رمضان وموائد الحب العائلى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رمضان وموائد الحب العائلى
تُعتبر المناسبات الإسلامية المرتبطة بأداء بعض شعائر الإسلام وفرائضه، كالحج والعمرة، والصلاة والصيام وغيرها من أهم الوسائل التربوية والاجتماعية لبث روح الألفة والمودة والتعاون على الخير بين المسلمين، ففي ممارسة تلك الشعائر -بالصورة التي شرعها الإسلام- تأكيد على ما تهدف إليه من ترسيخ معنى الاجتماع، ولمّ الشمل، وتأليف القلوب والتوجه بهذا كله إلى الله تعالى، فصلاة الجماعة، وصلاة الجمعة، والنفرة إلى الحج والعمرة، وحتى إيتاء الزكاة وبذل الصدقات، وإطعام الطعام، كل ذلك يؤكد تلك المعاني السامية، ويأتي شهر رمضان وما فيه من فريضة الصيام، والاجتماع على صلاة التراويح، وزيادة الإقبال على فعل الخيرات، يأتي ليجدد على مستوى الأمة جمعاء، وعلى مستوى الأسرة المسلمة -بوجه خاص- ليجدّد فيها ما اندثر أو كاد من أواصر المحبة والمودة والتواصل بين أفرادها بعدما كادت شواغل الحياة الدنيا والسعي فيها إلى فرض حالة من الاغتراب بين أفراد العائلة الواحدة.
الأرحام بين التواصل والتشاغل
لقد دعم الإسلام بتشريعاته وعباداته وقيمه الاجتماعية الفذّة سعادة الأسرة، فأحكم وثاقها بمن تربطها بهم قربى، وشدّ أزرها بمـا أوجب من تراحم الإخوة والأخوات، وبني العمومة والعمات ومن يليهم، فليس أرضى لله تعالى من صلة الرحم التي أمر أن توصل، وبر الأهل والعشيرة، الذين يزكو عندهم إسداء المعروف، ويترك فيهم أثرًا طيبًا، وليس أجلب لسخط الله من إهدار هذه الحقوق التي يوغر إهدارها الصدور، ويثير العداوة ويؤرّث الأحقـاد، ويجعل الأسرة المتعاطفة متدابرة متخالفة.
ورعاية أولي الأرحام، والتوسعة عليهم، واستغلال هذه الفرصة الزمنية والفريضة الدينية للاجتماع بهم، هو عصمة لهذه الأسرة من التفكك، وزمامها من الانحلال، والزوال .
لا عذر للقطيعة
مهما التمسنا لأنفسنا من أعذار فليس لمن قطع رحمه، أو لم يبذل سعيًا لصلتها، والتواصل مع أقاربه وعائلته- أقول ليس لنا أعذار، فلدينا أوقات بين الحين والحين مهدرة فيما لا طائل منه؛ فلو حفظناها للجلوس مع أسرنا والتقارب مع عائلاتنا لكان لذلك أبلغ الأثر في ذلك البعد الاجتماعي العميق، وإلا فقد وضع القرآن الكريم قاطعي الرحم، في سياقات خطيرة تهزّ مَن تدبرها هزًا عنيفًا لخطورة حق الأرحام في الصلة والتوادّ، من ذلك قوله تعالى: ( إنما يتذكر أُولو الألباب. الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ) [الرعد:19-21].
وقال: ( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) [سورة الرعد:26]
فرصتنا في رمضان
في نظرة فاحصة لمجتمعاتنا نلحظ أنها تعيش حالة من الفتور الاجتماعي، ويوماً بعد آخر نجد التباعد بين أفراد الأسرة الواحدة، فلم تعد حالة التلاقي والتواصل العائلي تحتل مكانتها بين صفوفنا، وهذه الحالة من التفكّك الاجتماعي قد تؤدي إلى العديد من المشاكل الاجتماعية، ولعل بعضها قد ظهر على الساحة، كحالة اللامبالاة والعديد من المشاكل الشبابية، وغيرها.
ولهذا السبب نحن بحاجة إلى إعادة النظر في علاقاتنا الاجتماعية، والبحث عن أسبابها، وعلاجها أيضاً، ومؤكد أن شهر رمضان المبارك يُعد برنامجاً اجتماعياً متكاملاً، هادفاً إلى التقريب الاجتماعي، وردم الفجوة الاجتماعية وصهر المجتمع في بوتقة واحدة، وذلك يتجلى من خلال التعاليم والأحاديث الواردة بشأنه.
وشهر رمضان هو الفرصة المواتية للبدء في تلك السياسة العائلية؛ فهو الفرصة المواتية للتجمع في مجالس عائلية يرفرف عليها الإيمان، كما أنه فرصة للتجمع على مائدة واحدة مرتين يوميًا(الإفطار والسحور)؛ إذ يندر ذلك في الحياة اليومية لاختلاف ظروف عمل الآباء عن الظروف الدراسية لأبنائهم المراهقين، كما أنه فرصة لبث روح جديدة، تتحقق في جوها متع متعددة لجميع الأفراد ناتجة عن تقاربهم والتصاقهم وطرح خواطرهم أو مشكلاتهم أو تعليقاتهم على كل ما مرّ بهم خلال اليوم من أحداث أو أخبار أو أفكار.
وإذا كان رمضان ـ كما قلنا ـ شهر التواصل مع الأهل والأقارب والأرحام، فينبغي ألا يكون ذلك على حساب أيام رمضان المعدودات فتتحول جلسات الزيارات الرمضانية إلى جلسات لملء البطون من كل ما لذّ وطاب، والتثاقل عن صلاة التروايح أو التكاسل عن قراءة القرآن، فلا يكون هذا التواصل باب شر يُفتح فيه حديث الغيبة والنميمة والاستهزاء وضياع الأوقات. بل تكفي زيارة السؤال والاطمئنان، ونشر الخير، وإبداء المحبة، وتفقد الحال، ومساعدة المحتاج، ولتكن مجالسَ معطّرة بذكر الله -عز وجل- وما فيه نفع وخير ورجاء المثوبة.
موائد للطعام .. وللشورى أيضًا!
ومن أهم الفوائد الاجتماعية التي يحققها شهر رمضان الكريم للأسرة ، أنها حين يجتمع أفرادها على طعام الإفطار أو السحور تكون لديهم فرصة نفسية فريدة للحديث الودي عما يتعلق بشؤونهم، من هنا ينبغي أن تسود روح المناقشات الحرة وأن يظلل تلك الجلسة العائلية "الرمضانية" روح "الشورى" والذي يضيف للأسرة بعدًا أخلاقيًا واجتماعيًا وتربويًا يستفيد منه صغيرها وكبيرها.
إن الشورى "الأسرية" لا تنقص من مكانة الرجل، بل بالعكس ترفعه في أعين أولاده وتزيد هيبته، وتهديه معهم (بإذن الله) إلى سواء الصراط.
إن الفوائد التي نجنيها من هذه الشورى الأسريّة كثيرة ومتنوعة، نجمل بعضها فيما يلي:
1- الالتزام بمنهج الله في كل حياته.
2- القدرة على الحوار وتقبّل الآخرين: فكثير من الأولاد والنساء إذا جلسوا مجلساً لا يستطيعون إبداء آرائهم؛ لأنهم لم يتعودوا هذا في بيوتهم، وكثير منهم لا يتقبلون الآخرين؛ لأنهم لم يتعودوا هذا في بيوتهم أيضاً... وهذا خطير على نشأة الأولاد.
3- تفتق المواهب: إن عملية التفكير صعبة، ولكن عندما يُسأل الإنسان يبدأ بجمع الخيوط تماماً لينسج حلاً، وربما يكون حلاً متميزاً.
4- الابتعاد عن الخطأ.
إذا وقع الخطأ بعد المشورة يتحمل الجميع الخطأ، ولا يتهم أحد بالتقصير.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتواصل العائلي
وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في كل شيء بشهادة ربه له (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا)، فقد كان ـ كذلك ـ عليه الصلاة والسلام في بره بأهله وحَدبه على مؤمنهم وكافرهم على السواء، ولعل قبسًا من سيرته العطرة يتلألأ بهذا السلوك النبوي العظيم.
فلقد كان إسلام حمزة براً منه بابن أخيه ( أي محمد صلى الله عليه وسلم )، يوم أن عاد من الصيد، فقالت له امرأة، إن أبا جهل آذى ابن أخيك وسبّ أباه، فذهب حمزة من فوره إلى أبي جهل فشجه وأنبّه وقال : أتسبّ محمداً، وأنا على دينه وأقول ما يقول ؟ وبهت عدو الله وعدو رسوله عند ذلك، وكان إسلام حمزة أوجع لقلبه، وأنكى من هذا الأذى المادي الذي أصاب جسمه، وبقي الرسول يذكر هذه المِنّة لعمه، حتى وقف على جثمانه حين استشهد في أُحُد ، وقال: يرحمك الله يا عم؛ فلقد كنت وصولاً للرحم، فعولاً للخيرات!
ولنتأمل في ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على سيد الشهداء (حمزة ـ رضي الله عنه)، يختار من عمل الشهيد فقط هذا الوصف "فلقد كنت وصولا للرحم فعولاً للخيرات).
وكان فتح خيبر وكأنه عيد من أعياد الإسلام ، فقد عاد يومئذٍ جعفر من الحبشة ، فقال النبي: "ما أدري بأيهما أنا أشد فرحاً: بفتح خيبر أم برجوع جعفر؟" وتوالت الأيام ، ونَعِم جعفر بالشهادة في غزوة مؤتة، وضجّت المدينة ببكاء أهالي الشهداء، وسمع الناس إلى النبي وهو يقول: " لكنّ جعفر لا بواكي له" ، ثم يلتفت إلى أهـله ويقول: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد نزل بهم ما يشغلهم" . رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد.
يقول عبد الله بن جعفر : جاءنا النبي بعد ثلاث من موت جعفر ، فقال: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم ، وادعوا إليّ بني أخي ، فجيء بنا، كأننا أفراخ، فأمر الحالق فأصلح من شعرنا ثم داعبنا". رواه أبو داود والنسائي.
مصطفى الأزهري
الإسلام اليوم
__________________