الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #27
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة العشرون

((وهي مقامان))



المقام الاول

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] واذ قُلنا للملائكة اسجدُوا لادمَ فسجدوا إلاّ ابليس [ (البقرة:34)

] إن الله يأمُركم ان تذبحُوا بقرةً[ (البقرة:67)

] ثم قَسَتْ قلوبُكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوةً[ (البقرة:74)

كنت اتلو هذه الآيات الكريمة يوماً، فورد إلهامٌ من فيض نور القرآن الكريم في نكات ثلاث ليصدّ إلقاءات ابليس!. وصورة الشبهة الواردة هي:

قال: انكم تقولون: ان القرآن معجز، وفي ذروة البلاغة، وانه هدىً للعالمين في كل وقت وآن، ولكن ماذا يعني ذكر حوادث جزئية وسردها سرداً تأريخياً والتأكيد عليها وتكرارها؟ وما الداعي الى ذكر حادثة جزئية كذبح بقرة ضمن هالة من الاوصاف، حتى تسمّت السورة باسم "البقرة"؟

ثم ان القرآن يرشد ارباب العقول عامة ويذكر في كثير من مواضعه ((أفلا يعقلون)) اي يحيل الأمر الى العقل، في حين أن حادثة سجود الملائكة لآدم أمر غيبي محض لا يجد العقل اليه سبيلاً، الاّ بالتسليم أو الاذعان بعد الايمان القوي الراسخ.

ثم اين وجه الهداية في بيان القرآن حالات طبيعية تحدث مصادفة للاحجار والصخور واضفاء اهمية بالغة عليها؟

وصورة النكت الملهمة هي الآتية:

C النكتة الاولى:

ان في القرآن الحكيم حوادث جزئية، ولكن وراء كل حادث يكمن دستور كلي عظيم. وانما ُتذكر تلك الحوادث لانها طرف من قانون عام شامل كلي وجزء منه.

فالآية الكريمة ] وعلّم آدمَ الاسماء كُلَّها[ تبين ان تعليم الاسماء معجزة من معجزات سيدنا آدم عليه السلام تجاه الملائكة، اظهاراً لإستعداده للخلافة. وهي وإن كانت حادثة جزئية الا انها طرف لدستور كلي هو:

ان تعليم الانسان - المالك لإستعداد جامع - علوماً كثيرة لا تحد، وفنوناً كثيرة لا تحصى حتى تستغرق انواع الكائنات، فضلاً عن تعليمه المعارف الكثيرة الشاملة لصفات الخالق الكريم سبحانه وشؤونه الحكيمة.. ان هذا التعليم هو الذي أهّل الانسان لينال أفضلية، ليس على الملائكة وحدهم، بل ايضاً على السموات والارض والجبال، في حمل الأمانة الكبرى.

واذ يذكر القرآن خلافة الانسان على الارض خلافة معنوية، يبين كذلك ان في سجود الملائكة لآدم وعدم سجود الشيطان له - وهي حادثة جزئية غيبية - طرفاً لدستور مشهود كلي واسع جداً، وفي الوقت نفسه يبين حقيقة عظيمة هي أن القرآن الكريم بذكره طاعة الملائكة وانقيادهم لشخص آدم عليه السلام وتكبّر الشيطان وامتناعه عن السجود، انما يفهّم ان اغلب الانواع المادية للكائنات وممثليها الروحانيين والموكلين عليها، مسخرة كلها ومهيأة لإفادة جميع حواس الانسان افادة تامة، وهي منقادة له.. وان الذي يفسد استعداد الانسان الفطري ويسوقه الى السيئات والى الضلال هي المواد الشريرة وممثلاتها وسكنتها الخبيثة، مما يجعلها اعداءً رهيبين، وعوائق عظيمة في طريق صعود الانسان الى الكمالات.

واذ يدير القرآن الكريم هذه المحاورة مع آدم عليه السلام وهو فرد واحد ضمن حادثة جزئية، فانه في الحقيقة يدير محاورة سامية مع الكائنات برمتها والنوع البشري قاطبة.

C النكتة الثانية:

من المعلوم ان اراضي مصر جرداء قاحلة، اذ هي جزء من الصحراء الكبرى، الاّ انها تدّر محاصيل وفيرة ببركة نهر النيل، حتى غدت كأنها مزرعة تجود بوفير المحاصيل؛ لذا فان وجود مثل هذه الجنة الوارفة بجنب تلك الصحراء التي تستطير ناراً ، جعل الزراعة والفلاحة مرغوبة فيها لدى اهل مصر حتى توغلت في طبائعهم. بل اضفت تلك الرغبة الشديدة في الزراعة نوعاً من السمو والقدسية، كما اضفت بدورها قدسية على واسطة الزراعة من ثور وبقر، حتى بلغ الامر أن منح اهل مصر – في ذلك الوقت – قدسية على البقر والثور الى حدّ العبادة، وقد ترعرع بنو اسرائيل في هذه المنطقة وبين احضان هذه البيئة والاجواء فأخذوا من طبائعهم حظاً، كما يُفهم من حادثة ((العجل)) المعروفة.

وهكذا يعلّمنا القرآن الكريم بذبح بقرة واحدة، أن سيدنا موسى عليه السلام، قد ذبح برسالته مفهوم عبادة البقر، ذلك المفهوم الذي سرى في عروق تلك الامة، وتنامى في استعداداتهم.

فالقرآن الكريم انما يبين بهذه الحادثة الجزئية بياناً معجزاً، دستوراً كلياً، ودرساً ضرورياً في الحكمة يحتاجه كل أحد في كل وقت.

فافهم قياساً على هذا:

ان الحوادث الجزئية المذكورة في القرآن الكريم، على صورة حوادث تأريخية، انما هي طرف وجزء من دساتير كلية شاملة ينبئ عنها، حتى ان كل جملة جزئية من الجمل السبع لقصة موسى عليه السلام المكررة في القرآن تتضمن دستوراً كلياً عظيماً، كما بيّنا في كتابنا ((اللوامع)) راجعه ان شئت.

C النكتة الثالثة:

قوله تعالى: ] ثم قَسَتْ قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوةً ^ وانّ من الحجارة لَمَا يتفجر منه الانهار ^ وان منها لما يشّقق فيخرج منه الماء وان منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون[ (البقرة:74 - 76)

عند قراءتي لهذه الآيات البينات، قال الموسوس:

ماذا يعني ذكر حالات طبيعية وفطرية للاحجار الاعتيادية وبيانها كأنها مسألة عظيمة، مع انها معلومة لدى الناس؟ وما وجه العلاقة والمناسبة والسبب؟ وهل هناك من داعٍ أو حاجة اليها؟

فاُلهم قلبي الالهام الآتي من فيض القرآن لصدّ هذه الشبهة:

نعم، هناك علاقة وسبب، وهناك داعٍ وحاجة، بل العلاقة قوية والمعنى جليل والحقيقة ضرورية وعظيمة بحيث لا يتيسر الاّ لإعجاز القرآن وايجازه ولطف ارشاده أن يسهّلها وييسّرها للفهم.

ان الايجاز الذي هو اساس مهم من اسس الاعجاز، وكذا لطف الارشاد وحسن الافهام الذي هو نور من هدي القرآن، يقتضيان أن تُبيَّن الحقائق الكلية والدساتير الغامضة العامة، في صور جزئية مألوفة للعوام الذين يمثلون معظم مخاطبي القرآن، وان لا تبين لاولئك البسطاء في تفكيرهم الاّ طرفاً من تلك الحقائق المعظمة وصوراً بسيطة منها..

زد على ذلك ينبغي ان تبين لهم التدابير الإلهية تحت الارض التي هي خوارق العادات والتي تسترت بستار العادة والألفة، بصورة مجملة.

فبناء على هذا:

يقول القرآن الحكيم في هذه الآيات: يا بنى اسرائيل ويا بنى آدم! ماذا دهاكم حتى غلظت قلوبُكم واصبحت أصلب من الحجر واقسى منها! ألا ترون ان اصلب الصخور واصمها، التي تشكل طبقة عظيمة من الاحجار الصلدة تحت التراب، مطيعة للاوامر الإلهية طاعة تامة، ومنقادة الى الاجراءات الربانية انقياداً كاملاً. فكما تجري الاوامر الإلهية في تكوين الاشجار والنباتات في الهواء بسهولة مطلقة، تجري على تلك الصخور الصماء الصلدة تحت الارض بالسهولة نفسها وبانتظام كامل. حتى ان جداول الماء وعروقها تحت الارض تجري بانتظام كامل وبحكمة تامة من دون ان تجد عائقاً أو مقاومة تُذكر من تلك الصخور، فينساب الماء فيها كانسياب الدم وجريانه داخل العروق في الجسم من دون مقاومة أو صدود(1).



ثم ان الجذور الرقيقة تنبت وتتوغل في غاية الانتظام بامر رباني في تلك الصخور التي هي تحت الارض دون ان يقف امامها حائل أو مانع، فتنتشر بسهولة كسهولة انتشار اغصان الاشجار والنباتات في الهواء.

فالقرآن الكريم يشير بهذه الآية الكريمة الى حقيقة واسعة جداً، ويرشد اليها مخاطباً القلوب القاسية مرمزاً اليها على النحو الآتي:

يا بني اسرائيل ويا بنى آدم! ما هذه القلوب التي تحملونها وأنتم غارقون في فقركم وعجزكم! انها تقاوم بغلظة وبقساوة أوامر مولىً جليل عظيم، تنقاد له طبقات الصخور الصلدة الهائلة، ولا تعصيه امراً، بل تؤدي كل منها وظيفتها الرفيعة في طاعة كاملة وانقياد تام؛ وهي مغمورة في ظلمات الارض. بل تقوم تلك الصـخور بوظيفة المستودع والمخزن لمتطلبات الحياة للاحياء الذين يدبون على تراب الارض. حتى انها تكون لـينة طرية في يد القدرة الحكيمة الجليلة، طراوة شمع العسل، فتكون وسائل لتقسيمات تتم بعدالة، وتكون وسائط لتوزيعات تنتهي بحكمة، بل تكون رقيقة رقة هواء النسيم، نعم! انها في سجدة دائمة امام عظمة قدرته جل جلاله.

فهذه المصنوعات المنتظمة المتقنة الماثلة امامنا فوق الارض، وهذه التدابير الإلهية ذات الحكمة والعناية الجارية عليها هي ايضاً بعينها تجري تحت الارض بل تتجلى فيها الحكمة الإلهية والعناية الربانية بأعجب منها حكمةً واغرب منها انتظاماً.

تأملوا جيداً! ان اصلب الصخور واضخمها واصمّها تلين ليونة الشمع تجاه الاوامر التكوينية، ولا تبدي اية مقاومة أو قساوة تُذكر تجاه تلك الموظفات الإلهية اي المياه الرقيقة والجذور الدقيقة والعروق اللطيفة لطافة الحرير، حتى كأنها عاشق يشق قلبه بمسٍّ من أنامل تلك اللطيفات والجميلات، فتتحول تراباً في طريقهن..

وكذا قوله تعالى ] وإنَّ منها لَمَا يهبط من خشية الله[ فانه يبيّن طرفاً من حقيقة عظيمة جداً هي:

ان الجبال التي على سطح الارض، والتي تجمدت بعد ان كانت في حالة مائعة وسائلة. واصبحت كتلاً ضخمة من الصخور الصلدة، تتفتت وتتصدع، بتجليات جلالية، تتجلى على صورة زلازل وانقلابات ارضية، مثلما تناثر واصبح دكاً ذلك

الجبل الذي تجلّى عليه الرب سبحانه في طلب موسى عليه السلام رؤية الله جل جلاله.

فتلك الصخور تهبط من ذرى تلك الجبال، من خشية ظهور تجليات جلالية ورهبتها، فتتناثر اجزاؤها. فقسم منها ينقلب تراباً تنشأ منه النباتات.. وقسم آخر يبقى على هيئة صخور تتدحرج الى الوديان وتكتسح السهول فيستخدمها اهلُ الارض في كثير من الامور النافعة - كبناء المساكن مثلاً - فضلاً عن امورٍ وحكم مخفية ومنافع شتى، فهي في سجدة وطاعة للقدرة الإلهية وانقياد تام لدساتير الحكمة الربانية.

فلا ريب ان ترك الصخور لمواضعها الرفيعة من خشية الله واختيارها الاماكن الواطئة في تواضع جم، وتسببها لمنافع جليلة شتى، أمر لا يحدث عبثاً ولا سدىً وهو ليس مصادفة عمياء ايضاً، بل هو تدبير رب قدير حكيم يحدثه بانتظام وحكمة وإن بدا في غير انتظام في ظاهر الأمر.

والدليل على هذا الفوائد والمنافع التي تجنى من تفتت الصخور ويشهد عليه شهادة لا ريب فيها كمال الانتظام وحسن الصنعة للحلل التي تخلع على الجبال التي تتدحرج منها الصخور، والتي تزدان بالازاهير اللطيفة والثمرات الجميلة والنقوش البديعة.

وهكذا رأيتم كيف أن هذه الآيات الثلاث لها اهميتها العظيمة من زاوية الحكمة الإلهية.

والآن تدبروا في لطافة بيان القرآن العظيم وفي اعجاز بلاغته الرفيعة، كيف يبين طرفاً وجزءاً من هذه الحقائق الثلاث المذكورة، وهي حقائق جليلة وواسعة جداً، يبينها في ثلاث فقرات وفي ثلاث حوادث مشهورة مشهودة، وينبه الى ثلاث حوادث اخرى لتكون مدار عبرة لأولى الالباب ويزجرهم زجراً لا يقاوم.

فمثلاً: يشير في الفقرة الثانية ] وإنّ منها لما يشّـقّق فيخرجُ منه الماءُ[ الى الصخرة التي انشقت بكمال الشوق تحت ضرب عصا موسى فانبجست منها اثنتا عشرة عيناً، وفي الوقت نفسه يورد الى الذهن هذا المعنى ويقول:

يا بنى اسرائيل! ان الصخور الضخمة تتشتت وتتشقق وتلين تجاه معجزة واحدة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام وتذرف الدموع كالسيل من خشيتها أو من سرورها فكيف تتمردون تجاه معجزات موسى عليه السلام كلها، ولا تدمع اعينكم بل تجمد وتغلظ قلوبكم وتقسو.

ويذكّر في الفقرة الثالثة: ] وانّ منها لَمَا يهبط من خشية الله[ تلك الحادثة الجليلة التي حدثت في طورسيناء، اثناء مناجاة سيدنا موسى عليه السلام. تلك هي التجلي الإلهي الاعظم الى الجبل وجعله دكاً حتى تفتت وتناثر في الارجاء من خشيته سبحانه. ويرشد في الوقت نفسه الى معنى كهذا:

يا قوم موسى (عليه السلام) كيف لا تتقون الله ولا تخشونه، فالجبال الشاهقة التي هي صخور صلدة تتصدع من خشيته وتتبعثر، وفي الوقت الذي ترون انه قد أخذ الميثاق منكم برفع جبل الطور فوقكم، مع مشاهدتكم وعلمكم تشقق الجبل في حادثة الرؤية الجليلة، فكيف تجرأون ولا ترتعد فرائصكم من خشيته سبحانه، بل تغلظ قلوبكم؟.

ويذكّر في الفقرة الاولى ] وإنّ من الحجارة لَمَا يتفجر منه الانهارُ[ مشيراً الى أنهار كالنيل ودجلة والفرات النابعة من الجبال ويعلّم في الوقت نفسه مدى نيل تلك الاحجار للطاعة المعجزة والانقياد الخارق تجاه الاوامر التكوينية ومدى كونها مسخّرة لها. فيورث بهذا التعليم القلوب المتيقظة هذا المعنى:

انه لا يمكن قطعاً ان تكون هذه الجبال الضخمة منابع حقيقية لمثل هذه الانهار العظيمة لأنه لو كانت هذه الجبال بحجمها الكامل مملوءة بالماء، اي لو اصبحت احواضاً مخروطية لتلك الانهار، فانها لا تكفي لصرفيات تلك الانهار الا لبضعة شهور وذلك لسيرها السريع وجريانها الدائم. فضلاً عن ان الامطار التي لا تنفذ في التراب لأكثر من متر، لا تكون ايضاً واردات كافية لتلك الصرفيات الهائلة.

بمعنى ان تفجّر هذه الانهار ليس امراً اعتيادياً طبيعياً، أو من قبيل المصادفة، بل ان الفاطر الجليل يسيّلها من خزينة الغيب وحدها، ويجريها منها جرياناً خارقاً. واشارة الى هذا افادت رواية الحديث الشريف بهذا المعنى: ان كلاً من تلك الانهار الثلاثة تقطر عليها كل وقت قطرات من الجنة، لذا اصبحت مباركة. وفي رواية ان منابع هذه الأنهار الثلاثة من الجنة(1) وحقيقة هذه الرواية هي:

ان الاسباب المادية لا تكفي لتفجر هذه الانهار وتدفقها بهذه الكثرة، فلابد ان تكون منابعها في عالم غيب، وانها ترد من خزينة رحمة غيبية، وعندها تتوازن الواردات والصرفيات وتدوم. وهكذا يعلّم القرآن الكريم درساً بليغاً وينبّه الى هذا المعنى:

يا بني اسرائيل ويا بني آدم! انكم بقساوة قلوبكم تعصون اوامر رب جليل، وبغفلتكم عنه تغمضون عيونكم عن نور معرفة ذلك النور المصور الذي حوّل ارض مصر الى جنة وارفة الظلال واجرى النيل العظيم المبارك وامثاله من الانهار من افواه احجار صلدة بسيطة مظهراً معجزات قدرته وشواهد وحـدانيته قوية بقوة تلك الانهار العظيمة ونيّرة بشدة ظهورها وافاضاتها. فيضـع تلك الشواهد في قلب الكائنات ويسلّمها الى دماغ الارض، ويسيّلها في قلوب الجن والانس وفي عقولهم.

ثم انه سبحانه وتعالى يجعل صخوراً جامدة لا تملك شعوراً قط(1) تنال معجزات قدرته حتى انها تدل على الفاطر الجليل كدلالة ضوء الشمس على الشمس. فكيف لا ترون وتعمى ابصاركم عن رؤية نور معرفته جل جلاله؟

فانظر! كيف لبست هذه الحقائق الثلاث حلل البلاغة الجميلة، ودقق النظر في بلاغة الارشاد لترى مدى القساوة والغلظة التي تملك القلوب ولا تنسحق خشية امام ذلك الارشاد البليغ.

فان كنت قد فهمت من بداية هذه الكلمة الى نهايتها، فشاهد لمعة اعجاز اسلوب الارشاد القرآني واشكر ربك العظيم عليه.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

اللّهم فهّمنا اسرار القرآن كما تحب وترضى ووفقنا لخدمته..

آمين

برحمتك يا ارحم الراحمين.

اللّهم صل وسلم على من اُنزل عليه القرآن الحكيم وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقام الثاني

من الكلمة العشرين

لمعة اعجاز قرآني تتلألأ على وجه معجزات الانبياء

((أنعم النظر في الجوابين المذكورين في الختام))

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلاّ في كتابٍ مبين[ (الانعام:59)

لقد كتبتُ قبل أربع عشرة سنة(1) بحثاً يخص سراً من أسرار هذه الآية الكريمة في تفسيري الذي كتبته باللغة العربية الموسوم بـ ((اشارات الاعجاز في مظان الايجاز)) والآن استجابة لطلب أخوين كريمين عزيزين عندي اكتب ايضاحاً باللغة التركية لذلك البحث، مستعيناً بتوفيق العلي القدير ومستلهماً من فيض القرآن الكريم، فأقول:

ان ((كتاب مبين)) - على قول - هو القرآن الكريم. فهذه الآية الكريمة تبيّن أنه: ما من رطب ولا يابس إلاّ وهو في القرآن الكريم.

أتراه كذلك؟

-نعم! ان في القرآن كل شئ. ولكن لا يستطيع كل واحد أن يرى فيه كلَّ شئ. لأن صور الاشياء تبدو في درجات متفاوتة في القرآن الكريم، فأحياناً توجد بذور الشئ أو نواه، واحياناً مجمل الشئ أو خلاصته، واحياناً دساتيره، واحياناً توجد عليه علامات. ويرد كل من هذه الدرجات؛ اما صراحة أو اشارة أو رمزاً أو ابهاماً أو تنبيهاً. فيعبّر القرآن الكريم عن اغراضه ضمن أساليب بلاغته، وحسب الحاجة، وبمقتضى المقام والمناسبة.

فمثلاً: ان الطائرة والكهرباء والقطار واللاسلكي وامثالها من منجزات العلم والصناعة - التكنلوجيا الحديثة - والتي تعدّ حصيلة التقدم الانساني ورقيه في مضمار الصناعة والعلم، أصبحت هذه الاختراعات موضع اهتمام الانسان، وتبوأت مكانة خاصة في حياته المادية.

لذا فالقرآن الكريم الذي يخاطب البشرية قاطبة لم يهمل هذا الجانب من حياة البشر، بل قد أشار الى تلك الخوارق العلمية من جهتين:

الجهة الاولى: اشار اليها عند اشارته الى معجزات الانبياء عليهم السلام.

الجهة الثانية: اشار اليها عند سرده بعض الحوادث التاريخية.

فعلى سبيل المثال: فقد اشار الى القطار في الآيات الكريمة الآتية:

] قُتلَ اصحابُ الاخدود ^ النارِ ذاتِ الوَقُودِ ^ اذ هُم عليها قُعودٌ^ وهُم على ما يفعلونَ بالمؤمنينَ شُهودٌ^ وما نَقَموا منهم الا أن يؤمنوا بالله العزيزِ الحميد[ .(1) (البروج: 4ـ 8)

وايضاً:

] في الفُلك المشحون ^ وخَلقنا لهم مِن مثلِهِ ما يَركبون[ (يس:41 - 42)

والآية الكريمة الآتية ترمز الى الكهرباء علاوة على اشارتها الى كثير من الأنوار والاسرار:

] الله نورُ السمواتِ والارض مثلُ نورهِ كمشكوةٍ فيها مصباحٌ المصباحُ في زجاجةٍ الزجاجُة كأنها كوكبٌ درّيٌّ يوقَدُ مِن شجرةٍ مُباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيٍة ولا غربيةٍ يكادُ زيتُها يُـضيء ولو لم تمسسهُ نارٌ نورٌ على نورٍ يهدى الله لنوره مَن يشاءُ [ (2) (النور:35)

ولما كان الكثيرون من الفضلاء قد انصرفوا الى هذا القسم، وبذلوا جهوداً كثيرة في توضيحه علماً ان القيام ببحثه يتطلب دقة متناهية ويستدعي بسطاً للموضوع اكثر من هذا وايضاحاً وافياً. فضلاً عن وجود أمثلة وفيرة عليه، لذا لا نفتح هذا الباب، ونكتفي بالآيات المذكورة.

اما القسم الاول الذي يشير الى تلك الاختراعات الشبيهة بالخوارق ضمن اشارات القرآن الى معجزات الانبياء.. سنذكر نماذج منه.



المقدمة:

يبيّن القرآن الكريم ان الانبياء عليهم السلام قد بُعثوا الى مجتمعات انسانية ليكونوا لهم ائمة الهدى يُقتدى بهم، في رقيهم المعنوي. ويبين في الوقت نفسه ان الله قد وضع بيد كلٍ منهم معجزة مادية، ونَصَبهم روّاداً للبشرية واساتذة لها في تقدمها المادي ايضاً. أي انه يأمر بالاقتداء بهم واتباعهم اتباعاً كاملاً في الامور المادية والمعنوية؛ اذ كما يحض القرآنُ الكريم الانسانَ على الاستزادة من نور الخصال الحميدة التي يتحلى بها الانبياء عليهم السلام، وذلك عند بحثه عن كمالاتهم المعنوية، فانه عند بحثه عن معجزاتهم المادية ايضاً يومئ الى إثارة شوق الانسان ليقوم بتقليد تلك المعجزات التي في ايديهم، ويشير الى حضّه على بلوغ نظائرها، بل يصح القول: ان يد المعجزة هي التي أهدت الى البشرية الكمال المادي وخوارقه لاول مرة، مثلما أهدت اليها الكمال المعنوي. فدونك سفينة نوح عليه السلام وهي احدى معجزاته، وساعة يوسف عليه السلام، وهي احدى معجزاته. فقد قدمتهما يدُ المعجزة لاول مرة هدية ثمينة الى البشرية. وهناك اشارة لطيفة الى هذه الحقيقة، وهي اتخاذ أغلب الصناع نبياً من الانبياء رائداً لصنعتهم وقطباً لمهنتهم. فالملاحون - مثلاً - اتخذوا سيدنا نوحاً عليه السلام رائدهم والساعاتيون اتخذوا سيدنا يوسف عليه السلام امامهم، والخياطون اتخذوا سيدنا ادريس عليه السلام مرشدهم..

ولما كان العلماء المحققون من أهل البلاغة قد اتفقوا جميعاً ان لكل آية كريمة وجوهاً عدة للارشاد، وجهات كثيرة للهداية، فلا يمكن اذاً ان تكون أسطع الآيات وهي آيات المعجزات، سرداً تاريخياً، بل لابد انها تتضمن ايضاً معاني بليغة جمة للارشاد والهداية.

نعم، ان القرآن الكريم بايراده معجزات الانبياء انما يخط الحدود النهائية لأقصى ما يمكن ان يصل اليه الانسان في مجال العلوم والصناعات، ويشير بها الى أبعد نهاياتها، وغاية ما يمكن ان تحققه البشرية من أهداف، فهو بهذا يعيّن أبعد الاهداف النهائية لها ويحددها، ومن بعد ذلك يحث البشرية ويحضّها على بلوغ تلك الغاية، ويسوقها اليها. اذ كما ان الماضي مستودع بذور المستقبل ومرآة تعكس شؤونه، فالمستقبل ايضاً حصيلة بذور الماضي ومرآة آماله.

وسنبين بضعة نماذج مثالاً، من ذلك النبع الفياض الواسع:

C فمثلاً: ] ولسليمنَ الريح غدوّها شهرٌ ورَواحُها شهرٌ[ (سبأ:12).

هذه الآية الكريمة تبين معجزة من معجزات سيدنا سليمان عليه السلام.

وهي تسخير الريح له، أي أنه قد قطع في الهواء ما يقطع في شهرين في يوم واحد.

فالآية تشير الى ان الطريق مفتوح امام البشر لقطع مثل هذه المسافة في الهواء.

فيا ايها الانسان! حاول ان تبلغ هذه المرتبة، واسعَ للدنو من هذه المنزلة ما دام الطريق ممهداً أمامك.

فكأن الله سبحانه وتعالى يقول في معنى هذه الآية الكريمة:

((ان عبداً من عبادي ترك هوى نفسه، فحمّلتُه فوق متون الهواء. وانت ايها الانسان! ان نبذت كسل النفس وتركته، واستفدت جيداً من قوانين سنتي الجارية في الكون، يمكنك ايضاً ان تمتطي صهوة الهواء)).

C ومثلاً: ] فقلنا اضربْ بعصاكَ الحجَر فانفجرتْ منه اثنتا عشرةَ عيناً..[ (البقرة:60)

هذه الآية الكريمة تبين معجزة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام، وهي تشير الى انه يمكن الاستفادة من خزائن الرحمة المدفونة تحت الارض بآلات بسيطة، بل يمكن تفجير الماء، وهو ينبوع الحياة، من ارض صلدة ميتة كالحجر بوساطة عصا.

فهذه الآية تخاطب البشرية بهذا المعنى:

يمكنكم ان تجدوا الماء الذي هو ألطف فيض من فيوضات الرحمة الإلهية، بوساطة عصا، فاسعوا واعملوا بجد لتجدوه وتكشفوه.

فالله سبحانه يخاطب الانسان بالمعنى الرمزي لهذه الآية:

((ما دمتُ اسلّم بيد عبد يعتمد عليّ ويثق بي عصا، يتمكن بها ان يفجّر الماء أينما شاء. فانت ايها الانسان ان اعتمدت على قوانين رحمتي، يمكنك أيضاً ان تخترع آلةً شبيهة بتلك العصا، أو نظيرة لها. فهيا اسعَ لتجد تلك الآلة)).

فانت ترى كيف ان هذه الآية سبّاقة لإيجاد الآلة التي بها يتمكن الانسان من استخراج الماء في اغلب الاماكن، والتي هي احدى وسائل رقي البشرية. بل ان الآية الكريمة قد وضعت الخط النهائي لحدود استخدام تلك الآلة ومنتهى الغاية منها، بمثل ما عيّنت الآية الاولى أبعد النقاط النهائية، واقصى ما يمكن ان تبلغ اليه الطائرة الحاضرة.

C ومثلاً: ] وابرئ الاكمهَ والأبرصَ واُحيي الموتى بإذن الله..[ (آل عمران:49).

فالقرآن الكريم اذ يحث البشرية صراحة على اتباع الاخلاق النبوية السامية التي يتحلى بها سيدنا عيسى عليه السلام، فهو يرغّب فيها ويحض عليها رمزاً الى النظر الى ما بين يديه من مهنة مقدسة وطب رباني عظيم.

فهذه الآية الكريمة تشير الى:

((انه يمكن ان يُعثر على دواء يشفي أشد الامراض المزمنة والعلل المستعصية، فلا تيأس ايها الانسان، ولا تقنط ايها المبتلى المصاب، فكل داء مهما كان له دواء، وعلاجه ممكن، فابحث عنه، وجِدْه، واكتشفه، بل حتى يمكن معالجة الموت نفسه بلون من الوان الحياة الموقتة)).

فالله سبحانه يقول بالمعنى الاشاري لهذه الآية الكريمة:

لقد وهبتُ لعبد من عبادي تَركَ الدنيا لأجلي، وعافها في سبيلي، هديتين: احداهما دواء للاسقام المعنوية، والاخرى علاج للامراض المادية. فالقلوب الميتة تُبعث بنور الهداية، والمرضى الذين هم بحكم الاموات يجدون شفاءهم بنفث منه ونفخ، فيبرأون به. وانت ايها الانسان! بوسعك ان تجد في صيدلية حكمتي دواء لكل داء يصيبك، فاسعَ في هذه السبيل، واكشف ذلك الدواء فانك لا محالة واجده وظافر به.

وهكذا ترى كيف ترسم هذه الآية الكريمة أقصى المدى وأبعد الأهداف التي يصبو اليها الطب البشري من تقدم.

فالآية تشير الى ذلك الهدف وتحث الانسان على الوصول اليه.

C ومثلاً: ] وألنّا لَهُ الحديدَ[ (سبأ:10)

] وآتيناهُ الحكمةَ وفصلَ الخطاب[ (ص:20)

هاتان الآيتان تخصان معجزة سيدنا داود عليه السلام. والآية الكريمة ] وأسَلنا له عَينَ القِطرِ[ (سبأ:12) تخص معجزة سيدنا سليمان عليه السلام. فهذه الآيات تشير الى:

ان تليين الحديد نعمة إلهية عظمى، اذ يبين الله به فضل نبيٍ عظيم. فتليين الحديد وجعله كالعجين، واذابة النحاس وايجاد المعادن وكشفها هو اصل جميع الصناعات البشرية، واساسها. وهو أم التقدم الحضاري من هذا الجانب ومعدنه.

فهذه الآية تشير الى النعمة الإلهية العظمى في تليين الحديد كالعجين وتحويله اسلاكاً رفيعة واسالة النحاس، واللذان هما محور معظم الصناعات العامة، حيث وهبها الباري الجليل على صورة معجزة عظمى لرسول عظيم وخليفة للارض عظيم. فما دام سبحانه قد كرم مَن هو رسولٌ وخليفة معاً، فوهب للسانه الحكمة وفصل الخطاب، وسلّم الى يده الصنعة البارعة، وهو يحض البشرية على الاقتداء بما وهب للسانه حضاً صريحاً، فلابد ان هناك اشارة ترغّب وتحضّ على ما في يده من صنعة ومهارة.

فسبحانه يقول بالمعنى الاشاري لهذه الآية الكريمة:

يا بني آدم! لقد آتيت عبداً من عبادي اطاع اوامري وخضع لما كلفته به، آتيت لسانه فصل الخطاب، وملأتُ قلبه حكمةً ليفصل كل شئ على بينة ووضوح.

ووضعت في يده من الحقيقة الرائعة ما يكون الحديد كالشمع فيها، فيغيّر شكله كيفما يشاء، ويستمد منه قوة عظيمة لإرساء اركان خلافته وادامة دولته وحكمه. فما دام هذا الامر ممكناً وواقعاً فعلاً، وذا أهمية بالغة في حياتكم الاجتماعية فانتم يابني آدم إن اطعتم اوامري التكوينية تُوهَب لكم ايضاً تلك الحكمة والصنعة، فيمكنكم بمرور الزمن ان تقتربوا منهما وتبلغوهما.

وهكذا فان بلوغ البشرية أقصى امانيها في الصناعة، وكسبها القدرة الفائقة في مجال القوة المادية، انما هو بتليين الحديد وباذابة النحاس - القطرـ فهذه الآيات

الكريمة تستقطب انظار البشرية عامة الى هذه الحقيقة، وتلفت نظر السالفين وكسالى الحاضرين اليها، فتنبه اولئك الذين لا يقدرونها حق قدرها.

C ومثلاً: ] قالَ الذي عندهُ علمٌ ِمن الكتابِ أنا اتيكَ به قبلَ أن يرتدّ اليكَ طرفُكَ فلما رآهُ مستقراً عندهُ..[ (النمل:40).

فهذه الآية تشير الى ان احضار الاشياء من مسافات بعيدة - عيناً أو صورة - ممكن، وذلك بدلالتها على تلك الحادثة الخارقة التي وقعت في ديوان سيدنا سليمان عليه السلام، عندما قال أحد وزرائه الذي اوتي علماً غزيراً في ((علم التحضير)): انا اتيك بعرش بلقيس.

ولقد آتى الله سبحانه سيدنا سليمان عليه السلام المُلك والنبوة معاً، واكرمه بمعجزة يتمكن بها من الاطلاع المباشر بنفسه وبلا تكلف ولا صعوبة على احوال رعاياه، ومشاهدة اوضاعهم، وسماع مظالمهم. فكانت هذه المعجزة مناط عصمته وصونه من الشطط في امور الرعية. وهي وسيلة قوية لبسط راية العدالة على ارجاء المملكة.

فمن يعتمد على الله سبحانه اذاً ويطمئن اليه، ويسأله بلسان استعداداته وقابلياته التي فُطر عليها، وسار في حياته على وفق السنن الإلهية والعناية الربانية، يمكن ان تتحول له الدنيا الواسعة كأنها مدينة منتظمة امامه كما حدث لسليمان عليه السلام الذي طلب بلسان النبوة المعصومة إحضار عرش بلقيس فأحضر في طرفة عين وصار ماثلاً امامه - بعينه أو بصورته - في بلاد الشام بعد ان كان في اليمن. ولاشك ان اصوات رجال الحاشية الذين كانوا حول العرش قد سُمعتْ مع مشاهدة صورهم.

فهذه الآية تشير اشارة رائعة الى احضار الصور والاصوات من مسافات بعيدة. فالآية تخاطب:

«ايها الحكام! ويا من تسلمتم امر البلاد! ان كنتم تريدون ان تسود العدالة انحاء مملكتكم، فاقتدوا بسليمان - عليه السلام - واسعَوا مثله الى مشاهدة ما يجري في الارض كافة، ومعرفة ما يحدث في جميع ارجائها. فالحاكم العادل الذي يتطلع الى بسط راية العدالة في ربوع البلاد، والســلطان الــذي يرعـى شؤون ابناء مملكته، ويشفق عليهم، لا يصل الى مبتـغــاه إلا اذا اسـتـطـــاع الاطـلاع - مـتى شاء - على اقطار مملكته. وعندئذٍ تعم العـدالة حـقاً، وينقذ نفـسه من المـحـاســبة والتبـعات المعنوية.

فالله سبحانه يخاطب بالمعنى الرمزي لهذه الآية الكريمة:

يا بني آدم! لقد آتيتُ عبداً من عبادي حُكمَ مملكة واسعة شاسعة الارجاء، ومنحته الاطلاع المباشر على احوال الارض واحداثها ليتمكن من تطبيق العدالة تطبيقاً كاملاً، ولما كنتُ قد وهبت لكل انسان قابلية فطرية ليكون خليفة في الأرض، فلا ريب أنى قد زوّدتُه - بمقتضى حكمتي - ما يناسب تلك القابلية الفطرية من مواهب واستعدادات يتمكن بها من ان يشاهد الارض بأطرافها ويدرك منها ما يدرك. وعلى الرغم من أن الانسان قد لا يبلغ هذه المرتبة بشخصه الا انه يتمكن من بلوغها بنوعه. وان لم يستطع بلوغها مادياً، فانه يبلغها معنوياً - كما يحصل للاولياء الصالحين - فباستطاعتكم اذاً الاستفادة من هذه النعمة الموهوبة لكم. فسارعوا الى العمل الجاد واسعوا سعياً حثيثاً كي تحوّلوا الارض الى ما يشبه حديقة صغيرة غنّاء، تجولون فيها وترون جهاتها كلها وتسمعون احداثها واخبارها من كل ناحية منها غير ناسين وظيفة عبوديتكم. تدبروا الآية الكريمة:

] هوَ الذي جعلَ لكمُ الارضَ ذلولاً فامشوا في مناكِبها وكُلوا مِن رزقه واليه النشور[ (الملك:15).

وهكذا نرى كيف تومئ الآية الكريمة المتصدرة لهذا المثال الى اثارة همة الانسان، وبعث اهتماماته لاكتشاف وسيلة يستطيع بها احضار الصور والاصوات من أبعد الاماكن واقصاها ضمن ادق الصناعات البشرية.

C ومثلاً: ] وآخرين مقرّنين في الأصفاد[ (ص:38).

] ومنِ الشياطين مَن يغُوصونَ لهُ ويعملونَ عملاً دونَ ذلكَ وكنّا لهُم حافظين[ (الانبياء:82).

هذه الآيات الكريمة تفيد تسخير سيدنا سليمان عليه السلام الجن والشياطين والارواح الخبيثة، ومنعه شرورهم واستخدامهم في أمور نافعة. فالآيات تقول:

ان الجن الذين يلون الانسان في الأّهمية في سكنى الأرض من ذوي الشعور، يمكن ان يصبحوا خداماً للانسان، ويمكن ايجاد علاقة ولقاء معهم، بل يمكن للشياطين ان يضعوا عداءَهم مع الانسان ويخدموه مضطرين كما سخّرهم الله سبحانه وتعالى لعبدٍ من عباده المنقادين لأوامره.

بمعنى ان الله سبحانه يخاطب الانسان بالمعنى الرمزي لهذه الآيات: ((أيها الانسان! اني اسخّر الجن والشياطين واشرارهم لعبدٍ قد أطاعني واجعلهم منقادين اليه مسخرين له، فانت ان سخّرت نفسك لأمري واطعتني، قد تُسخّر لك موجودات كثيرة بل حتى الجن والشياطين)) .

فالآية الكريمة تخط أقصى الحدود النهائية، وتعيّن أفضل السبل القويمة للانتفاع، بل تفتح السبيل أيضاً الى تحضير الارواح ومحادثة الجن الذي ترشح من امتزاج فنون الانسان وعلومه، وتظاهر مما تنطوي عليه من قوى ومشاعر فوق العادة، المادية منها والمعنوية. ولكن ليس كما عليه الامر في الوقت الحاضر حيث أصبح المشتغلون بهذه الأمور موضع استهزاء بل ألعوبة بيد الجن الذين ينتحلون أحياناً اسماء الأموات. وغدوا مسخّرين للشياطين والارواح الخبيثة، وانما يكون ذلك بتسخير أولئك باسرار القرآن الكريم مع النجاة من شرورهم.

C ثم ان الآية الكريمة:

] فارسلنا اليها روحَنا فتمثلَ لها بشراً سَويّاً[ (مريم:17).

هذه الآية وامثالها التي تشير الى تمثل الارواح، وكذا الآيات المشيرة الى جلب سيدنا سليمان - عليه السلام - للعفاريت وتسخيرهم له . هذه الآيات الكريمة مع اشارتها الى تمثل الروحانيات فهي تشير الى تحضير الأرواح ايضاً. غير ان تحضير الارواح الطيبة - المشار اليه في الآيات - ليس هو بالشكل الذي يقوم به المعاصرون من إحضار الارواح الى مواضع لهوهم واماكن ملاعبهم والذي هو هزل رخيص واستخفاف لا يليق بتلك الارواح الموقرة الجادة، التي تعمر عالماً كله جدّ لا هزل فيه، بل يمكن تحضيرالارواح بمثل ما قام به اولياء صالحون لأمر جاد ولقصد نبيل هادف - من امثال محي الدين بن عربي - الذين كانوا يقابلون تلك الارواح الطيبة متى شاؤا، فاصبحوا هم منجذبين اليها ومنجلبين لها ومرتبطين معها ومن ثم الذهاب الى مواضعها والتقرب الى عالمها والاستفادة من روحانياتها، فهذا هو الذي تشير اليه الآيات الكريمة وتُشعر في اشارتها حضاً وتشويقاً للانسان وتخطّ اقصى الحدود النهائية لمثل هذه العلوم والمهارات الخفية، وتعرض أجمل صوره وأفضلها.

C ومثلاً:] إنّا سخّرنا الجبالَ معه يسبّحنَ بالعشيّ والإشراق[ (ص:18).

] يا جبالُ أوّبي مَعَه والطيرَ وألنّا له الحديد[ (سبأ:10).

] عُلِّمنا منطقَ الطير..[ (النمل:16).

هذه الآيات الكريمة التي تذكر معجزات سيدنا داود عليه السلام تدل على أن الله سبحانه قد منح تسبيحاته واذكاره من القوة العظيمة والصوت الرخيم والأداء الجميل ما جعل الجبال في وجدٍ وشوق، وكأنها حاكٍ عظيم تردد تسبيحاتٍ واذكاراً. أو كأنها انسان ضخم يسبّح في حلقة ذكر حول رئيس الحلقة.

اتُراك هذه حقيقة؟ وهل يمكن ان يحدث هذا فعلاً؟!

نعم! انها لحقيقة قاطعة، أليس كل جبل ذي كهوف يمكن ان يتكلم مع كل انسان بلسانه، ويردد كالببغاء ما يذكره؟ فان قلت (الحمد لله) أمام جبل،فهو يقول ايضاً: (الحمد لله) وذلك برجع الصدى.. فما دام الله سبحانه وتعالى قد وهب هذه القابلية للجبال، فيمكن اذاً أن تنكشف هذه القابلية وتنبسط اكثر من هذا. وحيث ان الله سبحانه قد خص سيدنا داود عليه السلام بخلافة الأرض فضلاً عن رسالته، فقد كشف بذرة تلك القابلية لديه ونماها وبسطها بسطاً معجزاً عنده، بما يلائم شؤون الرسالة الواسعة والحاكمية العظيمة، حتى غدت الجبال الشم الرواسي منقادة اليه كأي جندي مطيع لأمره، وكأي صانع أمين لديه، وكأي مريد خاشع لذكره. فأصبحت تلك الجبال تسبح بحمد الخالق العظيم جلّ جلاله بلسانه عليه السلام وبأمره. فما كان سيدنا داود يذكر ويسبّح إلاّ والجبال تردد ما يذكره.

نعم، ان القائد في الجيش يستطيع ان يجعل جنوده المنتشرين على الجبال يرددون: (الله اكبر) بما لديه من وسائل الاتصال والمخابرات، حتى كأن تلك الجبال هي التي تتكلم وتهلل وتكبر! فلئن كان قائداً من الانس يستطيع أن يستنطق (مجازياً) الجبال بلسان ساكنيها، فكيف بقائد مهيب لله سبحانه وتعالى؟ الا يستطيع أن يجعل تلك الجبال تنطق نطقاً (حقيقياً) وتسبح تسبيحاً حقيقياً؟. هذا فضلاً عن اننا قد بينا في (الكلمات) السابقة ان لكل جبل شخصية معنوية خاصة به، وله تسبيح خاص ملائم له، وله عبادة مخصوصة لائقة به. فمثلما يسبّح كل جبل برجع الصدى باصوات البشر، فان له تسبيحات للخالق الجليل بألسنته الخاصة.

C وكذلك: ] والطيرَ محشورةً[ (ص:19).

] و عُلّمنا منطقَ الطير[ (النمل:16) هذه الآيات تبين ان الله سبحانه قد علّم سيدنا داود وسليمان عليهما السلام منطق انواع الطيور، ولغة قابلياتها واستعداداتها، أي: أيّ الاعمال تناسبها؟ وكيف يمكن الاستفادة منها؟

نعم! هذه الحقيقة هي الحقيقة الجليلة، إذ ما دام سطح الارض مائدة رحمانية اقيمت تكريماً للانسان، فيمكن اذاً ان تكون معظم الحيوانات والطيور التي تنتفع من هذه المائدة مسخّرة للانسان، ضمن تصرفه وتحت خدمته. فالانسان الذي استخدم النحل ودودة القز - تلكم الخَدَمة الصغار - وانتفع مما لديهم من إلهام إلهي، والذي استعمل الحمام الزاجل في بعض شؤونه وأعماله، واستنطق الببغاء وأمثاله من الطيور، فضمَّ الى الحضارة الانسانية محاسن جديدة، هذا الانسان يمكنه ان يستفيد اذاً كثيراً اذا ما عَلِم لسان الاستعداد الفطري للطيور، وقابليات الحيوانات الاخرى، حيث هي انواع وطوائف كثيرة جداً، كما استفاد من الحيوانات الأليفة. فمثلاً: اذا عَلِم الانسان لسان استعداد العصافير (من نوع الزرازير) التي تتغذى على الجراد ولا تدعها تنمو، واذا ما نسّق اعمالها فانه يمكن ان يسخّرها لمكافحة آفة الجراد. فيكون عندئذٍ قد انتفع منها واستخدمها مجاناً في امور مهمة.

فمثل هذه الانواع من استغلال قابليات الطيور والانتفاع منها، واستنطاق الجمادات من هاتف وحاكٍ، تخط له الآية الكريمة المذكورة المدى الاقصى والغاية القصوى.

فيقول الله سبحانه بالمعنى الرمزي لهذه الآيات الكريمة:

يا بني الانسان! لقد سخرتُ لعبد من بني جنسكم، عبد خالص مخلص، سخرتُ له مخلوقات عظيمة في ملكي وانطقتها له، وجعلتها خداماً امناء وجنوداً مطيعين له، كي تعصم نبوته، وتصان عدالته في ملكه ودولته. وقد أتيتُ كلاً منكم استعداداً ومواهب ليصبح خليفة الارض، واودعتُ فيكم أمانة عظمى، أبتِ السموات والارض والجبال ان يحملنها، فعليكم اذاً ان تنقادوا وتخضعوا لأوامر مَن بيده مقاليد هذه المخلوقات وزمامها، لتنقاد اليكم مخلوقاته المبثوثة في ملكه. فالطريق ممهد أمامكم ان استطعتم ان تقبضوا زمام تلك المخلوقات باسم الخالق العظيم، واذا سموتم الى مرتبة تليق باستعداداتكم ومواهبكم..

فما دامت الحقيقة هكذا فاسعَ ايها الانسان ان لا تنشغل بلهو لا معنى له، وبلعب لا طائل من ورائه، كالانشغال بالحاكي والحمام والببغاء.. بل اسعَ في طلب لهوٍ من ألطف اللهو وازكاه، وتسلَّ بتسلية هي من ألذ أنواع التسلية.. فاجعل الجبال كالحاكي لأذكارك، كما هي لسيدنا داود عليه السلام، وشنّف سمعك بنغمات ذكر وتسبيح الاشجار والنباتات التي تخرج أصواتاً رقيقة عذبة بمجرد مس النسيم لها وكأنها اوتار آلات صوتية.. فبهذا الذكر العلوي تُظهر الجبال لك الوفاً من الألسنة الذاكرة المسبحة، وتبرز أمامك في ماهية عجيبة من أعاجيب المخلوقات. وعندئذٍ تتزيا معظم الطيور وتلبس - كأنها هدهد سليمان - لباسَ الصديق الحميم والانيس الودود، فتصبح خداماً مطيعين لك. فتسليك أيما تسلية، وتلهيك لهواً بريئاً لا شائبة فيه، فضلاً عن ان هذا الذكر السامي يسوقك الى انبساط قابليات ومواهب كانت مغمورة في ماهيتك، فتحول بينك وبين السقوط من ماهية الانسان السامية ومقامه الرفيع، فلا تجذبك بعدُ اضراب اللهو التي لا مغزى لها الى حضيض الهاوية.

C ومثلاً: ] قلنا يا نارُ كوني برداً وسلاماً على ابراهيم[ (الانبياء:69).

هذه الآية الكريمة تبين معجزة سيدنا ابراهيم عليه السلام، وفيها ثلاث اشارات لطيفة:

أولاها: النار - كسائر الاسباب - ليس أمرها بيدها، فلا تعمل كيفما تشاء حسب هواها وبلا بصيرة، بل تقوم بمهمتها وفق أمر يُفرض عليها. فلم تحرق سيدنا ابراهيم لانها أُمرت بعدم الحرق.

ثانيتها: ان للنار درجة تحرق ببرودتها، أي تؤثر كالاحتراق. فالله سبحانه يخاطب البرودة بلفظة:((سلاماً))(1) بأن لا تحرقي انتِ كذلك ابراهيم، كما لم تحرقه الحرارة. أي أن النار في تلك الدرجة تؤثر ببرودتها كأنها تحرق، فهي نار وهي برد.

نعم ان النار - كما في علم الطبيعيات - لها درجات متفاوتة، منها درجة على صورة نار بيضاء لا تنشر حرارتها بل تكسب مما حولها من الحرارة، فتجمد بهذه البرودة ما حولها من السوائل، وكأنها تحـرق ببرودتــها. وهكـذا الزمهــرير لـون من الوان النار تحرق ببرودتها، فوجوده اذن ضروري في جهنم التي تضم جميع درجات النار وجميع أنواعها.

ثالثتها: مثلما الايمان الذي هو (مادة معنوية) يمنع مفعول نار جهنم، وينجي المؤمنين منها. وكما ان الاسلام درع واقٍ وحصن حصين من النار، كذلك هناك (مادة مادية) تمنع تأثير نار الدنيا، وهي درع أمامها، لان الله سبحانه يجري اجراءاته في هذه الدنيا - التي هي دار الحكمة - تحت ستار الاسباب وذلك بمقتضى اسمه (الحكيم)، لذا لم تحرق النار جسم سيدنا ابراهيم عليه السلام مثلما لم تحرق ثيابه وملابسه ايضاً. فهذه الآية ترمز الى:

((يا ملة ابراهيم! اقتدوا بابراهيم! كي يكون لباسكم لباس التقوى وهو لباس ابراهيم، وليكون حصناً مانعاً ودرعاً واقياً في الدنيا والآخرة تجاه عدوكم الاكبر، النار. فلقد خبأ سبحانه لكم مواداً في الارض تحفظكم من شر النار، كما يقيكم لباس التقوى والايمان الذي ألبستموه أرواحكم، شر نار جهنم.. فهلموا واكتشفوا هذه المواد المانعة من الحرارة واستخرجوها من باطن الارض والبسوها)).

وهكذا وجد الانسان حصيلة بحوثه واكتشافاته مادة لا تحرقها النار، بل تقاومها فيمكنه ان يصنع منها لباساً وثياباً.

فقارن هذه الآية الكريمة، وقس مدى سموها وعلوها على اكتشاف الانسان للمادة المضادة للنار، واعلم كيف انها تدل على حلة قشيبة نسجت في مصنع (حنيفاً مسلماً) لا تتمزق ولا تخلق وتبقى محتفظة بجمالها وبهائها الى الابد.

C ومثلاً: ] وعلّم آدمَ الاسماءَ كلها[ (البقرة:31).

تبين هذه الآية ان المعجزة الكبرى لآدم عليه السلام - في دعوى خلافته الكبرى - هي تعليم الاسماء.

فمثلما ترمز معجزات سائر الانبياء الى خارقة بشرية خاصة لكل منهم، فان معجزة ابي الانبياء وفاتح ديوان النبوة آدم عليه السلام تشير اشارة قريبة من الصراحة الى منتهى الكمال البشري، وذروة رقيه، والى أقصى أهدافه، فكأن الله سبحانه يقول بالمعنى الاشاري لهذه الآية الكريمة:

((يا بني آدم!.. ان تفوّق أبيكم آدم في دعوى الخلافة على الملائكة كان بما علمتُه الاسماء كلها، وأنتم بنوه ووارثو استعداداته ومواهبه فعليكم أن تتعلموا الاسماء كلها لتثبتوا جدارتكم أمام المخلوقات لتسنم الامانة العظمى، فلقد مُهّد الطريق أمامكم لبلوغ اسمى المراتب العالية في الكون، وسُخرت لكم الارض، هذه المخلوقة الضخمة، فهيا انطلقوا وتقدموا، فالطريق مفتوح أمامكم.. واستمسكوا بكل اسم من اسمائي الحسنى، واعتصموا به، لتسموا وترتفعوا. واحذروا! فلقد أغوى الشيطان أباكم مرة واحدة، فهبط من الجنة - تلك المنزلة العالية - الى الارض موقتاً. فاياكم ان تتبعوا الشيطان في رقيكم وتقدمكم، فيكون ذريعة ترديكم من سموات الحكمة الإلهية الى ضلالة المادية الطبيعية.. ارفعوا رؤوسكم عالياً، وانعموا النظر والفكر في اسمائي الحسنى، واجعلوا علومكم ورقيكم سلماً ومراقي الى تلك السموات، لتبلغوا حقائق علومكم وكمالكم، وتصلوا الى منابعها الاصلية، تلك هي أسمائي الحسنى.

وانظروا بمنظار تلك الاسماء ببصيرة قلوبكم الى ربكم)).

بيان نكتة مهمة وايـضاح سر أهم

ان كل ما ناله الانسان - من حيث جامعية ما أودع الله فيه من استعدادات - من الكمال العلمي والتقدم الفني، ووصوله الى خوراق الصناعات والاكتشافات، تعبّر عنه الآية الكريمة بتعليم الاسماء: ] وعلم آدم الاسماء كلها[ . وهذا التعبير ينطوي على رمزٍ رفيع ودقيق، وهو:

ان لكل كمال، ولكل علم، ولكل تقدم، ولكل فن - أياً كان - حقيقة سامية عالية. وتلك الحقيقة تستند الى اسم من الاسماء الحسنى، وباستنادها الى ذلك الاسم - الذي له حُجُب مختلفة، وتجليات متنوعة، ودوائر ظهور متباينة - يجد ذلك الفن وذلك الكمال وتلك الصنعة، كلٌ منها كمالَه، ويصبح حقيقةً فعلاً، وإلا فهو ظل ناقص مبتور باهت مشوش.

فالهندسة - مثلاً - علم من العلوم، وحقيقتُها وغاية منتهاها هي الوصول الى اسم (العدل والمقدِّر) من الاسماء الحسنى، وبلوغ مشاهدة التجليات الحكيمة لذلك الاسم بكل عظمتها وهيبتها في مرآة علم (الهندسة).

والطب - مثلاً - علم ومهارة ومهنة في الوقت نفسه، فمنتهاه وحقيقته يستند ايضاً الى اسم من الاسماء الحسنى وهو (الشافي). فيصل الطب الى كماله ويصبح حقيقة فعلاً بمشاهدة التجليات الرحيمة لاسم (الشافي) في الادوية المبثوثة على سطح الارض الذي يمثل صيدلية عظمى.

والعلوم التي تبحث في حقيقة الموجودات - كالفيزياء والكيمياء والنبات والحيوان .. ـ هذه العلوم التي هي (حكمة الاشياء) يمكن ان تكون حكمة حقيقية بمشاهدة التجليات الكبرى لاسم الله (الحكيم) جل جلاله في الاشياء، وهي تجليات تدبير، وتربية، ورعاية. وبرؤية هذه التجليات في منافع الاشياء ومصالحها تصبح تلك الحكمة حكمة حقاً، أي باستنادها الى ذلك الاسم (الحكيم) والى ذلك الظهير تصبح حكمة فعلاً، وإلاّ فإما أنها تنقلب الى خرافات وتصبح عبثاً لا طائل من ورائها أو تفتح سبيلاً الى الضلالة، كما هو الحال في الفلسفة الطبيعية المادية..

فاليك الامثلة الثلاثة كما مرت.. قس عليها بقية العلوم والفنون والكمالات..

وهكذا يضرب القرآن الكريم بهذه الآية الكريمة يد التشويق على ظهر البشرية مشيراً الى اسمى النقاط وأبعد الحدود واقصى المراتب التي قصرت كثيراً عن الوصول اليها في تقدمها الحاضر، وكأنه يقول لها: هيا تقدمي.

نكتفي بهذا الجوهر النفيس من الخزينة العظمى لهذه الآية الكريمة، ونغلق هذا الباب.

ومثلاً: ان خاتم ديوان النبوة، وسيد المرسلين، الذي تعدّ جميع معجزات الرسل معجزة واحدة لتصديق دعوى رسالته، والذي هو فخر العالمين، وهو الآية الواضحة المفصلة لجميع مراتب الاسماء الحسنى كلها التي علمها الله سبحانه آدم عليه السلام تعليماً مجملاً.. ذلكم الرسول الحبيب محمد e الذي رفع اصبعه عالياً بجلال الله فشق القمر وخفض الاصبع المبارك نفسه بجمال الله ففجر ماء كالكوثر.. وأمثالها من المعجزات الباهرات التي تزيد على الألف.. هذا الرسول الكريم أظهر القرآن الكريم معجزة كبرى تتحدى الجن والانس: ] قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً[ (الاسراء:88) فهذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات تجلب انظار الانس والجن الى ابرز وجوه الاعجاز في هذه المعجزة الخالدة واسطعها، فتلفتها الى ما في بيانه -الحقَ والحقيقةَ- من جزالة، والى ما في تعابيره من بلاغة فائقة، والى ما في معانيه من جامعية وشمول، والى ما في اساليبه المتنوعة من سمـو ورفعة وعــذوبة.. فتحدّى القرآن المعجز، وما زال كذلك يتحدى الانس والجن قاطبة، مثيراً الشوق في اوليائه، محركاًَ ساكن عناد اعدائه، دافعاً الجميع الى تقليده، بشوق عظيم وترغيب شديد، للاتيان بنظيره، بل انه سبحانه يضع هذه المعجزة الكبرى أمام انظار الانام في موقع رفيع لكأن الغاية الوحيدة من مجئ الانسان الى هذه الدنيا ليست سوى اتخاذه تلك المعجزة العظمى دستور حياته، وغاية مناه.

نخلص مما تقدم: ان كل معجزة من معجزات الانبياء عليهم السلام تشير الى خارقة من خوارق الصناعات البشرية. أما معجزة سيدنا آدم عليه السلام فهي تشير الى فهرس خوارق العلوم والفنون والكمالات، وتشوق اليها جميعاً مع اشارتها الى اسس الصنعة اشارة مجملة مختصرة.

أما المعجزة الكبرى للرسول الاعظم e وهي القرآن الكريم ذو البيان المعجر، فلأن حقيقة تعليم الاسماء تتجلى فيه بوضوح تام، وبتفصيل أتم، فانه يبين الاهداف الصائبة للعلوم الحقة وللفنون الحقيقية، ويُظهر بوضوح كمالات الدنيا والآخرة وسعادتهما، فيسوق البشر اليها ويوجهه نحوها، مثيراً فيه رغبة شديدة فيها، حتى انه يبين بأسلوب التشويق أن« أيها الانسان! المقصد الاسمى من خلق هذا الكون هو قيامك أنت بعبودية كلية تجاه تظاهر الربوبية، وان الغاية القصوى من خلقك انت هي بلوغ تلك العبودية بالعلوم والكمالات».

فيعبر بتعابير متنوعة رائعة معجزة مشيراً بها الى:

ان البشرية في أواخر ايامها على الارض ستنساب الى العلوم، وتنصب الى الفنون، وستستمد كل قواها من العلوم والفنون فيتسلم العلم زمام الحكم والقوة.

ولما كان القرآن الكريم يسوق جزالة البيان وبلاغة الكلام مقدماً ويكررهما كثيراً، فكأنه يرمز الى ان البلاغة والجزالة في الكلام - وهما من اسطع العلوم والفنون - سيلبسان ازهى حللهما واروع صورهما في آخر الزمان، حتى يغدو الناس يستلهمون أمضى سلاحهم من جزالة البيان وسحره، ويستلمون أرهب قوتهم من بلاغة الاداء، وذلك عند بيان أفكارهم ومعتقداتهم لإقناع الاخرين بها، أو عند تنفيذ آرائهم وقراراتهم..

نحصل مما سبق: أن أكثر الآيات الكريمة انما هي مفتاح لخزينة كمال فائق، ولكنز علمي عظيم. فان شئت ان تبلغ سماوات القرآن الكريم ونجوم الايات فاجعل (الكلمات العشرين السابقة) عشرين درجاً لسلم الوصول اليها(1)، وشاهدْ بها مدى سطوع شمس القرآن العظيم، وتأملْ كيف ينشر القرآن نوره باهراً على حقيقة الالوهية وحقائق الموجودات، والمخلوقات، وكيف ينشر الضياء الساطع على كل الموجودات.

النتيجة: ما دامت الآيات التي تخص معجزات الانبياء عليهم السلام لها نوع من الاشارة الى خوارق التقدم العلمي والصناعي الحاضر، ولها طراز من التعبير كأنه يخط أبعد الحدود النهائية لها.. وحيث أنه ثابت قطعاً أن لكل آية دلالات على معانٍ شتى بل هذا متفق عليه لدى العلماء.. ولما كان هناك أوامر مطلقة لإتباع الانبياء عليهم السلام والاقتداء بهم، لذا يصح القول:

انه مع دلالة الآيات المذكورة سابقاً على معانيها الصريحة هناك دلالات مشوّقة باسلوب الاشارة الى أهم العلوم البشرية وصناعاتها.

جوابان مهمان عن سؤالين مهمين

C أحدهما:اذا قلت: لما كان القرآن الكريم قد نزل لأجل الانسان، فَلِمَ لا يصرّح بما هو المهم في نظره من خوارق المدنية الحاضرة؟ وانما يكتفي برمز مستتر، وايماء خفي، واشارة خفيفة، وتنبيه ضعيف فحسب؟

فالجواب: ان خوارق المدنية البشرية لا تستحق أكثر من هذا القدر، اذ إن الوظيفة الاساسية للقرآن الكريم هي تعليم شؤون دائرة الربوبية وكمالاتها ووظائف دائرة العبودية وأحوالها.

لذا فان حق تلك الخوارق البشرية وحصتها من تلك الدائرتين مجرد رمز ضعيف واشارة خفية ليس إلاّ.. فانها لو ادّعت حقوقها من دائرة الربوبية، فعندها لا تحصل إلاّ على حق ضئيل جداً.

فمثلاً: اذا طالبت الطائرة البشرية(1) القرآن الكريم قائلة:

((أعطني حقاً للكلام، وموقعاً بين آياتك)). فان طائرات دائرة الربوبية تلك الكواكب السيّارة والارض والقمر، ستقول بلسان القرآن الكريم:

- ((انكِ تستطيعين أن تأخذي مكانكِ هنا بمقدار جرمك لا أكثر)).

واذا أرادت الغواصة البشرية موقعاً لنفسها بين الآيات الكريمة فستتصدى لها غواصات تلك الدائرة؛ التي هي الارض السابحة في محيط الهواء، والنجوم العائمة في بحر الأثير قائلة:

- ((ان مكانك بيننا ضئيل جداً يكاد لا يُرى!)).

واذا ارادت الكهرباء ان تدخل حرم الآيات بمصابيحها اللامعة أمثال النجوم، فان مصابيح تلك الدائرة التي هي الشموس والشهب والانجم المزيّنة لوجه السماء، سترد عليها قائلة:

-((انك تستطيعين أن تدخلي معنا في مباحث القرآن وبيانه بمقدار ما تمتلكين من ضوء!!)).

ولو طالبت الخوارق الحضارية - بلسان صناعاتها الدقيقة - حقوقها وارادت لها مقاماً بين الآيات.. عندها ستصرخ ذبابة واحدة بوجهها قائلة:

- اسكتوا.. فليس لكم حق. ولو بمقدار أحد جناحيّ هذين! ولئن اجتمع كل ما فيكم من المصنوعات والأختراعات - التي اكتشف إكتساباً بارادة الانسان الجزئية - مع جميع الآلات الدقيقة لديكم، لن تكون أعجب بمقدار ما في جسمي الصغير جداً من لطائف الاجهزة ودقائق الصنعة. وان هذه الآية الكريمة تبهتكم جميعاً:

] إنَّ الذينَ تَدعون مِن دونِ الله لن يَخلُقوا ذباباً ولو اجتَمعوا له، وإن يسلُبْهم الذبابُ شيئاً لا يستنقنذوهُ منه، ضعُفَ الطالبُ والمطلوبُ[ (الحج:73)

واذا ذهبت تلك الخوارق الى دائرة العبودية وطلبت منها حقها فستتلقى منها مثل هذا الجواب:

-ان علاقتكم معنا واهية وقليلة جداً، فلا يمكنكم الدخول إلى دائرتنا بسهولة، لأن منهجنا هو:

ان الدنيا دار ضيافة، وان الانسان ضيف يلبث فيها قليلاً، وله وظائف جمة، وهو مكلف بتحضير وتجهيز ما يحتاجه لحياته الأبدية الخالدة في هذا العمر القصير، لذلك يجب عليه ان يقدّم ما هو الأهم والألزم.

إلاّ أنه تبدو عليكم - على اعتبار الأغلبية - ملامح نسجت بحب هذه الدنيا الفانية تحت أستار الغفلة واللهو وكأنها دار للبقاء ومستقر للخلود. لذا فان حظكم من دائرة العبودية المؤسّسة على هدى الحق والتفكر في آثار الآخرة، قليل جداً.

ولكن.. ان كان فيكم - أو من ورائكم - من الصناع المهرة والمخترعين الملهمين - وهم قلة - وكانوا يقومون بأعمالهم مخلصين لأجل منافع عباد الله - وهي عبادة ثمينة - ويبذلون جهدهم للمصلحة العامة وراحتهم لرقي الحياة الاجتماعية وكمالها، فان هذه الرموز والارشادات القرآنية كافية بلا ريب لأولئك الذوات المرهفي الاحساس، ووافية لتقدير مهاراتهم وتشويقهم الى السعي والاجتهاد.

C السؤال الثاني:

واذا قلت: لم تبق لديّ الآن بعد هذا التحقيق شبهة، فقد ثبت عندي بيقين وصدّقت؛ أن القرآن الكريم فيه جميع ما يلزم السعادة الدنيوية والأخروية كل حسب قيمته وأهميته، فهناك رموز واشارات الى خوارق المدنية الحاضرة بل الى أبعد منها من الحقائق الأخرى مع ما فيه من حقائق جليلة ولكن لِمَ لم يذكر القرآن الكريم تلك الخوراق بصراحة تامة كي تجبر الكفرة العنيدين على التصديق والايمان وتطمئن قلوبنا فتستريح؟.

الجواب:

ان الدين امتحان، وان التكاليف الإلهية تجربة واختبار من أجل أن تتسابق الارواح العالية والارواح السافلة، ويتميز بعضها عن بعض في حلبة السباق.

فمثلما يختبر المعدن بالنار ليتميز الالماس من الفحم والذهب من التراب؛ كذلك التكاليف الإلهية في دار الامتحان هذه. فهي ابتلاء وتجربة وسَوق للمسابقة حتى تتميز الجواهر النفيسة لمعدن قابليات البشر واستعداداته من المعادن الخسيسة.

فما دام القرآن قد نزل - في دار الابتلاء هذه - بصورة اختبار للانسان ليتم تكامله في ميدان المسابقة، فلابد انه سيشير - اشارة فحسب - الى هذه الأمور الدنيوية الغيبية التي ستتوضح في المستقبل للجميع، فاتحاً للعقل باباً بمقدار اقامة حجته. وإلاّ فلو ذكرها القرآن الكريم صراحة، لاختلتْ حكمة التكليف اذ تصبح بديهية مثل كتابة (لا إله إلاّ الله) واضحاً بالنجوم على وجه السماء، والذي يجعل الناس - أرادوا أم لم يريدوا - عندئذ مرغمين على التصديق، فما كانت ثمة مسابقة ولا اختبار ولا تمييز فحينئذٍ تتساوى الارواح السافلة التي هي كالفحم مع التي هي كالالماس(1).



والخلاصة:

ان القرآن العظيم، حكيمٌ يعطي لكل شئ قدره من المقام، ويرى القرآن من ثمرات الغيب التقدمَ الحضاري البشري قبل ألف وثلاثمائة سنة المستترة في ظلمات المستقبل، أفضل واوضح مما نراها نحن وسنراها. فالقرآن اذاً كلام مَن ينظر الى كل الأزمنة بما فيها من الأمور والأشياء في آن واحد..

فتلك لمعة من الأعجاز القرآني، تلمع في وجه معجزات الأنبياء.

اللهمَّ فَـهِّمنا أسرارَ القرآنِ وَوفِّقْنا لِخدْمتِهِ في كلِّ آنٍ وزمانٍ.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا[

اللّهم صلّ وسلّم وبارك وكرِّم على سيدنا ومولانا محمدٍ، عبدِك ونبيك ورسولِك النبي الأمّي وعلى آلهِ واصحابه وأزواجه وذرياته وعلى النبيين والمرسلين والملائكة المقربين والاولياء والصالحين، أفـضل صلاةٍ وأزكى سلامٍ وأنمى بركاتٍ، بعدد سُوَر القرآن وآياته وحروفه وكلماته ومعانيه واشاراته ورموزه ودلالاته، واغفر لنا وارحمنا والطف بنا يا إلهنا، يا خالقنا، بكل صلاة منها برحمتك يا أرحم الراحمين.

والحمد لله رب العالمين

آمين
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس