الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #29
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الثانية والعشرون

[ هذه الكلمة عبارة عن مقامين ]

المقام الاول

بسم الله الرحمن الرحيم

] وَيـَضْرِبُ الله الاَمْثَالَ لِلْنّاسِ لَعَلَهُمْ يَتَذَكَّروُنَ[ (ابراهيم: 25)

] وَتِلْكَ الاَمْثَالُ نـَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَهُمْ يَتَفَكَّرونَ[ (الحشر:21)

استحم شخصان ذات يوم في حوض كبير، فغشيهما ما لا طاقة لهما به ففقدا وَعيَهما. وما ان أفاقا حتى وجَدا أنهما قد جئ بهما الى عالمٍ غير عالَمهما، الى عالم عجيب، وعجيب فيه كل شئ. فهو من فرط انتظامه الدقيق كأنه مملكة منسّقة الاطراف، ومن روعة جماله بمثابة مدينةٍ عامرة، ومن شدة تناسق اركانه بحكم قصر بديع. وبدأا ينظران بلهفةٍ فيما حولهما وقد امتلأا حَيرة واعجاباً بما رأيا أمامهما من عالم عظيم حقاً، اذ لو نُظر الى جانبٍ منه لشوهدت مملكةٌ منتظمة، واذا ما نُظر اليه من جانب آخر لتراءت مدينةٌ كاملة الجوانب، بينما اذا نُظر اليه من جانب آخر فاذا هو بقصر عظيم شاهق يضم عالَماً مهيباً.. وطفقا يتجولان معاً في أرجاء هذا العالم العجيب فوقع نظرهما على مخلوقات يتكلمون بكلام معين لا يفقهانه، الاّ أنهما أدركا من إشاراتهم وتلويحاتهم أنهم يؤدون أعمالاً عظيمة وينهضون بواجبات جليلة.

قال أحدهما للآخر:

- لاشك ان لهذا العالم العجيب مدبّراً يدبّر شؤونَه، ولهذه المملكة البديعة مالكاً يرعاها، ولهذه المدينة الرائعة سيداً يتولى أمورها، ولهذا القصر المنيف صانعاً بديعاً قد أبدعه، فأرى لزاماً علينا أن نسعى لمعرفته، اِذ يبـدو أنه هـو الذي قــد أتـى بنا الى هاهنا، وليس أحد غيره. فلو لم نعرفه فمن ذا غيرهُ يُسعفنا ويُغيثنا ويقضي حوائجنا ونحن في هذا العالم الغريب؟ فهل ترى بصيصَ أملٍ نرجوه من هؤلاء العاجزين الضعفاء ونحن لا نفقه لسانهم ولا هم يصغون الى كلامنا؟. ثم ان الذي جعل هذا العالم العظيم على صورة مملكة منسقة وعلى هيئة مدينة رائعة وعلى شكل قصر بديع، وجعله كنزاً لخوارق الأشياء، وجمّله بأفضل زينة وأروع حُسن، ورصّع نواحيه كلها بمعجزات معبّرة حكيمة.. أقول أن صانعاً له كل هذه العظمة والهيبة وقد أتى بنا - وبمَن حولنا - الى هاهنا، لاشك أن له شأناً في هذا. فوَجَب قبل كل شئ أن نعرفه معرفة جيدة وأن نعلم منه ما يريد منا وماذا يطلب؟.

قال له صاحبه:

- دع عنك هذا الكلام. فانا لا أصدّق أن واحداً احداً يدير هذا العالم الغريب!

فأجابه:

- مهلاً يا صاحبي! هلاّ أعرتني سمعَك! فنحن لو أهملنا معرفته فلا نكسب شيئاً قط، واِن كان في اهمالنا ضررٌ فضرره جدُّ بليغ. بينما اذا سعَينا الى معرفته فليس في سعينا هذا مشقة ولا نلقى من ورائه خسارة، بل منافع جليلة وعظيمة. فلا يليق بنا اذن ان نبقى مُعرِضين هكذا عن معرفته.

ولكن صاحبه الغافل قال:

- أنا لست معك في كلامك هذا. فأنا أجد راحتي ونشوتي في عدم صرف الفكر الى مثل هذه الأمور، وفي عدم معرفة ما تدّعيه عن هذا الصانع البديع. فلا أرى داعياً ان أجهد نفسي فيما لا يسعه عقلي. بل أرى هذه الأفعال جميعها ليست الاّ مصادفات وأموراً متداخلة متشابكة تجري وتعمل بنفسها؟ فما لي وهذه الأمور؟..

فردّ عليه العاقل:

- أخشى أن يلقي بنا عنادُك هذا وبالآخرين الى مصائب وبلايا. ألم تُهدَم مدنٌ عامرةٌ من جـراء سفاهة شقيِّ وأفعالِ فاسق؟

ومرة اخرى اِنبرى له الغافل قائلاً:

- لنحسم الموضوع نهائياً فإما أن تثبت لي اثباتاً قاطعاً لا يقبل الشك بأن لهذه المملكة الضخمة مالكاً واحداً وصانعاً واحداً احداً، أو تَدَعني وشأني.



أجابه صديقه:

- ما دمتَ يا صاحبي تصرّ على عنادك الى حد الجنون والهذيان مما يسوقنا والمملكة بكاملها الى الدمار! فسأضع بين يديك أثني عشر برهاناً أثبت بها أن لهذا العالم الرائع روعةَ القصر، ولهذه المملكة المنتظمة اِنتظام المدينة، صانعاً بديعاً واحداً احداً هو الذي يدبّر الأمور كلَّها. فلا ترى من فطورٍ في شئ، ولا ترى من نقصٍ في أمر. فذلك الصانع الذي لا نراه يبصُرنا ويبصر كلّ شئ، ويسمع كلام كل شئ، فكلُّ أفعاله معجزات وآيات وخوارق وروائع. وما هذه المخلوقات التي لا نفهم ألسنتهم اِلاّ مأمورون وموظفون في مملكته.

C البرهان الاول

تعال معي يا صاحبي لنتأمل ما حولنا من أشياء وأمور. ألا ترى ان يداً خفية تعمل من وراء الأمور جميعها؟ أوَ لا ترى ان ما لا قوة له أصلاً ولا يقوى على حمل نفسه(1) يحمل آلاف الأرطال من الحمل الثقيل؟ أوَ لا تشاهد أن ما لا اِدراك له ولا شعور يقوم بأعمالٍ في غاية الحكمة؟(2)… فهذه الأشياء اذن لا تعمل مستقلة بنفسها، بل لابد ان مولى عليماً، وصانعاً قديراً يديرها من وراء الحجب. اذ لو كانت مستقلةً بذاتها، وأمرُها بيدها، للزم أن يكون كلُّ شئ هنا صاحبَ معجزة خارقة. وما هذه الا سفسطة لا معنى لها!

C البرهان الثاني

تعال معي يا صاحبي لنُمعِن النظر في هذه الاشياء التي تزيّن الميادين والساحات، ففي كل زينة منها أمور تخبرنا عن ذلك المالك وتدلنا عليه. كأنها سكّتُه وختمهُ. كما تدلنا طغـراء السـلـطـان وختـمـه على وجـوده، وتنبـئنا سـكّته التي علـى مســكوكاته عن عظمته وهيبته. فان شئت فانظر الى هذا الجسـم الصغير جداً الذي لا يكاد الانسان يعرف له وزناً(3)، قد صنع منه المولى اطوالاً من نسيج ملون بالوان زاهية ومزركش بزخارف باهرة، ويُخرج منه ما هو ألذّ من الحلويات والمعجنات المعسلة، فلو لبس آلافٌ من أمثالنا تلك المنسوجات وأكل من تلك المأكولات لما نفدت.

ثم أنظر، انه يأخذ بيده الغيبية هذا الحديد والتراب والماء والفحم والنحاس والفضة والذهب ويصنع منها جميعاً قطعة لحم(1).

فيا أيها الغافل.. هذه الأشياء والافعال انما تخصّ بمن زمام هذه المملكة بيده، ومَن لا يعزُب عنه شئ، وكل شئ منقاد لإرادته.

C البرهان الثالث

تعال لننظر الى مصنوعاته العجيبة المتحركة(2). فقد صُنع كلّ منها كأنه نسخةٌ مصغرةٌ من هذا القصر العظيم، اذ يوجد فيه ما في القصر كله. فهل يمكن ان يُدرج أحدٌ هذا القصر مصغّراً في ماكنةٍ دقيقة غير صانعه البديع؟ أو هل يمكن أن ترى عبثاً أو مصادفة في عالَمٍ ضُمَّ داخل ماكنة صغيرة؟

أي أن كل ما تشاهده من مكائن انما هي بمثابة آية تدل على ذلك الصانع البديع، بل كل ماكنة دليلٌ عليه، واعلان يفصح عن عظمته، ويقول بلسان الحال:

((نحن من اِبداع مَن أبدع هذا العالَم بسهولة مطلقة كما أوجدَنا بسهولة مطلقة)).

C البرهان الرابع

أيها الأخ العنيد! تعال اُرِكَ شيئاً اكثر اثارة للاعجاب! انظر، فها قد تبدّلت الأمور في هذه المملكة، وتغيّرت جميع الاشياء، وها نحن أولاء نرى باعيننا هذا التبدل والتغير، فلا ثبات لشئ مما نراه بل الكل يتغيرويتجدد.

أنظر الى هذه الأجسام الجامدة المشاهَدة التي لا نرى فيها شعوراً، كأن كلاً منها قد اتخذ صورةَ حاكمٍ مطلق والآخرون محكومون تحت سيطرته، وكأن كلاً منها يسيطر على الأشياء كلها. انظر الى هذه الماكنة التي بقربنا(3). كأنها تأمر فيهرع اليها من بعيد ما تحتاجه من لوازم لزينتها وعملها، وانظر الى ذلك الجسم الذي لا شعور له(1)، كأنه يسخـِّر باشارةٍ خفيّة منه أضخَم جسمٍ وأكبره في شؤونه الخاصة ويجعله طوع اشارته.. وقس الأمور الأخرى على هذين المثالين.

فان لم تفوَّض امر إدارة المملكة الى ذلك المالك الذي لا نراه، فعليك اذن أن تحيل الى كل مصنوعٍ ما للبديع من إتقان وكمالات، حتى لو كان حجراً أو تراباً أو حيواناً أو اِنساناً أو أي مخلوق من المخلوقات.

فاذا ما استبعد عقلُك ان بديعاً واحداًً احداً هو المالك لهذه المملكة وهو الذي يديرها، فما عليك الاّ قبول ملايين الملايين من الصانعين المبدعين، بل بعدد الموجودات! كل منها نِدُّ للآخر ومثيله وبديلُه ومتدخل في شؤونه! مع أن النظام المتقن البديع يقتضي عدم التدخل، فلو كان هناك تدخل مهما كان طفيفاً ومن أي شئ كان، وفي أي أمر من امور هذه المملكة الهائلة، لظهر أثره واضحاً، اذ تختلط الأمور وتتشابك اِن كان هناك سيدان في قرية أو محافظان في مدينة أو سلطانان في مملكة. فكيف بحكامٍ لا يعدّون ولا يحصون في مملكة منسقة بديعة؟!

C البرهان الخامس

أيها الصديق المرتاب! تعال لندقق في نقوش هذا القصر العظيم، ولنمعن النظر في تزيينات هذه المدينة العامرة، ولنشاهد النظام البديع لهذه المملكة الواسعة، ولنتأمل الصنعة المتقنة لهذا العالم. فها نحن نرى انه إن لم تكن هذه النقوش كتابةَ قلمِ المالك البديع الذي لا حدّ لمعجزاته وإبداعه، واُسندت كتابتُها ونقشُها الى الأسباب التي لا شعورَ لها، والى المصادفة العمياء، والى الطبيعة الصماء، للزم اذن ان يكون في كل من أحجار هذه المملكة وعشبها مصّورٌ معجِزٌ وكاتبٌ بـديعٌ يستـطيع أن يكتـب ألـوف الكـتـب في حـرف واحـد، ويمكنه أن يُدرِج مـلايـين الاعمـال المتقـنة البديعة في نقشٍ واحد!! لأنك ترى أن هذا النقش الذي أمامك في هذه اللبنة(2) يضم نقوش جميع القصر، وينطوي على جميع قوانين المدينة وانظمتها، ويتضمن خطط أعمالها. أي ان ايجاد هذه النقوش الرائعة معجزةٌ عظيمةٌ كايجاد المملكة نفسها، فكل صنعة بديعة ليست إلاّ لوحةُ اعلانٍ تُفصح عن أوصاف ذلك الصانع البديع، وكل نقش جميل هو ختمٌ واضحٌ من أختامه الدالة عليه.

فكما انه لا يمكن لحرفٍ الاّ أن يدل على كاتبه، ولا يمكن لنقشٍ الاّ أن ينبئ عن نقاشه، فكيف يمكن اذن الاّ يدل حرفٌ كُتب فيه كتاب عظيم على كاتبه، ونقشٌ نُقشَت ألوف النقوش على نقّاشه؟ ألا تكون دلالتُه أظهرَ وأوضحَ من دلالته على نفسه؟

C البرهان السادس

تعال يا صديقي لنذهب الى نزهة نتجول في هذه الفلاة الواسعة(1) المفروشة امامنا.. ها هو ذا جبلٌ أشمُّ، تعال لنصعد عليه حتى نتمكن من مشاهدة جميع الأطراف بسهولة، ولنحمل معنا نظارات مكبّرة تقرب لنا ما هو بعيد عن أنظارنا. فهذه المملكة فيها من الأمور العجيبة والحوادث الغريبة ما لا يخطر على بال أحد. أنظر الى تلك الجبال والسهول المنبسطة والمدن العامرة، انه أمر عجيب حقاً إذ يتبدل جميعُها دفعة واحدة، بل ان ملايين الملايين من الأفعال المتشابكة تتبدل تبدلاً بكل نظام وبكل تناسق، فكأن ملايين الاطوال من منسوجات ملونةرائعة تنسج امامنا في آن واحد.. حقاً ان هذه التحولات عجيبة جداً. فاين تلك الأزاهير التي ابتسمت لنا والتي اَنِسنا بها؟.. لقد غابت عنا، وحلّت محلها أنواعٌ مخالفة لها صورةً، مماثلة ماهية. وكأن هذه السهول المنبسطة وهذه الجبال المنصوبة صحائف كتاب يُكتب في كل منها كتبٌ مختلفة في غاية الاتقان دون سهو أو خطأ ثم تُمسح تلك الكتب ويُكتب غيرُها.. فهل ترى يا صديقي ان تبدّل هذه الأحوال وتحوّل هذه الأوضاع الذي يتم بكل نظام وميزان يحدث من تلقاء نفسه؟. أليس ذلك محالاً من أشد المحالات؟

فلا يمكن إحالة هذه الاشياء التي أمامنا وهي في غاية الاتقان والصنعة الى نفسها قط، فذلك محال في محال. بل هي أدلة واضحة على صانعها البديع أوضحَ من دلالتها على نفسها، اذ تبيّن أن صانعَها البديع لا يعجزه شئ، ولا يؤوده شئ، فكتابةُ ألف كتاب أمرٌ يسير لديه ككتابة حرف واحد. ثم تأمل يا أخي في الأرجاء كافة ترى ان الصانع الاعظم قد وضع بحكمةٍ تامة كلّ شئ في موضعه اللائق به. وأسبغ على كل شئ نِعَمه وكرمه بلطفه وفضله العميم. وكما يفتح أبواب نعمه وآلائه العميمة أمامَ كل شئ، يسعف رغبات كل شئ ويرسل اليه ما يطمئنه.

وفي الوقت نفسه ينصب موائد فاخرة عامرة بالسخاء والعطاء بل ينعم على مخلوقات هذه المملكة كافة من حيوان ونبات نِعَماً لا حدّ لها، بل يرسل الى كل فرد باسمه ورسمه نعمتَه التي تلائمه دون خطأ أو نسيان. فهل هناك محال أعظم من أن تظن ان في هذه الأمور شيئاً من المصادفة مهما كان ضئيلاً؟ أو فيه شيئاً من العبث وعدم الجدوى؟ أو أن احداً غير الصانع البديع قد تدخل في أمور المملكة؟ أو أن يُتصوَّر أن لا يدين له كل شئ في ملكه؟.. فهل تقدر يا صديقي أن تجد مبرراً لأنكار ما تراه؟..

C البرهان السابع

لنَدَع الجزئيات يا صاحبي، ولنتأمل في هذا العالم العجيب، ولنشاهد أوضاع اجزائه المتقابلة بعضها مع البعض الآخر.. ففي هذا العالم البديع من النظام الشامل والانتظام الكامل كأن كل شئ فاعل مختار حي يشرف على نظام المملكة كلها، ويتحرك منسجماً مع ذلك النظام العام. حتى ترى الأشياء المتباعدة جداً يسعى الواحد منها نحو الآخر للتعاون والتآزر.

أنظر! ان قافلة مهيبة تنطلق من الغيب(1) مُقبلةً علينا. فهي قافلة تحمل صحون ارزاق الاحياء.. ثم أنظر الى ذلك المصباح الوضئ(2) المعلق في قبة المملكة فهي تنير الجميع وتُنضج المأكولات المعلقة بخيط دقيق(3) والمعروضة أمامه بيدٍ غيبية. الا تلتفت معي الى هذه الحيوانات النحيفة الضعيفة العاجزة كيف يسيل الى أفواهها

غذاءٌ لطيف خالص يتدفق من مضخات(4) متدلية فوق رؤوسها، وحسبها ان تلصق أفواهها بها!

نخلص من هذا: انه ما من شئ في هذا العالم الاّ وكأنه يتطلع الى الآخر فيغيثه، أو يرى الآخر فيشد من ازره ويعاونه.. فيكمل الواحد عمل الآخر ويكون ظهيره وسنده، ويتوجه الجميع جنباً الى جنب في طريق الحياة.. وقس على ذلك فهذه الظواهر جميعها تدلنا دلالة قاطعة وبيقين جازم إلى انه ما من شئ في هذا القصر العجيب الاّ وهو مسخر لمالكه القدير ولصانعه البديع ويعمل باسمه وفي سبيله، بل كل شئ بمثابة جندي مطيع متأهب لتلقي الأوامر. فكل شئ يؤدي ما كلّف به من واجب بقوة مالكه وحوله، فيتحرك بأمره، وينتظم بحكمته، ويتعاون بكرمه وفضله، ويغيث الآخرين برحمته. فان كنتَ تستطيع يا أخي ابداء شئ من الاعتراض والشك أمام هذا البرهان فهاته.

C البرهان الثامن

تعال يا صاحبي المتعاقل ويا مثيل نفسي الأمّارة بالسوء التي تعدّ نفسها رشيدة وتُحسن الظن بنفسها.. أراك يا صاحبي ترغب عن معرفة صاحب هذا القصر البديع، مع أن كل شئ يدل عليه، وكل شئ يشير اليه، وكل شئ يشهد بوجوده. فكيف تجرأ على تكذيب هذه الشهادات كلها؟. اذن عليك أن تنكر وجود القصر نفسه، بل عليك أن تعلن انه لا قصر ولا مملكة ولا شئ في الوجود. بل تنكر نفسَك وتعدّها معدومةً لا وجود لها.!.. أو عليك ان تعود الى رُشدك وتصغي اليّ جيداً، فها أنا أضع بين يديك هذا المنظر:

تأمل في هذه العناصر والمعادن(1) التي تعم هذه المملكة والتي توجد في كل أرجاء هذا القصر. ومعلوم انه ما من شئ ينتج في هذه المملكة الاّ من تلك المواد. فَمن كان مالكاً لتلك المواد والعناصر فهو اذن مالك لكل ما يُصنع وينتج فيها. اذ مَن كان مالكاً للمزرعة فهو مالك المحاصيل، ومَن كان مالكاً للبحر فهو مالك لما فيه.

ثم أنظر يا صاحبي الى هذه المنسوجات والاقمشة الملونة المزدانة بالأزهار. انها تُصنع من مادة واحدة. فالذي هيأ تلك المادة وغَزَلها لابد أنه واحد، لأن تلك الصنعة لا تقبل الاشتراك، فالمنسوجات المتقنة تخصّه هو. ثم التفت الى هذا: ان اجناس هذه المنسوجات موجودة في كل جزء من أجزاء هذا العالم العجيب وقد انتشرت انتشاراً واسع النطاق حتى انها تُنسَج معاً وبتداخل في آن واحد وبنمط واحد في كل مكان. أي أنه فعلُ فاعلٍ واحد، فالجميع يتحرك بأمرٍ واحد. والاّ فمحال أن يكون هناك انسجامٌ تام وتوافق واضح في العمل وفي آن واحد وبنمط واحد وبنوعية واحدة وهيأة واحدة في جميع الانحاء، لذا فان كل ما هو متقن الصنع يدل دلالة واضحة على ذلك الفاعل الذي لا نراه، بل كأنه يعلن عنه صراحةً، بل كأن كل نسيج مغرز بالزهور، وكل ماكنة بديعة، وكل مأكول لذيذ، انما هو علامة الصانع المعجز وخاتمه وآيته وطغراؤه فكل منه يقول بلسان الحال: ((مَن كنتُ انا مصنوعُه، فموضعي الذي أنا فيه مُلكُه)). وكل نقش يقول: ((مَن قام بنسجي ونقشي فالطَول الذي أنا فيه هو منسوجُه)). وكل لقمة لذيذة تقول: ((مَن يصنعني ويُنضجني فالقِدر الذي أطبخُ فيه مُلكُه)). وكل ماكنة تقول: ((مَن قام بصنعي فكل ما في العالم من امثالي مصنوعه وهو مالكه. اي من كان مالكاً للمملكة والقصر كله فهو الذي يمكـنه ان يملّكنا)). وذلك بمثـل مَن اراد أن يدّعي تملّك أزرار البزة العسكرية ووضع شعار الدولة عليها لابد أن يكون مالكاً لمصانعها كلها حتى يكون مالكاً حقيقياً، والا فليس له إلاّ الادعاء الكاذب، بل يعاقب على عمله ويؤاخذ على كلامه.

الخلاصة: كما ان عناصر هذه المملكة موادٌ منتشرةٌ في جميع ارجائها فمالكُها اذن واحدٌ يملك ما في المملكة كلها، كذلك المصنوعات المنتشرة في أرجاء المملكة لأنها متشابهةٌ تُظهِر علامة واحدة وناموساً واحداً، فجميعها اذن تدل على ذلك الواحد المهيمن على كل شئ.

فيا صديقي! ان علامة الوحدة ظاهرة في هذا العالم، وآية التوحيد واضحة بيّنة، ذلك لأن قسماً من الأشياء رغم انه واحد فهو موجود في العالم كله، وقسمٌ آخر رغم تعدد اشكاله فانه يُظهِر وحدةً نوعيةً مع أقرانه لتشابهه وانتشاره في الأرجاء، وحيث أن الوحدة تدل على الواحد كما هو معلوم لذا يلزم أن يكون صانع هذه الاشياء ومالــكهـا واحداً أحداً. زد على هـذا فانـك ترى انها تُقدَّم إلينـا هـدايــا ثمـينـة من وراء ستار الغيب، فتتدلى منه خيوط وحبال(1) تحمل ما هو اثمن من الماس والزمرد من الآلاء والاحسان.

اذن فقدّر بنفسك مدى بلاهة مَن لا يعرف الذي يدير هذه الامور العجيبة ويقدّم هذه الهدايا البديعة؟ قدّر مدى تعاسة مَن لا يؤدي شكره عليها! إذ إن جهله به يُرغمه على التفوّه بما هو من قبيل الهذيان، فيقول - مثلاً ــ: ان تلك اللآلئ المرصعات تَصنعُ نفسها بنفسها!. أي يُلزمه جهلُه ان يمنح معنى السلطان لكل حبلٍ من تلك الحبال! والحال اننا نرى ان يداً غيبية هي التي تمتد الى تلك الحبال فتصنعها وتقلدها الهدايا. أي أن كل ما في هذا القصر يدل على صانعه المبدع دلالة أوضح من دلالته على نفسه. فان لم تعرفه - يا صاحبي - حق المعرفة فستهوي اِذن في درك أحط من الحيوانات، لأنك تضطر الى انكار جميع هذه الاشياء.

C البرهان التاسع

أيها الصديق الذي يطلق أحكامه جزافاً، انك لا تعرف مالك هذا القصر ولا تَرغب في معرفته، فتستبعد ان يكون له مالك وتنساق الى إنكار احواله لعجز عقلك عن أن يستوعب هذه المعجزات الباهرة والروائع البديعة، مع ان الاستبعاد الحقيقي، والمشكلات العويصة والصعوبات الجمة في منطق العقل انما هو في عدم معرفة المالك والذي يفضي بك الى انكار وجود هذه المواد المبذولة لك، باثمانها الزهيدة ووفرتها العظيمة. بينما اذا عرفناه يكون قبول ما في هذا القصر، وما في هذا العالم سهلاً ومستساغاً ومعقولاً جداً، كأنه شئ واحد، اذ لو لم نعرفه ولولاه، لكان كل شئ عندئذٍ صعباً وعسيراً بل لا ترى شيئاً مما هو متوفر ومبذول امامك. فان شئت فانظر فحسب الى علب الـمُربيات(1) المتدلية من هذه الخيوط. فلو لم تكن من انتاج مطبخ تلك القدرة المعجزة، لما كان باستطاعتك الحصول عليها ولو باثمان باهظة.

نعم ان الاستبعاد والمشكلات والصعوبة والهلاك والمحال انما هو في عدم معرفته، لأن ايجاد ثمرة - مثلاً - يكون صعباً ومشكلاً كالشــجرة نفـسها فيما اذا ربط كل ثمرة بمراكز متعددة وقوانين مختلفة، بينما يكون الأمر سهلاً مستساغاً اذا ما كان ايجاد الثمرة بقانون واحد ومن مركز واحد فيكون ايجاد آلاف الاثمار كايجاد ثمرة واحدة. مَثلُه في هذا كمثل تجهيز الجيش بالعتاد، فان كان من مصدر واحد وبقانون واحد ومن معمل واحد، فالأمر سهلٌ ومستساغ عقلاً. بينما اذا جُهّز كلُّ جندي بقانون خاص ومن مصدر خاص ومن معمل يخصه، فالأمر صعب ومشكل جداً، بل سيحتاج ذلك الجندي حينئذٍ الى مصانع عتاد ومراكز تجهيزات وقوانين كثيرة بعدد أفراد جيش كامل.

فعلى غرار هذين المثالين، فان ايجاد هذه الاشياء في هذا القصر العظيم والمدينة الرائعة، وفي هذه المملكة الراقية والعالم المهيب اذا ما اُسند الى واحدٍ أحد فان الأمر سهل ومستساغ حيث يكون ما نراه من وفرة الاشياء وكثرتها واضحاً، بينما ان لم يسند الأمر اليه يكون ايجاد اي شئ كان عسيراً جداً، بل لا يمكن ايجاده اصلاً حتى لو اعطيت الدنيا كلها ثمناً له.

C البرهان العاشر

أيها الصديق ويا من يتقرب شيئاً فشيئاً الى الانصاف.. فها نحن هنا منذ خمسة عشر يوماً(1)، فان لم نعرف انظمة هذه البلاد وقوانينها ولم نعرف مليكها فالعقاب يحق علينا، اذ لا مجال لنا بعدُ للاعتذار. فلقد أمهلونا طوال هذه الأيام، ولم يتعرضوا لنا بشئ. الاّ اننا لا شك لسنا طلقاء سائبين، فنحن في مملكة رائعة بديعة فيها من الدقّة والرقة والعبرة في المصنوعات المتقنة ما ينم عن عظمة مليكها، فلابد أن جزاءه شديد ايضاً. وتستطيع أن تفهم عظمة المالك وقدرته من هذا:

انه ينظمّ هذا العالم الضخم بسهولة تنظيم قصر منيف، ويدير أمور هذا العالم العجيب بيسر ادارة بيتٍ صغير، ويملأ هذه المدينة العامرة بانتظام كامل دون نقص ويخلّيها من سكانها بحكمة تامة بمثل سهولة ملء صحن وافراغه. وينصب الموائد الفخمة المتنوعة(2) ويعد الاطعمة اللذيذة بكمال كرمه بيد غيبية ويفرشها من أقصى العالم الى أقصاه ثم يرفعها بسهولة وضع سُفرة الطعام ورفعها. فان كنت فطناً فستفهم ان هذه العظمة والهيبة لابد أنها تنـطوي على كـرم لا حـد له وسخاء لا حدود له.

ثم أنظر كما ان هذه الاشياء شاهدةُ صدقٍ على عظمة المالك القدير وعلى هيمنته، وعلى انه سلطان واحد أحد، كذلك القوافل المتعاقبة والتحولات المترادفة دليل على دوام ذلك السلطان وبقائه، لأن الأشياء الزائلة انما تزول معها أسبابُها أيضاً. فالأشياء والاسباب تزولان معاً، بينما التي تعقبها تأتي جديدة ولها آثارٌ كسابقتها، فهي اذن ليست من فعل تلك الأسباب، بل ممن لا يطرأ عليه الزوال! فكما ان بقاءَ اللمعان والتألّق - بعد زوال حَباب النهر الجاري - في التي تعقبها من الحباب، يفهمنا ان هذا التألق ليس من الحباب الزائلة بل من مصدر نور دائم، كذلك تبدل الأفعال بالسرعة المذهلة، وتلوّن التي تعقبها وانصباغها بصفاتها يدلنا على أن تلك الأفعال انما هي تجلياتُ مَن هو دائم لا يزول وقائمٌ لا يحول. والاشياء جميعاً نقوشُه ومراياه وصنعتُه ليس الاّ.

C البرهان الحادي عشر

تعال أيها الصديق لأبين لك برهاناً يملك من القوة ما للبراهين العشرة السابقة. دعنا نتأهب لسفرة بحرية، سنركب سفينة(1) لنذهب الى جزيرة بعيدة عنا. أتعلم لماذا نذهب اليها؟. ان فيها مفاتيح ألغاز هذا العالَم ومغاليق اسراره وأعاجيبه. ألا ترى أنظار الجميع محدقة بها، ينتظرون منها بلاغاًً ويتلقون منها الاوامر.. فها نحن نبدأ بالرحلة.. وها قد وصلنا اليها ووطئت أقدامُنا أرضَ الجزيرة.. نحن الآن امام حشد عظيم من الناس وقد أجتمـع اشراف المملكة جميعـُهم هنا.. أمعن النظر يا صديقي الى رئيس الاجتماع المهيب.. هلاّ نتقرب اليه قليلاً فنعرفه عن كثب.. فها هو ذا متقلّد أوسمةً راقية تزيد على الألف(2) ويتحدث بكلام ملؤه الطيب والثقة والاطمئنان. وحيث اني كنت قد تعلمت شيئاً مما يقـول خلال خمسة عشر يوماً السابقة فسوف أعلّمك إياه.. انه يتحدث عن سلطان هذه المملكة ذى المعجزات ويقول: انه هو الذي أرسله اليكم. أنظر انه يُظهر خوارق عجيبة ومعجزات باهرة بحيث لا يدع شبهة في انه مُرسَلٌ خصيصاً من لدن السلطان العظيم. اِصغِ جيداً الى حديثه وكلامه، فجميع المخلوقات آذانٌ صاغية له، بل المملكة برمّتها تصغى اليه، حيث الجميع يسعون الى سماع كلامه الطيب ويتلهفون لرؤية محياه الزاهر. أوَ تظن ان الانسان وحده يصغي اليه فحسب؟ بل الحيوانات ايضاً، بل حتى الجبال والجمادات تصغى لأوامره وتهتز من خشيتها وشوقها اليه. انظر الى الاشجار كيف تنقاد الى أوامره وتذهب الى ما اشار اليه من مواضع، انه يفجّر الماء اينما يريد، بل حتى من بين أصابعه، فيرتوي الناس من ذلك الماء الزلال. انظر الى ذلك المصباح المتدلي من سقف المملكة(1) انه ينشق الى شقين اثنين بمجرد اشارة منه. فكأن هذه المملكة وبما فيها تعرفه جيداً وتعلم يقيناً انه موظف مرسل بمهمة من لدن السلطان، ومبلّغ امين لأوامره الجليلة. فتراهم ينقادون له انقياد الجندي المطيع. فما من راشد عاقل ممن حوله الاّ ويقول انه رسول كريم، ويصدقونه ويذعنون لكلامه، ليس هذا فحسب بل يصدّقه ما في المملكة من الجبال والمصباح العظيم(2). والجميع يقولون بلسان الحال وبخضوع: نعم.. نعم ان كل ما ينطق به صدق وعدل وصواب...

فيا ايها الصديق الغافل! هل ترى انه يمكن ان يكون هناك أدنى احتمال لكذبٍ أو خداع في كلام هذا الكريم؟ حاش لله أن يكون من ذلك شئ من كلامه ابداً. وهو الذي اكرمه السلطان بألفٍ من الانواط والشارات، وهي علامات تصديقه له، وجميعُ اشراف المملكة يصدّقونه، وكلامُه كله ثقة واطمئنان، فهو يبحث في أوصاف السلطان المعجِز وعن أوامره البليغة. فان كنت تجد في نفسك شيئاً من احتمال الكذب، فيلزم عليك أن تكذّب كل الجماعات المصدّقة به، بل تنكر وجود القصر والمصابيح وتنكر وجود كل شئ وتكذّب حقيقتهم، والاّ فهات ما عندك ان كان لديك شئ، فالدلائل تتحدى.

C البرهان الثاني عشر

أيها الأخ لعلك استرشدت بما قلنا شيئاً فشيئاً. فسأبين لك الآن برهاناً أعظم من جميع البراهين السابقة.

انظر الى هذه الأوامر السلطانية النازلة من الأفق الأعلى، الجميع يوقرونها وينظرون اليها باجلال واعجاب، وقد وقف ذلك الشخص الكريم المجلل بالاوسمة بجانب تلك الأوامر النورانية(1) ويفسّر للحشود المجتمعة معاني تلك الأوامر. انظر الى اسلوب الأوامر انه يشع ويسطع حتى يسوق الجميع الى الاعجاب والتعظيم. إذ يبحث في مسائل جادّة تهمّ الجميع بحيث لا يدع احداً الاّ ويصغي اليه. انه يفصّل تفصيلاً كاملاً شؤون السلطان وافعاله وأوامره وأوصافه. فكما ان على تلك الأوامر السلطانية طغراء السلطان نفسه فعلى كل سطر من سطورها ايضاً شارته بل اذا أمعنت النظر فعلى كل جملة بل كل حرف فيها خاتمه الخاص فضلاً عن معانيها ومراميها وأوامرها ونواهيها.

الخلاصة: ان تلك الأوامر السلطانية تدل على ذلك السلطان العظيم كدلالة الضوء على النهار.

* * *

فيا أيها الصديق: أظنك قد عُدت الى صوابك وأفَقْت من نوم الغفلة، فانّ ما ذكرناه لك وبسطناه من براهين لكافٍ ووافٍ. فان بدا لك شئٌ فاذكره.

فما كان من ذلك المعاند الاّ أن قال:

لا أقول إلاّ: ((الحمد لله، لقد آمنت وصدقت، بل آمنت ايماناً واضحاً أبلج كالشمس وكالنهار، ورضيت بان لهذه المملكة ربّاً ذا كمال، ولهذا العالَم مولى ذا جلال، ولهذا القصر صانعاً ذا جمال. ليـرضَ الله عنك يا صديقي الحمـيم فقد أنقذتني من أسار العناد والتعصب الممقوت الذي بلغ بي حَّد الجنون والبلاهة، ولا أكتمك يا أخـي، فان ما سقـتَه من براهـين، كلُّ واحـد منها كـان بـرهـانـاً كافياً ليوصلني الى هذه النتيجة، الاّ انني كنت أصغي اليك لأن كل برهان منها قد فتح آفاقاً أرحب ونوافذ أسطع الى معرفة الله والى محبته الخالصة)).

* * *

وهكذا تمت الحكاية التي كانت تشير الى الحقيقة العظمى للتوحيد والايمان بالله.

وسنبين في المقام الثاني بفضل الرحمن وفيض القرآن الكريم ونور الايمان - مقابل ما جاء من اثنى عشر برهاناً في الحكاية التمثيلية إثنتي عشرة لمعة من لمعات شمس التوحيد الحقيقي بعد ان نمهّد لها بمقدمة.

نسأل الله التوفيق والهداية.

المقام الثاني

من الكلمة الثانية والعشرين

بسم الله الرحمن الرحيم

] الله خَالِقُ كُلِ شَيءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شيْءٍ وَكيلٌ ^ لهُ مَقاليدُ السَمواتِ والارض[ (الزمر: 62ــ 63)

] فَسُبحان الذى بيدهِ مَلَكُوتُ كلِّ شيْءٍ واِليه تُرجعُونَ[ (يس:83)

] وَاِنْ مِنْ شيْءٍ الاّ عندَنا خَزَائِنُهُ ومَا نُنَزِّلُهُ إلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ[ (الحجر: 21)

] مَا مِنْ دَابَةٍ الاّ هُوَ آخِذٌ بنَاصِيَتِها اِنّ رَبّى على صِرَاطٍ مُسْتَقيم[ (هود:56)



المقدمة

لقد بيّنا اجمالاً في رسالة ((قطرة من بحر التوحيد)) قطبَ اركان الايمان وهو (الايمان بالله). واثبتنا ان كل موجود من الموجودات يدل علـى وجوب وجود الله سبحانه ويشهد على وحدانيته بخمسة وخمسين لساناً. وذكرنا كذلك في رسالة (نقطة من نور معرفة الله جل جلاله) أربعة براهين كليّة على وجوب وجوده سبحانه ووحدانيته، كل برهان منها بقوة ألف برهان. كما ذكرنا مئات من البراهين القاطعة التي تبيّن وجوبَ وجوده سبحانه ووحدانيته فيما يقرب من اثنتي عشرة رسالة باللغة العربية، لذا نكتفي بما سبق ولا ندخل في تفاصيل دقيقة، الاّ أننا نسعى في هذه (الكلمة الثانية والعشرين) لإظهار (اثنتي عشرة) لمعة من شمس (الايمان بالله) تلك التي ذكرتُها اجمالاً في رسائل النور.

C اللمعة الاولى

التوحيد توحيدان، لنوضح ذلك بمثال:

اذا وردت الى سوقٍ او الى مدينة بضائع مختلفة وأموال متنوعة لشخص عظيم، فهذه الأموال تُعرف مُلكيتها بشكلين اثنين:

الاول: شكل إجمالي عامي (أي لدى العامة من الناس) وهو : (( ان مثل هذه الأموال الطائلة ليس بمقدور أحدٍِ غيره ان يمتلكها)) ولكن ضمن نظرة الشخص العامي هذه يمكن أن يحدث اغتصاب، فيدّعي الكثيرون امتلاك قِطَعها.

الثاني: أن تُقرأ الكتابة الموجودة على كل رزمة من رزم البضاعة، وتُعرف الطغراءُ الموجودة على كل طَول، ويُعلم الختمُ الموجود على كل مَعْلمَ. أي كلّ شئ في هذه الحالة يدل ضمناً على ذلك المالك.

فكما ان البضاعة يُعرف مالكُها بشكلين، كذلك التوحيد فانه على نوعين:

الاول: التوحيد الظاهري العامي: وهو ((أنّ الله واحد لا شريك له ولا مثيل، وهذا الكون كلّه ملكه)).

الثاني: التوحيد الحقيقي: وهو الايمان بيقين أقرب ما يكون الى الشهود، بوحدانيته سبحانه، وبصدور كلّ شئ من يد قدرته، وبأنه لا شريكَ له في ألوهيته، ولا معينَ له في ربوبيته، ولا ندَّ له في مُلكه، إيماناً يَهب لصاحبه الاطمئنان الدائم وسكينة القلب، لرؤيته آية قدرته وختمَ ربوبيته ونقشَ قلمه، على كل شئ. فينفتح شباكٌ نافذٌ من كل شئ الى نوره سبحانه.

وسنذكر في هذه ((الكلمة)) شعاعاتٍ تبيّن ذلك التوحيد الحقيقي الخالص السامي.

تنبيه ضمن اللمعة الاولى:

ايها الغافل الغارق في عبادة الأسباب!

إعلم أن الاسباب ليست الاّ ستائر امام تصرف القدرة الإلهية، لأن العزة والعظمة تقتضيان الحجاب، اما الفاعل الحقيقي فهو القدرة الصمدانية، لأن التوحيد والجلال يتطلبان هذا، ويقتضيان الاستقلال.

وأعلم أن مأموري السلطان الأزلي وموظفيه ليسوا هم المنفّذين الحقيقيين لأمور سلطنة الربوبية، بل هم دالّون على تلك العظمة والسلطان، والداعون اليها، ومشاهدوها المعجَبون، فما وُجدوا الاّ لإظهار عزّة القدرة الربانية وهيبتها وعظمتها، وذلك لئلا تظهر مباشرةُ يد القدرة في امور جزئية خسيسة لا يدرك نظر اكثر الغافلين حُسنَها ولا يعـرف حكمــتهــا فيشــتكي بغــير حــق ويعتــرض بغــيــر عــلــم. وهم ليسوا كموظفي السلطان البشري الذي لم يعيّنهم ولم يُشركهم في سلطنته الاّ نتيجة عجزه وحاجته.

فالاسباب اذن انما وُضعَت لتبقى عزةُ القدرة مصونةً من جهة نظر العقل الظاهري؛ اذ ان لكل شئ جهتين – كوجهي المرآة – احداهما جهة (المُلك) الشبيهة بالوجه المطلي الملوّن للمرآة الذي يكون موضع الألوان والحالات المختلفة، والاخرى جهة (الملكوت) الشبيهة بالوجه الصقيل للمرآة. ففي الوجه الظاهر - أي جهة المُلك - هناك حالات منافية ظاهراً لعزة القدرة الصمدانية وكمالِها، فوُضعَت الأسبابُ كي تكون مرجعاً لتلك الحالات ووسائلَ لها. أما جهةُ الملكوت والحقيقة فكلُّ شئٍ فيها شفافٌ وجميلٌ وملائمٌ لمباشرةِ يدِ القدرة لها بذاتها، وليس منافياً لعزّتها، لذا فالاسباب ظاهرية بحتة، وليس لها التأثير الحقيقي في الملكوتية او في حقيقة الأمر.

وهناك حكمة اخرى للأسباب الظاهرية وهي:

عدم توجيه الشكاوي الجائرة والاعتراضات الباطلة الى العادل المطلق جلّ وعلا. أي وُضعت الأسبابُ لتكونَ هدفاً لتلك الاعتراضات وتلك الشكاوي، لأن التقصيرَ صادرٌ منها ناشئ من افتقار قابليتها.

ولقد روي لبيان هذا السر مثالٌ لطيف ومحاورة معنوية هي:

ان عزرائيل عليه السلام قال لرب العزة:

((ان عبادك سوف يشتكون مني ويسخطون عليّ عند أدائي لوظيفة قبض الأرواح)).

فقال الله سبحانه وتعالى له بلسان الحكمة:

((ساضع بينَك وبين عبادي ستائرَ المصائب والأمراض لتتوجه شكاواهم الى تلك الأسباب)).

وهكذا، تأمل! كما أن الأمراضَ ستائرُ يرجع اليها ما يُتوهّم من مساوئ في الأجَل، وكما أن الجمال الموجود في قبض الأرواح - وهو الحقيقة - يعود الى وظيفة عزرائيل عليه السلام، فان عزرائيل عليه السلام هو الآخر ستار، فهو ستار لأداء تلك الوظيفة وحجاب للقدرة الإلهية، اذ أصبح مرجِعاً لحالات تبدو ظاهراً انها غير ذات رحمة ولا تليق بكمال القدرة الربانية.

نعم، ان العزّة والعظمة تستدعيان وضع الأسباب الظاهرية امام نظر العقل، الاّ ان التوحيد والجلال يردّان أيدي الاسباب عن التأثير الحقيقي.

C اللمعة الثانية

تأمل في بستان هذه الكائنات، وانظر الى جنان هذه الارض، وأنعم النظر في الوجه الجميل لهذه السماء المتلألئة بالنجوم. تَرَ أن للصانع الجليل جل جلاله ختماً خاصاً بمن هو صانع كل شئ على كل مصنوع من مصنوعاته، وعلامة خاصة بمن هو خالقُ كل شئ على كل مخلوق من مخلوقاته، وآية لا تقلَّد خاصة بسلطان الأزل والأبد على كل منشورٍ من كتابات قلم قدرته على صحائف الليل والنهار وصفحات الصيف والربيع.

سنذكر من تلك الاختام والعلامات بضعاً منها نموذجاً ليس الاّ، انظر مما لا يحصى من علاماته الى هذه العلامة التي وضعها على (الحياة):

(انه يخلق من شئ واحد كلَّ شئ، ويخلق من كلِّ شئ شيئاً واحداً). فمن ماء النطفة بل من ماء الشرب، يخلق ما لا يعد من أجهزة الحيوان واعضائه، فهذا العمل لاشك انه خاص بقدير مطلق القدرة.

ثم ان تحويل الأطعمة المتنوعة - سواء الحيوانية أو النباتية - الى جسم خاص بنظام كامل دقيق، ونسج جلد خاص للكائن وأجهزة معينة من تلك المواد المتعددة لا شك أنه عمل قدير على كل شئ وعليم مطلق العلم.

نعم، ان خالق الموت والحياة يدير الحياة في هذه الدنيا، إدارة حكيمة بقانون أمري معجِز، بحيث لا يمكن أن يطبّق ذلك القانون وينفّذه الاّ مَن يصرّف جميع الكون في قبضته.

وهكذا إن لم تنطفىء جذوة عقلك ولم تفقد بصيرة قلبك فستفهم أنّ جعل الشئ الواحدِ كل شئ بسهولة مطلقة وانتظام كامل، وجعل كلَّ شئٍ شيئاً واحداً بميزانٍ دقيق وانتظام رائع وبمهارة وابداع، ليس الاّ علامة واضحة وآية بيّنة لخالق كل شئ وصانعه.

فلو رأيت - مثلاً - أن أحداً يملـك أعمالاً خارقة: ينســج من وزنِ درهــمٍ من القطن مائة طَولٍ من الصوف الخالص وأطوالاً من الحـــرير وانــواعاً من الأقمشة، ورأيت أنه يُخرجِ علاوة على ذلك، من ذلك القطن حلويات لذيذة وأطعمة متنوعة كثيرة، ثم رأيت أنه يأخذ في قبضته الحديد والحجر والعسل والدهن والماء والتراب فيصنع منها الذهب الخالص، فستحكم حتماً أنه يملك مهارة معجِزة تخصّه وقدرة مهيمنة على التصرف في الموجودات، بحيث أن جميع عناصر الأرض مسخّرة بأمره، وجميع ما يتولد من التراب منفّذ لحكمه. فان تعجَبْ من هذا فان تجلي القدرة الإلهية وحكمتها في ((الحياة)) لهو أعجب من هذا المثال بألف مرّة.. فاليك علامة واحدة من علامات عديدة موضوعة على الحياة.

C اللمعة الثالثة

أنظر الى (ذوي الحياة) المتجولة في خضم هذه الكائنات السيالة، وبين هذه الموجودات السيارة، تَرَ ان على كل كائن حيّ، أختاماً كثيرة، وضعها الحيُّ القيوم. أنظر الى ختم واحدٍ منها:

ان ذلك الكائن الحيّ - وليكن هذا الانسان - كأنه مثال مصغَّر للكون، وثمرة لشجرة الخِلقة، ونواةٌ لهذا العالَم، حيث أنه جامعٌ لمعظم نماذج أنواع العوالم، وكأن ذلك الكائن الحيّ قطرةٌ محلوبة من الكون كلّه، مستخلصةٌ بموازين علمية حساسة، لذا يلزم لخلقِ هذا الكائن الحيّ، وتربيته ورعايته ان يكون الكون قاطبة في قبضة الخالق وتحت تصرفه. فان لم يكن عقلك غارقاً في الأوهام، فستفهم ان جعلَ النحلة التي تمثل كلمةً من كلمات القدرة الربانية بمثابة فهرس مصغّر لكثير من الأشياء.. وكتابة أغلب مسائل كتاب الكون في كيان الانسان الذي يمثّل صحيفةً من قدرته سبحانه.. وادراج منهاج شجرة التين الضخمة في بُذيراتها التي تمثل نقطةً في كتاب القدرة.. وإراءة آثار الأسماء الحسنى المحيطة المتجلية على صفحات هذا الكون العظيم في قلب الانسان الذي يمثل حرفاً واحداً من ذلك الكتاب.. ودرج ما تضمّه مكتبة ضخمة من مفصل حياة الانسان في ذاكرته المتناهية في الصغر.. كل ذلك دون شك، ختمٌ يخصّ بمن هو خالق كل شئ ورب العالمين.

فلئن أظهر ختمٌ واحد - من بين أختامٍ ربانية كثيرة - على (ذوي الحياة) نورَه باهراً حتى استقرأ آياته قراءة واضحة، فكيف اذا استطعتَ ان تنظر الى جميع (ذوي الحياة) وتشاهد تلك الأختام معاً، و ان تراها دفعةً واحدة، أما تقول: (سبحان من اختفى بشدة ظهوره)؟

C اللمعة الرابعة

أنظر الى هذه الموجودات الملونة الزاهية المبثوثة على وجه الارض، والى هذه المصنوعات المتنوعة السابحة في بحر السماوات، تأمل فيها جيداً.. تَرَ: ان على كل موجود منها طغراء لا تقلد للمنور الأزلي (جلّ وعلا). فكما تشاهَد على (الحياة) آياتُه وشاراته، وعلى (ذوي الحياة) أختامُه - وقد رأينا بعضاً منها - تشاهد آيات وشارات ايضاً على (الإحياء)، اي منح الحياة. سننظر الى حقيقتها بمثال، اذ المثال يقرب المعاني العميقة للأفهام.

انه يشاهد على كل من السيارات السابحة في الفضاء، وقطرات الماء، وقطع الزجاج الصغيرة، وبلورات الثلج البراقة... طغراءٌ لصورة الشمس وختم لانعكاسها، وأثرٌُ نوراني خاص بها، فان لم تقبل ان تلك الشُميسات المشرقة على الأشياء غير المحدودة، هي انعكاسات نور الشمس وتجليها، فستضطر ان تقبل بوجود شمس بالأصالة في كل قطرة، وفي كل قطعة زجاجٍ معرّضة للضوء، وفي كل ذرة شفافة تقابل الضوء، مما يلزم ترديك في منتهى البلاهة ومنتهى الجنون!

وهكذا، فللّه سبحانه وهو نور السموات والارض تجليات نورانية، من حيث ((الإحياء)) وافاضة الحياة، فهو آية جلية وطغراء واضحة يضعها سبحانه على كل ذي حياة، بحيث لو افترض اجتماع جميع الأسباب واصبح كلُّ سبب فاعلاً مختارا فلن تستطيع منحَ حياةٍ لموجود. أي انها تعجز عجزاً مطلقاً عن أن تقلّد شيئاً الختم الرباني في الإحياء. ذلك لأن كل ذي حياة هـو بحدّ ذاتـه معجزةٌ من معجزات القدرة الإلهية، اذ هو على صورة نقطة مركزية (كالبؤرة) لتجليات الاسماء الحسنى، التي كل منها بمثابة شعاع من نوره ســبحانه. فلـو لم يُسنَد ما يــشاهَد علـى الكائن الحيّ من صنعةٍ بديعة في الصورة، وحكمةٍ بالغة في النظام وتجلٍّ باهر لسر الأحدية، الى الأحد الصمد جلّ جلالُه، للزم قبول قدرةٍ فاطرة مطلـقة غير متـناهية مـستـترة في كل ذي حياة، ووجود علمٍ محيط واســع فيـه، مـع ارادة مطــلقة قـادرة عـلى ادارة الـكون، بل يجب قبول وجود بقية الصفات التي تخص الخالق سبــحانه في ذلك الكائن، حتى لو كان الـكائن الحــي ذبـابـة أو زهـرة! أي اعـطـاء صـفـات الألوهـــيـة الى كل ذرة من ذرات اي كائن! أي قبـول افتراضـات محالة من أمثــال هذه الافـتـراضـات التي تـوجب السقــــوط الــى أدنــى بلاهات الضـلالة وحمــاقـات الخرافة! ذلك لأنه سبحانه وتعالى قد أعطى لذرات كل شئ - لا سيما اذا كانت من امثال البذرة والنواة - وضعاً معيناً، كأن تلك الذرة تنظر الى ذلك الكائن الحي كله - رغم أنها جزء منه - وتتخذ موقفاً معيناً وفق نظامه، بل تتخذ هيئة خاصة بما يفيد دوام ذلك النوع، وانتشاره ونصب رايته في كل مكان، وكأنها تتطلع الى جميع أنواع ذلك الكائن في الارض - فتزود البذرة مثلاً بما يشبه جُنيحات لأجل الطيران والانتشار - ويتخذ ذلك الكائن الحيّ موقفاً يتعلق بجميع موجودات الأرض التي يحتاجها لأدامة حياته وتربيته ورزقه ومعاملاته. فان لم تكن تلك الذرة مأمورة من لدن قدير مطلق القدرة، وقُطِعت نسبتها من ذلك القدير المطلق، لزم ان يُعطى لها بصرٌ تبصر به جميع الأشياء، وشعورٌ يحيط بكل شئ!!.

حاصل الكلام: كما انه لو لم تُسنَد صُور الشميسات المشرقة وانعكاسات الألوان المختلفة في القطرات وقطع الزجاج الى ضوء الشمس، ينبغي عندئذٍ قبول شموس لا تحصى بدلاً من شمس واحدة. مما يقتضي التسليم بخرافة محالة، كذلك لو لم يُسند خلق كل شئ الى القدير المطلق، للزم قبول آلهة غير متناهية بل بعدد ذرات الكون بدلاً من الله الواحد الأحد سبحانه. أي قبول محال بدرجة مائة محال، أي ينبغي السقوط الى هذيان الجنون.

نخلص من هذا: ان هناك في كل ذرة ثلاثة شبابيك نافذة مفتّحة الى نور وحدانية الله جلّ جلاله والى وجوب وجوده سبحانه وتعالى:

` النافذة الاولى:

ان كل ذرة كالجندي، الذي له علاقة مع كل دائرة من الدوائر العسكرية أي مع رهطه وسرّيته وفوجه ولوائه وفرقته وجيشه، وله حسب تلك العلاقة وظيفة هناك، وله حسب تلك الوظيفة حركة خاصة ضمن نطاق نظامها. فالذرة الجامدة الصغيرة جداً، التي هي في بؤبؤ عينك لها علاقة معينة ووظيفة خاصة، في عينك ورأسك وجسمك، وفي القوى المولدة والجاذبة والدافعة والمصّورة وفي الأوردة والشرايين والأعصاب، بل لها علاقة حتى مع نوع الانسان.

فوجود هذه العلاقات والوظائف للذرة، يدلّ بداهة - لذوي البصائر - على ان الذرة انّما هي أثرٌ من صنعِ القدير المطلق، وهي مأمورة موظّفة تحت تصرفه سبحانه وتعالى.

` النافذة الثانية:

ان كل ذرة من ذرات الهواء تستطيع ان تزور أية زهرة أو ثمرة كانت، وتتمكن من الدخول والعمل فيها، فلو لم تكن الذرة مأمورة مسخّرة من لدن القدير المطلق البصير بكل شئ، للزم ان تكون تلك الذرة التائهة عالمةً بجميع أجهزة الأثمار والأزهار وبكيفيات بنائها، ومدركةً صنعتها الدقيقة المتباينة ومحيطة بنسج وتفصيل ما قدّ عليها من صور وأشكال، ومتقنةً صناعة نسيجها اتقاناً تاماً!!

وهكذا تشع هذه الذرة شعاعاً من شعاعات نور التوحيد كالشمس واضحة.. وقس الضوء على الهواء، والماء على التراب حيث أن منشأ الاشياء من هذه المواد الاربعة وقس ما في العلوم الحاضرة من مولد الماء ومولد الحموضة (الاوكسجين والهيدروجين) والآزوت والكاربون على تلك العناصر المذكورة.

` النافذة الثالثة:

يمكن ان تكون كتلة من التراب المركب من ذرات دقيقة منشأً ومصدراً لنموّ أي نبات من النباتات المزهرة والمثمرة الموجودة في الأرض كافة، فيما لو وُضعت فيها بُذيراتُها الدقيقة، تلك البذيرات المتشابهة - كالنُطف - والمركبة من كربون وآزوت واوكسجين وهيدروجين، فهي متماثلة ماهيةً، رغم انها مختلفة نوعيةً، حيث أودع فيها بقلم القَدَر، برنامجُ أصلها الذي هو معنوي بحت. فاذا ما وضعنا بالتعاقب تلك البذور في سندانة، فستنمو كل بذرة بلا ريب بشكل يُبرز أجهزتَها الخارقة وأشكالها الخاصة وتراكيبها المعينة. فلو لم تكن كل ذرة من ذرات التراب مأمورة وموظفة ومتأهبة للعمل تحت أمرة عليم بأوضاع كل شئ وأحواله، وقديرٍ على إعطاء كل شئ وجوداً يليق به ويديمه، اي لو لم يكن كل شئ مسخراً أمام قدرته سبحانه، للزم ان تكون في كل ذرة من ذرات التراب، مصانع ومكائن ومطابع معنوية، بعدد النباتات، كي تصبح منشأً لتلك النباتات ذات الأجهزة المتباينة والأشكال المختلفة!.. أو يجب إسناد علم يحيط بجميع الموجودات الى كل ذرة، وقدرة تقدر على القيام بعمل جميع الأجهزة والأشكال فيها، كي تكون مصدراً لجميعها!!

أي انه اذا ما انقطع الانتساب الى الله سبحانه وتعالى، ينبغي قبول وجود آلهة بعدد ذرات التراب!! وهذه خرافة مستحيلة في ألـف محال ومحـال. بينما الأمر يكون مستساغاً عقلاً وسهلاً ومقبولاً عندما تصبح كل ذرة مأمورة، اذ كما ان جندياً إعتيادياً لدى سلطان عظيم يستطيع - باسم السلطان واستناداً الى قوته - أن يقوم بتهجير مدينة عامرة من أهلها، أو يصل بين بحرين واسعين، أو يأسر قائداً عظيماً، كذلك تستطيع بعوضة صغيرة أن تطرح نمروداً عظيماً على الأرض، وتستطيع نملة بسيطة ان تدمّر صرح فرعون، وتستطيع بذرة تين صغيرة جداً ان تحمل شجرة التين الضخمة على ظهرها، كل ذلك بأمر سلطان الأزل والأبد وبفضل ذلك الانتساب.

وكما رأينا هذه النوافذ الثلاث المفتحة على نور التوحيد في كل ذرة ففيها ايضاً شاهدان صادقان آخران على وجود الصانع سبحانه وتعالى وعلى وحدانيته.

أولهما: هو حمل الذرة على كاهلها وظائف عظيمة جداً ومتنوعة جداً، مع عجزها المطلق.

والآخر: هو توافق حركاتها بانتظام تام وتناسقها مع النظام العام، حتى تبدو وكأن فيها شعوراً عاماً كلياً مع انها جماد.

أي أن كل ذرة تشهد بلسان عجزها على وجود القدير المطلق، وتشهد باظهارها الانسجام التام مع نظام الكون العام على وحدانية الخالق سبحانه وتعالى.

وكما ان في كل ذرة شاهدين على ان الله واجب الوجود وواحد، كذلك في كل (حي) له آيتان على أنه (أحد صمدٌ).

نعم! ففي كل حيّ هناك آيتان:

احداهما: آيةُ الأحدية.

والأخرى: آيةُ الصمدية.

لأن كل (حيّ) يُظهر تجليّات الأسماء الحسنى، المشاهَدة في أغلب الكائنات، يُظهرها دفعةً واحدة في مرآته، وكأنه نقطةٌ مركزية - كالبؤرة - تبيّن تجلي اسم الله الأعظم، الحي القيوم، أي أنه يحمل آية الأحدية باظهاره نوعاً من ظل أحدية الذات تحت ستار اسم المحيي.

ولما كان الكائن الحيّ بمثابة مثال مصغر للكائنات، وبمثابة ثمرة لشجرة الخليقة، فان إحضار حاجـاته المـتراميـة في الكـائنـات الى دائــرة حياته الصغيرة جداً، بسهولة كاملة، وبدفعة واحدة، يُبرز للعيان آية الصمدية ويبينها، أي ان هذا الوضع يبيّن ان لهذا الكائن الحيّ ربّاً - نِعمَ الرب - بحيث أن توجّهاً منه اليه يُغنيه عن كل شئ، ونظرةً منه اليه تكفيه عن جميع الأشياء، ولن يحلّ جميعُ الأشياء محل توجهٍ واحدٍ منه سبحانه.

((نعم يكفي لكل شئ شئ عن كل شئ، ولا يكفي عنه كل شئ ولو لشئ واحد)).

وكذا يبيّن ذلك الوضع أن ربّه ذاك - جلّ شأنه - كما انه ليس محتاجاً الى شئ أيّاً كان، فان خزائنه لا ينقص منها شئ أيضاً، ولا يصعب على قدرته شئ.. فاليك مثالاً من آيةٍ تُظهر ظل الصمدية.

أي، ان كل ذي حياة يرتّل بلسان الحياة: ((قل هو الله أحدٌ. الله الصمد))..

هذا وان هناك عدة نوافذ مهمة اخرى عدا ما ذكرناه قد اُختصرت هنا فيما فُصلت في أماكن أخرى.

فما دامت كل ذرة من ذرات هذا الكون تفتح ثلاث نوافذ، وكُوّتين، والحياة نفسُها تفتح بابين دفعة واحدة الى وحدانية الله سبحانه، فلابدّ انك تستطيع الآن قياس مدى ما تنشره طبقات الموجودات - من الذرات الى الشمس - من أنوار معرفة الله ذي الجلال.. فافهم من هذا سعة درجات الرقي المعنوي في معرفة الله سبحانه ومراتب الاطمئنان والسكينة القلبية، وقس عليها.

C اللمعة الخامسة

من المعلوم أنه يكفي لاخراج كتابٍ ما، قلمٌ واحدٌ اِن كان مخطوطاً. وتلزم أقلامٌ عديدة بعدد حروفه إن كان مطبوعاً، أي حروفاً معدنية عديدة. ولو كُتب معظمُ ما في الكتاب في بعض حروفه بخط دقيق جداً - ككتابة سورة يس مصغرة في لفظ يس - فيلزم عندئذٍ ان تكون جميع الحروف المعدنية مصغّرة جداً لطبع ذلك الحرف الواحد.

فكما ان الأمر هكذا في الكتاب المستنسخ أو المطبوع كذلك كتاب الكون هذا، اذا قلتَ انه كتابة قلمِ قدرة الصمد، ومكتوبُ الواحد الأحد، فقد سلكتَ اذن طريقاً سهلة بدرجة الوجوب، ومعقــولةً بــدرجـة الضــرورة، ولكــن اذا ما أســندته الى الطبيعة والى الأسباب، فقد سلكت طريقاً صعبة بدرجة الامتناع، وذات اشكالات عويصة بدرجة المحال، وذات خرافات لاشك فيها، اذ يلزم ان تنشئ الطبيعةُ في كل جزء تراب، وفي كل قطرة ماء، وفي كل كتلة هواء ملايين الملايين من مطابع معدنية، وما لا يحد من مصانع معنوية، كي يُظهر كلُّ جزءٍ من تلك الأجزاء وينشىء ما لا يعد ولا يحصى من النباتات المزهرة والمثمرة.. أو تضطر الى قبول وجود علمٍ محيط بكل شئٍ، وقوةٍ مقتدرة على كل شئ في كل منها، كي يكون مصدراً حقيقياً لهذه المصنوعات؛ لأن كل جزءٍ من أجزاء التراب والماء والهواء يمكن ان يكون منشأ لأغلب النباتات. والحال ان تركيب كل نباتٍ منتظمٌ، وموزون، ومتمايز، ومختلف نوعاً، فكلٌ منه اذاً بحاجة الى معمل معنوي خاص به وحده والى مطبعة تخصّه هو فقط. فالطبيعة اذن اذا خرجت عن كونها وحدةَ قياسٍ للموجودات الى مصدرٍ لوجودها، فما عليها الاّ احضار مكائن جميع الأشياء في كل شئ!!.

وهكذا فان أساس فكرة عبادة الطبيعة هذه خرافة بئست الخرافة!. حتى الخرافيون أنفسهم يخجلون منها. فتأمل في أهل الضلالة الذين يعدّون انفسهم عقلاء كيف تمسكوا بفكرة غير معقولة بالمرة.. ثم اعتبر!!.

الخلاصة:

ان كل حرف في أي كتاب كان، يظهر نفسه بمقدار حرف، ويدل على وجوده بصورة معينة، الاّ انه يعرّف كاتبه بعشر كلمات، ويدل علىه بجوانب عديدة، فيقول مثلاً: ((ان كاتبي خطه جميل، وان قلمه أحمر، وانه كذا وكذا..)).

ومثل ذلك كل حرف من كتاب العالم الكبير هذا، يدل على ذاته بقدر جرمه (مادته) ويُظهِر نفسه بمقدار صورته، الاّ انه يعرّف اسماء البارىء المصوّر سبحانه بمقدار قصيدة، ويظهر تلك الأسماء الحسنى ويشير اليها بعدد أنواعه شاهداً على مسمّاه، لذا ينبغي ألا يزلّ الى انكار الخالق ذي الجلال حتى ذلك السوفسطائي الأحمق الذي ينكر نفسه وينكر الكون.

C اللمعة السادسة

ان الخالق ذا الجلال كما وضع على جبين كل (فرد) من مخلوقاته وعلى جبهة كل (جزء) من مصنوعاته، آية أحديته (وقد رأيت قسماً منها في اللمعات السابقة)، فانه سبحانه قد وضع على كل (نوع) كثيراً من آية الأحدية بشكل ساطع لامع، وعلى كل (كلّ) عديداً من أختام الواحدية، بل وضع على مجموع العالم أنواعاً من طغراء الوحدة. واذا تأملنا ختماً واحداً، من تلك الاختام والعلامات العديدة الموضوعة على صحيفة سطح الأرض في موسم الربيع تبين لنا ما يأتي:

ان البارئ المصوّر سبحانه وتعالى قد حشر ونشر اكثر من ثلاثمائة ألف نوعٍ من النباتات والحيوانات على وجه الأرض في فصل الربيع والصيف بتمييز وتشخيص بالغين، وبانتظام وتفريق كاملين - رغم اختلاط الأنواع اختلاطاً كاملاً - فأظهر لنا اية واسعة ساطعة للتوحيد، واضحة وضوح الربيع. أي ان ايجاد ثلاثمائة ألف نموذج من نماذج الحشر بانتظام كامل عند إحياء الأرض الميتة في موسم الربيع، وكتابةَ الأفراد المتداخلة لثلاثمائة ألف نوع مختلف على صحيفة الأرض كتابةً دون خطأ ولا سهو ولا نقص، وفي منتهى التوازن والانتظام، وفي منتهى الاكتمال، لاشك أنه آية خاصة بمن هو قدير على كل شئ بيده ملكوت كل شئ، وبيده مقاليد كل شئ، وهو الحكيم العليم.

هذه الآية من الوضوح بحيث يدركها كل من له ذرة من شعور.

ولقد بيّن القرآن الكريم هذه الآية الساطعة في قوله تعالى:

] فانظُر الى آثارِ رَحْمَتِ الله كيفَ يُحيِي الأرضَ بَعْدَ مَوتها انّ ذلك لَمحيي الموتى وهو على كل شيءٍ قدير[ (الروم:50).

نعم، ان قدرة الفاطر الحكيم التي أظهرت ثلاثمائة ألف نوع من نماذج الحشر في إحياء الأرض خلال بضعة أيام، لابَّد ان يكون حشرُ الانسان - لديها - سهلاً ويسيراً. إذ هل يصح أن يقال - مثلاً - لمن له خوارق بحيث يزيل جبلاً عظيماً باشارة منـه، أيستطـيع ان يزيـل هـذه الصخـرة العظـيمة التـي سدّت طـريقنا مـن هذا الوادي؟. ومثـِلَه كـذلــك لا يجـرأ ذو عقـل أن يـقول بصـيغة الاسـتبعاد للقـدير الحكـيم والكريم الرحيم الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، والذي يملأهما ويفرغهما حيناً بعد حين: ((كيف يستطيع أن يزيل طبقة التراب هذه التي علينا والتي سدت طريقنا المفروشة الى مستضافه الخالد؟)).

فهذا مثالُ آيةٍ واحدة للتوحيد تَظهر على سطح الأرض في فصل الربيع والصيف! فتأمل اذن كيف يظهر ختمُ الواحدية بجلاء على تصريف الأمور في الربيع الهائل على سطح الارض وهو في منتهى الحكمة والبصر، ذلك لأن هذه الاجراءات المشاهَدة، هي في انتظام مطلق، وخلقة تامة، وصنعة كاملة بديعة، مع انها تجري في سعة مطلقة، ومع هذه السعة فهي تتم في سرعة مطلقة، ومع هذه السرعة فهي ترد في سخاء مطلق. ألا يوضح هذا أنه ختمٌ جلّي بحيث لا يمكن ان يمتلكه الاّ مَن يملك علماً غير متناهٍ وقدرة غير محدودة.

نعم، اننا نشاهد على سطح الأرض كافة، ان هناك خلقاً وتصرفاً وفعاليةً تجري في سعة مطلقة، ومع السعة تُنجَز في سرعة مطلقة، ومع السرعة والسعة يُشاهد سخاءٌ مطلق في تكثير الأفراد، ومع السخاء والسعة والسرعة تتضح سهولةٌ مطلقة في الأمر مع انتظامٍ مطلق وابداع في الصنعة وامتياز تام، رغم الاختلاط الشديد والامتزاج الكامل. ويُشاهد كذلك آثارٌ ثمينة جداً، ومصنوعاتٌ نفيسة جداً رغم الوفرة غير المحدودة، مع انسجام كامل في نطاق واسع جداً، ودقة الصنعة وبدائعها وروعتها وهي في منتهى السهولة واليسر. فايجاد كل هذا في آن واحد، وفي كل مكان، وبالطراز نفسه، وفي كل فرد، مع اظهار الصنعة الخارقة والفعالية المعجزة، لاشك مطلقاً انه برهان ساطع وختم يخص مَن لا يحدّه مكان، مثلما أنه في كل مكان، حاضر وناظر رقيب حسيب، ومَن لا يخفى عليه شئ مثلما انه لا يعجزه شئ. فخلق الذرات والنجوم سواء امام قدرته.

لقد أحصيتُ ذات يوم عناقيد ساق نحيفة لعنب متسلق - بغلظ اصبعين - تلك العناقيد التي هي معجزات الرحيم ذي الجمال في بستان كرمه. فكانت مائة وخمسة وخمسين عنقوداً. واحصيتُ حبّات عنقود واحد منها فكانت مائة وعشرين حبة. فتأملت وقلت: لو كانت هذه الساق الهزيلة خزانة ماء معسّل، وكانت تعطي ماءً باستمرار لما كانت تكفي أمام لفح الحرارة ما ترضعه لمئاتِ الحبات المملوءة من شراب سكر الرحمة. والحال أنها قد لا تنال الاّ رطوبة ضئيلة جداً، فيلزم ان يكون القائم بهذا العمل قادراً على كل شئ. فـ ((سبحان من تَحيَّرُ في صنعه العقول)).

C اللمعة السابعة

كما انك تتمكن من رؤية اختام الأحد الصمد سبحانه، المختومة بها صحيفة الأرض، وذلك بنظرة إمعان قليلة، فارفع رأسك وافتح عينيك، وألق نظرةً على كتاب الكون الكبير تَرَ أنه يقرأ على الكون كله، ختمَ الوحدة بوضوح تام، بقدر عظمته وسعته ذلك لأن هذه الموجودات كأجزاء معمل منتظم، وأركان قصر معظم، وأنحاء مدينة عامرة، كُّل جزءٍ ظهير للآخر، كل جزء يمدّ يد العون للآخر، ويجدّ في اسعاف حاجاته. والاجزاء جميعاً تسعى يداً بيد بانتظام تام في خدمة ذوي الحياة، متكاتفة متساندة متوجهة الى غاية معينة في طاعة مدبّر حكيمٍ واحدٍ.

نعم، ان دستور ((التعاون)) الجاري الظاهر ابتداءً من جري الشمس والقمر، وتعاقب الليل والنهار وترادف الشتاء والصيف.. الى إمداد النباتات للحيوانات الجائعة، والى سعي الحيوانات لمساعدة الانسان الضعيف المكرم، بل الى وصول المواد الغذائية على جناح السرعة لاغاثة الأطفال النحاف، وامداد الفواكه اللطيفة. بل الى خِدمة ذرات الطعام لحاجة حجيرات الجسم... كل هذه الحركات الجارية وفق دستور ((التعاون)) تُري لمن لم يفقد بصيرته كلّياً انها تجري بقوةِ مربٍّ واحد كريم مطلق الكرم، وبأمر مدبّر واحد حكيم مطلق الحكمة.

فهذا التساند، وهذا التعاون، وهذا التجاوب، وهذا التعانق، وهذا التسخير، وهذا الانتظام، الجاري في هذا الكون، يشهد شهادة قاطعة، أن مدبراً واحداً هو الذي يديره، ومربياً احداً يسوق الجميع في الكون. زد عليه، فان الحكمة العامة الظاهرة بداهة في خلق الاشياء البديعة وما تتضمنه من عناية تامة وما في هذه العناية من رحمة واسعة وما على هذه الرحمة من ارزاق منثورة تفي بحاجة كل ذي حياة وتعيّشه وفق حاجاته... كل ذلك ختم عظيم للتوحيد له من الظهور والوضوح ما يفهمه كل مَن لم تنطفىء جذوة عقله، ويراه كل من لم يُعمَ بصرُه؟.

نعم، ان حُلّة ((الحكمة)) التي يتراءى منها القصد والشعور والارادة قد أسبغت على الكون كله وجُلّلت كل جوانبه. وخُلعَتْ على حلة الحكمة هذه حلّةُ (العناية) التي تشف عن اللّطف والتزيين والتحسين والاحسان، وعلى هذه الحلة القشيبة للعناية ألقيت حلّةُ (الرحمة) التي يتألق منها بريق التودد والتعرف والانعام والاكرام وهي تغمر الكون كله وتضمه. وصفَّت على هذه الحلّة المنوّرة للرحمة العامة (الارزاقٌُ العامة)، ومُدّت موائدها التي تعرض الترحم والاحسان والاكرام والرأفة الكاملة وحسن التربية ولطف الربوبية.

نعم، ان هذه الموجودات؛ ابتداءً من الذرات الى الشموس، سواءً أكانت أفراداً أم أنواعاً وسواءً أكانت صغيرة أم كبيرة، قد اُلبست ثوباً رائعاً جداً، نُسج هذا الثوب من قماش (الحكمة) المزيّن بنقوش الثمرات والنتائج والغايات والفوائد والمصالح.. وأكسيت بحلّةِ (العناية) المطرزة بأزاهير اللطف والاحسان قدّت وفصلت حسب قامة كل شئ ومقاس كل موجود.. وعلى حلّة العناية هذه قُلّدت شارات (الرحمة) الساطعة ببريق التودد والتكرم والتحنن، والمتلألئة بلمعات الانعام والافضال… وعلى تلك الشارات المرصعة المنورة نُصبت مائدةُ (الرزق) العام على امتداد سطح الأرض بما يكفي جميع طوائف ذوي الحياة وبما يفي سد جميع حاجاتهم.

وهكذا، فهذا العمل يشير اشارة واضحة وضوح الشمس، الى حكيم مطلق الحكمة، وكريم مطلق الكرم، ورحيم مطلق الرحمة، ورزاق مطلق الرزق.

أحقاً ان كل شئ بحاجة الى الرزق؟

نعم، كما اننا نرى ان كل فرد بحاجة الى رزق يديم حياته، كذلك جميع موجودات العالم - ولا سيما الأحياء - الكلّي منها والجزئي، أو الكلّ والجزء، لها في كيانها، وفي بقائها، وفي حياتها وادامتها، مطاليب كثيرة، وضروريات عديدة، مادةً ومعنىً، ومع انها مفتقرةٌ ومحتاجة الى اشياء كثيرة مما لا يمكن أن تصل يدُها الى أدناها، بل لا تكفي قوّةُ ذلك الشئ وقدرتُه للحصول على أصغر مطاليبه، نشاهد ان جميع تلك المطاليب والارزاق المادية والمعنوية تُسلَّم الى يديه من حيث لا يحتسب وبانتظام كامل وفي الوقت المناسب تسليماً موافقاً لحياته متّسماً بالحكمة الكاملة.

ألا يدل هذا الافتقار، وهذه الحاجة في المخلوقات وهذا النمط من الإمداد والإعانة الغيبية، على رب حكيمٍ ذي جلال ومدبّر رحيم ذي جمال؟.

C اللمعة الثامنة

مثلما ان زراعة بذورٍ في حقلٍ ما، تدل على ان ذلك الحقل هو تحت تصرف مالك البذرة، وان تلك البذرة هي كـذلك تحــت تصــرفه، فان كلية العنـاصر في مزرعة الارض وفي كل جزء منها مع انها واحدة وبسيطة، وانتشار المخلوقات من نباتات وحيوانات في معظم الاماكن - وهي تمثل ثمرات الرحمة الإلهية ومعجزات قدرته وكلمات حكمته - مع انها متماثلة ومتشابهة ومتوطنة في كل طرف.. ان هذه الكلية والانتشار يدلان دلالة جَلية على انهما تحت تصرف ربّ واحد أحد، حتى كأن كلّ زهرة، وكل ثمرة، وكل حيوان، آية ذلكم الرب الكريم وختمه وطغراؤه، فاينما يحل - أيُّ منها - يقول بلسان حاله:

((مَنْ كنتُ آيتَه، فهذه الأرض مصنوعته، ومَنْ كنتُ ختمه فهذا المكان مكتوبُه، ومَنْ كنتُ علامتَه فهذا الموطن منسوجُهُ..)).

فالربوبية اذن على أدنى مخلوق، انما هي من شأن مَن يُمسك في قبضة تصرّفه جميعَ العناصر، ورعايةُ أدنى حيوان انما هي من شأن مَن لا يعجزه تربية جميع الحيوانات والنباتات والمخلوقات ضمن قبضة ربوبيته!.

هذه الحقيقة واضحة لمن لم يعم بصره!

نعم، ان كل فرد يقول بلسان مماثلته ومشابهته مع سائر الأفراد: ((مَنْ كان مالكاً لجميع نوعي يمكنه ان يكون مالكي، والاّ فلا)). وان كل نوع يقول بلسان انتشاره مع سائر الأنواع، وكذا الارض تقول بلسان ارتباطها بسائر السيارات بشمس واحدة وتساندها مع السموات: ((مَنْ كان مالكاً للكون كله يمكنه ان يكون مالكي، وإلاّ فلا)).

فلو قيل لتفاحةٍ ذات شعور: (أنتِ مصنوعتي أنا) فسترد عليه تلك التفاحة بلسان الحال قائلة:

صه.. لو استطعت ان تكون قادراً على تركيب ما على سطح الأرض من تفاح، بل لو اصبحت متصرفاً فيما على الأرض من نباتات مثمرة من جنسنا، بل متصرفاً في هدايا الرحمن التي يجود بها من خزينة الرحمة. فادَّعِ آنذاك الربوبية علَّي!!.

فتلطم تلك التفاحة بهذا الجواب فمَ ذلك الأحمق لطمة قوية..!.

C اللمعة التاسعة

لقد أشرنا الى آيات وأختام موضوعة على (الجزء والجزئي)، وعلى (الكل والكلّي)، وعلى (العالم الكلّي)، وعلى (الحياة) وعلى (ذوي الحياة) وعلى (الإحياء)، ونشير هنا الى آية واحدةٍ مما لا يحصى من الآيات في (الأنواع).

ان تكاليف أثمار عديدة لشجرة مثمرة تتسهل، ومصاريفها تتذلل، حتى تتساوى مع تكاليف ومصاريف ثمرة واحدة تربّت بايدي الكثرة، ذلك لأن الشجرة الواحدة المثمرة تُدار من مركز واحد، وبتربية واحدة، وبقانون واحد، أي ان الكثرة وتعدد المراكز يستدعيان ان تكون لكل ثمرة مصاريف وتكاليف وأجهزة - كميةً - بقدر ما تحتاجه شجرة كاملة. والفرق في النوعية ليس إلاّ. مثله في هذا مثل عمل عتاد لجندي، وتوفير تجهيزاته العسكرية، اذ يحتاج معامل بقدر المعامل التي يحتاجها الجيش بأكمله، فالعمل إذن اذا انتقل من يد الوحدة الى يد الكثرة فان التكاليف تزداد من حيث الكمية بعدد الأفراد. وهكذا فان ما يشاهد من أثر اليسر والسهولة الظاهرة في النوع انما هو ناشىء من السهولة الفائقة في الوحدة والتوحيد.

الخلاصة:

كما ان التشابه والتوافق في الأعضاء الاساس لأنواع جنسٍ واحد وافراد نوعٍ واحد، يثبتان ان تلك الأنواع والأفراد انما هي مخلوقات خالق واحد، كذلك السهولة المطلقة المشهودة، وانعدام التكاليف، تستلزمان بدرجة الوجوب ان يكون الجميع آثار صانع واحد، لأن وحدة القلم ووحدة السكة والختم تقتضيان هذا، والاّ لساقت الصعوبة التي هي في درجة الامتناع. ذلك الجنس الى الانعدام، وذلك النوع الى العدم.

نحصل من هذا: انه اذا اُسند الخلق الى الحق سبحانه وتعالى فان جميع الأشياء حُكْمها في سهولة الخلق كخلق شئ واحد، وان اُسند الى الاسباب فان كل شئ يكون حُكمه في الخلق صعباً كصعوبة خلق جميع الأشياء. ولما كان الأمر هكذا، فالوفرة الفائقة المشاهدة في العالم، والخصب الظاهر امام العين يظهران كالشمس آية الوحدة. فان لم تكن هذه الفواكه الوفيرة التي نتناولها مُلكاً لواحدٍ أحد، لما أمكننا ان نأكل رمانةً واحدة ولو أعطينا ما في الدنيا كلها ثمناً لصنعها.

C اللمعة العاشرة

كما ان الحياة التي تُظهر تجلي الجمال الرباني هي برهان الأحدية، بل هي نوع من تجلي الوحدة، فالموت الذي يُظهر تجلي الجلال الإلهي هو الآخر برهان الواحدية.

فمثلاً: ان الفقاعات والزبد والحباب المواجهة للشمس، والتي تنساب متألقة على سطح نهرٍ عظيم، والمواد الشفافة المتلمعة على سطح الأرض، شواهدٌ على وجود تلك الشمس، وذلك باراءتها صورة الشمس وعكسها لضوئها. فدوامُ تجلي الشمس ببهاء مع غروب تلك القطرات وزوال لمعان المواد، واستمرار ذلك التجلي دون نقص على القطرات والمواد الشفافة المقبلة مجدداً، لهي شهادة قاطعة على ان تلك الشُميسات المثالية، وتلك الأضواء المنعكسة، وتلك الأنوار المشاهدة التي تنطفئ وتضئ وتتغير وتتبدل متجدّدةً، انما هي تجليات شمسٍ باقية، دائمةٍ، عالية، واحدةٍ لا زوال لها. فتلك القطرات اللماعة اذن بظهورها وبمجيئها تدل على وجود الشمس وعلى دوامها ووحدتها.

وعلى غرار هذا المثال (ولله المثل الأعلى) نجد أن:

هذه الموجودات السيالة اذ تشهد بوجودها وحياتها على وجوب وجود الخالق سبحانه وتعالى، وعلى أحديته فانها تشهد بزوالها وموتها أيضاً على وجود الخالق سبحانه وعلى أزليته وسرمديته وأحديته.

نعم، ان تجدد المصنوعات الجميلة وتبدّل المخلوقات اللطيفة، ضمن الغروب والشروق وباختلاف الليل والنهار، وبتحول الشتاء والصيف، وتبدل العصور والدهور، كما انها تشهد على وجود ذي جمال سرمدي رفيع الدرجات دائم التجلي، وعلى بقائه سبحانه ووحدته، فان موت تلك المصنوعات وزوالها - باسبابها الظاهرة - يبيّن تفاهة تلك الاسباب وعجزها، وكونها ستاراً وحجاباً ليس إلاّ.. فيثُبت لنا هذا الوضع - اثباتاً قاطعاً - ان هذه الخِلقة والصَنعة، وهذه النقوش والتجليات انما هي مصنوعاتٌ ومخلوقاتٌ متجددةٌ للخالق جل جلاله الذي جميع أسمائه حُسنى مقدّسة، بل هي نقوشه المتحولة، ومراياه المتحركة وآياته المتعاقبة، وأختامه المتبدلة بحكمة.

الخلاصة: ان كتاب الكون الكبير هذا اذ تعلّمنا آياته التكوينية الدالة على وجوده سبحانه وعلى وحدانيته، يشهد كذلك على جميع صفات الكمال والجمال والجلال للذات الجليلة. ويثبت أيضاً كمال ذاته الجليلة المبرأة من كل نقص، والمنزّهة عن كل قصور. ذلك لأن ظهور الكمال في أثرٍ ما، يدل على كمال الفعل الذي هو مصدره، كما هو بديهي، وكمال الفعل هذا يدلّ على كمال الأسم، وكمال الأسم يدل على كمال الصفات، وكمال الصفات يدل على كمال الشأن الذاتي، وكمال الشأن الذاتي يدل على كمال الذات - ذات الشؤون - حَدساً وضرورة وبداهة.

فمثلاً: ان النقوش المتقنة والتزيينات البديعة لقصر كامل رائع، تدل على ما وراءها من كمال الأفعال التامة لبنّاء ماهر خبير.. وان كمال تلك الأفعال واتقانها ينطق بتكامل الأسماء لرتب وعناوين ذلك البنّاء الفاعل.. وتكامل الأسماء والعناوين يُفصح عن تكامل صفاتٍِ لا تحصى لذلك الصانع من جهة صنعته وتكامل تلك الصفات وابداع الصنعة يشهدان على تكامل قابليات ذلك الصانع وإستعداداته الذاتية المسماة بالشؤون. وتكامل تلك الشؤون والقابليات الذاتية تدل على تكامل ماهية ذات الصانع.

وهكذا الأمر في الصنعة المبدعة المبرّأة من النقص والفطور في الآثار المشهودة في العالم، وفي هذه الموجودات المنتظمة في الكون، التي لفتت اليها الأنظار الآية الكريمة: ] هَل تَرى مِن فُطُور[ (الملك:3)، فهي تدل بالمشاهدة على كمال الأفعال لمؤثرٍ ذي قدرة مطلقة، وكمال الأفعال ذاك يدل بالبداهة على كمال أسماء الفاعل ذي الجلال، وذلك الكمال يدل ويشهد بالضرورة على كمالِ صفاتِ مسمّى ذي جمال لتلك الأسماء، وكمال الصفات ذاك يدل ويشهد يقيناً على كمال موصوف ذي كمال، وكمال الشؤون ذاك يدل بحق اليقين على كمال ذاتٍ مقدسة ذات شؤون، دلالةً واضحة بحيث ان ما في الكون من أنواع الكمالات المشاهدة ليس الاّ ظلاً ضعيفاً منطفئاً - ولله المثل الأعلى - بالنسبة لآيات كماله ورموز جلاله واشارات جماله سبحانه وتعالى.

C اللمعة الحادية عشرة الساطعة كالشموس

لقد عُرّف في (الكلمة التاسعة عشرة) بان اعظم آية في كتاب الكون الكبير، واعظم اسمٍ في ذلك القرآن الكبير، وبذرة شجرة الكون، وأنور ثمارها، وشمس قصر هذا العالم، والبدر المنوّر لعالم الاسلام، والدال على سلطان ربوبية الله، والكشّاف الحكيم للغز الكائنات، هو سيدنا محمد الأمين عليه أفضل الصلاة والسلام، الذي ضم الأنبياء جميعاً تحت جناح الرسالة، وحمى العالم الاسلامي تحت جناح الاسلام، فحلّق بهما في طبقات الحقيقة متقدماً موكبَ جميع الأنبياء والمرسلين، وجميع الأولياء والصديقين، وجميع الأصفياء والمحققين مبيّناً الوحدانية واضحة جلية بكل ما أوتي من قوة، فاتحاً طريقاً سوياً الى عرش الأحدية، دالاً على طريق الايمان بالله، مثبتاً الوحدانية الحقة.. فأنّى لوهمٍ أو شبهةٍ أن يكون لهما الجرأة ليسدا أو يحجبا ذلك الطريق السوي؟

ولما كنّا قد بيّنا إجمالاً في (الكلمة التاسعة عشرة) و (المكتوب التاسع عشر) ذلك البرهان القاطع – الذي هو الماء الباعث للحياة ـ بأربع عشرة رشحة، وتسع عشرة اشارة، مع بيان أنواع معجزاته e ، لذا نكتفي بهذه الاشارة هنا، ونختمها بالصلاة والسلام على ذلك البرهان القاطع للوحدانية، صلاةً وسلاماً تشيران الى تلك الأسس التي تزكّيه وتشهد على صدقه:

اللّهم صلّ على مَن دلّ على وجوب وجودك ووحدانيتك، وشَهِد على جلالك وجمالك وكمالك.. الشاهدُ الصادق المصدَّق والبرهان الناطق المحقق.. سيد الأنبياء والمرسلين، الحاملُ سرَّ اجماعهم وتصديقهم ومعجزاتهم.. وإمامُ الأولياء والصديقين الحاوي سرّ اتفاقهم وتحقيقهم وكراماتهم، ذو المعجزات الباهرة والخوارق الظاهرة والدلائل القاطعة المحققة المصدّقة له.. ذو الخصال الغالية في ذاته، والأخلاق العالية في وظيفته، والسجايا السامية في شريعته المكملة المنزّهة عن الخلاف، مهبط الوحي الرباني باجماع المنزِل والمنزَل والمنزّل عليه.. سيّار عالم الغيب والملكوت.. مشاهد الأرواح ومصاحب الملائكة.. انموذج كمال الكائنات شخصاً ونوعاً وجنساً.. أنور ثمرات شجرة الخلقة، سراج الحق برهان الحقيقة، تمثال الرحمة، مثال المحبة، كشاف طلسم الكائنات، دلاّل سلطنة الربوبية، المرمِز بعلوية شخصيته المعنوية الى أنه نصبَ عين فاطر العالم في خلق الكائنات.. ذو الشريعة التي هي بوسعة دساتيرها وقوتها تشير الى أنها نظام ناظم الكون ووضع خالق الكائنات.

نعم، ان ناظم الكائنات بهذا النظام الأتم الأكمل هو ناظم هذا الدين بهذا النظام الأحسن الأجمل، سيّدنا نحن معاشر بني آدم ومهدينا الى الايمان نحن معاشر المؤمنين، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عليه افـضل الصلوات واتمّ التسليمات ما دامت الأرض والسماوات فان ذلك الشاهد الصادق المصدّق يشهد على رؤوس الاشهاد منادياً، ومعلماً لأجيال البشر خلف الأعصار والأقطار، نداءً علوياً بجميع قوته وبغاية جدّيته وبنهاية وثوقه وبقوة اطمئنانه وبكمال إيمانه:

((أشهد ان لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له)).

C اللمعة الثانية عشرة الساطعة كالشموس

ان هذه اللمعة الثانية عشرة من هذه الكلمة الثانية والعشرين لهي بحر الحقائق ويا له من بحر عظيم بحيث ان الكلمات الاثنتين والعشرين السابقة لا تكون الاّ مجرد اثنتين وعشرين قطرة منه. وهي منبع الأنوار ويا له من منبع عظيم بحيث ان تلك الكلمات الاثنتين والعشرين ليست سوى اثنتين وعشرين لمعة من تلك الشمس.

نعم ان كل كلمة من تلك الكلمات ((الاثنتين والعشرين)) السابقة ما هي الاّ لمعة واحدة لنجمِ آيةٍ واحدة تسطع في سماء القرآن الكريم. وما هي الاّ قطرة واحدة من نهر آية تجري في بحر الفرقان الكريم، وما هي الاّ لؤلؤة واحدة من صندوق جواهر آيةٍ واحدة من كتاب الله الذي هو الكنز الأعظم، لذا ما كانت الرشحة الرابعة عشرة من الكلمة التاسعة عشرة الاّ نبذة من تعريف ذلك الكلام الإلهي العظيم، كلام الله الذي نزل من الاسم الأعظم.. من العرش الاعظم.. من التجلّي الأعظم للربوبية العظمى، في سعة مطلقة، وسموّ مطلق، يربط الأزل بالأبد، والفرش بالعرش، والذي يقول بكل قوته ويردد بكل قطعية آياته: ((لا إله إلاّ هو)) مشهداً عليه الكون قاطبة.

حقاً ان العالم كله ينطق معاً ((لا إله الاّ هو)).

فاذا نظرتَ الى ذلك القرآن الكريم ببصيرة قلب سليم، ترى ان جهاته الست ساطعة نيّرة، وشفافة رائقة، بحيث لا يمكن لظلمةٍ ولا لضلالة ولا لشبهة ولا لحيلة أيّاً كانت ان ترى لها شقاً وفرجة للدخول في رحابه المقدس قط، حيث ان عليه: شارة الاعجاز، تحته: البرهان والدليل، خلفه (نقطة استناده): الوحي الرباني المحض، أمامه: سعادة الدارين، يمينه: تصديق العقل باستنطاقه، شماله: تثبيت تسليم الوجدان باستشهاده. داخله: هداية رحمانية خالصة بالبداهة، فوقه: أنوار إيمانية خالصة بالمشاهدة. ثماره: الأصفياء والمحققون والأولياء والصديقون المتحلّون بكمالات الانسانية بعين اليقين.

فاذا ألصقت أذنك الى صدر لسان الغيب مصغياً فانك ستسمع من أعمق الأعماق صدىً سماوياً في غاية الأيناس والامتاع، وفي منتهى الجدية والسموّ المجهّز بالبرهان، يردّد: (لا اِله الاّ هو) ويكررها بقطعية جازمة ويفيض عليك من العلم اليقين بدرجة عين اليقين بما يقوله من حق اليقين.

زبدة الكلام: ان الرسول الكريم e ، والفرقان الحكيم الذي كل منهما نور باهر، أظهرا حقيقة واحدة؛ هي حقيقة التوحيد.

فأحدهما: لسان عالم الشهادة، أشار الى تلك الحقيقة بأصابع الاسلام والرسالة وبيّنها بجلاء، بكل ما أوتي من قوة من خلال ألف من معجزاته وبتصديق جميع الأنبياء والأصفياء.

والآخر: هو بمثابة لسان عالم الغيب أظهر الحقيقة نفسها وأشار اليها بأصابع الحق والهداية، وعرضها بكل جدّ واصالة، من خلال أربعين وجهاً من وجوه الاعجاز، وتصديق من قبل جميع الآيات التكوينية للكون.. ألا تكون تلك الحقيقة أبهر من الشمس وأسطع منها، وأوضح من النهار وأظهر منه؟!!.

أيها الانسان الحقير المتمرّد السادر في الضلالة(1) كيف تتمكن ان تضارع هذه الشموس بما في رأسك من بصيص خافت هزيل؟ وكيف يمكنك الاستغناء عن تلك الشموس، وتسعى الى اطفائها بنفخ الأفواه؟ تباً لعقلك الجاحد، كيف تجحد ما قاله لسان الغيب ولسان الشهادة من كلام باسم رب العالمين ومالك الكون وتنكر ما دعا اليه من دعوة.

أيها الشقي الأعجز من الذباب والأحقر منه، مَن أنت حتى تورط نفسك في تكذيب مالك الكون ذي الجلال والاكرام؟

الخاتمة

أيها الصديق يا ذا العقل المنوّر والقلب المتيقظ! ان كنت قد فهمت هذه (الكلمة الثانية والعشرين) من بدايتها، فخذ بيدك الاثنتي عشرة لمعة دفعة واحدة، واظفر بها سراجاً للحقيقة، بقوة آلافٍ من المصابيح، واعتصم بالآيات القرآنية الممتدة من العرش الأعظم، وامتطِ براق التوفيق واعرج في سماوات الحقائق واصعد الى عرش معرفة الله سبحانه وقل:

أشهد ان لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك

وأعلن في المسجد الكبير للعالم على رؤوس موجودات الكون الوحدانية قائلاً:

لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربَّنا لا تُؤاخذنا إن نَسينا او اخطأنا ربَّنا ولا تحمِل علينا إصراً كما حَمَلته على الذين من قَبلنا رَبَّنا ولا تُحمّلنا ما لا طاقةَ لنا به واعفُ عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين[

] ربَّنا لا تُزغْ قلوبَنا بعد إذ هَدَيْتَنا وَهَبْ لنا مِن لَدُنكَ رحمةً إنك انتَ الوهّاب[

] ربّنا انك جامعُ الناس ليومٍ لا ريب فيه ان الله لا يُخلف الميعاد[

اللّهم صل على من أرسلتَه رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه اجمعين

وارحمنا وارحم أمته برحمتك يا أرحم الراحمين

آمين

] وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين[
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس