الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #49
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الموقف الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

] وان من شيء الاّ يسبّح بحمده[

هذا الموقف عبارة عن نقطتين وهي مبحثان

المبحث الاول

ان في كل شئ وجوهاً كثيرة جداً متوجهة - كالنوافذ - الى الله سبحانه وتعالى، بمضمون الآية الكريمة ] وان من شيء الاّ يسبّح بحمده[ اذ ان حقائق الموجودات وحقيقة الكائنات تستند الى الاسماء الإلهية الحسنى، فحقيقة كل شئ تستند الى اسم من الاسماء او الى كثير من الاسماء. وان الاتقان الموجود في الاشياء يستند الى اسم من الاسماء، حتى ان علم الحكمة الحقيقي يستند الى اسم الله (الحكيم) وعلم الطب يستند الى اسم الله (الشافي) وعلم الهندسة يستند الى اسم الله (المقدّر).. وهكذا كل علم من العلوم يستند الى اسم من الاسماء الحسنى وينتهي اليه، كما ان حقيقة جميع العلوم وحقيقة الكمالات البشرية وطبقات الكمّل من البشر، تستند كلها الى الاسماء الإلهية الحسنى، حتى قال اولياء محققون ان:

((الحقائق الحقيقية للاشياء، انما هي الاسماء الإلهية الحسنى، أما ماهية الاشياء فهي ظلال تلك الحقائق)) بل يمكن مشاهدة آثار تجلي عشرين اسماً من الاسماء على ظاهر كل ذي حياة فحسب.

نحاول تقريب هذه الحقيقة الدقيقة والعظيمة الواسعة في الوقت نفسه الى الاذهان بمثال، نصفّيه بمصاف ونحلله بمحللات مختلفة، ومهما يطل البحث بنا فانه يعدّ قصيراً، فينبغي عدم السأم.

اذا اراد فنان بارع في التصوير والنحت، رسم صورة زهرة فائقة الجمال، وعمل تمثال حسناء رائعة الحسن، فانه يبدأ اول ما يبدأ بتعيين بعض خطوط الشكل العام لكل منهما.. فتعيينه هذا انما يتم بتنظيم، ويعمله بتقدير يستند فيه الى علم الهندسة، فيعيّن الحدود وفقه.. فهذا التنظيم والتقدير يدلان على انهما فُعلا بعلمٍ وبحكمة. اي ان فعلَي التنظيم والتحديد يتمان وفق (بركار) العلم والحكمة، لذا تحكُم معاني العلم والحكمة وراءَ التنظيم والتحديد، اذن ستبيّن ضوابط العلم والحكمة نفسها.. نعم، وها هي تبيّن نفسها، اذ نشاهد الفنان قد بدأ بتصوير العين والاذن والانف للحسناء واوراق الزهرة وخيوطها اللطيفة الدقيقة داخل تلك الحدود التي حدّدها.

والآن نشاهد ان تلك الاعضاء التي عُيّنت وفق (بركار) العلم والحكمة أخذت صيغة الصنعة المتقنة والعناية الدقيقة، لذا تحكمُ معاني الصنع والعناية وراء (بركار) العلم والحكمة.. اذن ستبين نفسها.. نعم، وها قد بدات قابلية الحسن والزينة في الظهور مما يدل على أن الذي يحرك الصنعة والعناية هو ارادة التجميل والتحسين وقصد التزيين، لذا يحكمان من وراء الصنعة والعناية؛ وها قد بدأ (الفنان) باضفاء حالة التبسم لتمثال الحسناء، وشرع بمنح اوضاع حياتية لصورة الزهرة، اي بدأ بفعلَي التزيين والتنوير. لذا فالذي يحرك معنى التحسين والتنوير هما معنيا اللطف والكرم.. نعم! ان هذين المعنيين يحكمان، بل يهيمنان الى درجة كأن تلك الزهرة لطفٌ مجسم وذلك التمثال كرمٌ متجّسد. تُرى ما الذي يحرك معاني الكرم واللطف، وما وراءهما غير معاني التودد والتعرف. اي تعريف نفسه بمهارته وفنه وتحبيبها الى الآخرين.. وهذا التعريف والتحبيب آتيان من الميل الى الرحمة وإرادة النعمة.. وحيث أن الرحمة وارادة النعمة من وراء التودد والتعرّف، فستملآن اذن نواحي التمثال بانواع الزينة والنعم، وستعلقان على الصورة، صورة الزهرة الجميلة هدية ثمينة.. وها نحن نشاهد أن (الفنان) قد بدأ بملء يدي التمثال وصدره بنعمٍ قيمة ويعلّق على صورة الزهرة درراً ثمينة.. بمعنى ان معاني الترحم والتحنن والاشفاق قد حرّكت الرحمة وإرادة النعمة.. وما الذي يحرك معاني الترحم والتحنن هذه، وما الذي يسوقهما الى الظهور لدى ذلك المستغنى عن الناس، غير ما في ذاته من جمال معنوي وكمال معنوي يريدان الظهور. إذ إن اجمل ما في ذلك الجمال، وهو المحبة، وألذ ما فيه وهو الرحمة، كل منها - اي المحبة والرحمة - يريد اراءة نفسه بمرآة الصنعة، ويريد رؤية نفسه بعيون المشتاقين، لأن الجمال - وكذا الكمال - محبوب لذاته، يحب نفسه اكثر من اي شئ آخر، حيث أنه حُسن وعشق في الوقت نفسه، فاتحاد الحسن والعشق آتٍ من هذه النقطة.. ولما كان الجمال يحب نفسه، فلابد أنه يريد رؤية نفسه في المرايا، فالنعم الموضوعة على التمثال، والثمرات اللطيفة المعلقة على الصورة، تحمل لمعةً براقة من ذلك الجمال المعنوي - كل حسب قابليته - فتُظهر تلك اللمعات الساطعة نفسها الى صاحب الجمال، والى الآخرين معاً.

وعلى غرار هذا المثال ينظم الصانع الحكيم (ولله المثل الاعلى) الجنة والدنيا والسموات والارض والنباتات والحيوانات والجن والانس والملك والروحانيات، اي بتعبير موجز ينظم سبحانه جميع الاشياء كليّها وجزئيها.. ينظمها جميعاً بتجليات اسمائه الحسنى ويعطي لكل منها مقداراً معيناً حتى يجعله يستقرىء اسم (المقدر، المنظم، المصور).

وهكذا بتعيينه سبحانه وتعالى حدود الشكل العام لكل شئ تعييناً دقيقاً يُظهر اسم (العليم، الحكيم). ثم يرسم بمسطرة العلم والحكمة ذلك الشئ ضمن الحدود المعينة، رسماً متقناً الى حد يُظهر معاني الصنع والعناية، اي اسمي: الصانع، الكريم.. ثم يضفي على تلك الصورة جمالاً وزينة، بفرشاة العناية وباليد الكريمة للصنعة، فان كانت الصورة انساناً اضفى على اعضائه كالعين والانف والاذن الواناً من الحسن والجمال.. وان كانت الصورة زهرة اضفى سبحانه الى اوراقها واعضائها وخيوطها الرقيقة الواناً من الجمال والرواء والحسن.. وان كانت الصورة ارضاً منح معادنها ونباتاتها وحيواناتها الواناً من الزينة وضروباً من الجمال والحسن.. وان كانت الصورة جنة النعيم اسبغ على قصورها الواناً من الحسن وعلى حورها انواعاً من الزينة.. وهكذا قس على هذا المنوال.

ثم يزّين ذلك الشئ وينوره بطرازٍ بديع من الزينة والنور حتى تحكُم عليه معاني اللطف والكرم فتجعل ذلك الموجود المزيَّن وذلك المصنوع المنوَّر لطفاً مجسماً وكرماً متجسداً يذكّر باسمى (اللطيـف، الكريم) والذي يسـوق ذلك اللطف والكرم الى هذا التجلي انما هو التودد والتعرّف، اي شؤون تحبيب ذاته الجليلة الى ذوي الحياة وتعريف ذاته الى ذوي الشعـور حتى يُقرأ على ذلـك الشـئ اسـماً (الودود والمعروف) اللذين هما وراء اسمي (اللطيف، الكريم) بل يُسمعان قراءته لذينك الاسمين من حال المصنوع نفسه. ثم يجمّل سبحانه ذلك الموجود المزيّن، وذلك المخلوق الجميل، بثمرات لذيذة، بنتائج محبوبة، فيحوّل - جـل وعـلا - الزينة الى نعمة، واللطفَ الى رحمة، حتى يدفع كل مشاهد يقرأ اسمي (المنعم، الرحيم) حيث تشف تجليات ذينك الاسمين من وراء الحجب الظاهرية. ثم ان الذي يسوق اسمي الرحيم والكريم وهو المستغني المطلق، الى هذا التجلي انما هو شؤون (الترحم والتحنن) مما يجعل المشاهد يقرأ على الشئ اسمي (الحنان، الرحمن). والذي يسوق معاني الترحم والتحنن الى التجلي، جمال وكمال ذاتيان، يريدان الظهور، مما يدفع المشاهد الى قراءة اسم (الجميل)، واسمي (الودود، الرحيم) المندرجين فيه؛ اذ الجمال محبوب لذاته. والجمال وذو الجمال يحب نفسه بالذات فهو حسن وَهو محبة. وكذا الكمال محبوب لذاته، اي محبوب بلا داعٍ الى سبب، فهو مُحبٌّ وهو محبوب.

فما دام جمالٌ في كمال لا نهاية له، وكذا كمالٌ في جمال لا نهاية له، يُحبُّ كلٌ منهما غاية الحب ومنتهاه، وهما يستحقان المحبة والعشق، فلابد انهما يريدان الظهور في مرايا، ويريدان شهود لمعاتهما وتجلياتهما - حسب قابلية المرايا - واشهادها الآخرين.

وهذا يعني ان الجمال الذاتي والكمال الذاتي للصانع ذي الجلال، والحكيم ذي الجمال، والقدير ذي الكمال، يريدان الترحم والتحنن، فيسوقان اسمي (الرحمن، الحنان) الى التجلي. والترحم والتحنن يسوقان اسمي (الرحيم والمنعم) الى التجلي، وذلك باظهار الرحمة والنعمة معاً. والرحمة والنعمة تقتضيان شؤون التودد والتعرف وتسوقان اسمي (الودود والمعروف) الى التجلي فيظهران على المصنوع. والتودد والتعرف يحركان معنى اللطف والكرم ويستقرآن اسمي (اللطيف والكريم)، في بعض نواحي المصنوع. وشؤون اللطف والكرم تحرك فعلَي التزيين والتنوير فتستقرىء اسمي (المزيّن المنور) بلسان حُسن المصنوع ونورانيته. وشؤون التزيين والتحسين تقتضي معاني الصنع والعناية وتستقرىء اسمي (الصانع المحسن) في السيماء الجميل لذلك المصنوع. وذلك الصنع والعناية تقتضيان العلم والحكمة فيستقرىء المصنوع اسمي (العليم والحكيم) في اعضائه المنتظمة الحكيمة. ولاشك ان ذلك العلم والحكمة تقتضيان افعال التنظيم والتصوير والتشكيل، فيستقرىء المصنوع بشكله وبهيئته، اسمي (المصوّر المقدّر).

وهكذا خلق الصانع الجليل مصنوعاته كلها، حتى يستقرئ القسم الغالب منها ولا سيما ذوي الحياة، كثيراً جداً من الاسماء الحسنى، وكأنه سبحانه قد ألبس كل مصنوع عشرين حلّة متباينة متراكبة، او كأنه لف مصنوعه ذلك بعشرين غطاء وستره بعشرين ستاراً، وكتب على كل حلة، وعلى كل ستار اسماءه المختلفة.

ففي زهرة واحدة جميلة، وفي حسناء لطيفة، مثلاً في ظاهر خلقهما صحائف كثيرة جداً - كما في المثال - يمكنك ان تأخذهما مثالاً تقيس عليهما المصنوعات الاخرى العظيمة.

الصحيفة الاولى: هيئة الشئ التي تبين شكله العام ومقداره، والتي تذكّر باسماء: يا مصور يا مقدر يا منظم.

الصحيفة الثانية: صور الاعضاء المتباينة المنكشفة ضمن تلك الهيئة البسيطة للزهرة والانسان، التي تُسطر في تلك الصحيفة اسماء كثيرة امثال: العليم، الحكيم.

الصحيفة الثالثة: اضفاء الحسن والزينة على الاعضاء المتباينة لذينك المخلوقين بانماط متنوعة من الحسن والزينة حتى تكتب في تلك الصحيفة اسماء كثيرة من امثال: الصانع، البارئ.

الصحيفة الرابعة: الزينة والحسن البديع الموهوبان الى ذينك المصنوعين، حتى كأن اللطف والكرم قد تجسما فيهما، فتلك الصحيفة تذكّر وتقرأ اسماء كثيرة امثال: يا لطيف. يا كريم.

الصحيفة الخامسة: تعليق ثمرات لذيذة على تلك الزهرة، ومنح الاولاد المحبوبين والاخلاق الفاضلة لتلك الحسناء، يجعلان تلك الصحيفة، تستقرئ اسماء كثيرةً امثال: يا ودود يا رحيم يا منعم.

الصحيفة السادسة: صحيفة الإنعام والإحسان التي تقرأ اسماء أمثال: يا رحمن يا حنان.

الصحيفة السابعة: ظهور لمعات حسن وجمال واضحة في تلك النعم وتلك النتائج حتى تكون أهلاً لشكر خالص عُجن بشوق وشفقة حقيقيين، ومستحقاً لمحبة خالصة طاهرة، فتكتب تلك الصحيفة وتقرأ اسماء: يا جميل ذا الكمال يا كامل ذا الجمال.

نعم، ان كانت زهرة جميلة واحدة، وإنسية حسناء جميلة، يُظهران الى هذا الحد من الاسماء الحسنى في صورتهما الظاهرية المادية فقط، فالى اي حد من السمو والكلية تستقرىء جميع الازهار، وجميع ذوي الحياة والموجودات العظيمة الكلية، الاسماء الحسنى الإلهية. يمكنك أن تقيس ذلك بنفسك.

ويمكنك في ضوء ذلك أن تقيس ايضاً مدى ما يقرأه الانسان وما يستقرؤه من الاسماء الحسنى امثال: الحي، القيوم، المحيي، في كلٍ من صحائف الحياة واللطائف الانسانية كالروح والقلب والعقل.

وهكذا.. فالجنة زهرة. والحور زهرة. وسطح الارض زهرة، والربيع زهرة، والسماء زهرة ونقوشها البديعة والنجوم والشمس زهرة والوان ضيائها السبعة اصباغ نقوش تلك الزهرة.

والعالم انسان جميل عظيم، مثلما أن الانسان عالم مصغر، فنوع الحور، وجماعة الروحانيات، وجنس الملك، وطائفة الجن، ونوع الانسان، كل من هؤلاء قد صُوّر ونُظم واُوجد في حكم انسان جميل. كما ان كلاً منهم مرايا متنوعة متباينة لإظهار جماله سبحانه وكماله ورحمته ومحبته.. وكل منهم شاهد صدقٍ لجمالٍ وكمال ورحمة ومحبة لا منتهى لها.. وكل منهم آيات جمال وكمال ورحمة ومحبة.

فهذه الانواع من الكمالات التي لا نهاية لها، حاصلة ضمن دائرة الواحدية والاحدية، وهذا يعني ان ما يُتوهم من كمالات خارج تلك الدائرة ليست كمالاتٍ قطعاً.

فافهم من هذا:

استناد حقائق الاشياء الى الاسماء الحسنى، بل الحقائق الحقيقية انما هي تجليات تلك الاسماء.

وان كل شئ بجهات كثيرة وبألسنة كثيرة يذكر صانعه ويسبّحه ويقدّسه. وافهم من هذا معنىً واحداً من معاني الآية الكريمة:

] وان من شيء الاّ يسبّح بحمده[

وقل: سبحان من اختفى بشدة ظهوره.

وافهم سراً من اسرار خواتيم الآيات وحكمة تكرار امثال: وهو العليم القدير. وهو الغفور الرحيم. وهو العزيز الحكيم.

فان لم تستطع ان تقرأ في زهرة واحدة الاسماء الحسنى وتعجز عن رؤيتها بوضوح، فانظر الى الجنة وتأمل في الربيع وشاهد سطح الارض، عند ذلك يمكنك ان تقرأ بوضوح الاسماء المكتوبة على الجنة وعلى الربيع وعلى سطح الارض، التي هي ازاهير كبيرة جداً لرحمة الله الواسعة.





المبحث الثاني

من الموقف الثالث من الكلمة الثانية والثلاثين

ان ممثل أهل الضلالة والداعية لها، اذ لم يجد ما يبني عليه ضلالته، وعندما تفوته البينة وتلزمه الحجة يقول:

اني أرى ان سعادة الدنيا، والتمتع بلذة الحياة، والرقي والحضارة، والتقدم الصناعي هي في عدم تذكر الآخرة وفي عدم الايمان بالله وفي حب الدنيا وفي التحرر من القيود وفي الاعتداد بالنفس والاعجاب بها.. لذا سقتُ أكثر الناس ولا زلت أسوقهم - بهمة الشيطان - الى هذا الطريق.

الجواب: ونحن بدورنا نقول باسم القرآن الكريم:

أيها الانسان البائس! عُد الى رُشدك! لا تصغ الى داعية أهل الضلالة. ولئن ألقيت السمع اليه ليكونن خسرانك من الفداحة ما يقشعر من هول تصوره الروحُ والعقلُ والقلبُ. فأمامك طريقان:

الاول: هو طريق ذو شقاء يريك إياه داعية الضلالة.

الثاني: هو الطريق ذو السعادة الذي يبينه لك القرآن الحكيم.

ولقد رأيتَ كثيراً من الموازنات بين ذينك الطريقين في كثير من (الكلمات) ولا سيما في (الكلمات الصغيرة) والآن انسجاماً مع البحث تأمل في واحدةٍ من ألفٍ من المقارنات والموازنات وتدبَّرها، وهي:

ان طريق الشرك والضلالة والسفاهة والفسوق يهوي بالانسان الى منتهى السقوط والى أسفل سافلين، ويُلقي على كاهله الضعيف العاجز في غمرة آلام غير محدودة عبئاً ثقيلاً لا نهاية لثقله، ذلك لان الانسان ان لم يعرف الله سبحانه وتعالى وإن لم يتوكل عليه، يكون بمثابة حيوانٍ فانٍ؛ يتألم دوماً ويحزن باستمرار، ويتقلب في عجز وضعف لا نهاية لهما، ويتلوى في حاجة وفقر لا نهاية لهما، ويتعرض لمصائب لا حد لها، ويتجرع آلام الفراق من التي استهواها ونسج بينه وبينها خيوط العلاقات، فيقاسي وما زال يقاسي، حتى يغادر ما بقي من أحبائه نهاية المطاف ويفارقهم جزعاً وحيداً غريباً الى ظلمات القبر.

وسيجد نفسه طوال حياته أمام آلام وآمال لا نهاية لهما، مع أنه لا يملك سوى ارادة جزئية، وقدرة محدودة، وحياة قصيرة، وعمر زائل، وفكر آفل.. فتذهب جهودُه في تطمينها سدىً؛ ويسعى هباء وراء رغباته التي لا تحد. وهكذا تمضي حياتُه دون أن يجني ثمراً.

وبينما تجده عاجزاً عن حمل أعباء نفسه، تراه يحمّل عاتقَه وهامته المسكينة أعباء الدنيا الضخمة، فيتعذب بعذاب محرق أليم قبل الوصول الى عذاب الجحيم.

ان اهل الضلالة لا يشعرون بهذا الألم المرير والعذاب الروحي الرهيب اذ يلقون أنفسهم في أحضان الغفلة ليُبطلوا شعورهم ويخدّروا إحساسهم - مؤقتاً - بسُكرها.. ولكن ما أن يدنو أحدُهم من شفير القبر حتى يرهف إحساسه ويضاعف شعوره بهذه الآلام دفعةً واحدة؛ ذلك لأنه إن لم يكن عبداً خالصاً لله تعالى فسيظن أنه مالكٌ نفسَه، مع أنه عاجز بارادته الجزئية وقدرته الضيئلة حتى عن ادارة كيانه وحده أمام أحوال هذه الدنيا العاصفة اذ يرى عالماً من الاعداء يحيط به ابتداءً من أدق الميكروبات وانتهاء بالزلازل المدمرة على أتم استعداد للانقضاض عليه والاجهاز على حياته، فترتعد فرائصُه ويرتجف قلبُه رعباً وهلعاً كلما تخيل القبر ونظر اليه.

وبينما يقاسي هذا الانسان ما يقاسي من وضعه اذا بأحوال الدنيا التي يتعلق بها ترهقه دوماً، واذا بأوضاع بني الانسان الذي يرتبط بهم تنهكه باستمرار، ذلك لظنه أن هذه الاحداث والوقائع ناشئة من لعب الطبيعة وعبث المصادفة، وليست من تصرف واحدٍ أحد حكيمٍ عليمٍ، ولا من تقدير قادرٍ رحيمٍ كريمٍ، فيعاني مع آلامه هو آلام الناس كذلك، فتصبح الزلازل والطاعون والطوفان والقحط والغلاء والفناء والزوال وما شابهها مصائب قاتمة وبلايا مزعجة معذبّة!

فهذا الانسان الذي اختار بنفسه هذا الوضع المفجع، لا يثير اشفاقاً عليه، ولا رثاء على حاله.. مثله في هذا كمثل الذي ذكر في الموازنة بين الشقيقين في (الكلمة الثامنة) من أن رجلاً لم يقنع بلذة بريئة ونشوة نزيهة وتسلية حلوة ونزهة شريفة مشروعة، بين أحبة لطفاء في روضة فيحاء وسط ضيافة كريمة، فراح يتعاطى الخمر النجسة ليكسب لذة غير مشروعة، فسكر حتى بدأ يخيّل اليه أنه في مكان قذر، وبين ضوارٍ مفترسة، تصـيبه الرعـشـة كأنه في شـتـاء، وبدأ يستـصرخ ويستـنـجد فلم يشفق عليه احد؛ لأنه تصور أصدقاءه الطيبين حيوانات شرسة، فحقرهم وأهانهم.. وتوهم الاطعمة اللذيذة والاواني النظيفة التي في صالة الضيافة أحجاراً ملوثة، فباشر بتحطيمها.. وظن الكتب القيمة والرسائل النفيسة في المجلس نقوشاً عادية وزخارف لا معنى لها، وشرع بتمزيقها ورميها تحت الاقدام.. وهكذا.

فكما لا يكون هذا الشخص - وأمثاله - أهلاً للرحمة ولا يستحق الرأفة، بل يستوجب التأديب والتأنيب، كذلك الحال مع مَن يتوهم بسُكر الكفر وجنون الضلالة الناشئين من سوء اخيتاره أن الدنيا التي هي مضيف الصانع الحكيم لعبةَ المصادفة العمياء، وألعوبة الطبيعة الصماء.. ويتصور تجديد المصنوعات لتجليات الاسمآء الحسنى وعبورها الى عالم الغيب مع تيار الزمن، بعد أن أنهت مهامها واستنفدت أغراضها كأنها تصب في بحر العدم ووادي الانعدام وتغيب في شواطىء الفناء.. ويتخيل أصوات التسبيح والتحميد التي تملأ الاكوان والعوالم أنيناً ونواحاً يطلقه الزائلون الفانون في فراقهم الابدي.. ويحسب صحائف هذه الموجودات التي هي رسائل صمدانية رائعة خليطاً لا معنى له ولا مغزى.. ويخال باب القبر الذي يفتح الطريق الى عالم الرحمة الفسيح نفقاً يؤدي الى ظلمات العدم.. ويتصور الأجَل الذي هو دعوة الوصال واللقاء بالاحباب الحقيقيين أوان فراق الاحبة جميعهم!.

نعم! ان الذي يعيش في دوامة هذه التصورات والاوهام يلقي نفسه في أتون عذاب دنيوي أليم، ففضلاً عن أنه لا يكون أهلاً لرحمة ولا لرأفة، يستحق عذاباً شديداً، لتحقيره الموجودات - باتهامها بالعبثية - وتزييفه الاسماء الحسنى - بانكار تجلياتها - وانكاره الرسائل الربانية بردّه شهاداتها على الوحدانية.

فيا أيها الضالون السفهاء، ويا أيها التعساء الاشقياء!

تُرى هل يُجدي أعظم علومكم، وأعلى صروح حضارتكم وأرقى مراتب نبوغكم وأنفذ خطط دهائكم شيئاً أمام هذا السقوط المخيف المريع للانسان؟ وهل يستطيع الصمود حيال هذا اليأس المدمّر للروح البشرية التواقة الى السلوان؟ وهل يقدر ما تطلقون من (طبيعة) لكم، وما تسندون اليه الآثار الإلهية من (أسباب) عندكم، وما تنسبون اليه الاحسانات الربانية من (شريك) لديكم، وما تتباهون به من (كشوفاتكم) وما تعتزون به من (قومكم)، وما تـعـبـدون مـن (معبودكم) الباطل.. هل يستطيع كل أولئك من انقاذكم من ظلمات الموت الذي هو أعدام أبدي لديكم؟ وهل يستطيع كل أولئك من امراركم من حدود القبر بسلامة، ومن تخوم البرزخ بأمان، ومن ميدان الحشر باطمئنان، ويتمكن أن يعينكم على عبور جسر الصراط بحكمة، ويجعلكم أهلاً للسعادة الابدية والحياة الخالدة؟.

انكم لا محالة ماضون في هذا الطريق، اذ ليس بمقدوركم أن توصدوا باب القبر دون أحد. فأنتم مسافرو هذا الطريق لا مناص. ولابد لمن يمضي في هذا الطريق من ان يستند ويتكل على مَن له علم محيط شامل بكل دروبه وشعابه وحدوده الشاسعة، بل تكون جميع تلك الدوائر العظيمة تحت تصرفه وضمن أمره وحكمه.

فيا أيها الضالون الغافلون!

أن ما أودع في فطرتكم من استعداد المحبة والمعرفة، ومن وسائط الشكر ووسائل العبادة التي يلزم أن تبذل الى ذات الله تبارك وتعالى، وينبغي أن تتوجه الى صفاته الجليلة وأسمائه الحسنى، قد بذلتموها - بذلاً غير مشروع - لأنفسكم وللدنيا، فتعانون مستحقين عقابَها، وذلك بسر القاعدة (ان نتيجة محبة غير مشروعة مقاساة عذاب أليمٍ بلا رحمة). لأنكم وهبتم انفسكم المحبة التي تخص الله سبحانه وتعالى، فتعانون بلايا محبوبتكم التي لا تعد اذ لم تمنحوها راحتها الحقيقة.. وكذا لا تسلمون أمرَها بالتوكل الى المحبوب الحق وهو الله القدير المطلق، فتقاسون الألم دائماً.. وكذا فقد أوليتم الدنيا المحبة التي تعود الى اسماء الله الحسنى وصفاته الجليلة المقدسة، ووزعتم آثار صنعته البديعة وقسمتموها بين الاسباب المادية، فتذوقون وبال عملكم؛ لأن قسماً من أحبائكم الكثيرين يغادرونكم مُدبرين دون توديع، ومنهم مَن لا يعرفونكم أصلاً، وحتى اذا عرفوكم لا يحبونكم، وحتى اذا أحبوكم لا ينفعونكم، فتظلون في عذاب مقيم من أعذبة فراقٍ لا حد له ومن آلام زوال يائس من العودة.

فهذه هي حقيقة ما يدعيه أهل الضلالة، وماهية ما يدعون اليه من (سعادة الحياة) و (كمال الانسان) و (محاسن الحضارة) و (لذة التحرر)!!

ألا ما أكثف حجاب السفاهة والسكُر الذي يخدّر الشعور والاحساس!

ألا قل: تباً لعقل أولئك الضالين!.

أما الصراط المستقيم أو الجادة المنورة للقرآن الكريم، فانه يداوي جميع تلك الجروح التي يعاني منها أهل الضلالةويضمدها بالحقائق الايمانية، ويبدد كل تلك الظلمات السابقة في ذلك الطريق، ويسد جميع ابواب الضلالة والهلاك، بالآتي:

انه يداوي ضعفَ الانسان، وعجزه، وفقره، واحتياجَه بالتوكل على القدير الرحيم، مُسلّماً أثقال الحياة وأعباء الوجود الى قدرته سبحانه والى رحمته الواسعة دون أن يحملها على كاهل الانسان، بل يجعله مالكاً لزمام نفسه وحياته، واجداً له بذلك مقاماً مريحاً، ويعرّفه بأنه ليس بحيوانٍ ناطق، بل هو انسان بحق وضيف عزيز مكرم عند الملك الرحمن.

ويداوي أيضاً تلك الجروح الانسانية الناشئة من فناء الدنيا وزوال الاشياء، ومن حب الفانيات، يداويها بلطف وحنان باظهاره الدنيا دار ضيافة الرحمن ومبيناً أن ما فيها من الموجودات هي مرايا الاسماء الحسنى، وموضحاً أن مصنوعاتها رسائل ربانية تتجدد كل حين باذن ربها، فينقذ الانسان من قبضة ظلمات الاوهام.

ويداوي أيضاً تلك الجروح التي يتركها الموت، الذي يتلقاه أهل الضلالة فراقاً أبدياً عن الاحبة جميعاً، ببيانه أن الموت مقدمة الوصال واللقاء مع الاحباء الذين رحلوا الى عالم البرزخ والذين هم الآن في عالم البقاء، ويثبت أن ذلك الفراق هو عين اللقاء.

ويزيل كذلك أعظم خوف للانسان باثباته أن القبر باب مفتوح الى عالم الرحمة الواسعة، والى دار السعادة الابدية، والى رياض الجنان، والى بلاد النور للرحمن الرحيم، مبيناً أن سياحة البرزخ التي هي أشد ألماً وأشقى سياحة عند أهل الضلالة، هي أمتع سياحة وآنسها وأسرها إذ ليس القبر فم ثعبان مرعب، بل هو باب الى روضة من رياض الجنة.

ويقول للمؤمن:

إن كانت ارادتك واختيارك جزئية، ففوّض أمرك لارادة مولاك الكلية.. وإن كان اقتدارك ضعيفاً فاعتمد على قدرة القادر المطلق.. وان كانت حياتك فانية وقصيرة ففكّر بالحياة الباقية الابـدية.. وان كان عمرك قصــيراً فلا تحزن فإن لــك عمــراً مديداً.. وان كان فكرك خافتاً فادخل تحت نور شمس القرآن الكريم، وانظر بنور الايمان كي تمنحك كل آية من الآيات القرآنية نوراً كالنجوم المتلألئة الساطعة بدلاً من ضوء فكرك الباهت.. وان كانت لك آمال وآلام غير محدودة فان ثواباً لا نهاية له ورحمة لا حد لها ينتظرانك.. وان كانت لك غايات ومقاصد لا تحد، فلا تقلق متفكراً بها فهي لا تُحصر في هذه الدنيا، بل مواضعها ديار اخرى، ومانحها جواد كريم واسع العطاء.

ويخاطب الانسان أيضاً ويقول:

أيها الانسان! أنت لستَ مالكاً لنفسك.. بل أنت مملوكٌ للقادر المطلق القدرة، والرحيم المطلق الرحمة، فلا ترهق نفسَك بتحميلها مشقة حياتك، فان الذي وهب الحياة هو الذي يديرها.

ثم أن الدنيا ليست سائبة دون مالك، كي تقلق عليها وتكلف نفسك حمل أعبائها وترهق فكرك في أحوالها. ذلك لأن مالكها حكيم ومولاها عليم، وأنت لستَ الاّ ضيفاً لديه، فلا تتدخل بفضولٍ في الامور، ولا تخلطها من غير فهم.

ثم ان الانسان والحيوان ليسوا موجودات مهملة، بل موظفون مأمورون تحت هيمنة حكيم رحيم وتحت اشرافه. فلا تجرّع روحَك ألماً بالتفكر في مشاق أولئك وآلامهم ولا تقدّم رأفتك عليهم بين يدي رحمة خالقهم الرحيم.

ثم أن زمام أولئك الذين اتخذوا طور العداء معك ابتداء من الميكروبات الى الطاعون والطوفان والقحط والزلازل، بل زمام كل شئ بيد ذلك الرحيم الكريم سبحانه، فهو حكيم لا يصدر منه عبث، وهو رحيم واسع الرحمة، فكل ما يعمله فيه اثر من لطف ورأفة.

ويقول أيضاً:

أن هذا العالم مع أنه فانٍ فانه يهيئ لوازم العالم الابدي.. ومع أنه زائل ومؤقت الا أنه يؤتي ثمرات باقية، ويظهر تجليات رائعة من تجليات الاسماء الحسنى الخالدة.. ومع ان لذائذه قليلة وآلامه كثيرة، الا أن لطائف الرحمن الرحيم وتكرمه وتفضله هي بذاتها لذات حقيقية لا تزول، أما الآلام فهي الاخرى تولد لذّات معنوية من جهة الثواب الاُخروي. فما دامت الدائرة المشروعة كافية ليأخذ كل من الروح والقلب والنفس لذّاتهــا ونــشــواتها جميعاً، فــلا داعــي اذن أن تـلــج في الدائرة غير المشروعة، لأن لذة واحدة من هذه الدائرة قد يكون لها ألف ألم وألم، فضلاً عن أنها سبب الحرمان من لذة تكريم الرحمن الكريم، تلك اللذة الخالصة الزكية الدائمة الخالدة.

هكذا تبين مما سبق بأن طريق الضلالة يردي الانسان الى أسفل سافلين، الى حد تعجز أية مدنية كانت وأية فلسفة كانت عن ايجاد حل له، بل يعجز الرقي البشري وما بلغه من مراتب العلم عن اخراجه من تلك الظلمات السحيقة التي في الضلالة.

بينما القرآن الكريم يأخذ بيد الانسان - بالايمان والعمل الصالح - ويرفعه من أسفل سافلين الى أعلى عليين، ويبين له الدلائل القاطعة ويبسط أمامه البراهين الدامغة على ذلك، فيردم تلك الاغوار العميقة بمراتب رقي معنوي وبأجهزة تكامل روحي.. وكذا ييسر له - بسهولة مطلقة - رحلته الطويلة المضنية العاصفة نحو الابدية، ويهوّنها عليه؛ وذلك بابرازه الوسائط والوسائل التي يمكن أن يقطع بها مسافة ألف سنة، بل خمسين ألف سنة في يوم واحد.

وكذا يضفي على الانسان جلباب العبودية ويكسبه طور عبد مأمور، وضيف موظف لدى الذات الجليلة، وذلك بتعريفه أن الله سبحانه هو مالك الازل والابد، فيضمن له راحة تامة في سياحته في الدنيا المضياف أو في منازل البرزخ في ديار الآخرة.. فكما أن الموظف المخلص للسلطان يتجول بيسر تام في دائرة مملكة سلطانه، ويتنقل من تخوم ولاياته بوسائط سريعة كالطائرة والباخرة والقطار، كذلك الانسان المنتسب بالايمان الى المالك الازلي فانه يمر بالعمل الصالح من منازل الدنيا المضياف ومن دوائر عالمي البرزخ والحشر ومن حدودهما الواسعة الشاسعة بسرعة البَرق والبُراق حتى يجد السعادة الابدية.. فيثبت القرآن الكريم هذه الحقائق إثباتاً قاطعاً ويبرزها عياناً للأصفياء والأولياء.

ثم تستأنف حقيقته قائلة:

أيها المؤمن لا تبذل ما تملكه من قابلية غير محدودة للمحبة الى نفسك التي هي أمارة بالسوء وهي قبيحة ناقصة، وشريرة مضرة لك، ولا تتخذها محبوبتك ومعشوقتك، ولا تجعل هواها معبودك، بل اجعل محبوبك مَن هو أهلٌ لمحبة غير متناهية.. ذلكم القادر على الاحسان اليك احساناً لا نهاية له، والقادر على اسعادك سعادة لا منتهى لها، بل يسعدك كذلك بما يجـزل من احسـاناته علـى جميع مَن ترتبط معهم بعلاقات، فهو الذي له الكمال المطلق والجمال المقدس والمنزّه عن كل نقص وقصور وزوال وفناء.. فجماله لا حدود له وجميع أسمائه جميلة وحسنى.

نعم ان في كل اسم من أسمائه أنوار حُسنٍ وجمال لا نهاية لها؛ فالجنة بجميع لطائفها وجمالها ونعيمها انما هي تجلٍ لإظهار جمال رحمته ورحمة جماله، وجميع الحسن والجمال والمحاسن والكمالات المحبوبة والمحببة في الكون كله ما هي الا اشارة الى جماله ودلالة على كماله سبحانه.

ويقول أيضاً:

ايها الانسان! ان ينابيع المحبة المتفجرة في أعماقك والمتوجهة الى الله سبحانه والمتعلقة بأسمائه الحسنى والمولهة بصفاته الجليلة لا تجعلها مبتذلة بتشبثها بالموجودات الفانية، ولا تهدرها دون فائدة على المخلوقات الزائلة؛ ذلك لأن الآثار والمخلوقات فانيتان، بينما الاسماء الحسنى البادية تجلياتها وجمالها على تلك الآثار وعلى تلك المصنوعات باقية دائمة.. ففي كل اسم من الاسماء الحسنى وفي كل صفة من الصفات المقدسة آلاف من مراتب الإحسان والجمال وآلاف من طبقات الكمال.

فانظر الى اسم (الرحمن) فحسب لترى: أن الجنة احدى تجلياته، والسعادة الابدية احدى لمعاته، وجميع الارزاق والنعم المبثوثة في أرجاء الدنيا كافة احدى قطراته.

فأنعم النظر وتدبر في الآيات الكريمة التي تشير الى هذه الموازنة بين ماهية أهل الضلالة وأهل الايمان من حيث الحياة ومن حيث الوظيفة.

] لقد خَلَقنا الانسانَ في أحسنِ تقْويم ^ ثم رَدَدْناه أسفلَ سافلين ^ إلاّ الذينَ آمَنوا وَعَمِلوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون[ (التين:4ـ 6).

والآية الاخرى

] فما بَكَتْ عليهم السماءُ والارضُ[ (الدخان:44) هذه الآيات تشير الى عقبى كل منهما. تأمل فيهما لتجد مدى سموهما واعجازهما في بيان ما عقدناه من الموازنة والمقارنة.

أما الآيات الأولى. فنحيل بيان حقيقة ما تتضمنه من اعجاز في ايجاز الى الكلمة (الحادية عشرة) التي تبينها بياناً مفصلاً. وأما الآية الثانية، فسنشيرـ اشارة فحسب - الى مدى افادتها عن حقيقة سامية وهي كالآتي:

انها تخاطب قائلة: ان السموات والارض لا تبكيان على موت أهل الضلالة. وتدل بالمفهوم المخالف أن السَّموات والارض تبكيان على رحيل أهل الايمان عن الدنيا. أي لما كانَ أهل الضلالة ينكرون وظائف السموات والارض ويتهمونهما بالعبثية ولا يدركون معاني ما يؤديانه من مهام، فيبخسون حقهما، بل لا يعرفون خالقَهما ولا دلالاتهما على صانعهما، فيستهينون بهما، ويتخذون منهما موقف العداء والاهانة والاستخفاف، فلابد ألاّ تكتفي السموات والارض بعدم البكاء عليهم، بل تدعوان عليهم بل ترتاحان لهلاكهم.

وتقول كذلك بالمفهوم المخالف، أن السَّموات والارض تبكيان على موت أهل الايمان لأنهم يعرفون وظائفهما، ويقدرونهما حق قدرهما، ويصدقون حقائقهما الحقة، ويفهمون - بالايمان - ما تفيدان من معانٍ، حيث أنهم كلما تأملوا فيهما قالوا باعجاب: (ما أجمل خلقهما! وما أحسن ما تؤديان من وظائف!). فيمنحونهما ما يستحقان من القيمة والاحترام، حيث يبثون حبهم لهما بحبهم للّه، أي لأجل الله، باعتبارهما مرايا عاكسة لتجليات أسمائه الحسنى. ولهذا تهتز السَّموات، وتحزن الارض، لموت أهل الايمان وكأنهما تبكيان على زوالهم.

سؤال مهم

تقولون:

ان المحبة ليست اختيارية، لا تقع تحت ارادتنا، فانا بمقتضى حاجتي الفطرية احب الاطعمة اللذيذة والفواكه الطيبة، وأحب والديّ وأولادي وزوجتي التي هي رفيقة حياتي، وأحب الأنبياء المكرمين والأولياء الصالحين، وأحب شبابي وحياتي وأحب الربيع وكل شئ جميل، وبعبارة أوجز أنا احب الدنيا، ولِمَ لا احب كل هذه؟.. ولكن كيف استطيع ان اقدّم جميع هذه الانواع من المحبة للّه، واجعل محبتي لأسمائه الحسنى ولصفاته الجليلة ولذاته المقدسة سبحانه؟ ماذا يعني هذا؟.

الجواب: عليك ان تستمع الى النكات الاربع الآتية:

C النكتة الاولى:

ان المحبة وان لم تكن اختيارية، الاّ انها يمكن ان يُحوَّل وجهُها بالارادة من محبوب الى آخر؛ كأن يظهرَ قبحُ المحبوب وحقيقته مثلاً، أو يُعرَف انه حجابٌ وستار لمحبوب حقيقي يستحق المحبة، أو مرآة عاكسة لجمال ذلك المحبوب الحقيقي، فعندها يمكن ان يُصرَف وجهُ المحبة من المحبوب المجازي الى المحبوب الحقيقي.

C النكتة الثانية:

نحن لا نقول لك: لا تحمل ودّاً ولا حباً لكل ما ذكرتَه آنفاً. وانما نقول اجعل محبتك لما ذكرته في سبيل الله ولوجهه الكريم:

فالتلذذ بالاطعمة الشهية وتذوق الفواكه الطيبة مع التذكر بأنها احسانٌ من الله سبحانه وإنعام من الرحمن الرحيم، يعني المحبة لإسم (الرحمن) واسم (المنعم) من الاسماء الحسنى، علاوة على انه شكر معنوي. والذي يدلنا على ان هذه المحبة لم تكن للنفس والهوى بل لإسم (الرحمن) هو كسب الرزق الحلال مع القناعة التامة ضمن الدائرة المشروعة، وتناوله بالتفكر في انه نعمة من الله مع الشكر له.

ثم ان محبتك للوالدين واحترامهما، انما يعودان الى محبتك لله سبحانه؛ اذ هو الذي غرس فيهما الرحمة والشفقة حتى قاما برعايتك وتربيتك بكل رحمة وحكمة. وعلامة كونهما محبة لوجه الله تعالى، هي المبالغة في محبتهما واحترامهما عندما يبلغان الكبر، ولا يبقى لك فيهما من مطمع. فتُكثر من الشفقة عليهما والرحمة لهما رغم ما يشغلانك بالمشاكل ويثقلان كاهلك بالمشقة. فالآية الكريمة: ] إمّا يَبْلُغَنّ عِندَكَ الكِبَرَ أحدُهما أو كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما اُفٍِّ وَلاَ تَنْهَرهُما وَقُلْ لَهُما قَولاً كَريماً ^ وَاخْفـِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِن الرَحمةِ وَقُلْ رَبِّ اِرحَمْهُما كَما رَبياني صَغيراً[ (الاسراء:23 ـ24). تدعو الأولاد الى رعاية حقوق الوالدين في خمس مراتب، وتبين مدى اهمية برّهما وشناعة عقوقهما..

وحيث ان الوالد لا يقبل ان يتقدمه احد سوى إبنه اذ لا يحمل في فطرته حسداً إليه مما يسد على الولد طريق مطالبة حقه من الوالد؛ لأن الخصام إما ينشأ من الحسد والمنافسة بين اثنين او ينشأ من غمط الحق، فالوالد سليم معافى منهما فطرة، لذا لا يحق للولد إقامة الدعوى على والده، بل حتى لو رأى منه بغياً فليس له ان يعصيه ويعقّه. بمعنى ان من يعقّ والديه ويؤذيهما ما هو الاّ انسان ممسوخ حيواناً مفترساً.

أما محبة الاولاد فهي كذلك محبةٌ لله تعالى وتعود اليه، وذلك بالقيام برعايتهم بكمال الشفقة والرحمة بكونهم هبة من الرحيم الكريم. أما العلامة الدالة على كون تلك المحبة لله وفي سبيله فهي الصبر مع الشكر عند البلاء، ولا سيّما عند الموت والترفع عن اليأس والقنوط وهدر الدعاء بل يجب التسليم بالحمد عند القضاء. كأن يقول: ان هذا المخلوق محبوب لدى الخالق الكريم، ومملوك له، وقد أمنَّني عليه لفترة من الزمن، فالآن اقتضت حكمته سبحانه أن يأخذه مني الى مكان آمن وأفضل. فان تك لي حصة واحدة ظاهرية فيه، فله سبحانه الف حصة حقيقية فيه. فلا مناص اذن من التسليم بحكم الله.

أما محبة الاصدقاء وودّهم، فان كانوا من اصحاب الايمان والتقوى فان محبتهم هي في سبيل الله وتعود اليه سبحانه بمقتضى (الحب في الله).

ثم ان محبة الزوجة وهي رفيقة حياتك، فعليك بمحبتها على أنها هدية أنيسة لطيفة من هدايا الرحمة الإلهية. واياك ان تربط محبتك لها برباط الجمال الظاهري السريع الزوال، بل اوثقها بالجمال الذي لا يزول ويزداد تألقاً يوماً بعد يوم، وهو جمال الاخلاق والسيرة الطيبة المنغرزة في انوثتها ورقّتها. وان احلى ما فيها من جمال واسماه هو في شفقتها الخالصة النورانية. فجمال الشفقة هذا، وحُسن السيرة يدومان ويزدادان الى نهاية العمر. وبمحبتهما تُصان حقوق هذه المخلوقة اللطيفة الضعيفة، والاّ تفقد حقوقها في وقت هي احوج ما تكون اليها، بزوال الجمال الظاهري.

أما محبة الانبياء عليهم السلام والأولياء الصالحين فهي ايضاً لوجه الله وفي سبيله من حيث انهم عباد الله المخلصون المقبولون لديه جل وعلا. فمن هذه الزاوية تصبح تلك المحبة للّه.

والحياة ايضاً التي وهبها الله سبحانه وتعالى لك وللأنسان، هي رأس مال عظيم تستطيع أن تكسب به الحياة الاُخروية الباقية. وهي كنز عظيم يحوي اجهزة وكمالات خالدة.. من هنا فالمحافظة عليها ومحبتها من هذه الزواية، وتسخيرها في سبيل المولى عزوجل تعود الى الله سبحانه ايضاً.

ثم ان محبة الشباب وجماله ولطافته، وتقديره من حيث انه نعمة ربانية جميلة، ثم العمل على حسن استخدامه، هي محبة مشروعة، بل مشكورة.

ثم محبة الربيع والشوق اليه تكون في سبيل الله ومتوجهة الى اسمائه الحسنى، من حيث كونه اجمل صحيفة لظهور نقوش الاسماء الحسنى النورانية واعظم معرض لعرض دقائق الصنعة الربانية البديعة.. فالتفكر في الربيع من هذه الزاوية محبة متوجهة الى الاسماء الحسنى.

وحتى حب الدنيا والشغف بها ينقلب الى محبة لوجه الله تعالى فيما اذا كان النظر اليها من زواية كونها مزرعة الآخرة، ومرآة الاسماء الحسنى، ورسائل ربانية الى الوجود، ودار ضيافة موقتة (وعلى شرط عدم تدخل النفس الامارة في تلك المحبة). ومجمل القول:

اجعل حبك للدنيا وما فيها من مخلوقات بالمعنى (الحرفي) وليس بالمعنى (الاسمي) اي لمعنى ما فيها وليس لذاتها. ولا تقل لشئ: (ما اجمل هذا) بل قل: (ما اجمله خلقاً) أو (ما اجمل خلقه)! واياك ان تترك ثغرة يدخل منها حبٌ لغير الله في باطن قلبك، فان باطنه مرآة الصمد، وخاص به سبحانه وتعالى. وقل:

اللّهم ارزقنا حبك وحب ما يقرّبنا اليك.

وهكذا فان جميع ما ذكرناه من انواع المحبة، إن وجهت الوجهة الصائبة على الصورة المذكورة آنفاً، اي عندما تكون لله وفي سبيله، فانها تورث لذة حقيقية بلا ألم. وتكون وصالاً حقاً بلا زوال، بل تزيد محبة الله سبحانه وتعالى، فضلاً عن انها محبة مشروعة وشكر لله في اللذة نفسها، وفكر في آلائه في المحبة عينها.

مثال للتوضيح:

اذا اهدى اليك سلطان عظيم(1) تفاحة - مثلاً - فانك ستكّن لها نوعين من المحبة، وستلتذ بها بشكلين من اللذة:

الاولى:

المحبة التي تعود الى التفاحة، من حيث انها فاكهة طيبة فيها لذة بقدر ما فيها من خصائص، هذه المحبة لا تعود الى الســلـطــان. بل مَن يأكلــها بــشراهــة امامه يبدي محبته للتفاحة وليس للسلطان، وقد لا يعجب السلطان ذلك التصرف منه، وينفر من تلك المحبة الشديدة للنفس. علاوة على أن لذة التفاحة جزئية وهي في زوال. اذ بمجرد الانتهاء من اكلها تزول اللذة وتورث الاسف.

أما المحبة الثانية:

فهي للتكرمة السلطانية والتفاتته اللطيفة التي ظهرت بالتفاحة.. فكأن تلك التفاحة نموذج للتوجه السلطاني، او هي ثناء مجسّم منه. فالذي يتسلم هدية السلطان حباً وكرامةً يبدي محبته للسلطان وليس للتفاحة. علماً ان في تلك التفاحة التي صارت مظهراً للتكرمة لذة تفوق وتسمو على الف تفاحة اخرى. فهذه اللذة هي الشكران بعينه، وهذه المحبة هي محبة ذات احترام وتوقير يليق بالسلطان.

وهكذا فاذا ما وجّه الانسان محبته الى النعم والفواكه بالذات وتلذذ عن غفلة بلذاتها المادية وحدها، فتلك محبة نفسانية تعود الى هوى النفس، وتلك اللذات زائلة مؤلمة. أما اذا كانت المحبة متوجهة الى جهة التكرمة الربانية ونحو ألطاف رحمته سبحانه وثمرات احسانه، مقدّراً درجات الاحسان واللطف ومتلذذاً بها بشهية كاملة، فهي شكر معنوي، وهي لذة لا تورث ألماً.

C النكتة الثالثة:

ان المحبة المتوجهة الى الاسماء الحسنى لها طبقات: فقد تتوجه بالمحبة الى الاسماء الحسنى بمحبة الآثار الإلهية المبثوثة في الكون - كما بيناه سابقاً - وقد تتوجه بالمحبة الى الاسماء الحسنى لكونها عناوين كمالات إلهية سامية، وقد يكون الانسان مشتاقاً الى الاسماء الحسنى لحاجته الماسة اليها، وذلك لجامعية ماهيته وعمومها وحاجاته غير المحدودة، اي يحب تلك الاسماء بدافع الحاجة اليها.

ولنوضح ذلك بمثال:

تصور وانت تستشعر عجزك وحاجتك الشديدة الى مَن يساعدك ويعينك لإنقاذ مَن تحن عليهم وتشفق على اوضاعهم من الاقارب والفقراء، وحتى المخلوقات الضعيفة المحتاجة، اذا بأحدهم يبرز في الميدان، ويُحـسن لأولئك ويتفـضل عليهم ويسبغ عليهم نِعَمه بما تريده وترغبه.. فكم تطـيـب نفسـك وكم ترتاح الـى إسـمه (المنعم) و (الكريم).. وكـم تـنـبـسط أسـاريرك وتـنـشرح من هـذيـن الاسـمين، بل كم يأخذ ذلك الشخص من اعجابك وتقديرك، وكم تتوجه اليه بالحب بذينك الاسمين والعنوانين!.

ففي ضوء هذا المثال تدبّر في اسمين فقط من الاسماء الحسنى وهما: (الرحمن) و (الرحيم) تجد أن جميع المؤمنين من الآباء والاجداد السالفين وجميع الاحبة والاقارب والاصدقاء، هؤلاء الذين تحبهم وتحن اليهم وتشفق عليهم، يُنعَمون في الدنيا بانواع من النعم اللذيذة، ثم يُسعَدون في الآخرة بما لذّ وطاب من النعم، بل يزيدهم سبحانه وهو الرحمن الرحيم سعادة ونعيماً بلقاء بعضهم بعضاً وبرؤية الجمال السرمدي هناك.. فكم يكون اسم (الرحمن) و (الرحيم) جديرين اذن بالمحبة؟ وكم تكون روح الانسان تواقة اليهما؟ قس بنفسك ذلك لتدرك مدى صواب قولنا؛ الحمد لله على رحمانيته ورحيميته.

ثم انك تتعلق بالموجودات المبثوثة على الارض وتتألم بشقائها، حتى لكأن الارض برمتها مسكنك الجميل وبيتك المأنوس؛ فاذا ما انعمت النظر تجد في روحك شوقاً عارماً وحاجة شديدة الى اسم (الحكيم) وعنوان (المربي) للذي ينظم هذه المخلوقات كافة بحكمة تامة وتنظيم دقيق وتدبير فائق وتربية رحيمة.

ثم اذا انعمت النظر في البشرية جمعاء تجدك تتعلق بهم وتتألم لحالهم البائسة وتتألم أشد الألم بزوالهم وموتهم، واذا بروحك تشتاق الى اسم (الوارث الباعث) وتحتاج الى عنوان (الباقي، الكريم، المحيي، المحسن) للخالق الكريم الذي ينقذهم من ظلمات العدم ويسكنهم في مسكن اجمل من الدنيا وافضل منها.

وهكذا فلأن ماهية الانسان عالية وفطرته جامعة فهو محتاج بألف حاجة وحاجة الى ألف اسم واسم من الاسماء الحسنى والى كثير جداً من مراتب كل اسم. فالحاجة المضاعفة هي الشوق، والشوق المضاعف هو المحبة والمحبة المضاعفة كذلك هي العشق، فحسب تكمّل روح الانسان تنكشف مراتبُ المحبة وفق مراتب الاسماء. ومحبة جميع الاسماء ايضاً تتحول الى محبة ذاته الجليلة سبحانه، اذ إن تلك الاسماء عناوين وتجليات ذاته جلّ وعلا.

والآن سنبين من بين ألف اسم واسم من الاسماء الحسنى مرتبة واحدة فقط وعلى سبيل المثال من بين الف مرتبة ومرتبة لإسم العدل والحكم والحق والرحيم على النحو الآتي:

ان شئت أن تشاهد ما في نطاق الحكمة والعدل من اسم (الرحمن الرحيم، الحق) ضمن دائرة واسعة عظمى فتأمل في هذا المثال:

جيش يضم اربعمائة طائفة متنوعة من الجنود، كل منها تختلف عن الاخرى فيما يعجبها من ملابس، وتتابين فيما تشتهيه من اطعمة وتتغاير فيما تستعمله بيُسر من اسلحة، وتتنوع فيما تتناوله من علاجات تناسبها.. فعلى الرغم من هذا التباين والاختلاف في كل شئ، فان تلك الطوائف الاربعمائة لا تتميز الى فرق وافواج، بل يتشابك بعضها في بعض من دون تمييز.. فاذا ما وُجد سلطانٌ واحد يعطي لكل طائفة ما يليق بها من ملابس، وما يلائمها من ارزاق، وما يناسبها من علاج، وما يوافقها من سلاح، بلا نسيانٍ لأحد ولا التباس ولا اختلاط، ومن دون أن يكون له مساعد ومعين، بل يوزعها كلها عليهم بذاته، بما يتصف به من رحمة ورأفة وقدرة وعلم معجز واحاطة تامة بالامور كلها، مع عدالة فائقة وحكمة تامة.. نعم، اذا ما وُجد سلطان كهذا الذي لا نظير له، وشاهدتَ بنفسك اعماله المعجزة الباهرة، تدرك عندئذٍ مدى قدرته ورأفته وعدله. ذلك لأن تجهيز كتيبة واحدة تضم عشرة اقوام مختلفين باعتدة متباينة وألبسة متنوعة أمر عسير جداً، حتى يُلجأ الى تجهيز الجيش بطراز معين ثابت من الالبسة والاعتدة مهما اختلفت الاجناس والاقوام.

فاذا شئت - في ضوء هذا المثال - أن ترى تجلي اسم الله (الحق) و (الرحمن الرحيم) ضمن نطاق العدل والحكمة، فسرّح نَظَرَك في الربيع الى تلك الخيام المنصوبة على بساط الأرض لأربعمائة الفٍ من الامم المتنوعة، الذين يمثلون جيش النباتات والحيوانات، أنعم النظر فيها تجد ان جميع تلك الامم والطوائف، مع انها متداخلة، وألبستهم مختلفة وارزاقهم متفاوتة واسلحتهم متنوعة وطرق معيشتهم متباينة وتدريبهم وتعليماتهم متغايرة، وتسريحاتهم واجازاتهم متميزة.. وهم لا يملكون ألسنة يطالَبون بها تأمين حاجاتهم وتلبية رغابتهم.. مع كل هذا فان كلاً منها تدار وتربى وتراعى باسم (الحق والرحمن والرزاق والرحيم والكريم) دون التباس ولا نسيان ضمن نطاق الحكمة والعدل بميزان دقيق وانتظام فائق.. فشَاهِد هذا التجلي وتأمّل فيه؛ فهل يمكن أن يتدخل أحد غير الله سبحانه وتعالى في هذا العمل الذي يُدار بمثل هذا النظام البديع والميزان الدقيق؟ وهل يمكن لأي سبب مهما كان أن يمدّ يده ليتدخل في هذه الصنعة الباهرة والتدبير الحكيم والربوبية الرحيمة والادارة الشاملة غير الواحد الأحد الحكيم القدير على كل شئ؟..

C النكتة الرابعة:

تقول انني احمل انواعاً متباينة من المحبة في نفسي، تتعلق بالاطعمة اللذيذة، وبنفسي وزوجتي وبأولادي ووالديّ وبأحبابي وأصدقائي، وبالأولياء الصالحين والأنبياء المكرمين، بل يتعلق حبي بكل ما هو جميل، وبالربيع الزاهي خاصة وبالدنيا عامة.. فلو سارت هذه الأنواع المختلفة من المحبة وفق ما يأمر به القرآن الكريم، فما تكون نتائجها وما فوائدها؟.

الجواب: ان بيان تلك النتائج وتوضيح تلك الفوائد كلها يحتاج الى تأليف كتاب ضخم في هذا الشأن، لذا سنشير هنا الى نتيجة واحدة او نتيجتين منها اشارة مجملة. وسنبين اولاً النتائج التي تحصل في الدنيا، ثم بعد ذلك نبين النتائج التي ستظهر في الآخرة. وهي كالآتي:

لقد ذكرنا سابقاً: ان انواع المحبة التي لدى ارباب الغفلة والدنيا والتي لا تنبعث الاّ لإشباع رغبات النفس، لها نتائج أليمة وعواقب وخيمة من بلايا ومشقات، مع ما فيها من نشوة ضئيلة وراحة قليلة.

فمثلاً: الشفقة تصبح بلاءً مؤلماً بسبب العجز، والحب يغدو حُرقة مفجعة بسبب الفراق، واللذة تكون شراباً مسموماً بسبب الزوال.. أما في الآخرة فستبقى دون جدوى ولا نفع، لأنها لم تكن في سبيل الله تعالى، او تكون عذاباً أليماً ان ساقت الى الوقوع في الحرام.

سؤال: كيف يظل حب الانبياء الكرام والأولياء الصالحين دون نفع أو فائدة؟

الجواب: مثلما لا ينتفع النصارى المعتقدون بالتثليث من حبهم لسيدنا عيسى عليه السلام، وكذا الروافض من حبهم لسيدنا علي رضى الله عنه!

أما ما ذكرته من انواع المحبة فان كانت وفق ارشاد القرآن الكريم وفي سبيل الله سبحانه وتعالى ومحبة الرحمن الرحيم، فان نتائج جميلة تثمر في الدنيا، فضلاً عن نتائجها الطيبة الخالدة في الآخرة.

اما نتائجها في الدنيا:

فان محبتك للاطعمة اللذيذة والفواكه الطيبة فهي نعمة إلهية لا يشوبها ألم، ولذة لطيفة في الشكر بعينه.

أما محبتك لنفسك أي إشفاقك عليها، والجهد في تربيتها وتزكيتها، ومنعها عن الاهواء الرذيلة، تجعلها منقادة اليك، فلا تسيرّك ولاتقيدك باهوائها بل تسوقها انت الى حيث الهدى دون الهوى.

أما محبتك لزوجتك وهي رفيقة حياتك، فلأنها قد أسست على حُسن سيرتها وطيب شفقتها، وكونها هبة من الرحمة الإلهية، فستولها حباً خالصاً ورأفة جادة، وهي بدورها تبادلك هذه المحبة مع الاحترام والتوقير، وهذه الحالة تزداد بينكما كلما تقدمتما في العمر، فتقضيان حياة سعيدة هنيئة باذن الله.. ولكن لو كان ذلك الحب مبنياً على جمال الصورة الذي تهواه النفس، فانه سرعان ما يخبو ويذبل، وتفسد الحياة الزوجية ايضاً.

أما محبتك للوالد والوالدة، فهي عبادة تُثاب عليها ما دامت في سبيل الله، ولا شك انك ستزيد الحب والاحترام لهما عندما يبلغان الكبر، وتكسب لذة روحية خالصة وراحة قلبية تامة لدى القيام بخدمتهما وتقبيل ايديهما وتبجيلهما باخلاص، فتتوجه الى المولى القدير، وانت تشعر هذا الشعور السامي والهمة الجادة، بأن يطيل عمرهما لتحصل على مزيد من الثواب.. ولكن لو كان ذلك الحب والاحترام لأجل كسب حطام الدنيا ونابعاً من هوى النفس، فانه يولد ألماً روحياً قاتماً ينبعث من شعور سافل منحط واحساس دنئ وضيع هو النفور من ذينك الموقرَين اللذين كانا السبب لحياتكَ انت، واستثقالهما وقد بلغا الكبر وباتا عبئاً عليك، ثم الأدهى من ذلك تمني موتهما وترقّب زوالهما!

أما محبتك لأولادك، اي حبك لمن استودعك الله اياهم أمانةً، لتقوم بتربيتهم ورعايتهم.. فحب اولئك المؤنسين المحبوبين من خلق الله، انما هو حب مكلل بالسعادة والبهجة، وهو نعمة إلهية في الوقت نفسه، فاذا شعرت بهذا فلا يَنْتَبك الحزن على مصابهم ولا تصرخ متحسراً على وفاتهم. اذ - كما ذكرنا سابقاً - ان خالقهم رحيم بهم حكيم في تدبير امورهم وعند ذلك تقول ان الموت بحق هؤلاء لهو سعادة لهم. فتنجو بهذا من ألم الفراق وتتفكر ان تستدر رحمته تعالى عليك.

أما محبتك للأصدقاء والأقرباء، فلانها لوجه الله تعالى، فلا يُحول فراقهم ولا موتهم عن دوام الصحبة معهم، ودوام اخوتكم ومحبتكم ومَوانستكم؛ اذ تدوم تلك الرابطة الروحية والحب المعنوي الخالص، فتـدوم بدورهمـا لـذة اللـقـاء ومتعة الوصال.. ولكن ان لم يكن ذلك الحب لأجله تعالى ولا في سبيله، فان لذة لقاء يوم واحد يورث آلام الفراق لمائة يوم(1).

أما محبتك للأنبياء عليهم السلام والأولياء الصالحين، فان عالم البرزخ الذي هو عالم مظلم موحش في نظر ارباب الضلالة والغفلة تراه منازل من نور تنورت باولئك المنورين، وعندها لا تستوحش من اللحاق بهم، ولا تجفل من عالم البرزخ، بل تشتاق اليه، وتحن اليه من دون أن يعكر ذلك تمتعك بالحياة الدنيا.. ولكن لو كان حبهم شبيهاً بحب ارباب المدنية لمشاهير الانسانية، فان مجرد التفكر في فناء اولئك الأولياء الكاملين، وترمم عظامهم في مقبرة الماضي الكبرى، يزيد ألماً على آلام الحياة، ويدفع المرء الى تصور موته وزواله حيث يقول سأدخل يوماً هذه المقبرة التي ترمم عظام العظماء! يقوله بكل مرارة وحسرة وقلق.. بينما في المنظور الأول يراهم يقيمون براحة وهناء في عالم البرزخ الذي هو قاعة المستقبل ورواقه، بعد ان تركوا ملابسهم الجسدية في الماضي.. فينظر الى المقبرة نظرة شوق وأنس.

ثم أن محبتك للأشياء الجميلة والامور الطيبة، لما كانت محبة في سبيل الله، وفي سبيل معرفة صانعها الجليل بحيث يجعلك تقول: ما اجمل خلقه!. فان هذه المحبة في حد ذاتها تفكر ذو لذة ومتعة، فضلاً عن انها تفتح السبيل امام اذواق حب الجمال والشوق الى الحسن لتتطلع الى مراتب اذواق اسمى وارفع ، وتريه هناك كنوز تلك الخزائن النفيسة فيتملاها المرء في نشوة سامية عالية؛ ذلك لان هذه المحبة تفتح آفاقاً امام القلب ليحوّل نظره من آثار الصانع الجليل الى جمال افعاله البديعة، ومن جمال الافعال الى جمال اسمائه الحسنى، ومن جمال الاسماء الحسنى الى جمال صفاته الجليلة، ومن جمال الصفات الجليلة الى جمال ذاته المقدسة.. فهذه المحبة وبهذا السبيل انما هي عبادة لذيذة وتفكر رفيع ممتع في الوقت نفسه.

أما محبتك للشباب، فلأنك قد احببت عهد شبابك لكونه نعمة جميلة لله سبحانه، فلا شك انك ستصرفه في عبادته تعالى ولا تقتله غرقاً في السفه وتمادياً في الغي؛ اذ العبادات التي تكسبها في عهد الشباب انما هي ثمرات يانعة باقية خالدة أثمرها ذلك العهد الفاني، فكلما جاوزت ذلك العـهـد وطـعـنـت في السـن حصلت على مزيد من ثمراته الباقية، ونجوت تدريجياً من آفات النفس الأمارة بالسوء وسيئات طيش الشباب. فترجو من المولى القدير ان يوفقك الى كسب المزيد من العبادة في الشيخوخة، لتكون أهلاً لرحمته الواسعة. وتربأ بنفسك ان تكون مثل اولئك الغافلين الذين يقضون خمسين سنة من عمر شيخوختهم وشيبهم أسفاً وندماً على ما فقدوه من متاع الشباب في خمس او عشر سنوات. حتى عبّر أحد الشعراء عن ذلك الندم والأسف بقوله:

ألا لَيتَ الشَبابَ يعودُ يوماً فاُخبره بِمَا فَعَلَ المَشِيبُ

أما محبتك للمناظر البهيجة ولا سيّما مناظر الربيع، فحيث انها مشاهدة لبدائع صنع الله واطلاع عليها، فذهاب ذلك الربيع لا يزيل لذة المشاهدة ومتعة التفرج، اذ يترك وراءه معانيه الجميلة، حيث الربيع اشبه ما يكون برسالة ربانية زاهية تفتح للمخلوقات. فخيالك والزمن شبيهان بالشريط السينمائي يديمان لك لذة المشاهدة هذه، ويجددان دوماً تلك المعاني التي تحملها رسالة الربيع. فلا يكون حبك اذن مؤقتاً ولا مغموراً بالأسف والأسى، بل صافياً خالصاً لذيذاً ممتعاً.

أما حبك للدنيا، فلانه حب لله ولأجله سبحانه، فان موجوداتها المثيرة للرعب والدهشة تصبح لك اصدقاء مؤنسين، ولأنك تتوجه اليها بالحب من حيث كونها مزرعة الآخرة، تستطيع ان تجني من كل شئ فيهاما يمكن ان يكون ثمرة من ثمار الآخرة، أو تغنم منها ما يمكن أن يكون رأس مال للآخرة. فمصائبها اذن لا تخيفك وزوالها وفناؤها لا يضايقك. وهكذا تقضي مدة أقامتك فيها، وانت ضيف مكرم.. ولكن لو كان حبك لها كحب ارباب الغفلة، فقد قلنا لك مراراً: ستغرق نفسك وتفنى بحبٍ ساحقٍ، خانق، زائل، لا طائل وراءه ولا نفع!.

وهكذا فقد حاولنا ان نُري لطيفة واحدة من مئات اللطائف التي تعود لكلٍ مما ذكرتَه، عندما يكون حبك له وفق ارشاد القرآن الكريم، واشرنا في الوقت نفسه الى واحد من مئات اضرار ذلك الحب إن لم يكن وفق ما يأمر به القرآن الكريم.

فان كنت تريد أن تدرك نتائج هذه الانواع المختلفة من المحبة في دار البقاء وعالم الاخرة، مثلما اشارت اليها الآيات البينات للقرآن الكريم، فسنبين لك بياناً مجملاً فائدة واحدة اُخروية من فوائد تلك الأنواع المشروعة من المحبة، وذلك في تسع اشارات، بعد ان نقدم بين يديها مقدمة:



المقدمة

ان الله سبحانه وتعالى، بالوهيته الجليلة، ورحمته الجميلة، وربوبيته الكبيرة، ورأفته الكريمة، وقدرته العظيمة، وحكمته اللطيفة، قد زيّن هذا الانسان الصغير بحواسَ ومشاعر كثيرة جداً، وجمّله بجوارح واجهزة واعضاء مختلفة عديدة؛ ليُشعر طبقات رحمته الواسعة ويذيقه انواع آلائه التي لا تعد، ويعرّفه اقسام احساناته التي لا تحصى، ويُطلعه عبر تلك الاجهزة والاعضاء الكثيرة على انواع تجلياته التي لا تُحد لألف اسم واسم من اسمائه الحسنى، ويحببها اليه، ويجعله يحسن تقديرها حق قدرها.

فلكل عضو - من تلك الاعضاء الكثيرة - ولكل جهاز وآلة منها وظائفها المتنوعة وعباداتها المتباينة كما ان لذائذها مختلفة وآلامها متغايرة وثوابها متميز.

فمثلاً: العين، تشاهد الجمال في الصور، وترى معجزات القدرة الإلهية الجميلة في عالم الشهود، فتؤدي وظيفتها بتقديم الشكر لله من خلال نظرتها ذات العبرة. ولا يخفى على أحد مدى ما فيها - اي الرؤية - من لذةٍ وما يحصل من زوالها من ألم، لذا لا داعي لتعريف لذة الرؤية وألم فقدانها.

ومثلاً: الأذن، تشعر بلطائف الرحمة الإلهية السارية في عالم المسموعات، بسماعها انواع الاصوات ونغماتها اللطيفة المختلفة. فلها عبادة خاصة بها، ولذة تخصها، وثواب يعود اليها.

ومثلاً: حاسة الشم التي تشعر بلطائف الرحمة الإلهية الفواحة من شذى انواع العطور والروائح، فان لها لذتها الخاصة به ضمن ادائها شكرها الخاص، ولا شك ان لها ثواباً خاصاً بها.

ومثلاً: حاسة الذوق التي في الفم. فهي تؤدي وظيفتها وتقدم بشكرها المعنوي بانماط شتى من خلال ادراكها مذاقات انواع الاطعمة ولذائذها.

وهكذا فلكل جهاز من اجهزة الانسان ولكل حاسة وجارحة، ولكل لطيفة من لطائفه المهمة - كالقلب والروح والعقل وغيرها - وظائفها المختلفة، لذائذها المتنوعة الخاصة بها، فمما لا ريب فيه ان الخالق الحكيم الذي سخّر هذه الاجهزة لتلك الوظائف سيجزى كلاً منها بما يلائمها ويستحقها من جزاء.

ان النتائج العاجلة للأنواع المتعددة من المحبة - المذكورة سابقاً - يشعر بها كل انسان شعوراً وجدانياً، ويستدل على شعوره هذا ويتيقن منه بحدس صادق.

اما نتائجها الاُخروية فقد اثبتتها اثنتا عشرة حقيقة من الحقائق الساطعة للكلمة العاشرة والاسس الستة الباهرة للكلمة التاسعة والعشرين.

أما تفصيلها فهو ثابت قطعاً بالقرآن الكريم الذي هو أصدق كلام وابلغ نظام وهو كلام الله الملك العزيز العلام، في تصريح آياته البينات وتلويحها وفي رموزها واشاراتها.. لذا لا نرى داعياً لإيراد براهين مطولة في هذا الشأن، علماً اننا سردنا براهين كثيرة جداً في (كلمات) اخرى وفي المقام الثاني العربي من الكلمة الثامنة والعشرين الخاصة بالجنة وفي الكلمة التاسعة والعشرين.

الاشارة الاولى:

ان النتيجة الاُخروية للمحبة المشروعة المكللة بالشكر للّه، نحو الاطعمة اللذيذة والفواكه الطيبة في الدنيا، هي تلك الاطعمة والفواكه الطيبة اللائقة بالجنة الخالدة.. كما ينص عليه القرآن الكريم. هذه المحبة، محبة ذات اشتياق واشتهاء لتلك الجنة وفواكهها. حتى ان الفاكهة التي تأكلها في الدنيا وتذكر عليها (الحمد لله) تتجسم في الجنة فاكهة خاصة بها وتقدّم اليك طيبة من طيبات الجنة. فأنت تأكل هنا فاكهة، وهناك (الحمد لله) مجسمة في فاكهة من فواكه الجنة.. وحيث انك تقدم شكراً معنوياً لذيذاً برؤيتك الانعام الإلهي والالتفات الرباني في الاطعمة والفواكه التي تتناولها هنا، فستسلم اليك هناك في الجنة اطعمة لذيذة وفواكه طيبة، كما هو ثابت في الحديث الشريف وباشارات القرآن الكريم، وبمقتضى الحكمة الإلهية ورحمتها الواسعة.

الاشارة الثانية:

ان نتيجة المحبة المشروعة نحو النفس، اي محبتها المبنية - في الدنيا - على رؤية نقائصها دون محاسنها، ومحاولة إكمالها، وتزكيتـها ورعايتـها بالشفـقة والرأفة، ودفعها الى سبيل الخير، هي اعطاء البارئ عز وجلّ محبوبين يليقون بها وبالجنة، فالنفس التي عـافـت - في الـدنيـا - هـواهـا وشـهواتها وتركـت رغباتهـا في سبيل الله، وأستعمل ما فيها من اجهزة متنوعة على أفضل وجه وأتمه، سيمنحها البارئ الكريم سـبحانه - مكـأفـاة علـى هـذه المحـبـة المشـروعـة المـكـلـلـة بالعبـودية لله - الحور العين المترفلات بسبعين حلة من حلل الجنة المتنوعة بانواع لطائفها وزينتها، والمتجملات بسبعين نوعاً من انواع الحسن والجمال حتى كأنهن جنة مجسمة مصغرة تنبض بالروح والحياة، لتقرّ بها عينُ النفس التي اطاعت الله وتهدأ بها المشاعر التي اطمأنت الى اوامر الله.. فهذه النتيجة لا ريب فيها، اذ الآيات الكريمة تصرح بها يقيناً.

ثم ان نتيجة المحبة المتوجهة نحو الشباب في الدنيا، اي صرف قوة الشباب ونضارته في العبادة والتقوى، هي شباب دائم خالد في دار البقاء والنعيم المقيم.

الاشارة الثالثة:

أما النتيجة الأخروية لمحبة الزوجة المؤسسة على حُسن سيرتها وجميل خصلتها ولطيف شفقتها، والتي تصونها عن النشوز وتجنبها الخطايا والذنوب، فهي:

جعل تلك الزوجة الصالحة محبوبة ومحبة وصديقة صدوقة وأنيسة مؤنسة، في الجنة، جمالُها ابهى من الحور العين، زينتها ازهى من زينتهن، حسنها يفوق حسنهن.. تتجاذب مع زوجها اطراف الحديث، يستذكران احداث ايام خلت.. هكذا وعد الرحيم الكريم. فما دام قد وعد فسيفى بوعده حتماً.

الاشارة الرابعة:

أما نتيجة محبة الوالدين والاولاد فهي ان الرحمن الرحيم جل وعلا يُحسن الى تلك العائلة السعيدة المحظوظة - رغم تفاوت مراتبهم في الجنة - لقاء بعضهم البعض والمعاشرة والمجالسة والمحادثة فيما بينهم بما يليق بالجنة ودار البقاء، كما هو ثابت بنص القرآن الكريم. وينعم على اولئك الآباء بملاطفة اولادهم الذين توفوا في دار الدنيا قبل سن البلوغ، ويجعلهم لهم ولداناً مخلّدين، في ألطف وضع وأحبّه الى نفوسهم، وبهذا تطمئن رغبة مداعبة الاطفال المغروزة في فطرة الانسان، فيستمتعون بمتعة خالدة وذوق دائم في الجنة، حيث خُلّد لهم اطفالُهم الصغار - الذين لم يبلغوا سن التكليف - ولقد كان يُظن أن ليس في الجنة مداعبة الاطفال، لأنها ليست محلاً للتوالد. ولكن الجنة لأنها تحوى افضل لذائذ الدنيا واجودها، فملاطفة الاولاد ومداعبة الاطفال لابد انها موجودة فيها بأفضل صورها واجمل اشكالها.. فيا بشرى أولئك الآباء الذين فقدوا اطفالهم في دار الدنيا!.

الاشارة الخامسة:

ان نتيجة محبتك لصالح الأصدقاء والأقرباء التي يتطلبها (الحب في الله)، انما هي في جلوسكم على سُرُر متقابلين ومؤانستكم بلطائف الذكريات، ذكريات ايام الدنيا وخواطرها الجميلة، وقضاء وقت ممتع وجميل بهذه المحاورة والمجالسة. كما هو ثابت بنص القرآن الكريم.

الاشارة السادسة:

أما نتيجة محبة الأنبياء عليهم السلام والأولياء الصالحين حسب ما بينه القرآن الكريم - فهي كسب شفاعة اولئك الأنبياء الكرام والأولياء الصالحين في عالم البرزخ، وفي الحشر الأعظم فضلاً عن الاستفاضة - بتلك المحبة - من فيوضات مقاماتهم الرفيعة ومراتبهم العالية اللائقة بهم.

نعم، ان الحديث الشريف ينص على أن (المرء مع من احب) فالانسان اذن يستطيع ان يرتفع الى أعلى مقام وارفعه بما نسج مع صاحبه من اواصر المحبة وبانتمائه اليه واتباعه له.

الاشارة السابعة:

ان محبتك للاشياء الجميلة وللربيع، اي نظرك اليها من زواية قولك: (ما اجمل خلقه!) وتوجيه محبتك الى ما وراء ذلك الشئ الجميل من جمال الافعال وانتظامها، والى ما وراء تلك الافعال المنسقة من جمال تجليات الاسماء الحسنى، والى ما وراء تلك الاسماء الحسنى من تجليات الصفات الجليلة.. وهكذا.. ان نتيجة هذه المحبة المشروعة هي:

مشاهدة جمالٍ اسمى من ذلك الجمال الذي شاهدته في المصنوعات بالوف الوف المرات. اي مشاهدة تجليات الاسماء الحسنى وجمال الصفات الجليلة بما يليق بالجنة ودار البقاء. حتى قال الامام الرباني السرهندي رضى الله عنه: (ان لطائف الجنة انما هي تمثلات الاسماء الحسنى) فتأمل!.

الاشارة الثامنة:

أما محبتك للدنيا محبةً مشروعة، اي محبتك لها مع التأمل والتفكر في وجهيَها الجميلين اللذين هما: مزرعة الآخرة ومرآة التجليات للأسماء الحسنى فان نتيجتها الاُخروية هي أنه:

سيُهَب لك جنة تسع الدنيا كلها، ولكنها لا تزول مثلها، بل هي خالدة دائمة. وستُظهر لك في مرايا تلك الجنة تجليات الاسماء الحسنى بأزهى شعشعتها وبهائها، تلك التي رأيت بعض ظلالها الضعيفة في الدنيا.

ثم ان محبة الدنيا في وجهها الذي هو مزرعة للآخرة، اي باعتبار الدنيا مشتلاً صغيراً جداً لاستنبات البذور لتتسنبل في الآخرة وتثمر هناك، فان نتيجتها هي:

أثمار جنة واسعة تسع الدنيا كلها، تنكشف فيها جميع الحواس والمشاعر الانسانية التي يحملها الانسان في الدنيا كبُذيرات صغيرة، انكشافاً تاماً ونمواً كاملاً، وتتسنبل فيها بُذيرات الاستعدادات الفطرية حاملة جميع انواع اللذائذ والكمالات.. هذه النتيجة ثابتة بمتقضى رحمة الله الواسعة وحكمته المطلقة. وهي ثابتة كذلك بنص الحديث الشريف واشارات القرآن الكريم.

ولما كانت محبتك للدنيا ليست لذلك الوجه المذموم الذي هو راس كل خطيئة، وانما هي محبة متوجهة الى وجهَيها الآخرين اي الى الأسماء الحسنى والآخرة، وقد عقدت - لأجلهما - اواصر المحبة معها وعمّرت ذينك الوجهين على نية العبادة، حتى كأنك قمت بالعبادة بدنياك كلها.. فلابد ان الثواب الحاصل من هذه المحبة يكون ثواباً اوسع من الدنيا كلها، وهذا هو مقتضى الرحمة الإلهية وحكمتها.

ثم لان المحبة قد حصلت معها بمحبة الآخرة وكونها مزرعة لها، وبمحبة الله سبحانه، وكونها مرآة لإظهار اسمائه الحسنى.. فلاشك ان تقابل هذه المحبة بمحبوب اوسع من الدنيا كلها، وما هو الاّ الجنة التي عرضها السّموات والأرض.

سؤال: ما فائدة الجنة الواسعة سعة الدنيا؟

الجواب: لو كان من الممكن ان تتجول بسرعة الخيال في اقطار الارض كلها، وتزور اغلب النجوم التي في السماء، لكنت تقول عندئذٍ: ان العالم كله لي. فلا يزاحم حكمك هذا ولا ينافيه وجود الملائكة والناس الآخرين والحيوانات معك في هذا العالم الواسع.

وكذلك يمكنك ان تقول: ان تلك الجنة لي، حتى لو كانت مليئة بالقادمين اليها.

وقد بينا في رسالة (الجنة) - وهي الكلمة الثامنة والعشرون - معنى الحديث الوارد من انه يُعطى لبعض اهل الجنة جنة سعتها خمسمائة سنة، وكذا بيناه في رسالة (الاخلاص).

الاشارة التاسعة:

ان نتيجة الايمان بالله ومحبته سبحانه هي:

رؤية جمال مقدس وكمال منزّه للذات الجليلة سبحانه وتعالى - كما هي ثابتة بالحديث الصحيح(1) والقرآن الكريم - هذه الرؤية التي تساوي ساعة منها الف الف سنة من نعيم الجنة(2)، ذلك النعيم الذي ساعة منه تفوق الف الف سنة من حياة الدنيا الهنيئة، كما هو ثابت لدى اهل العلم والكشف بالاتفاق.

ويمكنك قياس مدى الشوق واللهفة التي تنطوي عليهما فطرة الانسان لرؤية ذلك الجمال المقدس والكمال المنزّه، ومدى ما فيها من رغبة جياشة وتوق شديد وإلتياع لشهودهما، بالمثال الآتي:

كل انسان يشعر في وجدانه بلهفة شديدة لرؤية سيدنا سليمان عليه السلام الذي اوتي الكمال ويشعر ايضاً بشوقٍ عظيم نحو رؤية سيدنا يوسف عليه السلام الذي اُوتي شطر الجمال. فيا ترى كم يكون مدى الشوق واللهفة لدى الانسان لرؤية جمال مقدس وكمال منزّه، الذي من تجليات ذلك الجمال والكمال، الجنة الخالدة بجميع محاسنها ونعيمها وكمالاتها التي تفوق بما لا يحد من المرات جميع محاسن الدنيا وكمالاتها..

اللّهم ارزقنا في الدنيا حبَّك وحبَّ ما يقرّبنا اليك، والاستقامة كما امرتَ، وفي الآخرة رحمتَك ورؤيتك.

] سبحانك لا عِلمَ لَنا الاّ ما عَلّمْتَنا إنَكَ أنَت العَليم الحَكيم[

اللّهمَ صلّ وَسَلم على مَن أرسَلته رَحمة للعالمين

وعلى آله وصحبه أجمعين. آمين

تنـــبيه

لا تعدّ التفصيلات الواردة في ختام هذه الكلمة طويلة، بل هي مختصرة بالنسبة لأهميتها، اذ تحتاج الى اطناب اكثر.

والمتكلم في (الكلمات) كلها، ليس انا، فلست المتكلم فيها، بل الحقيقة هي التي تتكلم باسم (الاشارات القرآنية) وان الحقيقة تنطق بالحق وتقول الصدق.

لذا ان رأيتم خطأً فاعلموا يقيناً ان فكري قد خالط البحث وعكّر صفوه وأخطأ دون ارادتي.

مناجاة

يا رب! ان من لا يُفتح له باب قصر عظيم، يدق ذلك الباب بصدى صوت من هو مقبول مأنوس لدى البواب.

فانا الضعيف المسكين ادق باب رحمتك بنداء عبدك المحبوب لديك (اويس القرني) وبمناجاته، فكما فتحتَ له باب رحمتك يا إلهي، افتحه لي يارب كذلك.اقول كما قال:

إلهي انت ربي وانا العبد

وانـت الخـالق وانا المخلوق

وانت الرزاق وانا المرزوق

وانت المالك وانا المملوك

وانت العزيز وانا الذليل

وانت الغني وانا الفقير

وانت الحــي وانا الميت

وانت الباقي وانا الفاني

وانت الكريم وانا اللئيم

وانت المحسن وانا المسئ

وانت الغفور وانا المذنب

وانت العظيم وانا الحقير

وانت القوي وانا الـضعيف

وانت المعطي وانا السائل

وانت الامين وانا الخائف

وانت الجواد وانا المسكين

وانت المجيب وانا الداعي

وانت الشافي وانا المريـض

فاغفر لي ذنوبي وتجاوز عني واشف امراضي يا الله يا كافـي يا رب يا وافي يا رحيم يا شافي يا كريم يا معافي. فاعف عني من كل ذنب وعافني من كل داء

وارض عني ابداً برحمتك يا ارحم الراحمين..

] وآخر دعواهم ان الحمد لله ربِّ العالمين[ .
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس