عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الحادي عشر


الشعاع الحادي عشر - ص: 260
لا يملكون معه الا ترديد: تبارك الله سبحان الله ما شاء الله! من كلمات الاستحسان والاعجاب؛ كذلك هذا الكتاب الكبير للكون الذي يُكتب في صحيفة واحدة منه - وهي سطح الارض - ويُكتب في ملزمة واحدة منه - وهي الربيع - ثلثمائة ألف نوع من الكتب المختلفة وهي طوائف الحيوانات واجناس النباتات كل منها بمثابة كتاب.. يُكتب كل ذلك معا ومتداخلة بعضها ببعض دون اختلاط، ولاخطأ، ولانسيان، وفي منتهى الانتظام والكمال بل يُكتب في كل كلمة منه - كالشجرة - قصيدة كاملة رائعة، وفي كل نقطة منه - كالبذرة - فهرس كتاب كامل. وان هذا مشاهد وماثل أمامنا، ويُرينا بالتأكيد وراءه قلماً سيالاً يسطر. فلكم ان تقدروا مدى دلالة كتاب الكون الكبير العظيم الذي في كل كلمة منه معان جمة وحكم شتى، ومدى دلالة هذا القرآن الاكبر المجسم - وهو العالم - الى بارئه سبحانه والى كاتبه جل وعلا، قياسا الى ذلك الكتاب المذكور في المثال. وذلك بمقتضى ما تقرأونه من علم حكمة الاشياء او فن القراءة والكتابة، وتناولوه بمقياس اكبر، وبالنظرة الواسعة الى هذا الكون الكبير وبذلك تفهمون كيف يعرّف الخالق العظيم بـ"الله اكبر" وكيف يعلّم التقديس بـ"سبحان الله" وكيف يحبّب الله سبحانه الينا بثناء "الحمد لله".
وهكذا فان كل علم من العلوم العديدة جداً، يدل على خالق الكون ذي الجلال - قياسا على ما سبق - ويعرّفه لنا سبحانه باسمائه الحسنى، ويعلّمه ايانا بصفاته الجليلة وكمالاته. وذلك بما يملك من مقاييس واسعة، ومرايا خاصة، وعيون حادة باصرة، ونظرات ذات عبرة.
فقلت لاولئك الطلبة الشباب: ان حكمة تكرار القرآن الكريم من: (خلقَ السمواتِ والارض) و (ربّ السموات والارض) انما هي لأجل الارشاد الى هذه الحقيقة المذكورة، وتلقين هذا البرهان الباهر للتوحيد، ولأجل تعريفنا بخالقنا العظيم سبحانه. فقالوا: شكراً لربنا الخالق بغير حد، على هذا الدرس الذي هو الحقيقة السامية عينها، فجزاك الله عنا خير جزاء ورضي عنك.
قلت: ان الانسان ماكنة حيوية، يتألم بآلاف الانواع من الآلام، ويتلذذ بآلاف الانواع من اللذائذ، ومع أنه في منتهى العجز، فان له من الاعداء ما لا يحد سواء الماديين او المعنويين، ومع أنه في غاية الفقر فان له رغبات باطنة وظاهرة لاتحصر، فهو
الشعاع الحادي عشر - ص: 261
مخلوق مسكين يتجرّع آلام صفعات الزوال والفراق باستمرار.. فرغم كل هذا، فانه يجد بانتسابه الى السلطان ذي الجلال - بالايمان والعبودية - مستنداً قوياً، ومرتكزاً عظيماً يحتمي اليه في دفع أعدائه كافة، ويجد فيه كذلك مدار استمداد يستغيث به لقضاء حاجاته وتلبية رغباته وآماله كافة، فكما ينتسب كلٌ الى سيده ويفخر بشرف انتسابه اليه، ويعتز بمقامه لديه، كذلك فان انتساب الانسان بالايمان، الى القدير الذي لانهاية لقدرته، والى السلطان الرحيم ذي الرحمة الواسعة، ودخوله في عبوديته بالطاعة والشكران، يبدل الأجل والموت من الاعدام الابدي الى تذكرة مرور، ورخصة الى العالم الباقي!. فلكم ان تقدروا كم يكون - هذا الانسان - متلذذاً بحلاوة العبودية بين يدي سيده، وممتناً بالايمان الذي يجده في قلبه، وسعيداً بأنوار الاسلام، ومفتخراً بسيده القدير الرحيم شاكراً له نعمة الايمان والاسلام.
ومثلما قلت ذلك لاخواني الطلبة، اقول كذلك للمسجونين:
ان من عرف الله واطاعه سعيدٌ ولو كان في غياهب السجن، ومن غفل عنه ونسيه شقي ولو كان في قصور مشيدة. فلقد صرخ مظلوم ذات يوم بوجه الظالمين وهو يعتلي منصة الاعدام فرحاً جذلاً وقائلاً: انني لا انتهي الى الفناء ولا أُعدم. بل أُسّرح من سجن الدنيا طليقاً الى السعادة الابدية، ولكني اراكم انتم محكومين بالاعدام الابدي لما ترون الموت فناء وعدماً. فانا اذن قد ثأرت لنفسي منكم. فسلّم روحه وهو قرير العين يردد: لا إله إلاّ الله.
(سبحانكَ لا عِلمَ لنا إلاّ ما عَلمتنا إنكَ انت العليمُ الحكيم)
* * *
الشعاع الحادي عشر - ص: 262
المسألة السابعة
(ثمرة اينعت في يوم جمعة من ايام سجن دنيزلي)
بسم الله الرحمن الرحيم
(وما أمرُ الساعةِ إلاّ كَلَمحِ البصر أو هو أقرب) (النحل : 77)
(ما خلقكم ولا بعثُكم إلاّ كنفسٍ واحدة) (لقمان : 28)
(فانظر إلى آثار رحمتِ الله كيفَ يُحيي الارضَ بعد موتها إن ذلكَ لَمُحيي الموتى وهو على كل شئ قدير) (الروم : 50)
كنت قد القيت ذات يوم درسا في "قسطموني" بلغة العلوم المدرسية على بعض طلبة الثانوية الذين جاؤا يسألونني: "عرّفنا بخالقنا" كما جاء في المسألة السادسة المذكورة آنفاً، واطلع عليها بعض من استطاع الاتصال معي من المسجونين في "دنيزلي" فحصل لديهم من الاطمئنان الايماني والقناعة التامة ماجعلهم يستشعرون شوقاً غامراً نحو الآخرة، فبادروا بالقول: "علمنا آخرتنا ايضاً علما كاملا، لاتضلّنا بعده انفسُنا وشياطين العصر، فتلقي بنا الى مثل هذه السجون !". ونزولاً عند طلب هؤلاء واسعافاً لحاجة طلبة رسائل النور في سجن "دنيزلي" وللرغبة الملحة من اولئك الذين طالعوا "المسألة السادسة"، فقد رأيت لزاما علىّ أن ابين خلاصة موجزة عن الركن الايماني المهم: "الآخرة". فأقول ملخصاً من رسائل النور:
كما اننا سألنا في "المسألة السادسة" الارض والسموات عن خالقنا سبحانه وتعالى فأجابتنا بلسان العلوم الحاضرة بما عرّفنا بخالقنا الكريم معرفة واضحة وضوح الشمس، فسنسأل كذلك اولاً: ربَّنا الذي عرفناه يقينا عن آخرتنا، ثم نسأل رسولنا الاعظم صلى الله عليه وسلم ثم قرآننا الكريم، ثم سائر الانبياء عليهم السلام والكتب المقدسة، ثم الملائكة، ثم الكائنات.
الشعاع الحادي عشر - ص: 263
فها نحن اولاء في اولى المراتب.. نسأل الله سبحانه وتعالى عن "الآخرة" فيخاطبنا - جل وعلا - بجميع اوامره وبجميع رسله الكرام، وبجميع اسمائه الحسنى، وبجميع صفاته الجليلة، قائلا لنا: الآخرة لاريب فيها، وانتم مساقون اليها. وحيث ان "الكلمة العاشرة" قد اثبتت الآخرة باثنتي عشرة حقيقة قاطعة ناصعة، واوضحتها بدلالة قسم من الاسماء الحسنى؛ لذا نشير هنا - اشارة مختصرة - الى تلك الدلالات، مكتفين بذلك الايضاح.
نعم! انه ليس هناك سلطان عظيم دون ان يكون له ثواب للمطيعين وعقاب للعاصين. فلابد من ان السلطان السرمدي - وهو في علياء الربوبية المطلقة - له ثواب للمنتسبين اليه بالايمان والمستسلمين لأوامره بالطاعة، وعقاب للذين انكروا عظمته وعزته بالكفر والعصيان. ولابد من أن ذلك الثواب سيكون لائقا برحمته وجماله، وذلك العقاب سيكون ملائما لعزته وجلاله.
وبهذا يجيبنا اسم "السلطان الديّان" و "رب العالمين" عن سؤالنا حول الآخرة.
ثم اننا نرى باعيننا - رؤية واضحة وضوح الشمس - ان رحمة عامة ورأفة محيطة وكرما شاملا سابغا على وجه الارض؛ فما ان يحل الربيع الزاهي حتى ترى الرحمة تزيّن الاشجار والنباتات المثمرة، وتلبسها ثياباً خضراً كانها حور الجنة، وتسلّم الى ايديها انواعاً مختلفة من ثمار شتى، وتقدمها الينا قائلة: "هاكم كلوا وتفكهوا..." وتراها تطعمنا عسلا مصفى شافياً لذيذاً بأيدي حشرة سامة! وتلبسنا حريراً ناعما تنسجه حشرة بلا يد! وتدّخر في حفنة من بُذيرات وحبوب آلاف الاطنان من الغذاء وتحولها الى كنوز احتياطية لنا.. فالذي له هذه الرحمة الواسعة، وله هذه الرأفة العامة والكرم السابغ، لاريب أنه لن يُفني ولن يُعدم عباده المؤمنين المحبوبين لديه، اولئك الذين رباهم ومَنَّ عليهم، وكرّمهم الى هذه الدرجة من اللطف والرفق والعناية. بل سينهي وظيفتهم في الحياة الدنيا ليهيأهم لرحمات اوسع واعظم.
وبهذا يجيبنا اسم الله "الرحمن" و "الكريم" من الاسماء الحسنى عن سؤالنا حول الآخرة، قائلين لنا: "الجنة حق".
الشعاع الحادي عشر - ص: 264
ثم اننا نرى ان وظائف المخلوقات تنسج على منوال الحكمة وتكال بميزان العدل. وهما من الدقة والحساسية لايتصور الانسان أفضل منهما.. فترى الحكمة الازلية قد وهبت للانسان قوة حافظة - كحبة الخردل حجما - وكتبت فيها تفاصيل حياته وما يمسه من احداث لا تعد، وكأنها مكتبة وثائقية مصغرة جداً، ووضعتها في زاوية من دماغه، لتذكره دوماً بيوم الحساب، يوم تنشر مافيها من صحائف الاعمال.
وترى العدالة المطلقة تضع كل عضو من الكائن الحي في موضعه اللائق به، وتنسقه بموازين دقيقة حساسة - ابتداء من ميكروب صغير الى كركدن ضخم، ومن نحل ضعيف الى نسر مهيب، ومن زهرة لطيفة الى ربيع زاهٍ بملايين من الازهار.. وتراها تمنح كل عضو تناسقا لاعبث فيه، وموازنة لانقص فيها، وانتظاماً لاترى فيه الا الابداع، كل ذلك ضمن جمال زاهر وحسن باهر حتى تغدو المخلوقات نماذج مجسمة للابداع والاتقان والجمال.. فضلا عن انها تهب لكل ذي حياة حق الحياة؛ فتيسر له سبل الحياة، وتنصب له موازين عدالة فائقة؛ فجزاء الحسنة حسنة مثلها، وجزاء السيئة سيـئة مثلها.. وفي الوقت نفسه تُشعر قوتها وسرمديتها، بما تنزل من عذاب مدمر على الطغاة والظالمين منذ عهد آدم عليه السلام. فكما لاتكون الشمس دون نهار، فتلك الحكمة الازلية، وتلك العدالة السرمدية لن تتحققا تحققاً كلياً الا بحياة اخرى خالدة لذا لن ترضيا ابداً ولن تساعدا بحال من الاحوال على نهاية لاعدالة فيها ولاحكمة ولا احقاق حق، تلك هي الموت الذي لابعث بعده، والذي يتساوى فيه الظالمون العتاة مع المظلومين البائسين ! فلابد اذن ان تكون وراءه حياة اخرى خالدة كي تستكمل الحكمة والعدالة حقيقتهما.
وبهذا يجيبنا - اجابة قاطعة - اسم الله "الحكيم" و "الحكم" و "العدل" و "العادل" من الاسماء الحسنى عن سؤالنا حول الآخرة.
ثم اننا نرى ان كل كائن حي تُوفَّر له حاجاته التي ليس في طوقه الحصول عليها، وتستجاب جميع مطاليبه التي يسألها - بنوع من دعاء - سواء بلسان حاجاته الضرورية، او بلغة استعداداته الفطرية، وتسلّم اليه في أنسب وقت وافضله من لدن يد رحيم واسع الرحمة، وسميع مطلق السمع، ورؤوفٍ شامل الرأفة.. وتُستجاب ايضاً اغلب دعوات الانسان الارادية، ولاسيما دعوات الاصفياء من الناس، وبخاصة
الشعاع الحادي عشر - ص: 265
دعوات الانبياء عليهم السلام - التي تستجاب اغلبها استجابة خارقة للعادة - فتلك الاستجابات تفهمنا يقينا ان وراء الحجاب "سميع مجيب" يسمع آهات كل ذي مصيبة وأنات كل ذي داء، ويصغي الى دعاء كل محتاج، ويرى أدنى حاجة لأصغر مخلوق ويسمع أخفى أنين لأضعف كائن فيشمله برأفته ويسعفه فعلا فيرضيه.. فما دام الامر هكذا فان دعاءً للسعادة الاخروية والبقاء والخلود - وهو افضل دعاء واعمه ويمس جميع الكائنات ويرتبط بجميع الاسماء الحسنى وبجميع الصفات الجليلة - هذا الدعاء يسأله أفضل مخلوق - وهو الانسان - ويضمه ضمن ادعيته اعظم عبد واحبه الى الله، ذلك الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم، وهو امام الانبياء عليهم السلام الذين هم شموس البشرية وروادها فيؤمّنون على دعائه هذا بل يؤمّن على دعائه بصلواته عليه يوميا كلُ مؤمن من امته عدة مرات في الاقل بل تشترك جميع المخلوقات في دعائه قائلة: "استجب ياربنا دعاءه فنحن نتوسل بك ونتضرع اليك مثله".. فمثل هذا الدعاء الشامل للخلود والسعادة الابدية، من مثل هذا الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم وضمن هذه الشروط التي لاترد، لاشك مطلقاً انه وحده مبرّر كافٍ وسبب وافٍ لايجاد الجنة الخالدة وإحداث الاخرة من بين اسباب لاتعد ولاتحصى موجبة لايجادها. فضلا عن أن ايجادها سهل على قدرته سبحانه وهيّن عليها كايجاد الربيع وخلقه.
وهكذا يجيبنا اسم الله "المجيب" و "السميع" و "الرحيم" من الاسماء الحسنى عن سؤالنا حول الآخرة.
ثم ان ما في تبدل المواسم من مظاهر الموت ومشاهد البعث على الارض كافة يدل دلالة واضحة - كدلالة النهار على الشمس - على ان وراء الحجاب ربّا يدير الارض الهائلة في غاية الانتظام وفي منتهى السهولة - كادارة حديقة صغيرة بل كادارة شجرة واحدة وبانتظامها - ويدير الربيع الشاسع ويزينه بسهولة ادارة زهرة واحدة وبزينتها الموزونة، ويسطر على صحيفة الارض ثلاثمائة الفٍ من طوائف النباتات والحيوانات التي هي بمثابة ثلاثمائة الف نوع من كتب تعرض نماذج الحشر وامثلة النشور.
فهذا الرب القدير الذي يكتب هذه النماذج المتداخلة دون تحير ولا لبس، ودون سهو ولاخطأ وباتقان وانتظام وبمعان بليغة رغم تشابكها وتشابهها وتماثلها، يُظهر
الشعاع الحادي عشر - ص: 266
ضمن جلال العظمة قدرة فاعلة رحيمة حكيمة، فهو سبحانه يشمل الوجود برحمته وحكمته هذه فيهب للانسان مقاماً سامياً ويسخر له الكون الضخم ويجعله مسكناً ومهداً له، ثم ينصبه خليفة في الارض ويحمّله الامانة الكبرى التي اَبت السموات والارض والجبال ان يحملنها ويفضّله على سائر المخلوقات، ويشرّفه بكلامه الرباني وبخطابه السبحاني وبموالاته اياه، فضلا عن انه قد قطع على نفسه عهداً، ووعد هذا الانسان وعداً - في جميع كتبه المنزلة - انه سيخلّده بالسعادة الابدية والبقاء الاخروي.. فلاريب انه سيفتح له ابواب سعادة دائمة، وسيحدث الحشر والقيامة حتما وهو أهون عليه من الربيع نفسه.
وبهذا يجيبنا اسم الله "المحيي" و"المميت" و"الحي" و"القيوم" و"القدير" و"العليم" عن سؤالنا حول الآخرة.
حقا ان القدرة الإلهية التي تحيي اصول الاشجار والاعشاب كافة في كل ربيع وتوجد نماذج ثلاثمائة الف نوع من حشر ونشر في الحيوانات والنباتات كافة، بل تُظهر الف مثال للحشر والنشور والف دليل عليه في ألفي ربيع 1عندما ينظر خيالا الى الف سنة من السنين التي قضاها كل من أمة محمد وموسى عليهما السلام وقوبلا معا ! فكيف يُستبعد بعثُ الاجساد والحشر الجسماني من هذه القدرة المطلقة ؟ أليس استبعاده عمى ما بعده عمى ؟
ثم ان مائة واربعة وعشرين الفاً من افضل بني آدم وهم الانبياء عليهم السلام، قد اعلنوا السعادة الابدية وخلود الآخرة، متفقين، مستندين الى آلاف الوعود والعهود التي قطعها الله سبحانه وتعالى على نفسه. واثبتوا صدقهم بمعجزاتهم الباهرة. وان ما لا يحصر له من الاولياء الصالحين يصدّقون الحقيقة نفسها بالكشف والذوق. فلابد من ان تلك الحقيقة ظاهرة ظهور الشمس في رابعة النهار فمَن شك فيها فقد حَرُم العقل:
لأن حكم متخصص واحد او اثنين في علم او مهنة في مسألة ضمن اختصاصه، يسقط من الاعتبار قيمة آراء وافكار ألف معارض غير متخصص في ذلك العلم او المهنة ولو كانوا أولي اختصاص في علوم اخرى. وان حكم اثنين من شهود الاثبات
_____________________
1
ان كل ربيع يقبل هو بحكم حشر للربيع السابق الذي قامت قيامته وانتهت حياته.- المؤلف.

الشعاع الحادي عشر - ص: 267
في مسألة يُرجَّح على آلافٍ من المنكرين او النافين للمسألة. كما هو في رؤية هلال رمضان في يوم الشك، او ادعاء وجود مزارع جوز الهند الشبيهة بعلب الحليب في الارض؛ ذلك لأن المثبت يكسب القضية بمجرد الاشارة اليها او ابراز جوز الهند او بيانه لمكانه. اما النافي الذي ينكر وجوده فانه لايستطيع ان يثبت دعواه الا اذا جاس وجال في انحاء العالم كله وتحرى دعواه في الامكنة كلها. وهكذا الذي يخبر عن الجنة ودار السعادة والخلود فانه يثبتها ويكسب القضية بمجرد اظهاره أثراً من آثار الجنة، او امارة من أماراتها، او ظلا من ظلالها كشفا، في حين لايستطيع من ينفي وجودها وينكرها ان يجد لانكاره مجالا - مهما كدّ - الا اذا شاهد وأشهد الاخرين جميع الاكوان وجميع الازمان من الازل الى الابد، واظهر عدم وجودها واثبت نفيها!! فلأجل هذه الحكمة ارتضى العلماء المحققون على قاعدة اساس هي: "لايمكن اثبات النفي غير المحدد مكانه - كالحقائق الايمانية الشاملة للكون قاطبة - مالم يكن الامر محالا بذاته".
فبناءً على هذه الحقيقة القاطعة ينبغي الاّ يجلب انكار آلاف الفلاسفة ومعارضتهم اية شبهة ولا وسوسة امام مخبر صادق في مثل هذه المسائل الايمانية.. فيا حماقة من يتلوث بشبهة - مهما كانت - في اركان الايمان بمجرد انكار قلة من فلاسفة ماديين تحدرت عقولهم الى عيونهم فلا يرون الا المادة بل ماتت قلوبهم فلا يشعرون بالمعنويات، بينما اتفق على تلك الاركان مائة وعشرون الفا من المثبتين اولي الاختصاص من الانبياء الصادقين عليهم السلام وممن لايحصون ولايعدون من المثبتين والمختصين من اهل الحقيقة الاولياء واصحاب التحقيق العلماء.
ثم اننا نشاهد سواء في انفسنا او فيما حولنا، رحمة عامة، وحكمة شاملة، وعناية دائمة ناشرة نورها كالنهار، ونرى كذلك آثار ربوبية مهيبة وانوار عدالة بصيرة، وتجليات اجراءات جليلة عزيزة، بل نرى "حكمة" تقلد الشجرة حكماً بعدد ازهارها واثمارها، ونرى "رحمة" تقيم على كل إنسان احساناً وعطايا بعدد حواسه وقواه واجهزته. ونرى "عدالة" ذات عزة تهلك بسوط عذابها اقواما عصاة امثال قوم نوح وهود وصالح وقوم عاد وثمود وفرعون، وهي ذات عناية كذلك تحافظ على حقوق
الشعاع الحادي عشر - ص: 268
اصغر مخلوق واضعفه. فالآية الكريمة الآتية تبين بايجاز معجز عظمة تلك الربوبية الجليلة وهيبتها المطلقة:
(ومن آياته أن تقوم السماءُ والارض بأمره ثمّ إذا دَعاكم دَعوةً من الارضِ اذا أنتم تخرجون) (الروم: 24).
اذ تبين ان السموات والارض تمتثلان الامر الإلهي كالجنود المرابطين والراقدين في معسكرين. فكما انهم يهرعون الى أخذ مواقعهم وتسلم اسلحتهم بدعوة من القائد وبنفخة من بوق، كذلك السموات والارض كمعسكرين حالما يُنادى بالاموات الراقدين فيهما بصور اسرافيل عليه السلام، اذا بهم يخرجون من الاجداث سراعاً لابسين ثياب الجسد. بل نرى هذه العظمة والطاعة في كل ربيع اذ يُحشَر ما في معسكر الارض من جنود وينشَرون بنفخة من بوق مَلَك الرعد.. فبناء على التحقيقات السابقة، لابد ان تلك الرحمة والحكمة والعناية والعدالة والسلطنة السرمدية ستحقق ابعادها وغاياتها في دار اخرى، اي انها تقتضي الحشر بالضرورة، كما اثبتتها الكلمة العاشرة؛ اذ لاشك في مجئ الآخرة، بل ان عدم مجيئها محال في الف محال، حيث ان عدمها يعني: تبدل "الرحمة" التي هي في منتهى الجمال قسوة في منتهى البشاعة، ويعني: تحول كمال "الحكمة" الى نقص العبث القاصر وغاية الاسراف، ويعني: انقلاب "العناية" التي هي في منتهى الحسن واللطف الى اهانة في منتهى القبح والمرارة ويعني: تغير "العدالة" التي هي في منتهى الانصاف والحق الى ظلمات في اشد القسوة والبطلان، زد على ذلك فان عدم مجئ الآخرة يعني ايضاً سقوط هيبة السلطنة السرمدية العزيزة وبوار أبهتها وقوتها، ويعني اتهام كمال الربوبية بالعجز والقصور.. فكل هذا باطل ومحال لايقبله عقل أي انسان مهما كان، وهو الممتنع والخارج عن دائرة الامكان؛ لأن كل ذي شعور يعلم ان الله سبحانه قد خلق هذا الانسان في احسن تقويم، ورباه احسن تربية، وزوّده من الاجهزة والاعضاء - كالعقل والقلب - ما يتطلع به الى السعادة الابدية ويسوقه نحوها، ويدرك كذلك مدى الظلم والقسوة اذا ما انتهى مصير هذا الانسان المكرم الى العدم الابدي ! ويفهم كذلك مدى البُعد عن الحكمة في عدم البعث الذي يجعل جميع الاجهزة والقوى الفطرية - التي لها آلاف المصالح والفوائد - دون جدوى ودون قيمة ! في
الشعاع الحادي عشر - ص: 269
الوقت الذي اودع سبحانه مئات من الحِكَم والفوائد في دماغه فحسب !.. ويفهم كذلك مدى العجز الظاهر والجهل التام المنافيين كليا لعظمة تلك السلطنة وكمال الربوبية في عدم الايفاء بآلاف الوعود والعهود ؟ تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً. قس على هذا كلا من "العناية" و "العدالة".
وهكذا يجيبنا اسم الله "الرحمن" و"الحكيم" و"العدل" و"الكريم" و"الحاكم" من الاسماء الحسنى بتلك الحقيقة المذكورة عن سؤالنا الذي سألناه حول الآخرة ويثبتها لنا اثباتا لاشبهة فيه بل واضحاً جلياً كوضوح الشمس وجلائها.
ثم اننا نرى "حفيظية" مهيبة محيطة بادية للعيان، تحكم على كل شئ حي، وتهيمن على كل حادث، تحفظ صوره الكثيرة، تسجِّّل اعمال وظيفته الفطرية، تدوّن تسبيحاته التي يؤديها - بلسان الحال - تجاه الاسماء الحسنى.. تدوّنها في لوحات مثالية، في بُذيراته ونوّياته، في قواه الحافظة - وهي نماذج مصغرة للّوح المحفوظ - ولاسيما في حافظة الانسان التي هي مكتبة عظمى مصغرة جداً موضوعة في دماغه، فتسجلها في سائر المرايا والمعاكس المادية والمعنوية. وما ان يحل الربيع - تلك الزهرة المجسمة للقدرة الإلهية - حتى تبرز لنا الحفيظية تلك الكتابات المعنوية ظاهرةً مشهودة مجسمة. وتعرض في تلك الزهرة العظمى حقيقة الحشر التي تتضمنها الآية الكريمة (واذا الصُحُفُ نُشرت) (التكوير: 10) وتعلنها بألسنة ملايين الملايين من الامثلة والدلائل، وتؤكد لنا يقيناً ان الاشياء جميعها - ولاسيما الاحياء - لم تُخلق لتنتهي الى الفناء، ولالتهوي الى العدم ولا لتمحى الى غير شئ - ولاسيما الانسان - بل خلقوا للمضي بسموهم الى البقاء، وللدخول بتزكية انفسهم الى عالم الحياة الخالدة، وللولوج بالاستعداد الفطري الى وظيفة سرمدية تنتظرهم في دار الخلود.
نعم ! ان كل شجر وجذر وكل حبّة ونواة من النباتات غير المحدودة التي ماتت في قيامة الخريف، ما ان يحين حشر الربيع الا ويتلو الآية الكريمة (واذا الصُحفُ نُشِرتْ) بلسانها الخاص ويفسر معنىً من معانيها، وذلك بقيام كل جزء من اجزائه بمثل الوظائف الفطرية التي قام بها في السنين السابقة، ويبيّن - في الوقت نفسه -
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس