيب الله الصمدانية على صحيفة الصيف والشتاء بخطوط الليل والنهار.. وكذا جعل القمر ميلاً لساعة زمانية كبرى، وآلة لقياس المواقيت وتعليقه في الاعالي شبيهاً بالساعات المنصوبة على الابراج. وذلك بجعله في منازل أهلّةٍ متفاوتة، حتى لكأن الله سبحانه يضع في كل ليلة هلالاً جديداً غير السابق على وجه السماء، ثم يعيد ويجمع تلك الأهلة ويحركها في منازلها بميزان كامل وحساب دقيق. ثم ان تزيين وجه السماء وتجميله بالنجوم الملألئة المبتسمة في قبة السماء، لا شك انه من شعائر ربوبية لا منتهى لعظمتها، وهي في الوقت نفسه اشارات الى الوهية جليلة لا منتهى لكمالها. كل ذلك يدعو ارباب الفكر والعقل الى الايمان والتوحيد.

انظر الى الصحيفة الملونة الزاهية لكتاب الكون.

كيف صوّرها قلم القدرة المذهّب.

لم تبق نقطة مظلمة لأبصار أرباب القلوب.

فكأنه سبحانه قد حرّر آياته من نور.

انظر! ما اعظمها من معجزة حكمة، تقود الى الاذعان!

وما اسماها من مشاهد بديعة في فضاء الكون!

واستمع الى النجوم ايضاً، الى حلو خطابها الطيب اللذيذ.

لترى ما قرّره ختم الحكمة النيّر على الوجود.

انها جميعاً تهتف وتقول معاً بلسان الحق:

نحن براهين ساطعة على هيبة القدير ذي الجلال

نحن شواهد صدق على وجود الصانع الجليل وعلى وحدانيته وقدرته.

نتفرج كالملائكة على تلك المعجزات اللطيفة التي جمّلت وجه الارض.

فنحن الوف العيون الباصرة تطل من السماء الى الارض وترنو الى الجنة.

نحن الوف الثمرات الجميلة لشجرة الخلقة، علّقتنا يدُ حكمة الجميل ذي الجلال على شطر السماء وعلى اغصان درب التبانة.

فنحن لأهل السموات مساجد سيارة ومساكن دوّارة وأوكار سامية عالية ومصابيح نوّارة وسفائن جبارة وطائرات هائلة!

نحن معجزات قدرة قدير ذي كمال وخوارق صنعة حكيم ذي جلال. ونوادر حكمة ودواهي خلقة وعوالم نور.

هكذا نبيّن مائة الف برهان وبرهان، بمائة الف لسان ولسان، ونُسمعها الى مَن هو انسان حقاً.

عميت عين الملحد لا يرى وجوهنا النيرة، ولا يسمع اقوالنا البينة، فنحن آيات ناطقة بالحق.

سكتنا واحدة، طُرتنا واحدة، مسبّحات نحن عابدات لربنا، مسخّرات تحت امره.

نذكره تعالى ونحن مجذوبات بحبّه، منسوبات الى حلقة ذكر درب التبانة.

الموقف الثاني

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] قل هو الله أحد^ الله الصمد[

((لهذا الموقف ثلاثة مقاصد))

المقصد الاول

ان داعية اهل الشرك والضلال الذي هوى الى الارض برجمٍ من نجمة، تخلى عن ذلك النمط من الدعوى، لانه عجز عن ان يجد في اي موضع كان، مثقال ذرة من الشرك، ابتداءً من الذرات الى المجرات، الاّ انه عاد - كالشيطان - وحاول تشكيك اهل التوحيد في التوحيد، وذلك بإلقاء الشبهات فيما يخص الاحدية والوحدانية من خلال ثلاثة اسئلة مهمة.

C السؤال الأول:

انه يقول بلسان الزندقة: يا اهل التوحيد! انني لم اتمكن من ان اجد شيئاً باسم موكلي، وعجزت عن ان اقع على شئ اتشبث به يؤيد دعاوي في الموجودات كافة، فلم اتمكن ان اثبت صواب مسلكي. ولكن كيف تثبتون انتم وجود واحدٍ أحدٍ قدير مطلق القدرة؟ فلِمَ ترون انه لا يمكن قطعاً أن تدخل ايدي اخرى مع قدرته.

الجواب: لقد اُثبت في الكلمة الثانية والعشرين اثباتاً قاطعاً ان جميع الموجودات من الذرات الى السيارات كل منها برهان نيّر على وجوب وجوده سبحانه، وهو الواجب الوجود والقدير المطلق، فكل سلسلة من السلاسل الموجودة في العالم دليل قاطع على وحدانيته، وقد اثبت القرآن الكريم هذا، بما لا يحد من البراهين، الاّ انه يزيد من ذكر البراهين الظاهرة لعموم المخاطبين.

ففي قوله تعالى ] ولَئن سألتَهم مَن خَلَقَ السموات والارضَ لَيقولُنّ الله[ (الزمر:38).. وقوله تعالى] ومِن آياته خَلقُ السموات والارض واختلافُ ألسِنَتِكُم وألوانِكُم[ (الروم:22) وامثالها من الآيات العديدة يعرض القرآن الكريم خلق السموات والارض برهاناً على الوحدانية بدرجة البداهة. فكل مَن يملك شعوراً مضطر الى تصديق خالقه في خلقه السموات والارض كما في قوله تعالى: ] ليقولُنّ الله[ .

ولقد بينا في الموقف الاول بوضوح ختمَ التوحيد وسكّته على الموجودات، ابتداءً من ذرة واحدة الى السيارات والى السموات. فالقرآن الكريم يطرد الشرك وينفيه ابتداءً من النجوم والسموات وانتهاءً الى الذرات، بمثل هذه الآيات الجليلة، فيشير ويومىء الى:

أن القدير المطلق الذي خلق السموات والارض في نظام بديع لابد وان تكون المنظومة الشمسية - التي هي من دوائر مصنوعاته - في قبضته بالبداهة.

وما دام ذلك القدير المطلق يمسك الشمس وسياراتها في قبضته وينظمها ويسخّرها، ويديرها. فلابد ان الارض التي هي جزء من تلك المنظومة ومرتبطة بالشمس في قبضته سبحانه وضمن ادارته وتدبيره ايضاً.

وما دامت الكرة الارضية ضمن تدبيره سبحانه وضمن ادراته، فالبداهة تكون المصنوعات التي تُخلق وتكتب على وجه الارض التي هي بمثابة ثمرات الارض وغاياتها في قبضة ربوبيته سبحانه.

وما دامت جميع المصنوعات المنشورة والمنثورة على وجه الارض والتي تجمّلها وتزيّنها وتملؤها وتفرغها منها كل حين في قبضة قدرته وعلمه، وانها توزن وتنظم بميزان عدله وحكمته، وان جميع الانواع في قبضة قدرته سبحانه، فلابد ان افرادها المنتظمة المتقنة - التي كل منها بمثابة مثال مصغر للعالم وفهرس انواع الكائنات، وفهارس مصغرة - تكون بالبداهة في قبضة ربوبيته سبحانه وايجاده وضمن ادارته وتربيته.

ومادام كل ذي حياة في قبضة تدبيره وتربيته، فلابد ان الحجيرات والكريات والاعضاء والاعصاب - التي تشكل وجود ذلك الكائن الحي - في قبضة علمه وقدرته بالبداهة.

وما دامت كل حجيرة وكل كرية دموية منقادة لأوامره سبحانه، وضمن تدبيره وتصريفه الامور، وتتحرك وفق قانونه. فلابد ان جميع موادها الاساسية، وجميع ذراتها التي تنسج منها نقوش صنعها في قبضة قدرته، وضمن دائرة علمه بالضرورة، ولابد أنها تتحرك بانتظام وتؤدي الوظائف على أتم وجه بأمره وإذنه وقوته.

وما دامت حركة كل ذرة واداؤها الوظائف، بقانونه وإذنه وامره، فلابد ان تشخصات الوجه وملامحه ووجود العلامات الفارقة المميزة لكل فرد عن الآخر سواءً في الملامح، أو في الألسنة، انما هو بعلمه وحكمته بالبداهة.

فتدبّر في هذه الآية الكريمة التي تبين مبدأ هذه السلسلة (المذكورة) ومنتهاها:

] ومن آياته خَلقُ السموات والارض واختلافُ ألسِنَتِكُم وألوانِكُم، انّ في ذلك لايات للعالمين[ (الروم:22).

فيا داعية اهل الشرك! ان البراهين التي تثبت مسلك التوحيد وتدل على قدير مطلق القدرة قوية كثيرة بقوة سلسلة الكائنات، اذ مادام خلق السموات والارض يدل على صانع قدير، ويدل على قدرته المطلقة، وعلى كمال تلك القدرة لديه، فلابد من استغناء مطلق عن الشركاء، اي لا حاجة الى شركاء في اية جهة كانت. فإذ لا احتياج - كما ترى - فَلِمَ اذن تنساق في هذا المسلك المظلم؟ ما الذي يدفعك الى الدخول هناك؟ وحيث لا حاجة الى شركاء، والكائنات كلها مستغنية عن الشركاء استغناءً مطلقاً فلا شك ان وجود شريك للالوهية والربوبية وفي الايجاد ايضاً ممتنع محال؛ لان القدرة التي يملكها صانع السموات والارض قدرة لا منتهى لها وهي في غاية الكمال - كما اثبتنا - ولو وجد شريك يلزم ان تكون قدرة اخرى متناهية تغلب تلك القدرة غير المتناهية والتي هي في غاية الكمال وتستولى على موضعٍ منها فتمنع لا تناهيها وتجعلها في وضع عجز معنوي، وتحدّها وهي غير محدودة بالذات، بمعنى ان شيئاً متناهياً يُنهي مالا يتناهى وهو في كمال لاتناهيه ويجعله متناهياً!! وهذا هو أبعد المحالات وابعد الممتنعات عن العقل والمنطق.

ثم ان الشركاء مستغنىً عنها، وممتنعة بالذات، كما ان وجودها محال، فادعاء الشركاء اذن ادعاء تحكّمى ليس إلاّ. اذ لعدم وجود سبب لإدعاء تلك الدعوى عقلاً ومنطقاً وفكراً يُعدّ كلاماً لا معنى له، ويطلق على مثل هذه الدعوى في علم الاصول مصطلح: تحكمى، بمعنى انه دعوىً مجردة لا معنى لها.

ومن الدساتير المقررة في علم الكلام والاصول:

(لا عبرة للاحتمال غير الناشئ عن دليل، ولا ينافي الإمكان الذاتي اليقينَ العلمى).

مثال ذلك: من الممكن والمحتمل ان تتحول بحيرة (بارلا) الى دبس وينقلب الى دهن، وهذا احتمال ولكن هذا الاحتمال لا ينشأ من أمارة، فلا يؤثر ولا يلقي شكاً ولا شبهة في يقيننا العلمي بأن البحيرة من ماء.

وعلى غرار هذا فقد سألنا من كل ناحية من نواحي الموجودات، ومن كل زاوية من زوايا الكائنات،ومن كل شئ ابتداءً من الذرات الى السيارات - كما في الموقف الاول - ومن خلق السموات والارض الى اختلاف ألوان الانسان وألسنته - كما يشاهد في هذا الموقف الثاني - فكان الجواب: شهادة صدق للوحدانية بلسان الحال، ودلالة قاطعة بوجود ختم التوحيد المضروب على كل شئ، وقد شاهدتَه بنفسك ايضاً.

لذا فلا توجد اية امارة في موجودات الكائنات يمكن ان يبنى عليها احتمال الشرك. بمعنى ان دعوى الشرك دعوى تحكمية بحتة، أو كلام لا معنى له، ودعوى مجردة عن الحقيقة، لذا فان من ادّعى الشرك بعد هذا فهو اذن في جهالة جهلاء وبلاهة بلهاء.

فأمام هذه الحجج الدامغة يبقى داعية اهل الضلالة مبهوتاً لا يتمكن من النطق بشىء إلاّ انه يقول: ان ما في ا لكائنات من ترتيب الاشياء، أمارةٌ على الشرك، اذ كل شئ مربوط بسبب، بمعنى ان للاسباب تأثيراً حقيقياً، واذ لها تأثير، فيمكن ان تكون شركاء!.

الجواب: ان المسببات قد رُبطت بالاسباب بمقتضى المشيئة الإلهية وحكمتها، ولإستلزام ظهور كثير من الاسماء الحسنى، يُربط كل شئ بسبب. ولقد اثبتنا في كثير من المواضع، وفي كلمات متعددة اثباتاً قاطعاً أنه ليس للاسباب تأثير حقيقي في الايجاد والخلق، ونقول هنا:

ان الانسان بالبداهة هو اشرف الاسباب واوسعها اختياراً واشملها تصرفاً في الامور، وهو في اظهر افعاله الاختيارية، كالأكل والكلام والفكر - التي كل منها عبارة عن سلسلة عجيبة وفي غاية الانتظام والحكمة - ليس له نصيب منها الاّ واحداً من مائة جزء من السلسلة.

فمثلاً: سلسلة الافعال التي تبدأ من الاكل وتغذية الحجيرات حتى تبلغ تشكل الثمرات، ليس للانسان - ضمن هذه السلسلة الطويلة - الاّ مضغه للطعام. ومن سلسلة التكلم ليس له الاّ ادخال الهواء الى قوالب مخارج الحروف واخراجه منها. علماً ان كلمة واحدة في فمه مع كونها كالبذرة، الاّ انها في حكم شجرة حيث انها تثمر ملايين الكلمات نفسها في الهواء وتدخل الى اسماع ملايين المستمعين بينما لا تصل الى هذه الشجرة المثالية والسنبل المثالي الاّ يد خيال الانسان.. فأنّى لليد القصيرة للاختيار ان تصل اليه.

فان كان الانسان وهو أشرف الموجودات واكثرها اختياراً، مغلول اليد عن الايجاد الحقيقي، فكيف بالجمادات والبهائم والعناصر والطبيعة، كيف تكون متصرفة تصرفاً حقيقياً؟!.

فتلك الاسباب ما هي الاّ اغلفة المصنوعات الربانية، وظروف الهدايا الرحمانية، وخَدمة لتقديمها فلاشك ان الصحون التي تُقدّم فيها هدايا السلطان او القماش المغلف للهدية أو الجندي الذي سُـلّمت بيده هدية السلطان لن يكون شريكاً للسلطان قطعاً. فمَن توهم ذلك فقد تفوه بهذيان ما بعده هذيان.

وهكذا ليست للاسباب الظاهرية والوسائط الصورية حصة في الربوبية الإلهية قطعاً، وليست لها الاّ القيام بخدمات العبودية.

المقصد الثاني

بعد ان عجز داعية اهل الشرك عن اثبات مسلك الشرك، ويئس من اثباته في اية جهة كانت، رغب في محاولة إلقاء شكوكه وشبهاته لهدم مسلك اهل التوحيد.

C فسأل السؤال الثاني قائلاً:

- يا اهل التوحيد! أنتم تقولون: ] قل هو الله احد ^ الله الصمد[ أي ان خالق العالم واحد، أحد، صمدٌ، وهو خالق كل شئ، بيده مقاليد كل شئ، وهو الأحد الفرد، بيده مفاتيح كل شئ، أخذ بناصية كل شئ، يتصرف في الاشياء كلها في آن واحد، باحوالها كافة دون أن يمنع شئٌ شيئاً.. كيف يمكن تصديق حقيقة عجيبة كهذه؟ فهل يمكن لواحد مشخّص ان يقوم باعمال غير متناهية في اماكن غير متناهية وبلاصعوبة؟

الجواب: يجاب عن هذا السؤال ببيان سر الأحدية والصمدانية، الذي هو في غاية العمق ومنتهى الرفعة ونهاية السعة، حتى ان فكر الانسان يقصر عن فهم ذلك السر العظيم الاّ بمنظار التمثيل ورصد المَثَل. وحيث أنه لا مِثل ولا مثيل لذات الله سبحانه ولا لصفاته الجليلة، الاّ ما كان من المَثَل والتمثيل في شؤونه الحكيمة. لذا نشير الى ذلك السر بأمثلة مادية:

المثال الاول:

كما اثبتنا في الكلمة السادسة عشرة ان شخصاً واحداً يكسب صفة كلية بوساطة المرايا، ومع كونه جزئياً حقيقياً يصبح في حكم كلّي مالكٍ لشؤون كثيرة.

وكما ان الزجاج والماء وامثالهما من المواد تكون مرايا للاشياء الجسمانية (المادية) وتُكسب الشئ المادي صفة كلية، كذلك الهواء والاثير وبعض موجودات عالم المثال يصبح في حكم مرايا ويتحول الى صورة وسائط للسير والسياحة، في سرعة البرق والخيال، بحيث يتجول اولئك النورانيون والروحانيون في تلك المرايا الطاهرة، وفي تلك المنازل اللطيفة في سرعة الخيال، فيدخلون في آن واحد الوف الاماكن والمواضع. وحيث انهم نورانيون وصورهم في المرايا هي عينُهم ومالكةٌ لصفاتهم - بخلاف الجسمانيين - فانهم يسيطرون على تلك الاماكن كأنهم موجودون فيها بذواتهم. بينما صور الجسمانيين الكثيفة، ليست عينها، كما انها ليست مالكة لصفاتها، فهي ميتة.

مثلاً: الشمس، مع انها جزئي مشخّص، الاّ انها تصبح في حكم كلي بوساطة المواد اللماعة، اذ تعطي صورتها ومثالها الى كل مادة لمّاعة على سطح الارض، والى كل قطرة ماء، والى كل قطعة زجاج - كل حسب قابليته - فتكون حرارة الشمس وضياؤها وما فيه من الوان سبعة، مع نوع من صورة ذاتها المثالية موجودةً في كل جسم لـمّاع.

فلو فُرض ان للشمس علماً وشعوراً لكانت كل مرآة، شبيهة بمنزلها وبمثابة عرشها وكرسيّها وتلتقى بذاتها كل شئ، وتتصل - كما في الهاتف - مع كل ذي شعور بوساطة المرايا.. بل حتى ببؤبؤ عينه، فما يمنع شئ شيئاً ولا تحجب مخابرةٌ بالهاتف مخابرة اخرى. فمع انها موجودة في كل مكان الاّ انها لا يحدها مكان.

فالشمس التي هي في حكم مرآة مادية وجزئية وجامعة لإسمٍ واحدٍ من الف اسم واسم من الاسماء الإلهية الحسنى، وهو ((النور)) ان كانت مع تشخصها تنال الى هذه الدرجة من الافعال الكلية وتكون في اماكن كلية، أفلا يستطيع ذلك الجليل ذو الجلال باحديته الذاتية ان يفعل ما لا يتناهى من الافعال في آن واحد؟!

المثال الثاني:

لما كانت الكائنات في حكم شجرة، يمكن اتخاذها اذن مثالاً لإظهار حقائق الكائنات. فنأخذ هذه الشجرة الضخمة التي امام غرفتنا، وهي شـجرة الـدُلب العـظيمة، بوصفها مثـالاً مـصغراً للكائـنات. وسنبين تجلي الأحدية في الكائنات بوساطتها، على النحو الآتي:

ان لهذه الشجرة ما لايقل عن عشرة آلاف ثمرة، ولكل ثمرة ما لايقل عن مئات من البذور المجنحة، اي أن كل هذه الاثمار العشرة الاف والمليون من البذور تكون موضع الايجاد والاتقان في آن واحد، بينما توجد العقدة الحياتية في البذرة الأصلية لهذه الشجرة، وفي جذرها وفي جذعها، وهي شئ جزئي ومشخص من تجلي الارادة الإلهية ونواة من الامر الرباني، وبهذا التجلي الجزئي تتكون مركزية قوانين تشكيل الشجرة، الموجودة في بداية كل غصن وداخل كل ثمرة وجنب كل بذرة، بحيث لا تدع شيئاً ناقصاً لأي جزء من اجزاء الشجرة ولا يمنعها مانع.

ثم ان ذلك التجلي الواحد للارادة الإلهية والأمر الرباني، لا ينتشر الى كل مكان، كانتشار الضياء والحرارة والهواء، لأنه لا يترك اثراً في تلك المسافات البعيدة للاماكن التي يذهب اليها، وفي المصنوعات المختلفة، بل لا يُرى له اثر قط. اذ لو كان ذلك بالانتشار لبان الاثر. وانما يكون جنب كل جزء من الاجزاء دون تجزئة ولا انتشار. ولا تنافي تلك الافعال الكلية احديته وذاتيته.

لذا يصح ان يقال: ان ذلك التجلي للارادة وذلك القانون الأمري، وتلك العقدة الحياتية موجودة جنب كل جزء من الاجزاء، ولا ينحصر في اي مكان اصلاً. حتى كأن في هذه الشجرة المهيبة عيوناً واذاناً لذلك القانون الامري، بعدد الاثمار والبذور، بل ان كل جزء من اجزاء الشجرة في حكم مركز لحواس ذلك القانون الأمري، بحيث لا تكون المسافات البعيدة مانعاً بل وسيلةَ تسهيلٍ وتقريب - كأسلاك الهاتف - فالأبعد كالأقرب سواء بسواء.

فما دمنا نشاهد تجلياً جزئياً واحداً من تجليات صفة الارادة للأحد الصمد، في مليونٍ من الامكنة، ويكون مبعث ملايين الافعال، دون داع الى وساطة، فلابد من لزوم اليقين بدرجة الشهود، بقدرة الذات الجليلة على التصرف في شجرة الخلق، بجميع اجزائها وذراتها معاً، بتجلٍ من تجليات قدرته وارادته سبحانه وتعالى.

وكما اثبتنا واوضحنا في الكلمة السادسة عشرة، نقول هنا:

ان مخلوقات عاجزة ومسخّرة كالشمس، ومصنوعات شبه نورانية مقيّدة بالمادة كالروحاني، ان كان يمكن أن توجد في موضع واحد وفي عدة مواضع في الوقت نفسه، بسر النورانية؛ اذ بينما هو جزئي مقيّد يكسب حكماً كلياً مطلقاً، يفعل باختيار جزئي اعمالاً كثيرة في آن واحد.. فكيف اذن بمن هو مجرد عن المادة، ومقدّس عنها، ومَن هو منزّه عن التحديد بالقيد وظلمة الكثافة ومبرأ عنها، بل ما هذه الانوار والنورانيات كلها الاّ ظلال كثيفة لأنوار اسمائه الحسنى، وما جميع الوجود والحياة كلها وعالم الارواح وعالم المثال الاّ مرايا شبه شفافة لإظهار جمال ذلك القدوس الجليل الذي صفاته محيطة بكل شئ وشؤونه شاملة كل شئ.

تُرى اي شئ يستطيع ان يتستر عن توجه أحديته في تجلي صفاته المحيطة، وتجلي افعاله بارادته الكلية وقدرته المطلقة وعلمه المحيط بكل شئ؟

وأي شئ يصعب عليه؟ واي شئ يستطيع أن يتخفى عنه؟

أوَ يمكن أن يمنع شئٌ شيئاً؟ أفيمكن أن يخلو موضع من حضوره؟ ألا يكون له بصر يبصر كل موجود وسمع يسمع كل موجود، كما قال ابن عباس رضى الله عنه؟

أوَ لا تكون سلسلة الاشياء كالاسلاك والعروق لجريان اوامره وقوانينه بسرعة؟ أفلا تكون الموانع والعوائق وسائل ووسائط لتصرفه؟ أوَ لا تكون الاسباب والوسائط حجباً ظاهرية بحتة؟

وأي شئ يصعب عليه؟ واي شئ يستطيع أن يتخفى عنه؟

أوَ يمكن أن يمنع شئٌ شيئاً؟ أفيمكن أن يخلو موضع من حضوره؟ ألا يكون له بصر يبصر كل موجود وسمع يسمع كل موجود، كما قال ابن عباس رضى الله عنه؟

أوَ لا تكون سلسلة الاشياء كالاسلاك والعروق لجريان اوامره وقوانينه بسرعة؟ أفلا تكون الموانع والعوائق وسائل ووسائط لتصرفه؟ أوَ لا تكون الاسباب والوسائط حجباً ظاهرية بحتة؟

ألا يكون في كل مكان وهو المنزّه عن المكان؟ أيمكن ان يكون محتاجاً الى التحيز والتمكّن؟ أيمكن ان يكون البُعد والصِغَر وحُجب طبقات الوجود موانع لقُربه وتصرفه وشهوده؟ وهل يمكن ان تلحق بالذات المقدسة لله سبحانه المجردّ عن المادة، الواجب الوجود، نور الانوار الواحد الأحد، المنزّه عن القيود، المبرأ عن الحدود، المقدس عن القصور، والمعلّى عن النقصان خواص الماديات والممكنات والكثيفات والكثيرات والمقيدات، وما يلزم المادة والامكان والكثافة والكثرة والتقيد والمحدودية من امور، امثال التغير والتبدل والتجزؤ؟

أيليق به العجز؟ أيقرب القصور من طرف عزته الجليلة جل جلاله.؟!

حاشَ لله، وكلا. وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.



خاتمة المقصد الثاني

بينما كنت متأملاً ومستغرقاً في تفكر يخص الأحدية، نظرت الى ثمرات شجرة الدلب القريبة من غرفتي، فخطر الى القلب تفكر متسلسل بعبارات عربية، فكتبتُه كما ورد بالعربية وسأذكر توضيحاً مختصراً له.

فالبذورُ والاثمارُ، والحبوبُ والازهارُ معجزاتُ الحكمة.. خوارقُ الصنعة.. هدايا الرحمة.. براهينُ الوحدة.. شواهدُ لطفِه في دار الاخرة.. شواهدُ صادقة بان خلاّقها على كل شيء قدير وبكل شيء عليم. قد وَسِع كل شيء بالرحمة والعلم والخلق والتدبير والصنع والتصوير. فالشمسُ كالبذرة، والنجمُ كالزهرة، والارضُ كالحبة، لا تثقل عليه بالخلق والتدبير، والصنُع والتصوير. فالبذور والاثمار مرايا الوحدة في اقطار الكثرة، اشاراتُ القَدَر، رموزاتُ القُدْرَة بان تلك الكثرة من منبع الوحدة، تصدُرُ شاهدةً لوحدِة الفاطر في الصنع والتصوير. ثم الى الوحدة تنتهي ذاكرةً لِحكمة الصانعِ في الخلق والتدبير.. وتلويحات الحكمة بأن خالق الكل - بكُلِّية النَظَر الى الجزئي - ينظُرُ ثَمَّ الى جزئه، اذ إن كان ثمراً فهو المقصود الأظهرُ مِن خلق هذا الشجر..

فالبشر ثمرٌ لهذه الكائنات، فهو المقصود الأظهر لخالق الموجودات. والقلبُ كالنواة، فهو المرآة الأنور، لصانع المخلوقات من هذه الحكمة. فالانسان الاصغرُ في هذه الكائنات هو المدار الاظهرُ للنشر والمحشر في هذه الموجودات، والتخريبِ والتبديلِ والتحويلِ والتجديد لهذه الكائنات.

ومبدأ هذه الفقرة العربية هو:

فسبحان مَن جعل حديقةَ ارضِه مَشْهَر صَنعتِه، مَحْشَرَ فِطرتَه، مَظْهَر قُدرته، مَدار حِكمته، مَزْهَر رحمته، مَزْرَع جنته، ممرَّ المخلوقات، مَسيلَ الموجودات، مَكيلَ المصنوعات.

فمُزَيَّنُ الحيواناتِ، مُنَقّشُ الطيورات، مثمَّرُ الشجرات، مزهَّرُ النباتات؛ معجزاتُ عِلمه، خوارقُ صُنعه، هدايا جُودِه، براهينُ لطفه.

تبسُّمُ الازهارِ من زينةِ الاثمار، تسجُّعُ الاطيارِ في نَسمةِ الأسحار، تهزُّجُ الأمطارِ على خدودِ الازهار، ترحُّمُ الوالدات على الاطفالِ الصغارِ.. تعرُّفُ ودودٍ، تودّد رحمن، ترحُّم حنّان، تحنن منّان، للجن والانسان، والروح والحيوان والملك والجان.

وتوضيح هذا التفكر الذي ورد باللغة العربية هو:

ان جميع الاثمار وما فيها من بذيرات، معجزات الحكمة الإلهية.. خوارق الصنعة الإلهية.. هدايا الرحمة الإلهية.. براهين مادية للوحدانية.. بشائر الألطاف الإلهية في الدار الآخرة.. شواهد صادقة بأن خلاّقها على كل شئ قدير، وبكل شئ عليم.. فالبذور والاثمار، مرايا الوحدة في اقطار عالم الكثرة، وفي اطراف هذه الشجرة المتشعبة كالعالم، تُصرِف الانظارَ من الكثرة الى الوحدة.

فكل ثمر وبذر يقول بلسان الحال: لا تتشتت في هذه الشجرة الضخمة الممتدة الاعضاء والعروق فكل ما فيها فينا، كثرتُها داخلة ضمن وحدتنا، حتى ان البذرة - وهي كقلب الثمرة - هي الاخرى مرآة مادية للوحدانية، فهي تذكر الاسماء الحسنى ذكراً قلبياً خفياً بمثل ما تذكرها الشجرة ذكراً جهرياً.

فكما ان تلك الاثمار والبذور مرايا للوحدانية، فهي اشارات مشهودات للقدر، رموزات مجسمات للقدرة، بحيث ان القدر يشير بها، والقدرة تقول بها رمزاً: ان هذه الشجرة باغصانها المتشابكة قد نمت من بذرة، فهي تدل على وحدانية صانعها في الايجاد والتصوير، ثم تجمع حقيقتها في ثمرةٍ بعد تشعب اغصانها وفروعها وتدرج معانيها كلها في بذرة. فتدل على حكمة خالقها الجليل في الخلق والتدبير.

وكذلك شجرة الكائنات هذه، فهي تأخذ وجودها من منبع الوحدانية وتتربى بها، وتثمر ثمرة الانسان الدال على الوحدانية في هذه الكثرة من الموجودات. فالقلب يرى سر الوحدانية بعين الايمان في هذه الكثرة.

وكذا، فان تلك الاثمار والبذور؛ تلويحات الحكمة الربانية، فالحكمة تنطق بها وتُشعر اهلَ الشعور بما يأتي:

ان النظر الكلي والتدبير الكلي في هذه الشجرة، بكل شموليتهما وسعتهما، يتوجهان الى هذه الثمرة؛ لأن تلك الثمرة مثال مصغر لتلك الشجرة، وهي المقصود منها. وذلك النظر الكلي والتدبير العمومي ينظر الى ما في داخل الثمرة من بذر ايضاً. اذ البذرة تحمل معاني الشجرة وفهرسها. بمعنى ان الذي يدبّر امور الشجرة، واسماءه التي لها علاقة بتدبيرها متوجهة الى كل ثمرة من ثمرات الشجرة، التي هي المقصودة من ايجاد الشجر..

وهذه الشجرة الضخمة قد تقلّم وتكسّر بعض اغصانها، للتجديد، لأجل تلك الثمرات الصغيرة، وتُطعّم لتثمر ثمرات باقية، ابهى جمالاً وازهى لطافة.

كذلك الانسان الذي هو ثمرة شجرة الكائنات؛ اذ المقصود من ايجادها انما هو الانسان، وغاية ايجاد الموجودات هي الانسان. وبذرة تلك الثمرة، قلب الانسان، وهو أنور مرآة للصانع الجليل واجمعها.

وهكذا بناء على هذه الحكمة، اصبح الانسان الصغير هذا محور انقلابات عظيمة للحشر والنشور، وسبباً لدمار الكائنات وتبديلها، اذ ينسد باب الدنيا لأجل محاكمته ويفتح باب الآخرة لأجله.

واذ ورد بحثٌ في الآخرة، فقد آن أوان ذكر حقيقة بليغة تبيّن جانباً من جزالة بيان القرآن الكريم وقوة تعابيره في معرض اثبات الحشر وهي:

ان نتيجة هذا التفكر تبيّن انه لأجل محاكمة الانسان وفوزه بالسعادة الابدية، يدمّر الكون كله اذا لزم الأمر. فالقوة القادرة على التدمير والتبديل موجودة فعلاً وهي ظاهرة ومشهودة، الاّ أن للحشر مراتب:

منها ما يلزم معرفته، والايمان به فرض، وقسم آخر يظهر حسب درجات الترقيات الروحية والفكرية ويكون علمه والمعرفة به ضرورياً.

فالقرآن الكريم لأجل اثبات أبسط وأسهل مرتبة من مراتب الحشر اثباتاً قاطعاً يبين قدرة قادرة على فتح اوسع دائرة من دوائر الحشر واعظمها.

فمرتبة الحشر - الذي يلزم العموم الايمان به - هي: ان الناس بعد الموت، تذهب ارواحهم الى مقامات اخرى واجسادهم تَرمُّ الاّ عجب الذنب - الذي هو جزء صغير لا يندثر من جسم الانسان وهو في حكم بذرة - وان الله سبحانه ينشئ من هذا الجزء الصغير جسد الانسان يوم الحشر ويبعث اليه روحه.

فهذه المرتبة من الحشر سهلة الى درجة ان لها الملايين من الامثلة في كل ربيع. الاّ أن القرآن الكريم لأجل اثبات هذه المرتبة السهلة، يبيّن احياناً قدرة قادرة على حشر جميع الذرات ونشرها واحياناً يبين آثار قدرة وحكمة تتمكن من ارسال المخلوقات كافة الى الفناء والعدم ثم اعادتها من هناك.. ويبين في بعض آياته آثار وتدابير قدرة وحكمة لها من المقدرة على نثر النجوم وشق السماوات وفطرها. وتبين آيات اخرى تدابير قدرة وحكمة قادرة على اماتة جميع ذوي الحياة وبعثهم بصيحة واحدة، دفعة واحدة، ويبين في اخرى تجليات قدرة وحكمة قادرة على حشر ما على الارض من ذوي الحياة، ونشره كل على انفراد. ويبين احياناً آثار قدرة وحكمة قادرة على بعثرة الارض كلها ونسف الجبال وتبديلها الى صورة اجمل منها.بمعنى انه مما سوى مرتبة الحشر الذي هو مفروض على الجميع الايمان به ومعرفته، فان كثيراً من مراتبه يمكن أن تتحقق بتلك القدرة والحكمة. فاذا ما اقتضت الحكمة الربانية قيامها، فلابد أنه سيقيمها جميعاً مع حشر الانسان ونشره، أو سيقيم بعضاً مهماً منها.

سؤال: تقولون: انك تستعمل في (الكلمات) القياس التمثيلي كثيراً. بينما القياس التمثيلي لا يفيد اليقين حسب علم المنطق؛ اذ يلزم البرهان المنطقي في المسائل اليقينية، اما القياس التمثيلي فيستعمل في المطالب التي يكفيها الظن الغالب، كما هو لدى علماء اصول الفقه.

فضلاً عن انك تذكر التثميلات في اسلوب الحكاية. والحكاية تكون خيالية، ليست حقيقية وقد تكون مخالفة للواقع.

الجواب: نعم! لقد ورد في علم المنطق: ان القياس التمثيلي لا يفيد اليقين العلمي. الاّ أن للقياس التمثيلي نوعاً هو أقوى بكثير من البرهان اليقيني للمنطق. بل هو اكثر يقيناً من الضرب الاول من الشكل الاول للمنطق. وذلك القسم هو:

اظهار جزء وطرف من حقيقة كلية بتمثيل جزئي. ثم بناء الحكم على تلك الحقيقة، وبيان قانون تلك الحقيقة في مادة خاصة، كي تُعرف منها تلك الحقيقة العظمى، وتُرجع اليها المواد الجزئية.

فمثلاً: الشمس توجد قريبة من كل شئ لـمّاع - بوساطة النورانية - مع انها ذات واحدة. فبهذا المثال يُبيّن قانون حقيقة هي:

انه لا قيد للنور والنوراني، فالبعيد والقريب سواء. القليل والكثير يتساوى. فلا يحدّه مكان.

ومثلاً: ان تشكيل اثمار الشجرة واوراقها وتصويرها في آن واحد، بطراز واحد، بسهولة تامة، وعلى اكمل وجه، من مركز واحد، بقانون امري واحد. انما هو مثال لإراءة جزء من حقيقة عظمى وطرف من قانون كلي.

فتلك الحقيقة وقانونها يثبتان اثباتاً قاطعاً ان تلك الكائنات الهائلة، كهذه الشجرة، يجري عليها قانون الحقيقة هذا، فهي كالشجرة ميدان جولان سر الاحدية ذاك.

فالقياسات التمثيلية في (الكلمات) كلها من هذا الطراز بحيث تكون أقوى من البرهان القاطع المنطقي واكثر يقيناً منه.

الجواب عن السؤال الثاني:

من المعلوم في فن البلاغة، انه اذا كان المعنى المقصود للّفظ والكلام يراد لقصد آخر يعرف بـ(لفظ الكنائي) ولا يكون المعنى الأصلى في اللفظ الكنائي مناط صدق وكذب. بل المعنى الكنائي هو الذي يكون مدار الصدق والكذب. فلو كان المعنى الكنائي صدقاً، فالكلام صدق، وان كان المعنى الاصلي كذباً، فلا يفسد كذب هذا صدق ذاك. ولكن لو لم يكن المعنى الكنائي صدقاً، وكان المعنى الاصلي صدقاً، فالكلام كذب.

مثلاً: (طويل النجاد) اي: شخصٌ حزام سيفه طويل. هذا الكلام كناية عن طول قامة ذلك الشخص، فان كان طويلاً حقاً، فالكلام صدق وصواب وإن لم يكن له سيف ولا نجاد، ولكن ان لم يكن الرجل طويل القامة وله سيف ونجاد طويل فالكلام كذب، لأن المعنى الاصلي غير مقصود.

فالحــكايـات الــواردة في الكلمة العاشرة والكلمة الثانية والعشرين وامثالهما، هي من الكنايات بحيث أن الحقائق التي تختم بها الحكايات - وهي في منتهى الصدق والصواب والمطابقة مع الواقع - هي المعاني الكنائية لتلك الحكايات، فمعانيها الأصلية انما هي منظار تمثيلي. فكيفما كان لا يفسد صدقها وصوابها. فضلاً عن أن تلك الحكايــات انما هــي تمثيــلات اُظهر فيها لســان الحـال في صورة لسان المقال، وأبرز فيها الشخص المعنوي في صورة شخص مادي وذلك لأجل افهام العامة.





المقصد الثالث

ان داعية اهل الضلالة، بعدما أخذ الجواب القاطع المقنع الملزم، عن سؤاله الثاني(1) يسأل هذا السؤال، وهو الثالث فيقول:

C ان في القرآن:(احسن الخالقين) (ارحم الراحمين) وامثالهما من الكلمات القرآنية التي تُشعر بوجود خالقين وراحمين آخرين.

ثم انكم تقولون: ان رب العالمين له كمال لا منتهى له، فهو جامع لأقصى نهاية مراتب انواع الكمالات كلها، بينما كمالات الاشياء تعرف باضدادها؛ اذ لولا الالم لما كانت اللذة كمالاً، ولولا الظلام لما تحقق الضياء، ولولا الفراق لما اورث الوصال لذة، وهكذا؟

الجواب: نجيب عن الشق الاول من السؤال بخمس اشارات:

الاشارة الاولى:

ان القرآن الكريم يبين التوحيد من اوله الى آخره، ويثبته اثباتاً قاطعاً، وهذا بحد ذاته دليل على أن تلك الانواع من الكلمات القرآنية ليست كما تفهمونها. بل قوله تعالى (احسن الخالقين) يعني: هو في احسن مراتب الخالقية، فليس له اية دلالة على وجود خالق آخر، اذ الخالقية لها مراتب كثيرة كسائر الصفات فقوله تعالى (احسن الخالقين) يعني: ان الخالق الجليل هو في احسن مراتب الخالقية واقصى منتهاها.



الاشارة الثانية:

ان(احسن الخالقين) وامثالها من التعابير القرآنية لا تنظر الى تعدد الخالقين بل تنظر الى انواع المخلوقية. اي ان الخالق الذي يخلق كل شئ، يخلقه بأفضل طراز واجمل مرتبة. وقد بيّن هذا المعنى قوله تعالى ] احسن كل شئ خَلَقه[ وامثاله من الآيات الكريمة.

الاشارة الثالثة:

ان الموازنة الموجودة في التعابير القرآنية: (احسن الخالقين) (الله اكبر) (خير الفاصلين) (خير المحسنين) وامثالها، ليست موازنة وتفضيلاً بين صفات واقعية لله سبحانه وتعالى، والمالكين لنماذج تلك الصفات والافعال، لأن جميع الكمالات الموجودة في الكون قاطبة في الجن والانس والملك، ظلٌ ضعيف بالنسبة لكماله جل وعلا، فكيف يمكن عقد موازنة بينهما؟ وانما الموازنة هي بالنسبة لنظر الناس ولاسيما لأهل الغفلة.

نورد مثالاً للتوضيح:

جندي يقدم اتم الولاء والطاعة لعريفه في الجيش، ويرى الحسنات والخيرات منه، وقد لا يخطر بباله، السلطان الاّ نادراً، بل لو خطر بباله، فإنه يقدم امتنانه وشكره ايضاً الى العريف، فيقال لمثل هذا الجندي: ان السلطان اكبر من عريفك، فقدّم شكرك اليه وحده. فهذا الكلام ليس موازنة بين القيادة المهيبة للسلطان في الواقع، وقيادة العريف الجزئية الصورية، لأن موازنة كهذه، وتفضيلاً من هذا النوع لا معنى لهما اصلاً. وانما الموازنة معقودة حسب ما لدى الجندي من اهمية وارتباط بعريفه، بحيث يفضّله على غيره، فيقدم شكره وثناءه اليه، ويحبه وحده.

ومثل هذا، فالاسباب الظاهرية التي هي في وهم اهل الغفلة في حكم خالقٍ، ومنعمٍ، والتي تكون حجاباً دون المنعم الحقيقي، اذ يتشبثون بها ويرون ورود النعمة والاحسان من تلك الحجب والاسباب، فيقدمون ثناءهم ومدحهم اليها. يقول القرآن الكريم لهم: الله اكبر. أحسن الخالقين. خير المحسنين. أي توجهوا اليه واشكروه.

الاشارة الرابعة:

تعقد الموازنة والتفضيل بين الموجودات الحقيقية مثلما تعقد بين الاشياء الفرضية والامكانية. ثم ان اكثر ماهيات الاشياء فيها مراتب متعددة، وكذا في ماهيات الاسماء الإلهية الحسنى والصفات الجليلة المقدسة يمكن ان توجد مراتب كثيرة. فالله سبحانه في أكمل تلك المراتب للصفات والاسماء من المراتب المتصوّرة والممكنة، وفي احسنها. والكون كله وما فيه من كمالات شاهد صدق لهذه الحقيقة، وقوله تعالى ] وله الاسماء الحسنى[ وصف لأسمائه كلها يعبّر عن هذا المعنى.

الاشارة الخامسة:

هذه الموازنة والمفاضَلة لا تقابل ما سواه تعالى، بل له جلّ وعلاّ نوعان من التجليات والصفات.

الاولى: تدبيره وتصريفه الامور على صورة قانون عام، يجري تحت ستار الاسباب وحجاب الوسائط، بسر الواحدية.

الثانية: تدبيره وتصريفه الامور تدبيراً مباشراً خاصاً، دون حجاب الاسباب، بسر الأحدية. فاحسانه المباشر وايجاده المباشر وتجلّى كبريائه المباشر هو أعظم واجمل واعلى - بسر الأحدية - من احسانه وايجاده وكبريائه المشاهدة اثارها بالاسباب والوسائط.

فمثلاً: ان جميع موظفي السلطان، وقوّاده انما هم حجب لا غير، لو كان السلطان من الاولياء، وكان الحكم والاجراءات كلها بيده.

فتدبير الامور وتصريفها، لدى هذا السلطان نوعان:

الاول: الاوامر التي يصدرها، والاجراءات التي ينجزها بقانون عام من خلال وسائط الموظفين والقواد الظاهريين، وحسب قابلية المقام.

الثاني: احساناته المباشرة واجراءاته المباشرة التي لا تتم من خلال قانون عام ولم يتخذ فيها الموظفين الظاهريين حجباً، فهذه اجمل وارفع من تلك التي تتم بصورة غير مباشرة.

(ولله المثل الاعلى) فهو سبحانه سلطان الازل والابد، وهو رب العالمين، قد جعل الاسباب حجباً لاجراءاته، اظهاراً لعزة ربوبيته وعظمتها، فضلاً عن انه وضع في قلوب عباده هاتفاً خاصاً وامرهم بقوله تعالى ] اياك نعبد واياك نستعين[ اي بعبودية خاصة ليتوجهوا اليه مباشرة تاركين الاسباب وراءهم ظهرياً، وبهذا يصرف سبحانه وجوه عباده من الكائنات اليه تعالى.

ففي قوله تعالى (احسن الخالقين) (ارحم الراحمين) (الله اكبر) هذا المعنى المذكور.

أما الشق الثاني من سؤال داعية اهل الضلال، فجوابه في خمسة رموز:

الرمز الاول:

يقول في السؤال: كيف يكون للشئ كمال ما لم يكن له ضد؟

الجواب: صاحب هذا السؤال يجهل الكمال الحقيقي، اذ يظنه نسبياً، بينما المزايا والفضائل والتقدم على الآخرين، الحاصلة كلها نتيجة النظر الى الاشياء الاخرى والمفاضلة معها، ليست فضائل حقيقية وكمالاً حقيقياً بل هي فضائل نسبية، فهي ضعيفه واهية تسقط من الاعتبار باهمال الغير.

مثلاً: لذة الحرارة وميزتها هي بتأثير البرودة، واللذة النسبية للطعام بتأثير ألم الجوع.

فاذا ما انتفت تلك التأثيرات، قلّت اللذة وتضاءلت. بينما اللذة والمحبة والكمال والفضيلة الحقيقية هي التي لا تبنى على تصور الغير، بل تكون موجودة في ذاتها. وتكون حقيقية مقررة بالذات كلذة الوجود ولذة الحياة ولذة المحبة ولذة المعرفة ولذة الايمان ولذة البقاء ولذة الرحمة ولذة الشفقة.. وحُسن النور وحسن البصر وحسن الكلام وحسن الكرم وحسن السيرة وحسن الصورة.. وكمال الذات وكمال الصفات وكمال الافعال.. وامثالها من المزايا الذاتية التي لا تتبدل بوجود غيرها او عدمه.

فكمالات الصانع الجليل والفاطر الجميل والخالق ذي الكمال كمالات حقيقية، ذاتية، لا يؤثر فيها ما سواه تعالى. بل ما سواه مظاهر ليس الاّ.

الرمز الثاني:

لقد قال السيد الشريف الجرجاني في كتابه (شرح المواقف) ان سبب المحبة: إما اللذة أو المنفعة أو المشاكلة - بين بني الجنس - أو الكمال، لأن الكمال محبوب لذاته.

اي: ايّما شئ تحبه، فإما انك تحبه للذّة، او للمنفعة او للمشاكلة الجنسية - كالميل الى الاولاد - او كونه كمالاً. فان كان السبب كمالاً فلا يلزم اي سبب آخر او غرض آخر، فهو محبوب لذاته.

مثلاً محبة الناس لأصحاب الفضائل من الاقدمين، فهم يولون لهم محبتهم واعجابهم على الرغم من عدم وجود رابطة وعلاقة تربطهم بهم، فكمال الله سبحانه وكمال مراتب اسمائه الحسنى كمال حقيقي، لذا فهو محبوب لذاته. والله سبحانه وتعالى الذي هو محبوب بالحق، وحبيب حقيقي يحب كماله الحقيقي وجمال صفـاته واســمائه الحـسـنى بمحبة لائـقة به جـل وعـلا، ويحب ايضاً محاسن مخلوقاته وصنعته ومصنوعاته التي هي مظاهر ذلك الكمال ومراياه، فيحب انبياءه واولياءه ولا سيما سيد المرسلين وسلطان الاولياء حبيب رب العالمين.

اي لمحبته سبحانه لجماله يحب حبيبَه e اذ هو مرآة ذلك الجمال.. ولمحبته لاسمائه الحسنى يحب حبيبه e واخوانه، اذ هو المدرك الشاعر لتلك الاسماء.. ولمحبته لصنعته سبحانه يحب حبيبه e وامثاله، اذ هو الدال على صنعته والمعلن عنها.. ولمحبته لمصنوعاته سبحانه يحب حبيبه e وَمن هم خلفه من المقتدين بهديه، اذ هو الذي يقدّر قيمة المصنوعات ويباركها بـ: ما اجمل صنعتها!.. ولمحبته لمحاسن مخلوقاته يحب حبيبه e ومن تبعه واخوانه، اذ هو الجامع لمكارم الاخلاق.

الرمز الثالث:

ان جميع انواع الكمال الموجودة في الكون كله آيات لكمال ذات جليلة واشارات الى جماله سبحانه بل جميع الحسن والكمال والجمال ما هو الاّ ظل ضعيف بالنسبة لكماله الحقيقي. نشير الى خمسة حجج لهذه الحقيقة:

الحجة الاولى: ان القصر الفخم المنقش المزين يدل بالبداهة على صانع ماهر؛ فالفعل المكمل الرائع وهو الصنعة والنقش البديع يدل بالضرورة على فاعل وصنّاع ومهندس كامل ويشير الى عناوينهم واسمائهم: النقاش المصور وامثالها. وتلك الاسماء الكاملة ايضاً تدل بلاشك على صفة الصنعة المكملة لدى ذلك الصنّاع. وذلك الكمال في الصنعة والصفات يدل بالبداهة على كمال استعداد ذلك الصنّاع وكمال قابليته. وذلك الاستعداد الكامل والقابلية الكاملة يدلان بالضرورة على كمال ذات الصنّاع نفسه وعلى سمو ماهيته. وعلى غرار هذا، فقصر العالم، هذا الاثر المزيّن المكمل، يدل بالبداهة على افعـال في غايـة الكمال، لأن انـواع الكـمال التـي في الاثر نابعة من كمال تلك الافعال، وكمال الافعال يدل بالضرورة على فاعل كامل وعلى كمال اسمائه، كالمدبر والمصور والحكيم والمزيّن وامثالها من الاسماء المتعلقة بالأثر. أما كمال الاسماء والعناوين فانه يدل بلا ريب على كمال اوصاف ذلك الفاعل؛ لأن الصفات ان لم تكن كاملة فالاسـماء النـاشـئة منها لن تكون كاملة. وكمال تلك الاوصاف يدل بالبداهة على كمال الشؤون الذاتية، لأن مبادىء الصـفات هـي تلك الـشـؤون الذاتـية. أما كمال الشـؤون الذاتية فانه يدل بعلم اليقين على كمال ذاتٍ جليلة صاحبة الشؤون، ويدل عليه دلالة قاطعة بحيث ان ضياء ذلك الكمال قد اظهر حسن الجمال والكمال في هذا الكون على الرغم من مروره من حجب الشؤون والصفات والاسماء والافعال والآثار.

تُرى ما اهمية كمال نسبي ينظر الى الغير والى الامثال والى التفوق على الاضداد، بعد ثبوت وجود كمال ذاتي حقيقي ثبوتاً الى هذا الحد؟ ألا يكون خافتاً منطفئاً؟!

الحجة الثانية: عندما ينظر الى هذا الكون بنظر العبرة، يشعر الوجدان والقلب، بحدسٍ صادق، ان الذي يجمّل هذه الكائنات ويزيّنها بانواع المحاسن لا شك ان له جمالاً وكمالاً لا منتهى لهما، ولهذا يظهر الجمال والكمال في فعله.

الحجة الثالثة: من المعلوم ان الصنائع الموزونة المنتظمة الجميلة تستند الى برنامج في غاية الحسن والاتقان، والبرنامج الكامل المتقن الجميل يستند الى علم جميل والى ذهن حسن، والى قابلية روحية كاملة، وهذا يعنى ان الجمال المعنوي للروح يظهر في الصنعة بالعلم.

فهذه الكائنات وما فيها، مع جميع محاسنها المادية التي لا تعد ولا تحصى، ما هي الاّ ترشحات محاسن معنوية وعلمية، وتلك المحاسن والكمال العلمي والمعنوي لاشك انها جلوات حسن وجمال وكمال سرمدي.

الحجة الرابعة: من المعلوم أن المشع للنور يستلزم أن يكون متنوراً، وكل مضئ يستلزم ان يكون ذا ضوء، والاحسان يرد من الغنى، واللطف يظهر من اللطيف. لذا فاضفاء الحسن والجمال على الكائنات ومنح الموجودات انواعاً من الكمالات المختلفة، يدل على جمال سرمدي، كدلالة الضوء على الشمس.

ولما كانت الموجودات تجري جريان النهر العظيم وتلتمع بالكمال ثم تمضي. فمثلما يلتمع ذلك النهر بجلوات الشمس، فان سيل الموجودات هذا يلتمع مؤقتاً بلمعات الحسن والجمال والكمال ثم يمضي الى شأنه. ويفهم من تعاقب اللمعات، بأن جلوات حبابات النهر الجاري وجمالها ليست ذاتية، بل هو جمال ضياء شمس منورة وجلواتها، فالمحاسن والكمالات التي تلتمع مؤقتاً على سيل الكائنات انما هي لمعات جمال اسماء مَن هو نور سرمدي.

نعم! تفاني المرآةِ زوالُ الموجوداتِ مع التجلّي الدائم مع الفيـض الملازمِ، مِن اظهر الظواهر من أبهر البواهر على ان الجمال الظاهر، أن الكمال الزاهر ليسا مُلْكَ المظاهر، مِن أفصح تبيانٍ من اوضحِ برهانٍ، للجمال المجرَّدِ للاحسان المجَدَّدِ، للواجب الوجودِ للباقي الودود.

الحجة الخامسة: من المعلوم أنه اذا روى اشخاص مختلفون أتوا من طرق متباينة وقوع حادثة معينة بالذات، فان هذا يدل بالتواتر الذي يفيد اليقين على وقوع الحادثة قطعاً.

فلقد اتفق جميع اهل الكشف والذوق والشهود من الطبقات المختلفة للمحققين والطرق المختلفة للاولياء والمسالك المختلفة للاصفياء والمذاهب المختلفة للحكماء المحققين.. اتفق هؤلاء المختلفون في المشرب والمسلك والاستعداد والعصر، بالكشف والذوق والمشاهد على أن ما يظهر على الكائنات ومرايا الموجودات من المحاسن والكمالات انما هو تجليات كمال ذاتٍ جليلة وتجليات جمال اسمائه الحسنى جل جلاله.. اقول ان اتفاق هؤلاء جميعاً حجة قاطعة لا تتزعزع واجماع عظيم لا يجرح.

اظن ان داعية الضلال مضطر الى الفرار، ساداً اذنيه، لئـلا يســمع حقائق هذا الرمز.

نعم! ان الرؤوس المظلمة لا تتحمل - كالخفاش - رؤية هذه الانوار، ولهذا نحن بدورنا لا نعير لها اهمية تذكر.

الرمز الرابع:

ان لذة الشئ وحسنه وجماله يرجع الى مظاهره اكثر من رجوعه الى اضداده وامثاله، فمثلاً: الكرم صفة جميلة لطيفة، فالكريم يتلذذ لذة ممتعة من تلذذ مَن يكرمهم، ويستمتع بفرحهم اكثر ألف مرة من لذة نسبية يحصل عليها من تفوقه على اقرانه من المكرمين.

وكذا الشفيق والرحيم، يتلذذ كل منهما، لذة حقيقية بقدر راحة من يشفق عليهم من المخلوقات.

فاللذة التي تحصل عليها الوالدة من راحة اولادها ومن سعادتهم قوية راسخة الى حد تضحي بروحها لأجل راحتهم، حتى ان لذة تلك الشفقة تدفع الدجاجة الى الهجوم على الاسد حماية لأفراخها.

فاللذة والحسن والكمال والسعادة الحقيقية في الاوصاف الراقية الرفيعة اذن لا ترجع الى الاقران ولا تنظر الى الاضداد، بل الى مظاهرها ومتعلقاتها، فان جمال رحمة ذي الجمال والكمال، الحي القيوم، الحنان المنان، الرحمن الرحيم ينظر ويتوجه الى المرحومين الذين نالوا رحمته، ولا سيما الى اولئك الذين نالوا انواع رحمته الواسعة وشفقته الرؤوفة في الجنة الخالدة. وله جل وعلا ما يشبه المحبة - تليق بذاته سبحانه - بمقدار سعادة مخلوقاته وبمدى تنعمهم وفرحهم، وله شؤون سامية مقدسة جميلة منزّهة ذات معانٍ تليق به سبحانه وتعالى، ما لا نستطيع ان نذكرها - لعدم وجود اذن شرعي - من التعابير المنزهة للغاية والمقدسة الجليلة والتي يعبّر عنها باللذة المقدسة والعشق المقدس والفرح المنزّه والسرور القدسي، بحيث أن كلاً منها هي اسمى وارفع وانزه بما لا يتناهى من درجات العلو والسمو والنزاهة مما يظهر في الكائنات وما نشعر به من العشق والسرور بين الموجودات.. كما اثبتناه في مواضع كثيرة.

وان شئت ان تنظر الى لمعة من لمعات تلك المعاني الجليلة فانظر اليها بمنظار هذا المثال:

شخص سخي كريم ذو شفقة ورأفة، أعدّ ضيافة جميلة للفقراء المحتاجين، فبسط ضيافته الفخمة على احدى سفنه الجوالة، واطلع عليهم وهم يتنعمون بانعامه تنعماً بامتنان، ترى كم يكون ذلك الشخص الكريم مسروراً فرحاً، وكم يبتهج بتنعم هؤلاء الفقراء وتلذذ الجياع منهم، ورضى المحتاجين منهم، وثنائهم جميعاً عليه، يمكنك ان تقيسه بنفسك.

وهكذا فالانسان الذي لا يملك ملكاً حقيقياً لضيافة صغيرة، وليس له من هذه الضيافة إلاّ إعدادها وبسطها، ان كان يستمتع وينشرح الى هذا القدر لدى اكرامه الآخرين في ضيافة جزئية، فكيف بالذي تنطلق له آيات الحمد والشكر، وترفع اليه اكف الثناء والرضى بالدعاء والتضرع، من الجن والانس والاحياء كافة، الذين حملهم في سفينـة ربانية جبارة تلـك هـي الـكرة الارضـيـة، ويـسيـّرها فيسيـح بهم في عباب فضاء العالم، واسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة داعياً جميع ذوي الحياة الى تلك الضيافة التي هي من قبيل فطور بسيط بالنسبة لما بسط في دار البقاء التي كل جنة من جنانه كسفرةٍ مفروشة امامهم مشحونة بكل ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين، اعدّها لعباده الذين لا يحصون وهم في منتهى الحاجة وغاية الشوق الى لذائذ لا تحد اشباعاً للطائف لاتحد، ليتناولوا من تلك الضيافة الحقيقية وليتنعموا تنعماً حقيقياً في زمن خالد ابدي. فقس بنفسك على هذا ما نعجز عن التعبير عنه من المعاني المقدسة للمحبة والتعابير المنزهة لنتائج الرحمة المتوجهة الى الرحمن الرحيم.

ومثلاً:

اذا قام صنّاع ماهر بصنع حاكٍ جميل ينطق من دون حاجة الى اسطوانة، ووضعه موضع التجربة والعرض للاخرين. فعبّر الجهاز عما يريده منه وعمل على افضل وجه يرغب فيه، فكم يكون مفتخراً متلذذاً برؤية صنعته على هذه الصورة، وكم يكون مسروراً، حتى انه يردد في نفسه: بارك الله..

وهكذا فإن كان انسان صغير عاجز عن الايجاد والخلق يغمره السرور الى هذه الدرجة بمجرد صنعه صنعة صغيرة، فكيف بالصانع الجليل الذي خلق هذا الكون على صورة موسيقى وحاك عظيم، وبخاصة صدى تسبيحات الاحياء على الارض ولا سيما ما وضع في رأس الانسان من حاكٍ رباني وموسيقى إلهية، حتى تقف حكمة البشر وعلومه أمامه في ذهول وحيرة.

نعم ان جميع المصنوعات تُظهر ما يطلب منها من نتائج، تظهرها في منتهى الجمال والكمال، بانقيادها للاوامر التكوينية - التي تعبّر عنها بالعبادات المخصوصة والتسبيحات الخصوصية والتحيات المعينة - وتحقق بهذا المقاصد الربانية المطلوبة منها، فيحصل من الافتخار والامتنان والسرور وغيرها من المعاني المقدسة والشؤون المنزهة التي نعجز عن التعبير عنها، وهي سامية مقدسة بحيث اذا اتحدت جميع عقول البشر في عقل واحد لعجز عن بلوغ كنهها والاحاطة بها.

ومثلاً:

ان حاكماً عادلاً يجد لذة ومتعة عندما يأخذ حق المظلوم من الظالم ويجعل الحق يأخذ نصابه، ويفتخر لدى صيانته الضعفاء من شرور الاقوياء، وينسرّ لدى منحه كل فرد ما يستحقه من حقوق. فلك ان تقيس على هذا، المعاني المقدسة الواردة من احقاق الحكيم المطلق والعادل المطلق والقهار الجليل، الحقّ في الموجودات كافة، وليس على الجن والانس وحدهم. اي الحاصلة من منحه سبحانه وتعالى شروط الحياة في صورة حقوق الحياة للمخلوقات قاطبة، ولاسيما الاحياء باحسانه اليهم باجهزة تحافظ على حياتهم وبحمايتهم من اعتداء المعتدين وبايقافه الموجودات الرهيبة عند حدّها، ولاسيما المعاني المقدسة المنبعثة من التجلي الاعظم للعدالة الكاملة والحكمة التامة في الحشر الاعظم في الدار الآخرة على الأحياء كافة فضلاً عن الجن والانس.

وهكذا على غرار هذه الامثلة الثلاثة، ففي كل اسم من الف اسم من الاسماء الإلهية الحسنى طبقات حُسن وجمال وفضل وكمال كثيرة جداً، كما ان فيها مراتب محبة وفخر وعزة وكبرياء كثيرة جداً. ومن هنا قال الاولياء المحققون الذين حظوا باسم الودود: ان جوهر الكون كله هو المحبة وان حركة الموجودات بالمحبة، فقوانين الانجذاب والجذب والجاذبية التي تجرى في الموجودات انما هي آتية من المحبة. وقد قال احدهم:

كل ذرات الوجود في نشوة المحبة.

الفلك نشوان والملك نشوان

النجوم والسموات نشاوى

القمر والشمس نشويان والارض نشوى

والعناصر والنباتات والاشجار نشاوى.

بمعنى ان كل شئ نشوان من شراب المحبة بتجلي المحبة الإلهية، كل حسب استعداده، ومن المعلوم ان كل قلب يحب مَن يحسن اليه، ويحب الكمال الحقيقي ويعشق الجمال السامي ويزيد حبه لمن يحب مَن يحبهم ويشفق عليهم ويحسن اليهم.

ترى ما مدى العشق والمحبة التي تليق بمن له في كل اسم من اسمائه ألف كنز وكنز من الاحسان والانعام.. ومن يُسعد كل من نحبهم.. ومن هو منبع الوف انواع الكمالات.. ومن هو مبعث الوف طبقات الجمال.. ومن هو مسمى الف اسم واسم.. وهو الجميل ذو الجلال والمحبوب ذو الكمال.

ألا يفهم من هذا مدى الأحقية في نشوة الكون طراً بمحبته؟

ولأجل هذا السر قال قسم من الاولياء الذين نالوا شرف الحظوة باسم ((الودود)): ((لمعة من محبة الله تغنينا عن الجنة)).

ومن ذلك السر ايضاً، ورد في الحديث الشريف ما معناه: ان رؤية جمال الله في الجنة تفوق جميع لذائذ الجنة.

فكمالات المحبة ومزاياها هذه، انما تحصل ضمن دائرة الواحدية والاحدية باسمائه سبحانه وبمخلوقاته. بمعنى: ان ما يتوهم من كمالات خارج تلك الدائرة ليست كمالات قطعاً.

الرمز الخامس: خمس نقاط:

النقطة الاولى: يقول داعية اهل الضلال: لقد لُعنت الدنيا في احاديثكم(1)، وذُكرت انها جيفة، ونرى أن اهل الولاية واهل الحقيقة يحقرون الدنيا ويستهينون بها ويقولون: انها فاسدة، قذرة، بينما تبينها انت: انها مبعث كمالٍ إلهي وحجة له، وتذكرها ذكر عاشق لها.

الجواب: الدنيا لها ثلاثة وجوه:

الوجه الاول: ينظر الى اسماء الله الحسنى ويبين آثار تلك الاسماء ونقوشها، وتؤدي الدنيا - بهذا الوجه - وظيفة مرآة لتلك الاسماء بالمعنى الحرفي، فهذا الوجه مكاتيب صمدانية لا تحد. لذا يستحق العشق لا النفور، لأنه في غاية الجمال.

الوجه الثاني: وجه ينظر الى الآخرة، فهو مزرعة الآخرة، مزرعة الجنة، موضع ازهار ازاهير الرحمة الإلهية. وهذا الوجه جميل كالوجه الأول يستحق المحبة لا التحقير.

الوجه الثالث: وجه ينظر الى اهواء الانسان، ويكون ستار الغافلين، وموضع لعب اهل الدنيا واهوائهم. هذا الوجه قبيح دميم، لأنه فانٍ، زائلٍ، مؤلم،خداع.

فالتحقير الوارد في الحديث الشريف، والنفور الذي لدى اهل الحقيقة هو من هذا الوجه.

أما ذكر القرآن الكريم للموجودات بأهمية بالغة واعجاب واطراء فهو متوجه الى الوجهين الاوليين، وان الدنيا المرغوبة فيها لدى الصحابة الكرام وسائر اولياء الله في الوجهين الاوليين.

والآن نذكر اولئك الذين يحقرون الدنيا وهم اربعة اصناف:

الاول: هم اهل المعرفة الإلهية، فهم يحقرونها لأنها تحجب عن معرفة اللّّه سبحانه وتستر عن محبته والعبادة له.

الثاني: هم اهل الآخرة. فإما أن ضرورات الحياة الدنيوية ومشاغلها تمنعهم عن الاعمال الاخروية، او انهم يرون الدنيا قبيحة بالنسبة لكمالات الجنة وجمالها ومحاسنها التي يشاهدونها بايمان شهودي.

نعم فكما اذا قورن رجل جميل مع سيدنا يوسف عليه السلام يبدو قبيحاً بلا شك. كذلك تبدوجميع مفاتن الدنيا القيمة تافهة بالنسبة لنعيم الجنة.

الثالث: يحقّر الدنيا لأنه لا يحصل عليها، وهذا التحقير ناتج من محبة الدنيا لا من النفور منها.

الرابع: يحقّر الدنيا لأنه يحصل عليها الاّ انها لا تظل عنده، بل ترحل عنه، فهو بدوره يغضب، ولا يجد غير تحقير الدنيا ليسلّي نفسه فيقول: انها قذرة. فهذا التحقير ايضاً ناتج من محبة الدنيا.

بينما التحقير المطلوب هو الناتج من حب الآخرة ومن معرفة الله. بمعنى أن التحقير المقبول هو القسمان الاوليان.

اللّهم اجعلنا منهم آمين بحرمة سيد المرسلين e .
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس