عرض مشاركة واحدة
قديم 03-20-2009
  #4
هيثم السليمان
عضو شرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: دير الزور _ العشارة
المشاركات: 1,367
معدل تقييم المستوى: 17
هيثم السليمان is on a distinguished road
افتراضي رد: قصّة حيّ بن يقظان للفيلسوف الصوفي ابن طفيل

وقد كان للقرآن الكريم وجود كبير في القصة , فقد استمد من قصة الكهف حين أوى حيّ إلى الأجمة ليختبأ فيها {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} (الكهف:10) , واقتبـس من قصـة قابيل وهابيل عندما اقتتل الغرابان , فقام أحدهما بدفن الآخر {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } (المائدة:31) , وذلك عندما أراد دفن الظبية بعد موتها .
وقد أورد ابن طفيل جملة من آي الذكر الحكيم , منها ما أورده بحرفيته كالآيات , {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14) ، { لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (سـبأ:3) , {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يّـس:82) , {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص:88) , { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (غافر:16) , {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم:7) , {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (البقرة:7) , {فَأَمَّا مَنْ طَغَى,وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا,فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعـات:37,38,39 ) , {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} (مريم:71) , {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الفتح:23), {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ,أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}(الواقعة:11,10) , {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال:17) .
ومنها ما أخذ معناه وتصرف في صياغته , كقوله :" وشاهد ذواتاً كثيرة مفارقة للمادة كأنها مرايا صدئة , قد ران عليها الخبث , ورأى لهذه الذوات من القبح والنقص ما لم يقم قط بباله , ورآها في آلام لا تنقضي وحسرات لا تنمحي , قد أحاط بها سرادق العذاب , وأحرقتها نار الحجاب , ونشرت بمناشير بين الانزعاج والانجذاب " (1) , فهنا يظهر تأثره الكبير بآي الذكر الحكيم حيث اقتبس المفردات القرآنية واستقى معنى الآيات ليعبر عن مراده من القول , وقد جمع فيه معاني الآيات التالية: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين:14) , {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور} (فاطر:36) , {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} (الكهف:29) , {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} (لأعراف:46) , ومن اقتباساته القرآنية أيضاً , قوله :" ويزيل الظنون المعترضة , ويعيذ من همزات الشياطين " (2) , مأخوذ من قوله تعالى : {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} (المؤمنون:97) , وقوله:" وتحقق عنده أنه من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (3) , مأخوذ من قوله تعالى : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس:62) , وقوله:" وأنهم كالأنعام بل أضل سبيلاً " (4) , مأخوذ من قوله تعالى : { إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } (الفرقان:44) , وقوله:" وابتهلا إلى الله تعالى أن يهيئ لهما من أمرهما رشداً" (5) , مأخوذ من قوله تعالى : {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} (الكهف:10) .

ومن ذلك أيضاً قوله:" وتصفح طبقات الناس بعد ذلك , فرأى كل حزب بما لديهم فرحين , قد اتخذوا إلههم هواهم, ومعبودهم شهواتهم , وتهالكوا في حطام الدنيا , ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر , لا تنجع فيهم الموعظة ولا تعمل فيهم الحكمة الحسنة , ولا يزدادون بالجدل إلا إصراراً , وأما الحكمة فلا سبيل لهم إليها ولا حظَّ لهم منها , قد غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ... واشتروا بها ثمناً قليلاً , و ألهاهم عن ذكر الله تعالى التجارة والبيع , ولم يخافوا يوماً تنقلب فيه القلوب والأبصار ..." (6) , فقد اقتبس جمله من الآيات : {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون:53) , {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم:32) , { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28) ,{فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} (طـه:16) , {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص:50) , {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (البقرة:86) , {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} (لأعراف:51) , {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ,حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} (التكاثر:2,1) , {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل:125) , {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت:35) , { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (البقرة:41) , { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة:44) , {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً }(الجمعة:11) , {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة:254) , {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}
وكما استمد ابن طفيل تعابيره من القرآن الكريم ؛ فقد استقى من الحديث الشريف , إما رواية عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه عزّ وجلّ : { كنت سمعه الذي يسمع به , وبصره الذي يبصر به } (7) , أو استشهاداً به ضمن سياق الكلام { شاهد ما لا عين رأت , ولا أذن سمعت , ولا خطر على قلب بشر } (8) , حيث يصف المشاهد التي يعجز عن وصفها الواصفون عند رؤية الله تعالى , ومن ذلك قوله : { فلكل عمل رجال , وكل ميسر لما خلق له } (9) .
ويأخذ كلام علي بن أبي طالبرضي الله عنه : " إذ الدنيا والآخرة كضرتين ؛ إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى " (10) .

ونجده يستفيد من حافظته الشعرية في تدعيم قيمة نصه الفنية , يقول:" سئمت تكاليف الحياة الدنيا " (11) , وهو مقتبس من قول زهير بن أبي سلمى: (12)
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش = ثمانين حولاً , لا أبا لك , يسأم

ونلاحظ في هذه القصة عنصر الصدفة يلعب دوراً كبيراً منذ البداية حتى النهاية , إذ لعبت دورها عندما وصل حيّ بن يقظان إلى الجزيرة حيث فقدت الظبية ابنها فرعت حيّاً , والصدفة أيضاً هي التي أرسلت الغرابين ليقتتلا فيقتل أحدهما الآخر ليعلم حيّاً كيف يدفن جسد الظبية , والصدفة هي التي أشعلت النار ليكتشفها حيّ ويعرف أثرها , وبالتالي فالصدفة أيضاً هي الأساس في تفكره في وجود عنصر من هذه النار في روح الظبية التي ماتت .
وقد كان للخيال دور كبير في القصة , فهي بالأساس تقوم عليه في مكانها وأحداثها , حتى لنستطيع أن نعدها شيئاً من الأسطورة .
إذن فقد اعتمد ابن طفيل في قصته الخيال الفلسفي الصوفي المرتكز على المبادئ الإسلامية , والحقائق العلمية مدللاً على إمكانية العقل السليم التوصل إلى حقيقة الذات الإلهية عن طريق التأمل و المشاهدة والتطلع الدائم و التجربة .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ


1- قصة حيّ: ص111
2- المصدر نفسه : ص116
3- المصدر نفسه : ص121
4- المصدر نفسه : ص123
5- المصدر نفسه : ص123
6- قصة حيّ: ص125
7- الأحاديث القدسية: ص75-76 , رياض الصالحين: ص157-158 , ونص الحديث { ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه , وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه , فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به , وبصره الذي يبصر به , ويده التي يبطش بها , ورجله التي يمشي بها , وإن سألني أعطيته , ولئن استعاذني لأعذته }
8- المنهاج: ص1973-رقم الحديث 2825 , مختصر صحيح البخاري: ص586-رقم الحديث 1679 , ونص الحديث { قال رسول الله  :" يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصاحين ما لا عين رأت ,ولا أذن سمعت , ولا خطر على قلب بشر , ذخراً , بَلْهَ ما أطلعكم الله عليه }
9- المنهاج: ص1876-رقم الحديث 2649 , ونص الحديث { قيل : يا رسول الله ! أعلم أهل الجنة من أهل النار ؟ قال: فقال : نعم . قال: قيل :ففيم يعمل العاملون ؟ قال :" كل ميسر لما خلق له " }
10- إحياء علوم الدين: ج3ص22 , ونصه: { قال علي عن الدنيا والآخرة : هما ككفتي ميزان , وكالمشرق والمغرب , وكالضرتين ؛ إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى }
11- قصة حيّ: ص114
12- شرح المعلقات السبع: ص109
هيثم السليمان غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس