الموضوع: اللمعات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-01-2011
  #14
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

الـمذكـِّرة الثامنة

يامَن لا يدرك مدى اللذة والسعادة في السعي والعمل.. ايها الكسلان! اعلـم، ان الـحق تبارك وتعالى قد ادرج لكمال كرمه جزاءَ الـخدمة في الـخدمة نفسها، وادمـج ثوابَ العمل في العمل نفسه.

ولأجل هذا كانت الـموجودات قاطبة بـما فيها الـجـمادات – من زاوية نظر معينة – تـمتثل الأوامر الربانية بشوق كامل، وبنوع من اللذة، عند ادائها لوظائفها الـخاصة بها والتي تطلق عليها((الاوامر التكوينية)). فكل شيء ابتداءً من النـحل والنـمل والطير.. وإنتهاء الى الشـمس والقمر، كلٌّ منها يسعى بلذة تامة في اداء مهماتها. أي: اللذة كامنة في ثنايا وظائف الـموجودات، حيث انها تقوم بها على وجه من الاتقان التام، برغم أنها لا تعقل ما تفعل ولا تدرك نتائج ما تعمل.

T فان قلت: ان وجود اللذة في الاحياء مـمكنٌ، ولكن كيف يكون الشوقُ واللذةُ موجودين في الـجـمادات؟

فالـجواب: ان الـجـمادات تطلب شَرَفاَ ومقاماً وكمالاً وجـمالاً وانتظاماً، بل تبـحث عن كل ذلك وتفتش عنه لأجل إظهار الاسـماء الإلـهية الـمتـجلية فيها، لا لذاتها، لذا فهي تتنور وتترقى وتعلو اثناء إمتثالـها تلك الوظيفة الفطرية، حيث أنها تكون بـمثابة مرايا ومعاكس لتـجليات اسـماء ((نور الانوار)).

فمثلاً: قطرةٌ من الـماء – وقطعة من الزجاج – رغم أنها تافهةٌ وقاتـمة في ذاتها، فإذا ما توجهت بقلبها الصافي الى الشـمس، تتـحول الى نوع من عرشٍ لتلك الشـمس، فتلقاك بوجه مضيء!

وكذلك الذرات والـموجودات – على غرار هذا الـمثال – من حيث قيامها بوظيفة مرايا عاكسة لتـجليات الاسـماء الـحسنى لذي الـجلال والـجـمال والكمال الـمطلق، فانها تسـمو وتعلو الى مرتبة من الظهور والـجلاء والتنوّر هي غاية في العلو والسـمو، إذ ترتفع تلك القطرة وتلك القطعة من حضيض الـخـمود والظلـمة الى ذروة الظهور والتنور. لذا يـمكن القول: بأن الـموجودات تقوم باداء وظائفها في غاية اللذة والـمتعة ما دامت تكتسب بها مرتبة نورانية سامية، واللذة مـمكنة ان كانت للـموجود حصة من الـحياة العامة. وأظهر دليل على ان اللذة كامنة في ثنايا الوظيفة نفسها هو ما يأتي:

تأمل في وظائف اعضائك وحواسـّك، ترَ أن كلاً منها يـجد لذائذ متنوعة اثناء قيامه بـمهامه – في سبيل بقاء الشخص او النوع – فالـخدمة نفسها، والوظيفةُ عينها تكون بـمثابة ضربٍ من التلذذ والـمتعة بالنسبة لـها، بل يكون ترك الوظيفة والعمل عذاباً مؤلـماً لذلك العضو.

وهناك دليل ظاهر آخر هو: ان الديك – مثلاً – يؤثر الدجاجات على نفسه، فيترك ما يلتقطه من حبوب رزقه إليهن دون ان يأكل منها. ويُشاهد انه يقوم بهذه الـمهمة وهو في غاية الشوق وعزّ الافتـخار وذروة اللذة.. فهناك إذن لذةٌ في تلك الـخدمة اعظم من لذة الاكل نفسه. وكذا الـحال مع الدجاجة – الراعية لأفراخها – فهي تُؤثْرها على نفسها، إذ تدع نفسَها جائعةً في سبيل اشباع الصغار، بل تضحي بنفسها في سبيل الافراخ، قتهاجـم الكلب الـمغير عليها لأجل الـحفاظ على الصغار.

ففي الـخدمة اذن لذة تفوق كل شيء، حتى انها تفوق مرارة الـجوع وترجـّح على ألـم الـموت. فالوالدات من الـحيوانات تـجد منتهى اللذة في حـمايتها لصغارها طالـما هي صغيرة. ولكن ما إن يكبر الصغير حتى تنتهي مهمة الأم فتذهب اللذة ايضاً. وتبدأ الأم بضرب الذي كانت ترعاه، بل تأخذ الـحب منه.. هذه السنـّة اللإلـهية جاريةٌ في الـحيوانات الاّ في الانسان إذ تستـمر مهمة الام نوعاً ما، لأن شيئاً من الطفولة يظل في الانسان حيث الضعف والعجز يلازمانه طوال حياته، فهو بـحاجة الى الشفقة والرأفة كل حين.

وهكذا، تأمل في جـميع الذكور من الـحيوانات كالديك، وجـميع الوالدات منها كالدجاج، وافهم كيف انها لا تقوم بتلك الوظيفة ولا تنـجز أي شيء لأجل نفسها ولالكمالـها بالذات حيث تفدي نفسها اذا احتاج الامر. بل انها تقوم بتلك الـمهمة في سبيل الـمنعم الكريـم الذي انعم عليها، وفي سبيل الفاطر الـجليل الذي وظـّفها في تلك الوظيفة فأدرج برحـمته الواسعة لذةً ضمن وظيفتها، ومتعةً ضمن خدمتها.

وهناك دليل آخر ان الاجرة داخلةٌ في العمل نفسه وهو ان النباتات والاشجار تـمتثل اوامر فاطرها الـجليل بـما يُشعر ان فيه شوقاً ولذة، لأن ما تنشره من روائح طيبة، وما تتزين به من زينة فاخرة تستهوي الانظار، وما تقدمه من تضحيات وفداء حتى الرَمَق الاخير لأجل سنابلـها وثمارها.. كل ذلك يعلن لأهل الفطنة:

ان النباتات تـجد لذةً فائقة في إمتثالـها الاوامر بـما يفوق اية لذة اخرى، حتى انها تـمـحو نفسها وتهلكها لأجل تلك اللذة.. ألا ترى شجرة جوز الـهند، وشجرة التين كيف تُطعم ثمرتها لبناً خالصاً تطلبه من خزينة الرحـمة الإلـهية بلسان حالـها وتتسلـمه منها وتظل هي لا تُطعم نفسها غير الطين. وشجرة الرمان تسقي ثمرتها شراباً صافياً، وَهبَها لـها ربـُّها، وهي ترضى قانعةً بشراب ماءٍ عكر. حتى انك ترى ذلك في الـحبوب كذلك، فهي تُظهر شوقاً هائلاً للتسنبل، بـمثل اشتياق السجين الى رحب الـحياة.

ومن هذا السرّ الـجاري في الكائنات الـمسـمى بـ ((سُنـّة الله)) ومن هذا الدستور العظيـم، يكون العاطل الكسلان الطريـح على فراش الراحة أشقى حالاً وأضيق صدراً من الساعي الـمـجدّ، ذلك لأن العاطل يكون شاكياً من عمره، يريد ان يـمضي بِسرعة في اللهو والـمرح. بينـما الساعي الـمـجدّ شاكرٌ لله وحامدٌ لـه، لا يريد ان يـمضي عمره سدىً. لذا اصبـح دستوراً عاماً في الـحياة: ((الـمستريـح العاطل شاك من عمره والساعي الـمـجدّ شاكرٌ)). وذهب مثلاً: ((الراحةُ مندمـجة في الزحـمة والزحـمة مندمـجة في الراحة)). نعم اذا ما أُمعن النظر في الـجـمادات فان السنة الإلـهية الـمذكورة تظهر بوضوح؛ فالـجـمادات التي لـم تتكشف استعداداتُها وباتت ناقصةً من هذه الناحية، تراها تسعى بشدة، وتبذل جهداً عظيـماً لكي تنبسط وتنتقل من طور ((القوة)) الكامنة الى طور ((الفعل)). وعندها يشاهد عليها ما يشير الى أن في تلك الوظيفة الفطرية شوقاً، وفي ذلك التـحول لذةً، جرياً بدستور سنـّة الله، فان كانت لذلك الـجامد حصة في الـحياة العامة، فالشوق يعود اليه، والاّ فهو يعود الى الذي يـمثل ذلك الـجامد ويشرف عليه، بل يـمكن أن يقال بناء على هذا السر: ان الـماء اللطيف الرقراق ما ان يتسلـم امراً بالانـجـماد، حتى يـمتثل ذلك الامر بشدة وشوق الى حدّ انه يكسر الـحديد ويـحطـّمه. فاذن عندما تبلـّغ البرودةُ ودرجاتُ الانـجـماد أمراً ربانياً بالتوسع، الى الـماء الـموجود داخل كرة حديدٍ مقفلة، فان الـماء يـمتثل الامر بشدة وشوق بـحيث يـحطـّم كرة الـحديد تلك، وينـجـمد.

وعلى هذا فقس جـميع ما في الكون من سعي وحركة، ابتداءً من دوران الشـموس في افلاكها وانتهاءً الى دوران الذرات – كالـمولوي العاشق – ودوراتها واهتزازاتها.. فلا تـجد أحداً الاّ ويـجري على قانون القَدَر الإلـهي، ويظهر الى الوجود بالامر التكويني الصادر من يد القدرة الإلـهية والـمتضمن العلـم الإلـهي وأمره وارادته.. حتى ان كل ذرة، وكل موجود، وكل ذي حياة، انـما هو كالـجندي في الـجيش، لـه علاقات متباينة ووظائف مـختلفة، وارتباطات متنوعة مع كل دائرة من دوائره. فالذرة الـموجودة في عينيك – مثلاً – لـها علاقة مع خلايا العين، ومع اعصاب العين في الوجه، ومع الشرايين والاوردة في الـجسـم، وعلى اساس هذه العلاقات والروابط تُعَيـَّنُ لـها وظيفة، وعلى ضوئها تنتـج فوائد ومصالـح وهكذا..

فقس على هذا الـمنوال كل شيء في الوجود.

وعلى هذا الاساس فان كل شيء في الوجود يشهد على وجوب وجود القدير الـمطلق من جهتين:

الاولى: قيامه بوظائف تفوق طاقته الـمـحدودة بالآف الـمرات، مع أنه عاجزٌ عن ذلك، فيشهد بلسان عجزه إذن على وجود ذلك القدير الـمطلق.

الثانية: توافق حركته مع الدساتير التي تكوّن نظام العالـم، وانسجام عملـه مع القوانين التي تديـم توازن الـموجودات، فيشهد – بهذا الانسجام والتوافق – على وجود ذلك العليـم القدير.

ذلك لان جـماداً كالذرة – او حشرة كالنـحل – لا تستطيع ان تعرف النظام والـموازنة اللذين هما من الـمسائل الدقيقة الـمهمة الـمسطورة في الكتاب الـمبين.. إذ اين الذرة والنـحلة من قراءة ذلك الكتاب الذي هو في يدِ من يقول: } يوم نطوي السـماء كطيّ السِجل للكتب { (الانبياء:104) فلا يـجرؤ أحد أن يردّ هذه الشهادة للذرة الاّ مَن يتوهم بـحـماقة متناهية انها تـملك عيناً بصيرة تتـمكن بها قراءة الـحروف الدقيقة لذلك الكتاب الـمبين؟.

نعم، ان الفاطر الـحكيـم يدرج دساتيرَ الكتاب الـمبين واحكامه دَرجاً في غاية الـجـمال، ويـجـملـها في غاية الاختصار، ضمن لذةٍ خاصةٍ لذلك الشيء، وفي ثنايا حاجةٍ مـخصوصة لـه. فاذا ما عمل الشيء وفق تلك اللذة الـخاصة والـحاجة الـمـخصوصة، فانه يـمتثل – من حيث لا يشعر – احكام ذلك الكتاب الـمبين.

فمثلاً: ان البعوضة في حين مولدها ومـجيئها الى الدنيا تنطلق من بيتها وتهاجـم وجه الانسان وتضربه بعصاها الطويلة وخرطومها الدقيق وتفجـّر به السائل الـحيوي، وتـمصـّه مصاً، وهي في هذا الـهجوم تُظهر براعة عسكرية فائقة..

تُرى مَن علـم هذا الـمـخلوق الصغير الذي اتى حديثاً الى الدنيا وليس لـه من تـجربة سابقة، هذه الـمهارة البارعة، وهذه الفنون الـحربية الدقيقة، وهذا الاتقان في التفجير، فمن اين اكتسب هذه الـمعرفة؟.. فانا هذا السعيد الـمسكين اعترف بأني لو كنت بدلاً منه، لـما كنت أتعلـم تلك الـمهارة، وتلك الفنون العسكرية من كرّ وفرّ، وتلك الامور الدقيقة في استـخراج السائل الـحيوي الاّ بعد تـجارب طويلة، ودروس عديدة، ومدة مديدة.

فقس على البعوضة النـحل الـملـهمة والعنكبوت والبلبل الناسج لعشه نسجاً بديعاً، بل يـمكنك قياس النباتات على الـحيوانات ايضاً.

نعم ان الـجواد الـمطلق جل جلالـه قد سلـم بيد كل فردٍ من الاحياء ((بطاقة تذكرة)) مكتوبةً بـمداد اللذة وحبر الاحتياج، فاودع سبـحانه فيها منهاج اوامره التكوينينة، وفهرس ما يقوم به الفردُ من وظائف.. فسبـحانه من حكيـم ذي جلال، كيف أدرج ما يـخص النـحل من دساتير الكتاب الـمبين في تلك ((التذكرة)) الصغيرة وسطرَها في رأس النـحلة، وجعل مفتاحها لذةً خاصة بالنـحلة الدائبة، لتفتـح به تلك ((التذكرة)) الـمودعة في دماغها وتقرأ منهاج عملـها فيها وتدرك وظيفتها، وتسعى وتـجدّ وفقها، وتبرز حكمةً من الـحكم الـمكنونة في الآية الكريـمة:

} وأوحى ربـُّك الى النـحل { (النـحل:68).

فيا مَن يقرأ او يسـمع هذه الـمذكـِّرة الثامنة! ان كنت قد فهمتها حقَّ الفهم فقد فهمت إذن سراً من اسرار:

} ورحـمتي وسعت كلَ شيء { (الاعراف:156).

وأدركت حقيقةً من حقائق:

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبـح بـحـمدِهِ { (الاسراء:44).

وتوصلت الى دستور من دساتير:

} انـما أمره اذا ارادَ شيئاً ان يقول لـه كُن فيكون { (يس:82).

وتعلـمت مسألة لطيفة من مسائل:

} فسبـحان الذي بيده ملكوت كلّ شيءٍ وإليه تُرجعون {

(يس:83).

الـمذكـِّرة التاسعة

اعلـم ان النبوة في البشرية فذلكة الـخير وخلاصة الكمال واساسه. وأن الدين الـحق فهرس السعادة. وأن الايـمان حُسنٌ منزَّه وجـمال مـجرّد. وحيث ان حسناً ساطعاً، وفيضاً واسعاً سامياً، وحقاً ظاهراً، وكمالاً فائقاً مشاهَدٌ في هذا العالـم، فبالبداهة يكون الـحقُ والـحقيقة في جانب النبوة، وفي يد الانبياء عليهم السلام، وتكون الضلالة والشر والـخسارة في مـخالفيهم.

فان شئت فانظر الى مثال واحد من بين الوف الامثلة على مـحاسن العبودية التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام وهو:

ان النبي e يوحـِّد بالعبادة قلوبَ الـموحدين في صلاة العيد والـجـمعة والـجـماعة، ويـجـمع ألسنتهم جـميعاً على كلـمة واحدة. حتى يقابل هذا الانسانُ عظمة الـخطاب الصادر من الـمعبود الـحق سبـحانه بأصوات قلوبٍ وألسنةٍ لا تـحد وبدعواتها، متعاوناً متسانداً، بـحيث يـُظهر الـجـميع عبوديةً واسعةً جداً ازاء عظمة أُلوهية الـمعبود الـحق فكأن كرة الارض برمـَّتها هي التي تنطق ذلك الذكر، وتدعو ذلك الدعاء، وتصلـّي لله باقطارها وتـمتثل بارجائها الامر النازل بالعزة والعظمة من فوق السـموات السبع: } وأقيـموا الصلاة{ (البقرة:43).

وبهذا الاتـحاد صار الانسان وهو الـمـخلوق الضعيف الصغير الذي هو كالذرة في هذه العوالـم، عبداً مـحبوباً لدى السـموات والارض من جهة وعظمة عبوديته لـه، واصبـح خليفة الارض وسلطانها، وسيد الـحيوانات ورئيسها، وغاية خلق الكائنات ونتيـجتها. أرأيت لو اجتـمعت في عالـم الشهادة ايضاً – كما هو في عالـم الغيب – اصوات الـمكبرين البالغين مئات الـملايين من الـمؤمنين بـ ((الله اكبر)) عقب الصلوات ولا سيـما صلاة العيد، واتـحدت جـميعها في آن واحد أما كانت متساوية لصوت تكبيرة ((الله اكبر)) تطلقها كرةُ الارض ومتناسبةً مع ضخامتها والتي اصبـحت كأنها إنسان ضخـم، إذ باتـحاد تكبيرات اولئك الـموحـّدين في آن واحد يكون هناك تكبيرةٌ عظيـمة جداً كأن الارض تطلقها، بل كأن الارض تتزلزل زلزالـها في صلاة العيد. اذ تكبـّر الله بتكبير العالـم الاسلامي باقطارها واوتادها وتسبـحه بتسبيـحهم واذكارهم فتنوي من صميـم قلب كعبتها الـمشرّفة التي هي قِبلتها، وتكبـّر بـ ((الله اكبر)) بلسان عَرَفة من فم مكة الـمكرمة. فتتـموّج صدى ((الله اكبر)) متـمثلةً في هواء كهوف أفواه جـميع الـمؤمنين الـمنتشرين في العالـم بـمثل تـموج ما لا يـحد من الصدى في كلـمة واحدة من ((الله اكبر)). بل تتـموج تلك التكبيرات والاذكار في اقطار السـموات وعوالـم البرزخ. فالـحـمد لله الذي جعل هذه الارض ساجدةً عابدةً لـه وهيأها لتكون مسجداً لعباده ومهداً لـمـخلوقاته. فنـحـمده سبـحانه ونسبـحه ونكبـّره بعدد ذرات الارض ونرفع اليه حـمداً بعدد موجوداته أن جعلنا من أمة مـحـمد e الذي علـمنا هذا النوع من العبادة.

الـمذكـِّرة العاشرة

ايها السعيد الغافل الـمتـخبط بسوء حالـه! اعلـم، ان الوصول الى نور معرفة الـحق سبـحانه، والى مشاهدة تـجلياته في مرايا الآيات والشواهد والنظر اليه من مسامات البراهين والدلائل يقتضي الاّ تتـجسّس بأصابع التنقيد على كل نورٍ جرى عليك، وورَد الى قلبك، وتظاهر الى عقلك، والاّ تنقده بيد التردد. فلا تـمدّن يدك لأخذ نورٍ اضاء لك. بل تـجرّد من اسباب الغفلة، وتعرّض لذلك النور، وتوجّه اليه، فاني قد شاهدت أن شواهد معرفة الله وبراهينها ثلاثة اقسام:

قسـم منه: كالـماء يُرى ويـحسّ، ولكن لا يـمسك بالاصابع. ففي هذا القسـم عليك بالتـجرّد عن الـخيالات، والانغماس فيه بكليتك، فلا تتـجسس باصبع التنقيد، فانه يسيل ويذهب، اذ لا يرضى ماءُ الـحياة ذلك بالاصبع مـحلاً.

القسـم الثاني: كالـهواء، يـحسّ ولكن لا يُرى، ولا يُتـخذ ولا يُستـمسك، فتوجه لنفحات تلك الرحـمة، وتعرّض لـها، وقابلـها بوجهك وفمك وروحك، فان نظرت الى هذا القسـم بيد التردد والريب ومددت اليه يد التنقيد، بدلاً من الانتعاش روحياً، فانه ينطلق، إذ لا يتـخذ يدك مسكناً لـه ولا يرضى بها منزلاً.

القسـم الثالث: فهو كالنور، يُرى ولكن لا يـحس، ولا يؤخذ ولا يستمسك، فتعرّض لـه وقابلـه ببصيرة قلبك ونظر روحك، وتوجـّه اليه ببصرك، ثم انتظر، فلربـما يأتي بذاته ومن نفسه. لان النور لا يؤخذ باليد، ولا يُصاد بالاصابع، بل بنور البصيرة يُصاد. فاذا مددت اليه يداً مادية حريصةً، ووزنته بـموازين مادية، فانه يـختفي وإن لـم ينطفىء، لان نوراً كهذا مثلـما انه لا يرضى بالـماديّ حبساً، ولا يدخل بالقيد ابداً، فانه لا يرضى بالكثيف مالكاً وسيداً عليه.

الـمذكـِّرة الـحادية عشرة

انظر الى درجة رحـمة القرآن الواسعة وشفقته العظيـمة على جـمهور العوام ومراعاته لبساطة افكارهم ونظرهم غير الثاقب الى امور دقيقة، انظر كيف يكرر ويُكثر الآيات الواضحة الـمسطورة في جباه السـموات والارض، فيقرئهم الـحروف الكبيرة التي تُقرأ بكمال السهولة، كخلق السـموات والارض وانزل الـماء من السـماء، واحياء الارض.. وامثالـها من الآيات. ولا يوجـّه الانظار الى الـحروف الدقيقة الـمكتوبة في الـحروف الكبيرة الاّ نادراً، كيلا يصعب عليهم الامر.

ثم انظر الى جزالة بيان القرآن وسلاسة اسلوبه وفطريته، كيف يتلو على الانسان ما كتبتْهُ القدرة الإلـهية في صحائف الكائنات من آيات حتى كأن القرآن قراءةٌ لـما في كتاب الكائنات وانظمتها، وتلاوةٌ لشؤون بارئها الـمصـّور وافعالـه الـحكيـمة. فان شئت استـمع بقلبٍ شهيد لقولـه تعالى:

} عَمّ يِتَساءَلون{ (النباء:1) } قل اللهم مالك الـملك { (آل عمران:26) وأمثالـهما من الآيات الكريـمة.

الـمذكـِّرة الثانية عشرة

يا احبائي الـمستـمعين لـهذه الـمذكـِّرات، اعلـموا!

اني قد اكتب تضرّع قلبي الى ربـّي مع ان من شأنه ان يُستَر ولا يُسطَر، رجاءً من رحـمته تعالى ان يقبل نُطق كتابي، بدلاً عني إذ أسكت الـموت لساني.. نعم، لا تسع توبة لساني في عمري القصير كفارة لذنوبي الكثيرة. فنطقُ الكتاب الثابت الدائم أوفى لـها. فقبل ثلاث عشرة سنة واثناء اضطراب روحي عارم وفي غمرة تـحول ضحكات ((سعيد القديـم)) الى بكاء ((سعيد الـجديد)) أفقت من ليل الشباب على صبـح الـمشيب فسطرت هذه الـمناجاة باللغة العربية، اوردها هي:

ياربي الرحيـم وياإلـهي الكريـم!

قد ضاع بسوء اختياري عمري وشبابي، وما بقي من ثمراتها في يدي الاّ آثام مؤلـمة مُذلـّة، وآلام مضرّة مُضلـّة، ووساوسٌ مزعجة معجزة، وانا بهذا الـحـمل الثقيل، والقلب العليل، والوجه الـخجيل متقربٌ – بالـمشاهدة – بكمال السرعة، بلا انـحراف وبلا اختيار كآبائي واحبابي واقاربي واقراني الى باب القبر، بيت الوحدة والانفراد في طريق ابد الآباد، للفراق الابدي من هذه الدار الفانية الـهالكة باليقين، والآفلة الراحلة بالـمشاهدة، ولا سيـما الغدارة الـمكارة لـمثلي ذي النفس الامارة.

فيا ربي الرحيـم ويا ربي الكريـم!

أراني عن قريب لبستُ كفني وركبت تابوتي، وودعت أحبابي، وتوجهت الى باب قبري، فأنادي في باب رحـمتك: الأمان الأمان ياحنان يامنـّان، نـجني من خجالة العصيان.

آهٍ.. كفني على عنقي، وانا قائم عند رأس قبري، أرفع رأسي الى باب رحـمتك اُنادي: الأمان الأمان يارحـمن ياحنـّان، خلصني من ثقل حـمل العصيان.

آهٍ.. انا ملتف بكفني وساكن في قبري وتركني الـمشيعون، وانا منتظر لعفوك ورحـمتك.. ومشاهدٌ بأن لا ملـجأ ولا منـجأ الاّ اليك، وأُنادي: الأمان الأمانَ من ضيق الـمكان، ومن وحشة العصيان، ومن قبـح وجه الآثام. يارحـمن ياحنان.. يا منـّان.. ويا ديان نـجني من رفاقة الذنوب والعصيان..

الـهي! رحـمتك ملـجئي ووسيلتي، واليك ارفع بثي وحزني وشكايتي.

يا خالقي الكريـم، وياربي الرحيـم، وياسيدي، ويامولاي.. مـخلوقك، ومصنوعك وعبدك العاصي العاجز، الغافل، الـجاهل العليل الذليل الـمسيء الـمسن الشقي الآبق، قد عاد بعد اربعين سنة الى بابك ملتـجأً الى رحـمتك، معترفاً بالذنوب والـخطيئات مبتلى بالاوهام والاسقام، متضرعاً اليك.. فان تقبل وتغفر وترحـم فانت لذاك اهلٌ وانت ارحـم الراحـمين والاّ فايّ بابٍ يُقصد غير بابك.. وانت الرّبُ الـمقصود والـحق الـمعبود. ولا الـه الاّ انت وحدك لا شريك لك.. آخر الكلام في الدنيا واول الكلام في الآخرة وفي القبر: اشهد ان لا إلـه الاّ الله وأشهد أن مـحـمداً رسول الله e .

الـمذكـِّرة الثالثة عشرة

عبارة عن خـمسِ مسائل قد صارت مدار الالتباس.

T اولاها:

ان الذين يعملون في طريق الـحق ويـجاهدون في سبيلـه، في الوقت الذي ينبغي لـهم أن يفكروا في واجبهم وعملـهم فانهم يفكرون فيـما يـخص شؤون الله سبـحانه وتدبيره، ويبنون اعمالـهم عليه فيـخطئون.

ورد في كتاب ((ادب الدنيا والدين)) أن إبليس – لعنة الله عليه – حين ظهر لعيسى بن مريـم عليه السلام قال: ألستَ تقول: إنه لن يُيبك الاّ ما كتبه الله عليك؟ قال: نعم. قال: فارمِ نفسك من ذروةِ هذا الـجبل فانه إن يقدِّر لك السلامة تسلـم، فقال لـه: يا ملعون! إن لله أن يـختبر عبده وليس للعبد أن يـختبر ربـّه.

أي: ان الله سبـحانه هو الذي يـختبر عبده ويقول لـه: إذا عملت هكذا سأوافيك بكذا، أرأيتك تستطيع القيام به؟. يـختبره.. ولكن العبد ليس لـه الـحق ولا في طوقه اصلاً أن يـختبر ربـّه ويقول: اذا قمتُ بالعمل هكذا فهل تعمل لي كذا؟. فهذا الاسلوب من الكلام الذي يوميء بالاختبار سوءُ ادبٍ تـجاه الربوبية، وهو منافٍ للعبودية. فما دام الامر هكذا، فعلى الـمرء أن يؤدي واجبه ولا يتدخل بتدبير الله سبـحانه وقَدَره.

كان جلال الدين خوارزم شاه(1) وهو احد ابطال الإسلام الذي انتصر على جيش جنكيز خان انتصارات عديدة. كان يتقدم جيشه الى الـحرب، فخاطبه وزراؤه ومقـّربوه: سيُظهرك الله على عدوك، وتنتصر عليهم!

فاجابهم: ((عليَّ الـجهاد في سبيل الله إتباعاً لأمره سبـحانه ولا حق لي فيـما لـم أُكلف به من شؤونه، فالنصر والـهزيـمة من تقديره سبـحانه)) ولبلوغ هذا البطل العظيـم ادراك هذا السر الدقيق في الاستسلام الى امر الله والانقياد اليه، كان النصرُ حليفه في اغلب الاحيان نصراً خارقاً.

نعم انه ينبغي الاّ يفكر الانسان – بـما لديه من الـجزء الاختياري – بالنتائج التي يتولاّها الله سبـحانه.

فمثلاً: يزداد حـماس بعض الاخوة وشوقهم الى رسائل النور باستـجابة الناس لـها، فينشطون اكثر.. ولكن عندما لا يستـجيب لـها الناس، تفتُر قوة الضعفاء الـمعنوية وتنطفىء جذوة شوقهم. والـحال ان سيدنا الرسول الاعظم e وهو الاستاذ الاعظم ومقتدي الكل والرائد الاعلى قد اتـخذ الامر الإلـهي: } وما على الرسول الاّ البلاغُ الـمبينُ{ (النور:54) دليلاً ومرشداً لـه، فكلـما أعرض الناس عن الاصغاء وتولـّوا عنه ازداد جهاداً وسعياً في سبيل التبليغ. لانه عَلـم يقيناً ان جعل الناس يصغون ويهتدون انـما هو من شؤون الله سبـحانه، وفق الآية الكريـمة: } إنك لا تهدي مَن أحببتَ ولكنَ الله يَهدي مَن يشاءُ{ (القصص:56). فما كان يتدخل e في شؤونه سبـحانه.

لذا فيا اخوتي! لا تتدخلوا في اعمال وشؤون لا تعود اليكم ولا تبنوا عليها اعمالكم ولا تتـخذوا طور الاختبار تـجاه خالقكم.

T الـمسألة الثانية:

ان غاية امتثالُ امر الله ونيلُ رضاه، فالداعي الى العبادة هو الامر الإلـهي، ونتيـجتها نيلُ رضاه سبـحانه. اما ثمرتها وفوائدها فأخروية. الاّ انه لا تنافي العبادة اذا مُنـحت ثمراتٌ تعود فائدتها الى الدنيا، بشرط الاّ تكون علـّتها الغائية، وألاّ يُقصد في طلبها. فالفوائد التي تعود الى الدنيا والثمرات التي تترتب عليها من نفسها وتـمنـح من دون طلب لاتنافي العبادة، بل تكون بـمثابة حث ((وترجيـح)) للضعفاء. ولكن اذا صارت الفوائد الدنيوية او منافعها علـةً، او جزءاً من العلة لتلك العبادة او لذلك الورد او الذكر فانها تُبطل قسـماً من تلك العبادة. بل تـجعل ذلك الورد الذي لـه خصائص عدة عقيـماً دون نتيـجة.

فالذين لا يفهمون هذا السر، ويقرأون ((الاوراد القدسية للشاه النقشبند)) مثلاً التي لـها مئات من الـمزايا والـخواص، او يقرأون ((الـجوشن الكبير)( الذي لـه ألفٌ من الـمزايا والفضائل وهم يقصدون بعض تلك الفوائد بالذات، لا يـجدون تلك الفوائد، بل لن يـجدوها ولن يشاهدوها، وليس لـهم الـحق لـمشاهدتها البتة؛ لأنه لا يـمكن ان تكون تلك الفوائد علـّة لتلك الاوراد، فلا تُطلب منها تلك الفوائد قصداً، لان تلك الفوائد تترتب بصورة فضل إلـهي على ذلك الوِرد الذي يُقرأ قراءة خالصةً دون طلب شيءٍ. فأما اذا نواها القاريء فان نيـّتها تُفسد اخلاصه جزئياً، بل تـخرجها من كونها عبادةً، فتسقط قيـمتها.

بيد ان هناك امراً آخر، هو أن اشخاصاً ضعفاء بـحاجة دائمة الى مشوّق ومرجـّح فاذا ما قرأ الاوراد قراءة خالصة لله متذكراً تلك الفوائد فلا بأس في ذلك، بل هو مقبول.

ولعدم ادراك هذه الـحكمة، يقع الكثيرون فريسة الريب والشك عند عدم وجدانهم تلك الفوائد التي رُويت عن الاقطاب والسلف الصالـحين، بل قد ينكرونها.

T الـمسألة الثالثة:

((طُوبى لـمنْ عَرَف حدّه ولـم يتـجاوز طَوره)).

ان هناك تـجليات للشـمس على كل شيء. ابتداءً من اصغر ذرة وبلورة زجاج وقطرة ماء ومن الـحوض الكبير والبـحر العظيـم، وانتهاءً بالقمر والكواكب السيارة. كل منها يعرف حدّه ويطبع على نفسه انعكاس الشـمس وصورتها حسب قابليته. فتستطيع قطرة ماءٍ أن تقول: عندي انعكاسٌ للشـمس، وذلك حسب قابليتها. ولكن لا تـجرؤ على القول: انا مرآة للشـمس كالبـحر.

كذلك الامر في مقامات الاولياء، ففيها مراتبٌ عدّة، حسب تنوّع تـجليات الاسـماء الإلـهية الـحسنى، فكلُ اسـم من الاسـماء الـحسنى لـه تـجلياتٌ – كالشـمس في الـمثال – ابتداءً من القلب وانتهاءً بالعرش. فالقلب عرشٌ، ولكن لا يستطيع ان يقول: ((أنا كالعرش الاعظم)). ومن هنا كان السالك في سبيل الفخر والغرور يلتبس عليه الامر فيـجعل قلبه الصغير جداً كالذرة مساوياً للعرش الاعظم، ويعتبر مقامه الذي هو كالقطرة كفواً مع مقام الاولياء العظام الذي هو كالبـحر.فبدلاً من أن يصرف همـّه لـمعرفة اساس العبادة الذي هو العجز والفقر وادراك تقصيره ونقصه امام بارئه القدير والتضرع امام عتبة ألوهيته سبـحانه والسجود عندها بكل ذل وخضوع، وتراه يبدر منه التصنـّع والتكلف لأجل أن يلائم نفسه ويـحافظ عليها مع مستوى تلك الـمقامات السامية، فيقع فيـما لا طائل وراءه من الغرور والانانية والـمشاكل العويصة.

الـخلاصة:

لقد ورد في الـحديث الشريف: ((هَلَك الناس الاّ العالـمون وهلك العالـمون الاّ العاملون وهلك العاملون الاّ الـمـخلصون والـمـخلصون على خطرٍ عظيـم))(1).

أي ان مـحور النـجاة ومدارها الاخلاص، فالفوز به اذن امر في غاية الاهمية لأن ذرة من عمل خالص أفضل عند الله من أطنانٍ من الاعمال الـمشوبة. فالذي يـجعل الانسان يـحرز الاخلاص هو تفكـّره في ان الدافع الى العمل هو الامر الإلـهي لا غير، ونتيـجته كسب رضاه وحده، ثم عدم تدخلـه في الشؤون الإلـهية.

ان هناك اخلاصاً في كل شيء. حتى أن ذرةً من حُبٍ خالص تفضل على اطنان من الـحب الصوري الشكلي. وقد عبـّر احدهم شعراً عن هذا النوع من الـحب:

وما انا بالباغي على الـحب رشوةً ضعيفٌ هوىً يُبغى عليه ثوابُ

أي لا أطلب على الـحب رشوة ولا أجرة ولا عوضاً ولا مكافأة، لأن الـحب الذي يطلب ثواباً ومكافأة حبٌ ضعيف لا يدوم. فهذا الـحب الـخالص قد أودعه الله سبـحانه في فطرة الانسان ولاسيـما الوالدات عامة، فشفقة الوالدة مثال بارز لـهذا الـحب الـخالص.

والدليل على ان الوالدات لا يطلبن تـجاه مـحبتهن لأولادهن مكافأة ولا رشوة قط هو جُودُهن بانفسهن لأجل اولادهن، بل فداؤهن حتى باخراهن لأجلـهم. حتى ترى الدجاج تهاجـم الكلب انقاذاً لأفراخها من فمها – كما شاهدها خسرو – علـماً أن حياتها هي كل مالديها من رأسـمال.

T الـمسألة الرابعة:

ينبغي ألاّ تؤخذ النِعم التي تَرِدُ بأسباب ووسائل ظاهرية على حساب تلك الاسباب والوسائل، لأن ذلك السبب وتلك الوسيلة، إما لـه اختيار او لا اختيار لـه. فان لـم يكن لـه اختيار – كالـحيوان والنبات – فلا ريب انه يعطيك بـحساب الله وباسـمه. وحيث أنه يذكر الله بلسان حالـه، أي يقول: بسـم الله، ويسلـمك النعمة، فخذها باسـم الله وكُلـها.

ولكن إن كان ذلك السبب لـه اختيار، فعليه أن يذكر الله ويقول: بسـم الله، فلا تأخذ منه الاّ بعد ذكره اسـم الله، لأن الـمعنى الاشاري – فضلاً عن الـمعنى الصريـح – للآية الكريـمة: } ولا تأكلوا مـما لـم يُذكر اسـم الله عليه{ (الانعام:121) يرمز الى: لا تأكلوا من نعمةٍ لـم يُذكر اسـم مالكها الـحقيقي عليها وهو الله، ولـم يسلـّم اليك باسـمه.

وعلى هذا فعلى الـمعطي ان يذكر اسـم الله، وعلى الآخذ ان يذكر اسـم الله. فان كان الـمعطي لا يذكر اسـم الله، وانت في حاجة الى الأخذ، فاذكر انت اسـم الله، ولكن ارفع بصرك عالياً فوق رأس الـمعطي وانظر الى يد الرحـمة الإلـهية التي انعمت عليه وعليك معاً، وقبـّلـها بالشكر، وتسلـم منها النعمة. أي انظر الى الإنعام من خلال النعمة، وتذكـّر الـمنعم الـحقيقي من خلال الإنعام، فهذا النظر والتذكر شكرٌ. ومن ثم ارجع بصرك – ان شئت – وانظر الى السبب او الوسيلة، وادع لـه بالـخير واثنِ عليه، لورود النعمة على يديه.

ان الذي يوهم عَبَدة الاسباب ويـخدعهم هو: اعتبارُ احد الشيئين علةً للآخر عند مـجيئهما معاً، او عند وجودهما معاً. وهذا هو الذي يسـمى بـ ((الاقتران)).

وحيث ان عدم وجود شيء ما، يصبـح علةً لعدم وجود نعمة، لذا يتوهم الـمرء ان وجود ذلك الشيء هو علة لوجود تلك النعمة، فيبدأ بتقديـم شكره وامتنانه الى ذلك الشيء فيـخطيء؛ لأن وجودَ نعمة ما يترتبُ على مقدمات كثيرة وشرائط عديدة، بينـما إنعدامُ تلك النعمة يـحدث بـمـجرد انعدام شرط واحد فقط.

مثلاً: ان الذي لا يفتـح مـجرى الساقية الـمؤدية الى الـحديقة يصبـح سبباً وعلةً لـجفاف الـحديقة ووسيلةً لـموتها، وبالتالي الى انعدام النعم التي فيها. ولكن وجود النعم في تلك الـحديقة لا يتوقف على عمل ذلك الشخص وحده، بل يتوقف ايضاً على مئاتٍ من الشرائط الاخرى، بل لا تـحصل تلك النعم كلـها الاّ بالعلـّة الـحقيقية التي هي القدرةُ الربانية والارادة الإلـهية.

فافهم من هذا مدى الـخطأ في هذه الـمغالطة،واعلـم فداحة خطأ عبدةِ الاسباب. نعم! ان الاقتران شيءٌ والعلة شيء آخر. فالنعمة التي تأتيك وقد اقترنت بنيـّة احسان من أحدهم اليك، علـّتها الرحـمة الإلـهية. وليس لذاك الشخص الاّ الاقتران دون العلة.

نعم، لو لـم ينو ذلك الشخص تلك النيـّة في الاحسان اليك لـما كانت تأتيك تلك النعمة، أي ان عدم نيته كان علةً لعدم مـجيء النعمة، ولكن ذلك الـميل للاحسان لا يكون علةً لوجود النعمة ابداً، بل ربـما يكون مـجرد شرطٍ واحد من بين مئات الشروط الاخرى. ولقد التبس الامر على بعض طلاب رسائل النور، مـمن افاض الله عليهم من نعَمه (امثال خسرو ورأفت..) فالتبس عليهم الاقتران بالعلـّة، فكانوا يبدون الرضى باستاذهم ويثنون عليه ثناءً مفرطاً. والـحال ان الله سبـحانه قد قَرنَ نعمةَ استفادتهم من الدروس القرآنية مع احسانه الى استاذهم من نعمة الافادة، فالامر اقترانٌ ليس الاّ.

فهم يقولون: لو لـم يقدم استاذنا الى هنا، ما كنا لنأخذ هذا الدرس الإيـماني، فافادته اذن هي علـّةٌ لاستفادتنا نـحن. وانا اقول: يا اخواني الاحبة، ان الـحق سبـحانه وتعالى قد قَرَن النعمة التي انعمها عليّ بالتي انعمها عليكم، فالعلـّة في كلتا النعمتين هي الرحـمة الإلـهية.

وقد كنت يوماً اشعر بامتنان بالغ نـحو طلاب يـملكون قلـماً سيالاً مثلكم ويسعون الى خدمة النور. فالتبس عليّ الاقتران بالعلـّة، فكنت اقول: تُرى كيف كان ينهض في أداء خدمة القرآن الكريـم من كان مثلي في رداءة الـخط، لولا هؤلاء الطلبة؟. ولكن فَهمتُ بعدئذ ان الـحق سبـحانه وتعالى بعد ما أنعم عليكم النعمة الـمقدسة بـجودة الكتابة، مَنّ عليّ بالتوفيق في السير في هذه الـخدمة القرآنية، فاقترن الامران معاً، فلا يكون احدهما علـّة للآخر قط، لذا فلا أقدم شكري وامتناني لكم، بل ابشـّركم واهنئكم. وعليكم انتـم كذلك ان تدعوا لي بالتوفيق والبركة بدلاً من الرضى والثناء.

ففي هذه الـمسألة ميزانٌ دقيقٌ تُعرف به درجات الغفلة والشرك الـخفي.

T الـمسألة الـخامسة:

كما انه ظلـم عظيـم اذا ما أعطي الى شخص واحد ما تـملكه الـجـماعة، ويكون الشخص مرتكباً ظلـماً قبيـحاً اذا ما غصبَ ما هو وقفٌ للـجـماعة، كذلك الامر في النتائج التي تتـحصل بـمساعي الـجـماعة وعملـهم، والشرف والـمنزلة الـمترتبة على مـحاسن الـجـماعة وفضائلـها، اذ ما أُسند الى رئيسها او استاذها او مرشدها يكون ظلـماً واضحاً بـحق الـجـماعة، كما هو ظلـم بيـّن بـحق الاستاذ او الرئيس نفسه، لأن ذلك يداعب أنانيته الـمستترة فيه ويسوقه الى الغرور. فبينـما هو حارسٌ بوابٌ للـجـماعة، إذ به يتزيا يزيّ السلطان ويُوهم الاخرين بزيـّه، فيظلـم نفسه. بل ربـما يفتـح لـه هذا طريقاً الى نوع من شرك خفي. نعم، انه لا يـحق ان يأخذ آمرُ طابورٍ الغنائم التي حصل عليها الـجنود من فتـحهم قلعةً حصينة، ولا يـمكنه أن يُسند إنتصارهم الى نفسه.

لأجل هذا يـجب الاّ يُنظر الى الاستاذ او الـمرشد على انه الـمنبع او الـمصدر بل ينبغي اعتباره والنظر اليه على انه مَعكَس ومظهرٌ فحسب. كالـمرآة التي تعكس اليك حرارة الشـمس وضوءها، فمن البلاهة ان تتلقى الـمرآة كأنها مصدرٌ لـهما فتنسى الشـمس نفسها، ومن ثم تُولى اهتـمامك ورضاك الى الـمرآة بدلاً عن الشـمس!.

نعم، انه لابد من الـحفاظ على الـمرآة لانها مَظهرٌ يظهر تلك الصفات. فروح الـمرشد وقلبه مرآةٌ، تصبـح مَعكَساً للفيوضات الربانية التي يفيضها الـحق سبـحانه عليها، فيصبـح الـمرشد وسيلة لانعكاس تلك الفيوضات الى مريده.

لذا يـجب الاّ يُسند اليه مقام اكثر من مقام الوسيلة – منِ حيث الفيوضات – بل يـُحتـمل الاّ يكون ذلك الاستاذ الذي ينظر اليه كأنه مصدر مظهراً ولا مصدراً. وانـما يرى مريده ما أخذه من فيوضات – في طريق آخر – يراها في مرآة روح شيـخه، وذلك لـما يـحـمل من صفاء الاخلاص نـحوه وشدة العلاقة به ودنو صلته به وحصر نظره فيه. مَثَلـه في هذا كمثل الـمنوّم مغناطيسياً إذ ينفتـح في خيالـه نافذةً الى عالـم الـمثال بعد إمعانه النظر في الـمرآة، فيشاهد فيها مناظر غريبة عجيبة، علـماً ان تلك الـمناظر ليست في الـمرآة وانـما فيـما وراء الـمرآة مـما يتراءى لـه من نافذة خيالية التي انفتـحت نتيـجة إمعان النظر في الـمرآة.

لـهذا يـمكن ان يكون مريدٌ مـخلصٌ لشيـخ غير كامل أكمل من شيـخه، فينبرى الى ارشاد شيـخه، ويصبـح شيـخاً لشيـخه.

الـمذكـِّرة الرابعة عشرة.

تتضمن اربعة رموز صغيرة تـخصّ التوحيد:

الرمز الاول:

يا من يستـمدّ من الاسباب، إنك ((تنفخ من غيرِ ضَرم وتستسـمن ذا ورم))(1) اذا رأيت قصراً عجيباً يُبنى من جواهر غريبة، لا يوجد وقت البناء بعضُ تلك الـجواهر الاّ في الصين، وبعضها الاّ في الاندلس، وبعضها الاّ في اليـمن، وبعضها الاّ في سيبريا. واذا شاهدت ان البناء يتـم على أحسن ما يكون، وتـجلب لـه تلك الاحجار الكريـمة من الشرق والغرب والشـمال والـجنوب باسرع وقت وبسهولة تامة وفي اليوم نفسه.. فهل يبقى لديك ريب في ان بنـّاء ذلك القصر باسط هيـمنته على الكرة الارضية؟.

وهكذا كلُ كائنٍ، بناءٌ، وقصر إلـهي، ولاسيـما الانسان. فهو من اجـمل تلك القصور ومن اعجبها، لأن قسـماً من الاحجار الكريـمة لـهذا القصر البديع من عالـم الارواح، وقسـم منها من عالـم الـمثال واللوح الـمـحفوظ، وقسـم آخر من عالـم الـهواء، ومن عالـم النور، ومن عالـم العناصر. كما امتدت حاجاته الى الابد، وانتشرت آمالـه في اقطار السـموات والارض، وشرّعت روابطه وعلاقاته في طبقات الدنيا والآخرة.

فيا هذا الانسان الذي يـحسب نفسهُ انساناً، انت قصر عجيب جداً، وعمارة غريبة جداً. فما دامت ماهيتُك هكذا، فلا يكون خالقك اذاً الاّ ذلك الذي يتصرف في الدنيا والآخرة بيسر التصرف في منزلين اثنين، ويتصرف في الارض والسـماء كتصرفه في صحيفتين، ويتصرف في الازل والابد كأنهما الامس والغدُ، فلا معبود يليق بك، ولا ملـجأ لك، ولا منقذ الاّ ذلك الذي يـحكم على الارض والسـماء ويـملك أزمة الدنيا والعقبى.

الرمز الثاني:

هناك بعضُ الـحـمقى يتوجهُ بـحبه الى الـمرآة اذا ما رأى الشـمس فيها. وذلك لعدم معرفته الشـمس نفسها، فيـحافظ على الـمرآة بـحرصٍ شديد لاستبقاء الشـمس، ولكيلا تضيع! ولكن اذا تفطـّن أن الشـمس لا تـموت بـموت الـمرآة، ولا تفنى بإنكسارها توجـّه بـمـحبته كلـها الى الشـمس التي في السـماء. وعندئذٍ يُدرك أن الشـمس التي تشاهَد في الـمرآة ليست تابعة للـمرآة، ولا يتوقف بقاؤها ببقاء الـمرآة، بل ان بقاء حيوية الـمرآة وتلألأها إنـما هو ببقاء تـجليات الشـمس ومقابلتها. فبقاء الـمرآة تابعٌ لبقاء الشـمس.

فيا ايها الانسان! ان قلبك وهويتك وماهيتَك مرآةٌ، وما في فطرتك من حبّ البقاء ليس لأجلـها، بل لأجل ما فيها من تـجلٍ لأسـم الباقي ذي الـجلال، الذي يتـجلـّى فيها حسب استعداد كل انسان. ولكن صُرفَ وجهُ تلك الـمـحبة الى جهة اخرى نتيـجة البلاهة. فما دام الأمر هكذا فقل: ياباقي انت الباقي. فاذ انت موجود وباقٍ، فليفعل الفناء بنا ما شاء فلا نبالي بـما نلاقي.

الرمز الثالث:

ايها الانسان! إن من غرائب ما أودع الفاطر الـحكيـم في ماهيتك انه: بينـما لا تسعك الدنيا احياناً فتقول: أفّ! أفّ! ضجراً كالـمسجون الـمـخنوق، وتبـحث عن مكان اوسعَ منه، اذ بك تسعك خردلة من عمل، من خاطرة، من دقيقة، حتى تفنى فيها. فقلبك وفكرُك اللذان لا تسَعهما الدنيا الضخـمة، تسَعهما الذرة الصغيرة، فتـجول بأشد احاسيسك ومشاعرك في تلك الـخاطرة الدقيقة الصغيرة.

وقد اودع الباريء سبـحانه في ماهيتك أجهزةً ولطائف معنوية دقيقة، اذا ابتلع بعضها الدنيا فلا يشبع، ويضيق بعضها ذرعاً عن ذرة ولا يتـحـمل شُعيرة – كالعين التي لا تتـحـمل شعرة والرأس الذي يتـحـمل اثقالاً هائلة. فتلك اللطيفة لا تتـحـمل ثقلاً كالشعرة الدقيقة، أي لا تتـحـمل حالة هينة جداً نشأت من الضلالة ونـجـمت من الغفلة. بل قد تنظفىء جذوتها وتـموت.

فاحذر! وخفف الوطء، وخِفْ من الغَرق، فيغرق معك ألطف لطائفك التي تبتلع الدنيا في أكلة، او كلـمة، او لـمعةَ، او شارة، او بقلة، او قبلة. فهناك اشياء صغيرة جداً تتـمكن – في جهة – ان تستوعب ما هو ضخـم جداً. فانظر ان شئت كيف تغرق السـماء بنـجومها في مرآة صغيرة، وكيف كتب الـحق سبـحانه في خردلة حافظتك اكثر ما في صحيفة اعمالك واغلب ما في صحائف اعمارك. فسبـحانه من قادر قيوم!.

الرمز الرابع:

يا عابد الدنيا! ان دنياك التي تتصورها واسعةً فسيـحةً ما هي الاّ كالقبر الضيـّق، ولكن جدرانه من مرآةٍ تتعاكس فيها الصور، فتراه فسيـحاً رحباً واسعاً مدّ البصر، فينـما منزلك هذا هو كالقبر تراه كالـمدينة الشاسعة، ذلك لأن الـجدار الأيـمن والايسر لتلك الدنيا واللذين يـمثلان الـماضي والـمستقبل – رغم انهما معدومان وغير موجودين – فانهما كالـمرآة تعكسان الصور في بعضهما البعض الآخر فتوسّعان وتبسطان اجنـحة زمان الـحال الـحاضرة الذي هو قصيرة جداً وضيق جداً. فتـختلط الـحقيقة بالـخيال، فترى الدنيا الـمعدومة موجودةً. فكما ان خطاً مستقيـماً وهو في حقيقته رفيعٌ جداً، إذا ما تـحرك بسرعة يظهر واسعاً كأنه سطح كبير، كذلك دنياك انت، هي في حقيقتها ضيقـّة جداً، جدرانها قد توسعت ومـُدّت بغفلتك وتوهم خيالك، حتى اذا ما تـحرك رأسك من جراء مصيبة اصابتك، تراه يصدم ذلك الـجدار الذي كنت تتصوره بعيداً جداً. فيطـّير ما تـحـملـه من خيال، ويطرد نومك. وعندئذ تـجد دنياك الواسعة أضيقَ من القبر، وترى زمانك وعمرك يـمضي اسرع من البرق، وتنظر الى حياتك تراها تسيل اسرع من النهر.

فما دامت الـحياة الدنيا والعيش الـمادي والـحياة الـحيوانية هكذا، فانسلْ اذن من الـحيوانية، ودع الـمادية، وادخل مدارج حياة القلب.. تـجد ميدان حياةٍ أرحب، وعالـم نورٍ اوسع مـما كنت تتوهمه من تلك الدنيا الواسعة.

وما مفتاح ذلك العالـم الأرحب الاّ معرفةُ الله، وانطاقُ اللسان وتـحريك القلب، وتشغيل الروح بـما تفيده الكلـمة الـمقدسة (لا إلـه الاّ الله) من معانٍ واسرار.

الـمذكـِّرة الـخامسة عشرة

وهي ثلاث مسائل:

الـمسألة الاولى(1):

يامَن يريد ان يرى دليلاً على حقيقة الآيتين الكريـمتين: } فمَن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيراً يَره ` ومَن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يَره { (الزلزال:7-8) اللتين تشيران الى التـجلي الأتـم لاسـم الله ((الـحفيظ)).

ان التـجلي الاعظم لاسـم الله الـحفيظ ونظير الـحقيقة الكبرى لـهاتين الآيتين مبثوثٌ في الارجاء كافة، يـمكنك أن تـجده بالنظر والتأمل في صحائف كتاب الكائنات، وذلك الكتاب الـمكتوب على مسطر الكتاب الـمبين وعلى موازينه ومقاييسه.

خذ – مثلاً – غُرفةً بقبضتك من اشتات بذور الازهار والاشجار، تلك البذيرات الـمـختلطة والـحبتّات الـمـختلفة الاجناس والانواع وهي الـمتشابهة في الاشكال والاجرام، أدفن هذه البُذيرات في ظلـمات تراب بسيط جامد، ثم اسقها بالـماء الذي لاميزان لـه ولايـميز بين الاشياء فاينـما توجهه يسيل ويذهب. ثم عُدْ اليه عند الربيع الذي هو ميدان الـحشر السنوى، وانظر وتأمل كيف ان مَلَك الرعـّد ينفخُ في صُوره في الربيع كنفخ اسرافيل، مُنادياً الـمطر ومُبشراً البذيرات الـمدفونة تـحت الارض بالبعث بعد الـموت. فانت ترى ان تلك البذيرات التي هي في منتهى الاختلاط والامتزاج مع غاية التشابه تـمتثل تـحت انوار تـجلـّي اسـم ((الـحفيظ))، إمتثالاً تاماً بلا خطأ الأوامر التكوينية الآتية اليها من بارئها الـحكيـم. فتلائم اعمالـها وتوافق حركاتها مع تلك الاوامر بـحيث تستشف منها لـمعان كمال الـحكمة والعلـم والارادة والقصد والشعور.

الا ترى كيف تتـمايز تلك البذيرات الـمتـماثلة، ويفترق بعضها عن البعض الآخر. فهذه البُذيرة قد صارت شجرةَ تينٍ تنشر نِعم الفاطر الـحكيـم فوق رؤوسها وتنثرها عليها وتـمدّها الينا بايدي اغصانها. وهاتان البُذيرتان الـمتشابهتان بها قد صارتا زهرة الشـمس وزهرة البنفسج.. وامثالـها كثير من الازهار الـجـميلة التي تتزين لأجلنا وتواجهنا بوجه طليق مبتسـم متوددةً الينا.. وهناك بذيراتٌ اخرى قد صارت فواكه طيبة نشتهيها، وسنابل ملأى، واشجاراً يافعة، تثير شهيتنا بطعومها الطيبة، وروائحها الزكية، واشكالـها البديعة فتدعونا الى انفسها، وتُفديها الينا، كي تصعد من مرتبة الـحياة النباتية الى مرتبة الـحياة الـحيوانية. حتى نـمت تلك البذيرات نـمواً واسعاً الى حد صارت تلك الغرفة منها – باذن خالقها – حديقة غنـّاء وجنةً فيحاء مزدهرة بالازهار الـمتنوعة والاشجار الـمـختلفة، فانظر هل ترى خطأ او فطوراً } فارجع البصر هل ترى من فطور { (الـملك:3).

لقد اظهرت كلُ بذرة بتـجلي اسـم الله الـحفيظ واحسانه ما ورثَته من ميراث ابيها واصلـها بلا نقصان وبلا التباس.

فالـحفيظ الذي يفعل هذا الـحفظ الـمعجز يشير به الى إظهار التـجلي الاكبر للـحفيظية يوم الـحشر الاكبر والقيامة العظمى.

نعم، ان اظهار كمال الـحفظ والعناية في مثل هذه الامور الزائلة التافهة بلا قصور، لـهو حجةٌ بالغة على مـحافظة ومـحاسبة ما لـه اهمية عظيـمة وتأثير ابدي كأفعال خلفاء الارض وآثارهم، واعمال حـملة الامانة واقوالـهم، وحسنات عبدة الواحد الاحد وسيئاتهم..

} أيـحسَبُ الانسانُ أنْ يُترَكَ سُدىً.. { (القيامة:36) بلى إنه لـمبعوثٌ الى الابد، ومرشـّحٌ للسعادة الابدية او الشقاء الدائم، فيـحاسَبُ على السَبَد واللـَّبَد(1) فاما الثواب واما العقاب.

وهكذا فهناك ما لا يـحد ولا يُعد من دلائل التـجلي لإسـم الله الـحفيظ، وشواهد حقيقة الآية الـمذكورة.

فهذا الـمثال الذي تنسج على منوالـه ليس الاّ قبضة من صُبرة(2)، او غرفة من بـحر، او حبة من رمال الدهناء، ونقطة من تلال الفيفاء(3)، وقطرة من زلال السـماء، فسبـحانه من حفيظ رقيب وشهيد حسيب.

} سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم{

(البقرة:32 )

اللـمعة الثامنة عشرة

ستدرج باذن الله ضمن مـجـموعة اخرى.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس