عرض مشاركة واحدة
قديم 03-20-2009
  #3
هيثم السليمان
عضو شرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: دير الزور _ العشارة
المشاركات: 1,367
معدل تقييم المستوى: 17
هيثم السليمان is on a distinguished road
افتراضي رد: قصّة حيّ بن يقظان للفيلسوف الصوفي ابن طفيل

خصائصها :

سعى ابن طفيل في قصته هذه إلى تقصي سيرة المعرفة الإنسانية والكشف عن الحقيقة بطريقة فنية أدبية اتسمت بالروعة والطرافة في البناء وجمال الوصف والسرد القصصي الذي يعتمد التشويق والإثارة والحوار الداخلي الأخاذ , ويتوصل حيّ إلى معرفة الحقيقة , ويتعرف على النواميس الطبيعية وأسرار الحياة والكون عن طريق الملاحظة والتأمل الواعي , والمشاهدة والتطلع الدائم , والتجربة والعقل , وتترابط أحداث القصة بأطوار الاكتشاف ومختلف حلقات المعرفة الإنسانية .
حيث تبدأ بموت الظبية سلسلة من الأزمات والمفاجآت , تتلاحق وتترابط مع أطوار حياة حيّ ونموه وتساؤلاته الهادفة إلى الحصول على المعرفة , والكشف عن الحقيقة , والتعرف على أسرار الحياة والكون بدءاً بالتساؤل عن سبب وفاة الظبية فاكتشافاته المختلفة المتعلقة بحياته في الجزيرة وتسخير الطبيعة لفائدته , ثم لقائه بأسال وزيارته وأسالَ لجزيرة أسال , وكان في كل مرحلة من هذه المراحل يشاهد عائقاً ويكشف حقائق ويستقر على رأيٍ ويزداد اطّلاعاً ومعرفة .
وإذا بحثنا في خصائص هذه القصة ؛ فهي لا تملك الخصائص الفنية للقصة المعروفة اليوم, من مقدمة وعقدة وحلّ , فقد استخدم ابن طفيل السرد طريقاً للتعبير عن أفكاره ـ التي أراد أن يبرهنها في هذه القصة , فهو فيلسوف يهتم بالمضمون الفكري أكثر من اهتمامه بالشكل القصصي .
ولكنه مع ذلك أعطى شكلاً فنياً لقصته , مع بساطته , يعد من أوائل الذين سهلوا الطريق للقصة العربية , حيث أن عصره لم يعرف القصة ؛ إلا في بعض الرسائل التي يمكن اعتبارها بذرة أولية للقصة العربية , ومع ذلك فهو أعطى للقصة بعداً زمانياً وآخر مكانياً , وشيئاً من التحليل النفسي .
أما أسلوب القصة ؛ فقد استخدم ابن طفيل أسلوباً بسيطاً في سرد قصته , اعتمد فيه الألفاظ السهلة المألوفة , مع شيء من الرمز والإيحاء , فبطل قصته يرمز للعقل السليم الذي يتوصل إلى الحقيقة عن طريق المسلمات المعرفية , وقد استخدم في كل هذا جملاً بسيطة , مفهومة , مترابطة , خالية من التعقيد , يضطر أحياناً إلى إيراد بعض الاستطراد فيترك القصة بين الحين والآخر ليروح عن القارئ , وكونه صوفياً فقد استخدم كثيراً من ألفاظهم وتعابيرهم المتعلقة بالمشاهدة والكشف .
كما تظهر ثقافته العلمية واطلاعه على كثير من العلوم من خلال ما بثه في جوانب القصة من أفكار وألفاظ علمية تدل على ما كان يملكه من العلوم , فهو مطلع على علوم أرخميدس ؛ حيث قام حيّ بتجربة مماثلة لتجربته في قوة الدافعة المعروفة باسمه ( دافعة أرخميدس ) , فقد قام بملء زق جلد هواءً وربطه ثم غاص به تحت الماء فلاحظ قوة دفعه إلى الأعلى ... ومن ذلك تعريفه لكل من ( التغذي و النمو ) (1) تعريفاً علمياً فلسفياً , فالتغذي : هو أن يخلف المتغذي بدل ما تحلل منه بأن يحيل إلى التشبيه بجوهره مادة قريبة منه يجتذبها إلى نفسه . والنمو : هو الحركة في الأقطار الثلاثة على نسبة محفوظة في الطول والعرض والعمق .
أما الألفاظ العلمية , فقد أورد الكثير منها في قصته , من مثل ( الأسطقصات (2) , التسخين , التبريد , الإضاءة , التكثيف , الشفافة , الفلك , علم الهيئة , القطب , خط الاستواء , الطول , العرض , العمق ...) .
وقد استمد من التاريخ قبساً , فعندما تحدث عن الطريق الثانية لولادة حيّ بن يقظان , وهو أنه كان بإزاء جزيرة الواقواق جزيرة يملكها رجل شديد الأنفة والغيرة , وكانت له أخت ذات جمال وحسن باهر , فعضلها ومنعها من الزواج إذا لم يجد لها كفئاً , وكان له قريب يسمى "يقظان" فتزوجها سراً وحملت منه ووضعت طفلاً , ولما خافت أن يفتضح أمرها وينكشف سرها وضعته في تابوت أحكمت زمّه ( إغلاقه ) وخرجت به في أول الليل إلى ساحل البحر وقذفت به في اليمّ فحملته أمواجه إلى ساحل تلك الجزيرة , فابن طفيل يستلهم ذلك مما أوردته بعض كتب التاريخ والأدب عن قصة العباسة أخت هارون الرشيد مع جعفر بن يحيى البرمكي , حيث (3)" أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عباسة بنت المهدي , وكان يحضرهما إذا جلس للشرب , فقال لجعفر : أزوجكها ليحلّ لك النظر إليها ولا تقربها فإني لا أطيق الصبر عنها , فأجابه إلى ذلك فزوجها منه , وكانا يحضران معه , ثم يقوم عنهما , وهما شابان , فجامعها جعفر فحملت منه , فولدت له غلاماً فخافت الرشيد , فسيرته مع حواضن له إلى مكة فأعطته الجواهر والنفقات ..." (4) .
والصلة واضحة بين ميلاد كل من حيّ وابن العباسة سرّاً ومحاولة كل منهما تهريب ابنها , كما أن ابن طفيل استلهم في وضع أم حيّ له في التابوت وقذفه في اليمّ قصة أم موسى عليه السلام في القرآن الكريم حين خافت عليه من فرعون أن يقتله { أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ } (طـه:39) .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


1- قصة حيّ بن يقظان : ص59
2- الأسطقصات هي :" الأرض , والماء , والهواء , والنار " , التنبيه والإشراف : ج1 ص42
3- الكامل في التاريخ : ج5 ص348
4- ينظر في قصة العباسة :تاريخ الطبري(5/1729-1732) , وفيات الأعيان(1/328-346) , مرآة الجنان(1/404 وما بعدها) , البداية والنهاية(مج5 ج10/208-209) , النجوم الزاهرة(2/121) , المقدمة(19) ، إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس( 457 ) , العقد الفريد(5/71-72)
هيثم السليمان غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس