عرض مشاركة واحدة
قديم 05-22-2009
  #2
أبو يوسف
عضو شرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 518
معدل تقييم المستوى: 16
أبو يوسف is on a distinguished road
افتراضي رد: ترجمة سيدي أبو مدين التلمساني

ومن مشهور كراماته أنّه كان ماشياً يوماً على ساحل، فأسره العدوّ، وجعلوه في سفينة
فيها جماعة من أسرى المسلمين، فلمّا استقرّ في السفينة توقفت عن السير، ولم تتحرّك من
مكانها، مع قوّة الريح ومساعدتها، وأيقن الروم أنهم لا يقدرون على السير، فقال بعضهم:
أنزلوا هذا المسلم فإنّه قسيس، ولعلّه من أصحاب السرائر عند الله تعالى، وأشاروا له
بالنزول، فقال: لا أفعل إلاّ إن أطلقتم جميع من في السفينة من الأسارى، فعلموا أن لا بد
لهم من ذلك، فأنزلوهم كلّهم، وسارت السفينة في الحال.

ومن كراماته أنّه لمّا اختلف طلبة بجاية في حديث إذا مات المؤمن أعطي نصف الجنّة
وأشكل عليهم ظاهره: إذ يموت مؤمنين يستحقان كل الجنّة، فجاءوا إليه وهو يتكلّم على
رسالة القشيري، فكاشفهم في الحال بلا سؤال، وقال لهم: المراد أنّه يعطى نصف جنته هو،
فيكشف له عن مقعده ليتنعم به وتقر عينه، ثم النصف الآخر يوم القيامة.

وكان أولياء وقته يأتونه من البلدان للاستفتاء فيما يعرض لهم من المسائل.
وذكر تلميذه الصالح سيدي عبد الخالق التونسي عنه أنّه قال: سمعت برجل يسمى موسى
الطيار يطير في الهواء ويمشي على الماء، وكان رجل يأتيني عند صدع الفجر فيسألني عن
مسائل لا يفهمها الناس، فوقع ليلة في نفسي أنّه موسى الطيار الذي سمعت به، وطال عليّ
الليل في انتظاره، فلمّا طلع الفجر نقر الباب رجل، فإذا هو الذي يسألني، فقلت له: أنت
موسى الطيار؟ فقال: نعم، ثم سألني وانصرف، ثم جاءني مع رجل آخر فقال لي: صلّينا
الصبح ببغداد، وقدمنا مكة فوجدناهم في صلاة الصبح، فأعدنا معهم، وجلسنا حتى
صلِنا الظهر، وأتينا القدس فوجدناهم في الظهر، فقال لي صاحبي هذا: نعيد معهم، فقلت:
لا، فقال لي: ولم أعدنا الصبح بمكّة؟ فقلت له: كذلك كان شيخي يفعل، وبه أمرنا،
فاختلفنا وأتيناك للجواب، فقال أبو مدين: فقلت لهم: أمّا إعادة الصبح بمكة فلأنّها بها عين
اليقين، وببغداد علم اليقين، وعين اليقين أولى من علم اليقين، وصلاتكم الظهر بمكة - وهي
أم القرى - فلذلك لا تعاد في غيرها، قال: فقنعا به وانصرفا.

وكان استوطن بجاية ويقول: إنّها معينة على طلب الحلال، ولم يزل بها يزداد حلاه على مر
الليالي رفعة، ترد عليه الوفود وذوو الحاجات من الآفاق، ويخبر بالوقائع والغيوب، إلى أن
وشى به بعض علماء الظاهر عند يعقوب المنصور، وقال له: إنّا نخاف منه على دولتكم،
فإن له شبهاً بالإمام المهدي، وأتباعه كثيرون بكل بلد، فوقع في قلبه وأهمّه شأنه، فبعث إليه
في القدوم عليه ليختبره، وكتب لصاحب بجاية بالوصيّة به والاعتناء، وأن يحمل خير محمل،
فلمّا أخذ في السفر شق على أصحابه وتغيروا وتكلّموا، فسكّتهم وقال لهم: إن منيتي
قربت، وبغير هذا المكان قدرت، ولا بد لي منه، وأنا شيخ كبير ضعيف، لا قدرة لي على
الحركة، فبعث الله تعالى من يحملني إليه برفق، ويسوقني إليه أحسن سوق، وأنا لا أرى
السلطان ولا يراني، فطابت نفوسهم، وذهب بؤسهم، وعلموا أنه من كراماته، فارتحلوا به
على أحسن حال، حتى وطئوا به حوز تلمسان، فبدت له رابطة العباد، فقال لأصحابه:
ما أصلحه للرقاد، فمرض مرض موته، فلمّا وصل وادي يسر اشتد به المرض، ونزلوا به
هناك، فكان آخر كلامه: الله الحق.
وتوفّي رحمه الله تعالى سنة أربع وتسعين وخمسمائة، فحمل إلى العباد، مدفن الأولياء
الأوتاد، وسمع أهل تلمسان بجنازته، فكانت من المشاهد العظيمة، والمحافل الكريمة، وفي
ذلك اليوم تاب الشيخ أبو علي عمر الحباك، وعاقب الله تعالى السلطان، فمات بعده بسنة
أو أقل.
ونقل المعتنون بأخباره أن الدعاء عند قبره مستجاب، وجربه جماعة، وقد زرته مئين من
المرات، ودعوت الله تعالى عنده بما أرجو قبوله.

ومن كلامه:
من رزق حلاوة المناجاة زال عنه النوم، ومن اشتغل بطلب الدنيا ابتلي فيها بالذل، ومن لم يجد من قلبه زاجراً فهو خراب.
وقوله: بفساد العامّة تظهر ولاة الجور، وبفساد الخاصّة تظهر دجاجلة الدين الفتّانون.
وقوله: من عرف نفسه لم يغترّ بثناء الناس عليه، ومن خدم الصالحين ارتفع، ومن حرمه الله
تعالى احترامهم ابتلاه الله بالمقت من خلقه، وانكسار العاصي خير من صولة المطيع.
وقوله: من علامة الإخلاص أن يغيب عنك الخلق في مشاهدة الحق.
وسئل عن المحو والشيخ، فقال: المحو من شهدت له ذاتك بالتقديم، وسرك بالاحترام
والتعظيم، والشيخ من هداك بأخلاقه، وأيدك بإطراقه، وأنار باطنك بإشراقه، إلى غير ذلك
من كلامه النيّر، وهو بحر لا ساحل له.
وله نظم كثير مشهور بأيدي الناس، وممّا يُنسب له قوله:
بكت السحاب فأضحكت لبكائها = زهر الرياض وفاضت الأنهار
وقد أقبلت شمس النّهار بحلّة = خضرا، وفي أسرارها أسرار
وأتى الربيع بخيله وجنوده = فتمتعت في حسنه الأبصار
والورد نادى بالورود إلى الجنى = فتسابق الأطيار والأشجار
والكأس ترقص والعقار تشعشعت = والجوّ يضحك والحبيب يزار
والعود للغيد الحسان مجاوب = والطير أخفى صوته المزمار
لا تحسبوا الزمر الحرام مرادنا = مزمارنا التّسبيح والأذكار
وشرابنا من لطفه، وغناؤنا = نعم الحبيب الواحد القهار
والعود عادات الجميل، وكأسنا = كأس الكياسة، والعقار وقار
فتألفوا وتطيبوا واستغنموا = قبل الممات فدهركم غدّار
والله أرحم بالفقير إذا أتى = من والديه فإنّه غفّار
ثمّ الصلاة على الشّفيع المصطفى = ما رنّمت بلغاتها الأطيار

( نفح الطيب : المقري التلمساني )
__________________
خَليليَّ وَلّى العمرُ مِنّا وَلَم نَتُب = وَنَنوي فعالَ الصالِحات وَلَكِنّا

التعديل الأخير تم بواسطة أبو يوسف ; 05-22-2009 الساعة 06:18 AM
أبو يوسف غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس