الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #22
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة السابعة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

] انّا جَعَلْنا ما عَلى الارض زِينَةً لها لِنَبْلُوَهم أيُّهم أحْسنُ عَمَلاً ^ وإنَّا لَجاعلونَ ما عَلَيْها صَعيداً جُرُزاً[ (الكهف:7ـ8)

] وما الحياةُ الدنيا الاّ لعبٌ ولَهْوٌ[ (الانعام:32)

[ هذه الكلمة عبارة عن مقامين عاليين وذيل ساطع ]

ان الخالق الرحيم والرزاق الكريم والصانع الحكيم قد جعل هذه الدنيا على صورة عيد بهيج واحتفال مهيب ومهرجان عظيم لعالم الارواح والروحانيات، وزيّنها بالآثار البديعة لاسمائه الحسنى، وخلع على كل روح صغيراً كان أم كبيراً، عالياً كان ام سافلاً، جسداً على قدّه وقدره، وجهّزه بالحواس والمشاعر وكل ما يوافقه للاستفادة من الالاء المختلفة والنعم المتنوعة التي لا تعد ولا تحصى، والمبثوثة في ذلك العيد البهيج، والمعروضة في ذلك المهرجان العظيم. ومنح سبحانه لكل روح من تلك الارواح وجوداً جسمانياً (مادياً) وارسلها الى ذلك العيد والمهرجان مرة واحدة، ثم قسّم ذلك العيد الواسع جداً زماناً ومكاناً الى عصور وسنوات ومواسم، بل حتى الى ايام واجزاء ايام، جاعلاً من كل عصر، من كل سنة، من كل موسم، من كل يوم، من كل جزء من يوم، مهرجاناً سامياً وعيداً رفيعاً واستعراضاً عاماً لطائفة من مخلوقاته ذوات ارواح ومن مصنوعاته النباتية، ولا سيما سطح الارض، ولا سيما في الربيع والصيف، جاعلاً اعياداً متعاقبة، الواحد تلو الآخر، لطوائف مصنوعاته الصغيرة جداً، حتى غدا ذلك العيد عيداً رائعاً جذاباً لفت انظار الروحانيات الموجودة في الطبقات العليا والملائكة واهل السموات الى مشاهدته، وجلب انظار اهل الفكر الى مطالعته بمتعة الى حد يعجز العقل عن استكناه متعتها.. ولكن هذه الضيافة الإلهية والعيد الرباني، وما فيهما من تجليات اسم ((الرحمن والمحيي)) يكتنفها الفراق والموت، حيث يبرز اسم الله ((القهار والمميت)) وربما هذا لا يوافق - كما يبدو - شمول رحمته تعالى المذكور في قوله ] ورحمتي وسعت كل شيء[ (الاعراف:156).

ولكن في الحقيقة هناك جهات عدة يظهر فيها الانسجام والموافقة الكاملة مع الرحمة الإلهية، نذكر منها جهة واحدة فقط وهي:

انه بعد انتهاء الاستعراض الرباني لكل طائفة من الطوائف، وبعد استحصال النتائج المقصودة من ذلك العرض، يتفضل الفاطر الرحيم والصانع الكريم على كل طائفة من الطوائف فيمنحهم رغبة في الراحة واشتياقاً اليها وميلاً الى الانتقال الى عالمٍ آخر، ويُسئمهم من الدنيا باشكال من النفور والسأم رحمةً بهم.

وحينما يُرخّصون من تكاليف الحياة ويُسّرحون من وظائفها، ينبّه سبحانه في أرواحهم رغبة قوية وحنيناً الى موطنهم الأصلي. وكما يمنح سبحانه مرتبة الشهادة لجندي بسيط يُقتل في سبيل اداء الخدمة ويهلك في مهمة الجهاد، وكما يمنح الشاة الأضحية وجوداً مادياً في الآخرة ويكافؤها بجعلها مطية كالبراق لصاحبها مارة به على الصراط المستقيم، فليس بعيداً من ذلك الرحمن الكريم ان يمنح لذوي الارواح والحيوانات ثواباً روحانياً يلائمهم وأجراً معنوياً يوافق استعدادهم، من خزينة رحمته الواسعة، بعد ما قاسوا المشقات وهلكوا أثناء اداء وظائفهم الفطرية الربانية الخاصة بهم، وعانوا ما عانوا في طاعتهم للاوامر السبحانية. وذلك لئلا يتألموا ألماً شديداً لدى تركهم الدنيا، بل يكونون راضين مرضيين.. ولا يعلم الغيب الاّ الله.

بيد أن الانسان الذي هو أشرف ذوي الارواح واكثرهم استفادة من هذا العيد - من حيث الكمية والنوعية - يوهب له برحمة من الله ولطف منه حالةً من الشوق الروحي تنفّره عن الدنيا التي ابتلي بها، كي يعبر الى الآخرة بأمان. فالانسان الذي لم تغرق انسانيته في الضلالة يستفيد من تلك الحالة الروحية فيرحل عن الدنيا وقلبه مطمئن بالايمان.

نبين هنا خمسةً من الوجوه التي تورث تلك الحالة الروحية على سبيل المثال:

الوجه الأول: انه سبحانه وتعالى يُظـهر للانســان - بحلـول الشيـخوخة - ختم الفناء والزوال على الاشياء الدنيوية الفتانة، ويفهّمه معانيها المريرة، مما يجعله ينفر من الدنيا ويسرع للتحري عن مطلوب باق خالد بدلاً من هذا الفاني الزائل.

الوجه الثاني: انه تعالى يُشعر الانسان شوقاً ورغبة في الذهاب الى حيث رحل تسعٌ وتسعون بالمائة من أحبته الذين يرتبط معهم والذين استقروا في عالم آخر، فتدفع تلك المحبة الجادة الانسان ليستقبل الموت والأجل بسرور وفرح.

الوجه الثالث: انه تعالى يدفع الانسان ليستشعر ضعفه وعجزه غير المتناهيين، سواءً بمدى ثقل الحياة أو تكاليف العيش أو أمور اخرى، فيولد لديه رغبة جادة في الخلود الى الراحة وشوقاً خالصاً للمضي الى ديار اخرى.

الوجه الرابع: انه تعالى يبيّن للانسان المؤمن - بنور الايمان - ان الموت ليس اعداماً بل تبديل مكان، وان القبر ليس فوهة بئر عميق بل باب لعوالم نورانية، وان الدنيا مع جميع مباهجها في حكم سجن ضيق بالنسبة لسعة الآخرة وجمالها. فلا شك ان الخروج من سجن الدنيا والنجاة من ضيقها الى بستان الجنان الاخروية، والانتقال من منغصات الحياة المادية المزعجة الى عالم الراحة والطمأنينة وطيران الارواح، والانسلاخ من ضجيج المخلوقات وصخبها الى الحضرة الربانية الهادئة المطمئنة الراضية، سياحة بل سعادة مطلوبة بألف فداء وفداء.

الوجه الخامس: انه تعالى يفهّم المنصت للقرآن الكريم ما فيه من علم الحقيقة، ويعلّمه بنور الحقيقة ماهية الدنيا، حتى يغدو عشقها والركون اليها تافهاً لا معنى له.. اي يقول له ويثبت:

ان الدنيا كتاب رباني صمداني مفتوح للانظار، حروفه وكلماته لا تمثل نفسها، بل تدل على ذات بارئها وعلى صفاته الجليلة واسمائه الحسنى، ولهذا، افهم معانيها وخذ بها، ودَع عنك نقوشها وامض الى شانك..

واعلم انها مزرعة للآخرة، فازرع واجنِ ثمراتها واحتفظ بها، واهمل قذاراتها الفانية..

واعلم انها مجاميع مرايا متعاقبة، فتعرّف الى مَن يتجلى فيها، وعاين انواره، وادرك معاني اسمائه المتجلية فيها واحبب مسمّاها، واقطع علاقتك عن تلك القطع الزجاجية القابلة للكسر والزوال.. واعلم انها موضع تجارة سيار، فقم بالبيع والشراء المطلوب منك، دون ان تلهث وراء القوافل التي اهملتك وجاوزتك، فتتعب..

واعلم انها متنزّه مؤقت فاسرح ببصرك فيها للعبرة، ودقق في الوجه الجميل المتستر، المتوجه الى الجميل الباقي، واعرض عن الوجه القبيح الدميم المتوجه الى هوى النفس، ولا تبك كالطفل الغرير عند انسدال الستائر التي تريك تلك المناظر الجميلة..

واعلم انها دار ضيافة، وانت فيها ضيف مكرم، فكل واشرب باذن صاحب الضيافة والكرم، وقدّم له الشكر، ولا تتحرك الاّ وفق اوامره وحدوده، وارحل عنها دون ان تلتفت الى ورائك.. واياك أن تتدخل بفضول بامور لا تعود اليك ولا تفيدك بشئ، فلا تغرق نفسك بشؤونها العابرة التي تفارقك.

وهكذا بمثل هذه الحقائق الظاهرة يخفف سبحانه وتعالى عن الانسان كثيراً من آلام فراق الدنيا، بل قد يحببه الى النابهين اليقظين، بما يظهر سبحانه عليه من اسرارحقيقة الدنيا، وانه اثرٍ من آثار رحمته الواسعة في كل شئ، وفي كل شأن. واذ يشير القرآن الكريم الى هذه الوجوه الخمسة، فان آيات كريمة تشير الى وجوه خاصة اخرى كذلك.

فيا لتعاسة من ليس له حظ من هذه الوجوه الخمسة.

المقام الثاني



من الكلمة السابعة عشرة (1)

((انما الشكوى بلاء))

دع الصُراخ يا مسكين، وتوكل على الله في بلواك.

انما الشكوى بلاء.

بل بلاء في بلاء، واثام في اثام وعناء.

اذا وجدتَ مَن ابتلاك،

عاد البلاء عطاء في عطاء، وصفاء في صفاء.

دع الشكوى، واغنم الشكر. فالازهار تبتسم من بهجة عاشقها البلبل.

P P P

فبغير الله دنياك آلام وعذاب، وفناء وزوال، وهباء في هباء.

فتعال، توكل عليه في بلواك!

ما لكَ تصرخ من بلية صغيرة، وانت مثقلٌ ببلايا تسع الدنيا.

P P P

تبسّم بالتوكل في وجه البلاء، ليبتسم البلاء.

فكلما تبسّم صغُر وتضاءل حتى يزول.

ايها المغرور اعلم!

ان السعادة في هذه الدنيا، في تركها.

اما في الترجمة، فقد اقتصرنا على المعنى وحده.ــ المترجم.

ان كنت بالله مؤمناً..فهو حسبك، فلو ادبرتَ عن الدنيا أقبلتْ عليك.

P P P

وان كنت معجباً بنفسك، فذلك الهلاك المبين.

ومهما عملت فالاشياء تعاديك.

فلابد من الترك اذن في كلتا الحالتين.

P P P

وتركها يعني: انها مُلك الله، يُنظر اليها بإذنه وبإسمه،

وان كنت تبغي تجارة رابحة، فهي

في استبدال عمر باقٍ لا يزول بعمرك الفاني الزائل.

P P P

وان كنت تريد رغبات نفسك، فهي زائلة، تافهة، واهية.

وان كنت تتطلع الى الآفاق، فختم الفناء عليها.

P P P

فالمتاع في هذا السوق مزيف. لا يستحق الشراء اذن.

لذا دعه، فالاصيل منه قد اعدّ خلفه..

((غرباء الحيرة))

[ على قمة شجرة التوت الاسود المباركة، ذكر سعيد القديم بلسان سعيد الجديد هذه الحقائق ].

مخاطبي ليس ((ضياء باشا(1))) بل المفتونون باوروبا.

والمتكلم ليس نفسي، بل قلبي تلميذ القرآن.

P P P

ان ((الكلمات)) السابقة حقائق. اياك ان تحار، احذر ان تجاوز حدّها

لا تُزغ، ولا تصغِ الى فكر الاجانب، انه ضلال، يسوقك الى الندم.

P P P

ألا ترى الأوسعَ فكراً والأحدَّ نظراً يقول دوماً في حيرته:

آه! وا أسفى! ممن اشكو، ولمن! فقد ذهلت!

P P P

وأنا أقول ولا اتردد فالقرآن ينطقني:

اشكو منه اليه، ولا اتحير مثلك!

P P P

استغيث من الحق بالحق، لا أتجاوز حدّي.

ادعو من الارض الى السماء، ولا اهرب مثلك!

P P P

في القرآن الكريم: الدعوة كلها؛ من النور والى النور، لا انكث مثلك.

في القران الكريم: الحكمة الصائبة. اثبتها، ولا اعير للفلسفة المخالفة أي اهتمام!

في القرآن الكريم: جواهر الحقائق.

افديها بروحي.. لا ابيعها مثلك!

P P P

أجيل طرفي من الخلق الى الحق، لا اضل مثلك!

اطير فوق الطريق الشائك، لا اطؤها مثلك!

يصعد شكري الى عنان السماء، لا اعصي مثلك!

P P P

ارى الموت صديقاً، لا اخافه مثلك!

ادخل القبر باسماً، لا ارتعد مثلك!

P P P

فمَ تنّين، فِراشَ الوحشة، عتبةَ العدم.. لا اراه مثلك!

بل موضع تلاقي الاحباب.. لا اضجر منه، لا ابغضه مثلك!

P P P

لا اتضايق منه، ولا أهابه.

فهو باب الرحمة، باب النور، باب الحق

اقرعه باسم الله، ولا التفت، ولا تأخذني الدهشة.

سأرقُد قرير العين، حامداً ربي، لا اقاسي ضيقاً، ولا اظل في وحشة.

سأقوم على صدى أذان اسرافيل في فجر الحشر، قائلاً.. ((الله اكبر)).

لا ارهب من المحشر الاكبر!

لا اتخلف من المسجد الاعظم!

P P P

من لطف الله ونور القران الكريم وفيض الإيمان.. لا أيأس اصلاً.

بل اسعى واجري طائراً الى ظل عرش الرحمن.

ولا احار مثلك.. ان شاء الله.

P P P



هذه المناجاة تخطرت في القلب هكذا بالبيان الفارسي

[ كتبت هذه المناجاة كما خطر على القلب، باللغة الفارسية، وقد نشرت ضمن رسالة ((حباب من عمان القرآن الحكيم)).]

يا رب! به شش جهت نظر مىكردم درد خودرا درمان نمىديدم

يا رب! لقد سرحت نظري في الجهات الست، علّني أجد دواءً لدائي، وانا مستند الى اقتداري واختياري غافلاً لا متوكلاً، ولكن وا اسفى لم استطع أن أجد دواءً لدائي.. وقيل لي معنىً: ألا يكفيك الداءُ دواءً.

در راست مي ديدم كه: دى روز مزار بدر من است

نعم! لقد نظرت ـ بغفلة ـ الى الزمان الماضي في يميني، لأجد فيه السلوان، ولكني رأيت ان الأمس قبرُ أبي، وتراءت لي الأيام الخوالي مقبرة كبيرة لأجدادي. فأورثتني هذه الجهة وحشة بدل السلوان(1).

(1) ولكن الايمان يُري تلك المقبرة الكبرى مجلساً منوراً ومجمعاً مؤنساً للأحباب.

ودر جب ديدم كه: فردا قبر من است

ثم نظرت الى المستقبل في اليسار، فلم أستطع أن أجد فيه دواءً. بل تراءى لي الغد في صورة قبري، وتراءى لي المستقبل قبراً لأمثالي ومقبرة للجيل المقبل، فاورثتني هذه الجهة الوحشة بدل السلوان(2).

(2) ولكن الايمان وما يورثه من الاطمئنان يُري تلك المقبرة العظمى دعوة رحمانية الى قصور السعادة اللطيفة.

و امروز: تابوت جسم بر اضطراب من است

وحيث لا جدوى من اليسار، نظرت الى اليوم الحاضر، فرأيت وكأن هذا اليوم تابوت يحمل جنازة جسمي الذي ينتفض انتفاضة المذبوح بين الموت والحياة.(3)

(3) ولكن الايمان يُري ذلك التابوت دار تجارة ودار ضيافة باهرة.

بر سر عمر جنازهء من ايستاده است

فلم أعثر على الدواء في هذه الجهة، ورفعت رأسي ونظرت الى قمة شجرة عمري، ورأيت أن جنازتي هي الثمرة الوحيدة لتلك الشجرة، وهي ترقبني من هناك(4)

(4) ولكن الايمان يُري ان تلك الثمرة ليست جنازة، بل هي انطلاقٌ لروحي المرشّحة للأبد من وكرها القديم لتسرح في النجوم.

در قدم: آب خاك خلقت من وخاكستر عظام من است

فيئستُ من تلك الجهة أيضاً، ،طأطأت رأسي، فرأيت ان رميم عظامي قد اختلط مع تراب مبدأ خلقتي وهو يُداس تحت الأقدام. فزادت - هذه الجهة - داءً لدائي ولم تسعفني بشئ(5).

(5) اما الايمان فقد أظهر ذلك التراب باباً للرحمة،وستاراً دون صالة الجنة.

جون در بس مىنكرم، بينم: اين دنياى بى بنياد هيج در هيج است

فصرفت نظري عن تلك الجهة مولّياً وجهي الى الوراء، ورأيت: ان دنياً فانية تتدحرج في وديان العبث وظلمات العدم. فنفثتْ هذه الجهة سمّ الوحشة والخوف في دائي بدلاً من ان تمنحني العزاء(6).

(6) اما الايمان فقد أظهر ان تلك الدنيا المتدحرجة في الظلمات ما هي الا مكاتيب صمدانية وصحائف نقوش سبحانية أنهت مهامها، وأفادت معانيها، وتركت نتائجها في الوجود بدلاً عنها.

ودر بيش: اندازهء نظر مىكنم، در قبر كشاده است و راه ابد بدورودراز به ديداراست

ولما لم أجد خيراً ايضاً في هذه الجهة رنوت بنظري الى الأمام، ورأيت ان باب القبر مفتوح في بداية طريقي، وتتراءى وراءه من بعيد طريقٌ ممتدة الى الأبد(7).

(7) أما الايمان فقد جعل باب القبر ذاك باباً الى عالم النور، وتلك الطريق طريقاً الى السعادة الخالدة، فأصبح الايمان، بحقٍ مرهماً شافياً لدائي.

مرا جز جزء اختيارى جيزى نيست در دست

وهكذا لم أعثر في هذه الجهات الست على أي سلوانٍ وعزاءٍ بل وجدت استيحاشاً وهلعاً، ولم يكن لي تجاهها مستند سوى جزء اختياري(8).

(8) اما الايمان فانه يسلّمني بدلاً من ذلك الجزء الاختياري وثيقة لأستند بها الى قدرة عظيمة مطلقة، بل الايمان هو الوثيقة نفسها.

كه او جزء هم عاجز، هم كوتاه، وهم كم عيار است

وان ذلك الجزء الاختياري الذي هو سلاح الانسان، عاجز، قاصر، ناقص، لا يمكنه الخلق وليس له الاّ الكسب(9).

(9) الاّ ان الايمان يجعل ذلك الجزء الاختياري كافياً لكل شئ اذ يستعمله في سبيل الله، كالجندي الذي إنسلك في جيش الدولة فينجز ألوف أضعاف قوته من الأعمال.

نه در ماضى مجال حلول، نه در مستقبل مدار نفوذاست

لأن ذلك الجزء الاختياري ليس له القدرة للحلول في الماضي، ولا النفوذ في المستقبل. لذا لا نفع له لآمالي وآلامي الماضية والمستقبلة(10)

(10) ولكن الايمان يأخذ زمام ذلك الجزء الاختياري من الجسم الحيواني ويسلّمه الى القلب والروح، لذا يستطيع ان يحلّ في الماضي وينفذ في المستقبل. حيث دائرة حياة القلب والروح واسعة جداً.

ميدان أو إين زمان حال، ويك آن سيّال است

ان ميدان جولان ذلك الجزء الاختياري هو الوقت الحاضر القصير وهو آن سيّال ليس الاّ.

با إين همه فقرها وضعفها، قلم قدرت تو آشكاره

نوشته است، ((در فطرت ما)): ميل ابد وامل سرمد

علاوة على جميع حاجاتي هذه، وضعفي وفقري وعجزي، وانا تحت هجمات الاستيحاش والمخاوف الواردة من هذه الجهات، فقد اُدرجتْ في ماهيتي آمال ممتدة الى الأبد، وفي فطرتي رغبات سطرت بوضوح بقلم القدرة.

بلكه هرجه هست، هست

بل كل ما في الدنيا، نماذجُه في فطرتي، فأنا على علاقة بجميع تلك الرغبات والآمال، بل أسعى لها، واُدفع الى السعي لها.

دائرهء إحتياج مانند دائرهء نظر بزركى داراست

ان دائرة الحاجة واسعة سعة دائرة النظر.

خيال كدام رسد احتياج نيزرسد، در دست هرجه نيست در إحتياج هست

حتى ان الخيال أينما ذهب، تذهب دائرة الحاجة الى هناك. فالحاجة اذاً هناك أيضاً، بل كل ما ليس في متناول اليد فهو ضمن الحاجة، وما ليس في اليد لا حدّ له.

دائرهء اقتدار همجو دائرهء دست كوتاه كوتاه است

بينما دائرة القدرة ضيقة وقاصرة بقدر ما تصل اليه يدي القاصرة

بس فقر و حاجات ما به قدر جهان است

بمعنى ان فقري وحاجاتي بقدر الدنيا كلها.

سر مايهء ما همجو: ((جزء لايتجزأ)) است

أما رأس مالي فهو شئ جزئي ضئيل.

اين جزء كدام واين كائنات حاجات كدام است؟

أين الحاجات التي بقدر هذا العالم، ولا تستحصل الاّ بالمليارات من هذا الجزء الاختياري الذي لايساوي شيئاً؟.

انه لا يمكن شراء تلك الحاجات بهذا الثمن الزهيد جداً. ولا يمكن ان تستحصل تلك بهذا!.

فلابد اذن من البحث عن وسيلة أخرى.

بس در راه تو أزين جزء نيز بازمىكذشتن جارهء من است

وتلك الوسيلة هي التبرؤ من ذلك الجزء الاختياري وتفويض أمره الى الارادة الإلهية، وتبرؤ المرء من قوة نفسه وحوله والالتجاء الى حول الله وقوته. وبذلك يكون الاعتصام بحبل التوكل.

فيا رب! لما كانت وسيلة النجاة هي هذه. فانني أتخلى عن ذلك الجزء الاختياري واتبرأ من أنانيتي، في سبيلك.

تا عنايت تو دستكير من شود، رحمت بى نهايت توبناه من است

لتأخذ عنايتك بيدي، رحمةً بعجزي وضعفي، ولتكون رحمتك مستندي، رأفة بفقري واحتياجي.. ولتفتح لي بابها.

آن كس كه بحر بى نهايت رحمت يافت، تكيه

نكند برين جزء اختيارى كه يك قطره سراب است

نعم، كل مَن وجد بحر الرحمة الذي لا ساحل له، لا يعتمد على جزئه الاختياري وهو كقطرة سراب، ولا يفوض اليه أمره، من دون تلك الرحمة.

أيواه! اين زندكانى همجو خواب است

وين عمر بى بنياد همجو باد است

يا اسفى، لقد خُدعنا، فظننا هذه الحياة الدنيا مستقرة دائمة. وأضعنا بهذا الظن كل شئ.

نعم، ان هذه الحياة غفوة قد مضت كرؤيا عابرة!

وهذا العمر الذي لا قرار له يذهب ذهاب الريح.

انسان به زوال دنيا به فنا است، آمال بى بقا آلام به بقا است

ان الانسان المغرور، المعتد بنفسه، ويحسبها أبدياً، محكوم عليه بالزوال. انه يذهب سريعاً.

اما الدنيا التي هي مأواه، فستهوي في ظلمات العدم، فتذهب الآمال أدراج الرياح وتبقى الآلام محفورة في الأرواح.

بيا أي نفس نا فرجام! وجود فانى خودرا فدا كن

خالق خودرا كه اين هستى وديعه هست

فتعالى يا نفسي المشتاقة الى الحياة، والطالبة العمر الطويل، والعاشقة للدنيا، والمبتلاة بآلام لا حدّ لها وآمال لا نهاية لها، يا نفسي الشقية انتبهي وعودي الى رشدك، ألا ترين ان اليراعة التي تعتمد على ضوئها تظل بين ظلمات الليل البهيم، بينما النحل التي لا تعتد بنفسها، تجد ضياء النهار، وتشاهد جميع صديقاتها من الأزهار مذهّبة بضوء الشمس.. كذلك أنتِ، ان اعتمدت على وجودك وعلى نفسك وعلى أنانيتك، فستكونين كاليراعة. ولكن ان ضحيت بوجودك في سبيل خالقك الكريم الذي وهبه لك سوف تكونين كالنحل. وتجدين نور وجود لا حدّ له. فضحي بنفسك، اذ هذا الوجود وديعة عندك وامانة لديك.

وملك او أوداه فنا كن تا بقا يابد، ازان

سرى كه: ((نفى النفى)) إثبات است

ثم ان الوجود ملكُه سبحانه وهو الذي وهبه لك، لذا إفديه من دون منّة ولا إحجام، وإفنيه كي يجد البقاء، لأن نفي النفي إثبات.

أي: ان كان العدم معدوماً فهو موجود، وان انعدم المعدم يكون موجوداً.

خداى بر كرم خود ملك خودرا مىخرد أزتو

بهاي بى كران داده براى تو نكهدارد

ان الله يشتري منك ملكه، ويعطيك ثمنه عظيماً، وهو الجنة. وانه يحفظ لك ذلك الملك ويرفع قيمته وثمنه وسيعيده اليك بأبقى صورة واكملها. فيا نفسي! انفذي هذه التجارة فوراً، انها تجارة رابحة في خمسة أرباح، أي تكسبين خمسة أرباح معاً في صفقة واحدة، وتنجين من خمسة خسائر معاً.

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] فَلَمّا أفلَ قالَ لاَ أحِبُّ الآفلين[

[ لقد أبكاني نعي:] لا أحب الآفلين[ من خليل الله ابراهيم عليه السلام الذي ينعي به زوال الكائنات، فصبّت عينُ قلبي قطراتٍ باكيات من شؤون الله، كل قطرة تحمل من الحزن والكمد ما يثير الاشجان ويدفع الى البكاء والنحيب. تلك القطرات هي هذه الابيات التي وردت الى القلب بالفارسية.. وهي نمط من تفسير لكلام خليل الرحمن ونبيه الحكيم كما تضمنته الآية الكريمة: :] لا أحب الآفلين[ ].

نمى ز يباست ((افولده)) كم شدن محبوب

محبوب، يغرق في أفق المغيب! ليس بمحبوب جميل، فالمحكوم عليه بالزوال لن يكون جميلاً حقاً ولا يحبه القلب، اذ القلب الذي خلق أصلاً ليعشق خالداً، ويعكس أنوار الصمد، لا يود الزوال ولا ينبغي له.

نمى ارزد ((غروبده)) غيب شدن مطلوب

مطلوب، محكوم عليه بالأفول! ليس أهلاً أن يرتبط به القلب، ولا يشد معه الفكر؛ لأنه عاجز عن أن يكون مرجعاً للاعمال وموئلاً للآمال. فالنفس لا تذهب عليه حسرات، أتراك يعشقه القلب أو ينشده ويعبده؟.

نمى خواهم ((فناده)) محو شدن مقصود

مقصود، يُمحى في الفناء ويزول! لا أريده. أنا لا أريد فانيا، لاني الفاني المسكين، فماذا يُغني الفانون عني؟

نمى خوانم ((زوالده)) دفن شدن معبود

معبود، يدفن في الزوال! لا أدعوه، ولا أسأله، ولا التجئ اليه، اذ من كان عاجزاً لا يستطيع حتماً من ان يجد دواءً لأدوائي الجسيمة ولا يقدر على ضماد جراحاتي الابدية، فكيف يكون معبوداً من لا يقدر على انقاذ نفسه من قبضة الزوال؟

عقل فرياد مى دارد، نداءِ : ] لا أحب الآفلين[ مى زند روح

أمام هذه الكائنـات المضطربة المنسابة الى الزوال، يصـرخ ((العقـل)) المفتــون بالمظاهر يائساً من الاعماق، كلما رأى زوال معشوقاته.. وتئن ((الروح)) الساعية الى محبوب خالد أنين :] لا أحب الآفلين[ .

لا.. لا أريد الفراق.. لا.. لا اطيق الفراق.

نمي خواهم نمى خوانم نمى تابم فراقي

نمى ارزد ((مراقه)) إين زوال در بس تلاقي

وصال يعقبه الزوال مؤلم، هذه اللقاءات المكدرة بالزوال غير جديرة باللهفة، بل لا يستحق شوقاً وصال يعقبه فراق؛ لان زوال اللذة مثلما هو ألم فان تصور زوال اللذة كذلك ألم مثله، فدواوين جميع شعراء الغزل والنسيب - وهم عشاق مجازيون - وجميع قصائدهم انما هي صراخات تنطلق من آلام تنجم من تصور الزوال هذا، حتى اذا ما استعصرتَ روح ديوان أيٍ منهم فلا تراها الاّ وتقطر صراخاً أليماً ناشئاً من تصور الزوال.

أزان دردى كزين :] لا أحب الآفلين[ مى زند قلبم

فتلك اللقاءات المشوبة بالزوال، وتلك المحبوبات المجازية المورثة للألم، تعصر قلبي حتى يجهش بالبكاء قائلاً: :] لا أحب الآفلين[ على غرار سيدنا ابراهيم عليه السلام.

فان كنت طالباً للبقاء حقاً، وأنت ما زلت في الدنيا الفانية فاعلم:

درين فاني بقا خوازى بقا خيزد ((فنادن)).

ان البقاء ينبثق من الفناء، فجُد بفناء النفس الامارة لتحظى بالبقاء!

فنا شد، هم فدا كن ، هم عدم بين ، كه از دنيا ((بقايه)) راه ((فنادن))

تجرّد من كل خلق ذميم هو مبعث عبادة الدنيا. افنِهِ من نفسك، جُد بماتملكه في سبيل المحبوب الحق. أبصر عقبى الموجودات الماضية نحو العدم فالسبيل في الدنيا الى البقاء انما تمر من درب الفناء.

فكر فيزار مى دارد، أنين :] لا أحب الآفلين[ مى زند وجدان

ويظل "فكر" الانسان السارح في الاسباب المادية في حيرة وقلق أمام مشهد زوال الدنيا، فيستغيث في قنوط.

بينما ((الوجدان)) الذي ينشد وجوداً حقيقياً يتبع خطى سيدنا ابراهيم عليه السلام في أنينه: :] لا أحب الآفلين[ ويقطع أسبابه مع المحبوبات المجازية ويحل حباله مع الموجودات الزائلة،معتصماً بالمحبوب السرمدي..بالمحبوب الحقيقي.

بدان اي نفس نادانم ! كه : درهر فرد أز فاني دو راه هست با باقي ، دو سرّ جان جانانى

فيا نفسي الغافلة الجاهلة! يا سعيد اعلم! انك تستطيع وجدان سبيلين الى البقاء من كل شئ فانٍ في هذه الدنيا الفانية، حتى يمكنك أن تشاهد فيهما لمعتين وسرّين من أنوار جمال المحبوب الدائم، فيما اذا قدرت على تجاوز الصورة الفانية وخرقت حدود نفسك.

كه در نعمتها إنعام هست وبس آثارها أسما بكير مغزى، رميزن در فنا آن قشر بى معنا

نعم!! ان الإنعام يشاهَد طي النعمة، ولطف الرحمن يُستشعر في ثنايا النعمة. فان نفذت من خلال النعمة الى رؤية الإنعام فقد وجدت المنعم.

ثم ان كل أثر من آثار الأحد الصمد انما هو رسالته المكتوبة. كل منه يبين أسماء صانعه الحسنى. فان استطعت العبور من النقش الظاهر الى المعنى الباطن فقد وجدت طريقاً الى الاسماء الحسنى من خلال المسميات.

فما دام في وسعك - يا نفسي - الوصول الى مغزى هذه الموجودات الفانيات ولبّها، فاستمسكي بالمعنى، ودعي قشورها يجرفها سيل الفناء، مزقي الاستار دون حسرة عليها.

بلى اثارها كونيد: ز اسما لفظ بر معنا نجوان معنا، وميزن در هوا آن لفظ بى سودا

نعم! ليس في الموجودات من شئ الا هو لفظ مجسم يفصح عن معاني جليلة، بل يستقرىء أغلب اسماء صانعه البديع.

فما دامت هذه المخلوقات ألفاظ القدرة الإلهية وكلماتها المجسدة، فاقرأيها - يا نفسي - وتأملي في معانيها واحفظيها في أعماق القلب، وارمي بألفاظها التافهة أدراج الرياح دون أسف عليها.. ودون انشغال بها.

عقل فرياد مى دارد، غياث :] لا أحب الآفلين[ ميزن اي نفسم

والعقل المبتلى بمظاهر الدنيا ولا يملك الا معارف آفاقية خارجية، تجره سلسلة أفكاره الى حيث العدم والى غير شئ. فتراه يضطرب من حيرته ويرتعد من هول الموقف فيصرخ يائساً جزعاً، باحثاً عن مخرج من هذا المأزق ليبلغه طريقاً سوياً يوصله الى الحقيقة.

فما دامت الروح قد كفت يدها عن الآفلين الزائلين، والقلب قد ترك المحبوبات المجازية، والوجدان قد أعرض عن الفانيات.. فاستغيثي يا نفسي المسكينة بغياث ابراهيم عليه السلام:] لا أحب الآفلين[ وانقذي نفسك.

جه خوش كويد أو شيدا ((جامي)) عشق خوى:

وانظري! ما أجمل قول ((جامي))(1) ذلك الشاعر العاشق الولهان حتى لكأن فطرته قد عجنت بالحب الإلهي حينما أراد ان يولي الانظار شطر التوحيد ويصرفها عن التشتت في الكثرة... اذ قال:

يكى خواه، يكى خوان، يكى جوى، يكى بين، يكى دان، يكى كوى(2)

أقصد الواحد، فسواه ليس جديراً بالقصد.

أدع الواحد، فما عداه لا يستجيب دعاء

اطلب الواحد، فغيره ليس أهلاً للطلب

شاهد الواحد، فالآخرون لا يشاهَدون دائماً، بل يغيبون وراء ستار الزوال.

اعرف الواحد، فما لا يوصل الى معرفته لا طائل من ورائه.

اذكر الواحد، فما لا يدل عليه من أقوال وأذكار هراء لا يغني المرء شيئاً.

نعم! صدقت أي جامي:

كه ((لا اله الاّ هو)) برابر ميزند عالم

هو المطلوب، هو المحبوب، هو المقصود، هو المعبود.

فالعالم كله، أشبه بحلقة ذكر، وتهليل كبرى يردد بألسنته المتنوعة ونغماته المختلفة: (لا إله الا هو) ويشهد الكل على التوحيد، فيداوي به الجرح البالغ الغور الذي يفجره: :] لا أحب الآفلين[ وكأنه يقول: هيا الى المحبوب الدائم الباقي.. انفضوا أيديكم من كل محبوباتكم المجازية الزائلة.

((لوحتان))

[ كنت قبل خمسة وعشرين عاماً(1) على تل يوشع المطل على البسفور باستانبول، عندما قررت ترك الدنيا، أتاني أصحاب اعزاء، ليثنوني عن عزمي ويعيدونني الى حالتي الاولى، فقلت لهم: دعوني وشأني الى الغد، كي استخير ربي. وفي الصباح الباكر خطرت هاتان اللوحتان الى قلبي، وهما شبيهتان بالشعر، الاّ انهما ليستا شعراً، وقد حافظت على عفويتهما وأبقيتهما كما وردتا لأجل تلك الخاطرة الميمونة. وقد ألحقتا بختام ((الكلمة الثالثة والعشرين)).ولمناسبة المقام أدرجتا هنا ].



اللوحة الأولـى

[ وهي لوحة تصور حقيقة الدنيا لدى أهل الغفلة ]

لا تدعُني الى الدنيا، فقد جئتها ورأيت الفساد.

اذ لما صارت الغفلة حجاباً، وسترت نور الحق..

رأيت الموجودات كلها، فانية مضرة

ان قلتَ: الوجود! فقد لبسته، ولكن كم عانيت من البلاء في العدم .

وان قلتَ: الحياة! فقد ذقتها، ولكن كم قاسيت العذاب.

اذ صار العقل عقاباً، والبقاء بلاءً

والعمر عين الهواء، والكمال عين الهباء.

والعمل عين الرياء، والأمل عين الألم.

والوصال عين الزوال، والدواء عين الداء.

والأنوار ظلمات، والأحبابُ أيتاماً.

والاصوات نعيات، والأحياء أموات.

وانقلبت العلوم أوهاماً، وفي الحِكَم ألف سقم.

وتحولت اللذائذ آلاماً، وفي الوجود ألفِ عدم.

وان قلتَ: الحبيب! فقد وجدته، آه! كم في الفراق من ألم.

اللوحة الثانية

[ وهي لوحة تشير الى حقيقة الدنيا لدى أهل الهداية ]

لما زالت الغفلة، أبصرت نور الحق عياناً.

واذا الوجود برهان ذاته، والحياة مرآة الحق..

واذا العقل مفتاح الكنز، والفناء باب البقاء.

وانطفأت لمعة الكمال، واشرقت شمس الجمال..

فصار الزوال عين الوصال، والألم عين اللذة.

والعمر هو العمل نفسه، والأبد عين العمر.

والظلامُ غلاف الضياء، وفي الموت حياة حقة..

وشاهدت الأشياء مؤنسة، والأصوات ذكراً..

فالموجودات كلها ذاكرات مسبحات.

ولقد وجدت الفقر كنز الغنى وابصرت القوة في العجز.

إن وجدت الله فالاشياء كلها لك.

نعم ان كنت عبداً لمالك الملك، فملكه لك..

وان كنت عبداً لنفسك معجباً بها، فابصر بلاءً وعبئاً بلا عدٍّ، وذقها عذاباً بلا حد.

وان كنت عبداً لله حقاً مؤمناً به، فابصر صفاءً بلا حدٍ، وذق ثواباً بلا عد، ونِل سعادة بلا حدٍ.

مناجاة

[ لقد قرأت قصيدة الاسماء الحسنى للشيخ الكيلاني (قُدس سره) بعد عصر يوم من أيام شهر رمضان المبارك، وذلك قبل خمس وعشرين سنة، فوددت ان اكتب مناجاة بالاسماء الحسنى، فكُتب هذا القدر في حينه، إذ انني اردت كتابة نظيرة لمناجاة استاذي الجليل السامي، ولكن هيهات، فاني لا املك موهبة في النظم. لذا عجزت، وظلت المناجاة مبتورة.

وقد ألحقت هذه المناجاة برسالة ((النوافذ)) وهي المكتوب الثالث والثلاثون ولكن لمناسبة المقام اُخذت الى هنا ].

هو الباقي

حكيمُ القضايا نحـن في قَبْض حُكمه هو الحَكَمُ العـدلُ له الارضُ والســـماءُ

عليمُ الخـفايـا والغيوبُ فـي مُلكـه هو القادرُ القـيـومُ له الـعـــرش والـثراء

لطيفُ المزايا والنقـــوش في صُنعــه هو الفـاطرُ الـودودُ له الحـُــسن والبهاءُ

جليـلُ المرايا والشـؤون في خلقـــه هو الملكُ القـدوسُ له العز والكبريــــاء

بديـع البرايا نحـن من نقش صـُنعـه هو الـدائـمُ الباقي لـــه المـلك والـبـقاءُ

كريمُ العطايا نحن مِن ركبِ ضيفه هو الـرزاقُ الكـافي له الحـمـد والثنـــاء

جميل الهدايا نحن من نسـج علـمـه هو الخالـقُ الـوافـي له الجــودُ والـعـطاء

سميـعُ الشكايـا والدعــاءِ لخـَلــْقِه هو الراحمُ الشـافي له الشـكر والثنــــاء

غـفور الخـطايــا والذنـوبِ لعبده هو الغفّـار الرحـيمُ له الـعـفوُ والـرضـاء

ويا نفسي! استغيثي وابكي مثل قلبي وقولي:

انا فانٍ مَن كان فانيا لا اريد

انا عاجز من كان عاجزاً لا اريد

سلّمت روحي للرحمن، سواه لا اريد

بل اريد .. حبيباً باقياً اريد

انا ذرة.. شمساً سرمداً اريد

انا لا شئ، ومن غير شئ، الموجودات كلَّها اريد.



ثمرة تأمل

في مراعي بارلا، واشجار الصنوبر والقَطِران، والعرعر والحَور الأسود.

[ وهي قطعة من المكتوب الحادي عشر. اخذت هنا لمناسبة المقام ].

بينما كنت على قمة جبل في (بارلا) ايام منفاي، أسرح النظر في اشجار الصنوبر والقَطِران والعَرعرَ، التي تغطي الجهات. وأتأمل في هيبة أوضاعها وروعة اشكالها وصورها. اذ هَبّ نسيم رقيق حوّل ذلك الوضع المهيب الرائع الى أوضاع تسبيحات وذكر جذابة واهتزازات نشوة شوق وتهليل. واذا بذلك المشهد البهيج السار يتقطر عبراً أمام النظر، وينفث الحكمة في السمع. وفجأة خطرت ببالي الفقرة الآتية بالكردية لـ (أحمد الجزري)(1).

هر كس بتماشا كه حسناته زهر جاى تشبيه نكاران بجمالا ته دنازن

أي لقد أتى الجميع مسرعين من كل صوب لمشاهدة حسنك، انهم بجمالك يتغنجون ويدللون.

وتعبيراً عن معاني العبرة، بكى قلبي على هذه الصورة:

يا رب! هر حى بتماشاكه صنع تو زهر جاى بتازى

يارب! ان كل حي، يتطلع من كل مكان، فينظرون معاً الى حسنك، ويتأملون في روائع الأرض التي هي معرض صنعك.

زنشيب از فرازى مانند دلالان بنداء بآوازى

فهم كالدعاة الادلاء، ينادون من كل مكان، من الأرض، ومن السماوات العلى الى جمالك.

دم دم ز جمال نقش تو در رقص بازى

فترقص تلك الاشجار، الادلاّء الدعاة، جذلة من بهجة جمال نقوشك في الوجود.

ز كمال صنع تو خوش خوش بكازى

فتصدر أنغاماً شديَّة واصداءً ندية من نشوة رؤيتهم لكمال صنعتك..

ز شيرينى آواز خود هى هى دنازى

فكأن حلاوة أصدائها، تزيد نشوتها وتهزّها طرباً، فتتغنج بحركات الدلال.

أز وى رقص آمد جذبه خوازى

ولأجل هذا هبّت هذه الاشجار للرقص الجميل، راغبة في الانتشاء والانجذاب.

أزين آثار رحمت يافت هر حى درس تسبيح نمازى

يستلهم كل حي صلاته الخاصة وتسبيحاته المخصوصة من اثار هذه الرحمة الإلهية.

ايستاده هر يكى بر سنك بالا سرفرازى

وبعد التزود بالدرس البليغ، تنتصب كل شجرة قائمة فوق صخرة شماء، فاتحة أيديها متطلعة الى العرش.

دراز كرده است دستهارا بدركاه إلهى همجو شهبازى

لقد تسربلت كل شجرة بسربال العبودية، ومدّت مئات أيديها ضارعة امام عتبة الحضرة الإلهية، كأنها (شهباز قلندر)(1)

به جنبيد است زلفهارا به شوق انكيز شهنازى

وتهز أغصانها الرقيقة كأنها الضفائر الفاتنة لـ (شهناز الجميلة)(2) مثيرة في المشاهد أشواقاً لطيفة وأذواقاً سامية.

به بالا ميزنند أز برده هاى ((هاى هوى)) عشق بازى (1)

لكأن هذا الجمال يهزّ طبقات العشق، بل يمسّ أعمق الأوتار وأشدها حساسية.

ميدهد (هوشه) كيرينهاى درينهاى زوالى أز حب مجازى

امام هذا المنظر المعبّر يرد الفكر هذا المعنى:

يذكّره بأنين حزين، وبكاء مرير، ينبعثان من أعمق الأعماق. المكلوم بألم الزوال الذي يصيب الأحبة المجازية.

بر سر محمودها نغمهاى حزن انكيز أيازى

انه يُسمع انغام الفراق والالم الشجية على رؤوس اشهاد العاشقين المفارقين عن أحبتهم، كما فارق السلطان محمود محبوبه.

مردهارا نغمهاى أزلِى أز حزن انكيز نوازى

وكأن هذه الاشجار بنغماتها الرقيقة الحزينة، تؤدي مهمة إسماع اصداء الخلود لأولئك الأموات الذين انقطعوا عن محاورات الدنيا واصدائها.

((روحه)) مى آيد أزو زمزمهء ناز ونيازى

اما الروح فقد تعلمت من هذه المشاهد:

ان الأشياء تتوجه الى تجليات اسماء الصانع الجليل بالتسبيح والتهليل فهي أصوات وأصداء تضرعاتها وتوسلاتها.

قلب مي خواند أزين آياتها: سر توحيد ز علو نظم اعجازى

اما القلب فانه يقرأ من النظم الرفيع لهذا الاعجاز، سر التوحيد في هذه الاشجار كأنها آيات مجسمات.

أي ان في خلق كل منها من خوارق النظام وابداع الصنعة واعجاز الحكمة، ما لو اتحدت أسباب الكون كلها، وأصبحت فاعلة مختارة، لعجزت عن تقليدها.

نفس ميخواهد درين ولوله ها! زلزله ها: ذوق باقى در فناى دنيابازى

اما النفس؛ فكلما شاهدت هذا الوضع للاشجار، رأت كأن الوجود يتدحرج في دوّامات الزوال والفراق. فتحرّت عن ذوقٍ باقٍ، فتلقت هذا المعنى: ((انك ستجدين البقاء بترك عبادة الدنيا)).

عقل مي بيند ازين زمزمه ها دمدمه ها: نظم خلقت نقش حكمت كنز رازى

اما العقل فقد وجد انتظام الخلقة، ونقش الحكمة وخزائن أسرار عظيمة في هذه الأصوات اللطيفة المنبعثة من الاشجار والحيوانات معاً، ومن انداء الشجيرات والنسائم. وسيفهم ان كل شئ يسبّح للصانع الجليل بجهات شتى.

آرزو ميدارد هوا ازين همهمه ها هوهوها مرك خود در ترك اذواق مجازى

اما هوى النفس، فانه يلتذ ويستمتع من حفيف الاشجار وهبوب النسيم ذوقاً لطيفاً ينسيها الأذواق المجازية كلها، حتى انه يريد ان يموت ويفنى في ذلك الذوق الحقيقي، واللذة الحقيقية بتركه الأذواق المجازية، التي هي جوهر حياته.

خيال بيند ازين اشجار: ملائك را جسد آمد سماوى باهزاران نى

اما الخيال فانه يرى كأن الملائكة الموكلين بهذه الاشجار قد دخلوا جذوعها ولبسوا أغصانها المالكة لقصيبات الناي بانواع كثيرة. وكأن السلطان السرمدي قد ألبسهم هذه الأجساد في استعراض مهيب مع آلاف انغام الناي، كي تُظهِر تلك الاشجار أوضاع الشكر والامتنان له بشعور تام، لا أجساداً ميتة فاقدة للشعور.

ازين نيها شنيدت هوش ستايشهاى ذات حى

فتلك النايات مؤثرة الانغام صافيتها، اذ تخرج أصواتاً لطيفة كأنها منبعثة من موسيقى سماوية علوية، فلا يسمع الفكر منها شكاوى آلام الفراق والزوال، كما يسمعها كل العشاق وفي مقدمتهم (مولانا جلال الدين الرومي) بل يسمع أنواع الشكر للمنعم الرحمن، وأنواع الحمد تقدم الى الحي القيوم.

ورقهارا زبان دارند همه ((هو هو)) ذكردارند به در معناي: حى حى

وإذ صارت الاشجار أجساداً. فقد صارت الأوراق كذلك ألسنة. كل منها تردد بآلاف الالسنة ذكر الله بـ ((هو.. هو..)) بمجرد مسّ الهواء لها. وتعلن بتحيات حياته الى صانعه الحي القيوم

جو ((لاَ اله الا هو)) برابر مى زند هرشى

لاَن جميع الأشياء تقول: ((لا اِله الا هو)) وتعمل ضمن حلقة ذكر الكائنات العظمى.

دمادم جويدند ((يا حق)) سراسر كويدند: ((يا حي)) برابر ميزنند: ((الله))

فتسأل كل حين من خزينة الرحمة الإلهية، بلسان الاستعداد والفطرة، وتطلب حقوق حياتها، بترديدها: ((يا حق)).

وتذكر جميعاً اسم ((يا حي)) بلسان نيلها لمظاهر الحياة.

فيا حي يا قيوم بحق اسم حى قيوم

حياتى ده به إين قلب بريشان را استقامت ده به إين عقل مشوش را...

آمين

رسالة تستنطق النجوم

كنت يوماً على ذروة قمة من قمم جبل ((جام)) نظرت الى وجه السماء في سكون الليل، واذا بالفقرات الآتية تخطر ببالي، فكأنني استمعت خيالاً الى ما تنطق به النجوم بلسان الحال.. كتبتها كما خطرت دون تنسيق على قواعد النظم والشعر لعدم معرفتي بها.

وقد اُخذت الى هنا من المكتوب الرابع، ومن ختام الموقف الاول من الكلمة الثانية والثلاثين.

واستمع الى النجوم ايضاً، الى حلو خطابها الطيب اللذيذ.

لترى ما قرّره ختم الحكمة النيّر على الوجود.

P P P

انها جميعاً تهتف وتقول معاً بلسان الحق:

نحن براهين ساطعة على هيبة القدير ذي الجلال

P P P

نحن شواهد صدق على وجود الصانع الجليل وعلى وحدانيته وقدرته.

نتفرج كالملائكة على تلك المعجزات اللطيفة التي جمّلت وجه الارض.

P P P

فنحن الوف العيون الباصرة تطل من السماء الى الارض وترنو الى الجنة(1).

نحن الوف الثمرات الجميلة لشجرة الخلقة، علّقتنا يدُ حكمة الجميل ذي الجلال على شطر السماء وعلى اغصان درب التبانة.

P P P

فنحن لأهل السموات مساجدٌ سيارة ومساكنٌ دوّارة وأوكار سامية عالية ومصابيح نوّارة وسفائن جبارة وطائرات هائلة!

P P P

نحن معجزات قدرة قدير ذي كمال وخوارق صنعة حكيم ذي جلال. ونوادر حكمة ودواهي خلقة وعوالم نور.

P P P

هكذا نبيّن مائة الف برهان وبرهان، بمائة الف لسان ولسان، ونُسمعها الى مَن هو انسان حقاً.

عميت عين الملحد لا يرى وجوهنا النيّرة، ولا يسمع اقوالنا البيّنة.. فنحن آيات ناطقة بالحق.

P P P

سكتنا واحدة، طُرتنا واحدة، مسبّحات نحن عابدات لربنا، مسخّرات تحت امره.

نذكره تعالى ونحن مجذوبات بحبّه، منسوبات الى حلقة ذكر درب التبانة.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس