عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الحادي عشر


الشعاع الحادي عشر - ص: 270
عظمة الحفيظية في اوسع مداها كما تتضمنها الآية الكريمة (هُوَ الأولُ والآخرُ والظاهِرُ والبَاطِنُ) (الحديد: 3) وترشدنا الى اربع حقائق جليلة في كل شئ وتقيم الحجة الدامغة على حتمية الحشر كحتمية مجئ الربيع ويسره.
نعم ! ان انوار هذه الاسماء الحسنى الاربعة وتجلياتها تسري وتنفذ من اصغر جزئي الى اكبر كليّ.. ولنوضح هذا بمثال:
فالبذرة التي هي اصل الشجرة تبين عظمة الحفيظية بتعرضها لأنوار اسم الله "الاول" وذلك؛ بما تحوي من خطة الشجرة دقيقة كاملة، وبما تضم من اجهزة بديعة لايجادها ونشوئها كاملة غير منقوصة، وبما تشتمل عليه من شرائط تكوين الشجرة، رغم انها علبة صغيرة جدا.
والثمرة ايضا تشهد شهادة صادقة على تلك الحفيظية بتعرضها لأنوار اسم الله "الآخر" وذلك؛ بما تحوي من فهرس جميع الوظائف الفطرية لتلك الشجرة، وبما تضم من صحائف اعمالها، وبما تنطوي عليه من قوانين حياتها الثانية، علماً انها صندوق صغير جدا.
اما ظاهر الشجرة المجسم فانه يظهر عظمة القدرة وكمال الحكمة وجمال الرحمة ضمن الحفيظية المطلقة، ويبرزها للعيان مشهودة بتعرضها لأنوار اسم الله "الظاهر" وذلك؛ بحللها البهية المزدانة بالنقوش البديعة المتنوعة والاوسمة المرصعة، كأنها ثياب الحور العين الملونة بسبعين لونا.
اما الاجهزة الداخلية لتلك الشجرة التي اصبحت كأنها مرآة تعكس انوار اسم الله "الباطن" فهي ايضا تثبت - اثباتا ساطعا كالشمس - كمال القدرة والعدالة، وجمال الرحمة والحكمة، إذ إنها مصنع خارق كامل النظام، بل مختبر كيمياء عظيم، بل مستودع اعاشة وارزاق لايدع غصناً ولاثمراً ولاورقاً إلاّ ويزوده بالغذاء الذي يحتاجه.
وكما يظهر كلٌ من البذرة، والثمرة، وظاهر الشجرة، وباطنها، تجليات الاسماء الحسنى الاربعة (الاول والآخر والظاهر والباطن) فالكرة الارضية كذلك تظهرها،
الشعاع الحادي عشر - ص: 271
وتبين بداهة ان الحفيظ ذا الجلال والاكرام انما يعمل بقدرة وعدالة وحكمة ورحمة مطلقة؛ اذ انها - اي الكرة الارضية - كالشجرة من حيث تبدل المواسم السنوية، فجميع النوى والحبوب التي اودعت في الخريف - بتجلي اسم الله "الاول" - أمانةً الى الحفيظية، ترسِلُ ما لايعد من السيقان والاغصان، وتمدها الى شتى الجهات، وتَفتَح ما لايحصى من الازهار البهيجة والاثمار الطيبة، فتلبس الارض وشاح الربيع البهيج.. ذلك لأن كلا منها تضم كراسات مصغرة سُطّرت فيها الاوامر الربانية، وتبطن صحائف مصغّرة دوّن فيها ما انجز في السنة الماضية من اعمال، بل تستوعب تلك البذور والنوى جميع ما يعود الى تركّب شجرة الارض العظيمة.
أما آخر شجرة الارض السنوية فهو مايضعه في علب متناهية في الصغر من جميع الوظائف التي قامت بها الشجرة في الخريف، وجميع التسبيحات والاذكار الفطرية التي ادتها تجاه الاسماء الحسنى، وجميع مايمكن نشره في حشر الربيع المقبل من صحائف الاعمال، ويسلّم هذا جميعا الى يد الحكمة للحفيظ ذي الجلال تالياً بهذا اسم الله "الآخر" بألسنة لاحد لها على اسماع الكائنات وانظارها.
اما ظاهر هذه الشجرة فهو: تلك الازهار الكلية المتنوعة المتباينة التي تفصح عن ثلاثمائة الف نوع من امثلة الحشر واماراته، وهو تلك الموائد المنصوبة للرحمن الرحيم والرزاق الكريم، وهو تلك الضيافات المفتوحة لذوي الحياة كافة، فكل ما في ظاهر تلك الشجرة يذكر ويتلو اسم الله "الظاهر" بألسنة ثمراتها، وازهارها، وطعومها مُظهراً حقيقة (وإذا الصُحفُ نُشرت) ساطعة كالشمس في كبد السماء.
اما باطن هذه الشجرة العظيمة فهو معمل ومصنع يحرك مالايعد ولايحصى من مكائن منتظمة ومعامل دقيقة حتى انه يعدّ طنا من الاطعمة وينضجها من درهم من المواد وتوصله الى الجائعين، وينهض باعماله في منتهى الدقة بما لايدع مجالاً لتلعب به الصدفة، فيذكر الوجه الباطن للارض اسم الله "الباطن" بل يثبته ويعلنه بمائة الف من الانماط والصور كما يعلنه قسم من الملائكة الذين يسبّحون بمائة الف لسان.
الشعاع الحادي عشر - ص: 272
وكما ان الارض من حيث حياتها السنوية كالشجرة، بينت "الحفيظية" التي في تلك الاسماء الحسنى الاربعة بوضوح، وجعلتها مفتاحاً لباب الحشر، فهي كذلك كالشجرة المتناسقة جداً من حيث حياة العصور وحياة الدهور، اذ ترسل ثمراتها - على مدى العصور والدهور - الى سوق الآخرة.
وهكذا تصبح الارض بأسرها مرآةً واسعة جدا لتجليات تلك الاسماء الاربعة، وتفتح سبيلاً واسعاً جداً الى الآخرة بحيث تظل عقولنا ولغاتنا قاصرة وعاجزة عن الاحاطة بها. لذا نكتفي بالآتي ولا نزيد:
ان عقارب الساعة التي تعد الثواني والدقائق والساعات والايام تتشابه فيما بينها، فالواحد يدل على الآخر ويذكّره، فمن يراقب حركة عقرب الثواني يضطر الى تصديق حركة التروس الاخرى. كذلك الدنيا كساعة كبرى لخالق السموات والارض، حيث تتشابه الايام التي تعد ثواني هذه الساعة الكبرى، والسنوات التي تحصي دقائقها، والعصور التي تظهر ساعاتها، والاحقاب التي تعرف ايامها فمع تشابه بعضها مع البعض الآخر فإن كلا منها يدل على الآخر ويثبته.
ومن هذه الزاوية نرى الارض تخبر بامارات لاحدّ لها عن مجئ ربيع خالد وصبح سرمدي بعد شتاء الدنيا الفانية المظلم.. تخبر عنه بحتمية مجئ الصبح لهذا الليل وبقطعية مجئ الربيع بعد هذا الشتاء. وبهذه الحقيقة يجيبنا اسم "الحفيظ" مع الاسماء الحسنى الاربعة: (الاول والآخر والظاهر والباطن) عن سؤالنا الذي سألناه حول الحشر.
وما دمنا نرى باعيننا ونفقه بعقولنا، ان الانسان هو:
خاتمة ثمرات شجرة الكون واجمع مافيها من الصفات.. وهو بذرتها الاصلية من حيث الحقيقة المحمدية.. وهو الآية الكونية الكبرى لقرآن الكون.. بل هو الآية الحاملة لتجليات الاسم الاعظم في ذلك القرآن الكوني كآية الكرسي في القرآن الكريم.. وهو اكرم ضيف في قصر الكون.. وهو انشط موظف مأذون له بالتصرف في سكنة ذلك القصر.. وهو المأمور المكلف عن حرث مزرعة الارض والناظر المسؤول عن وارداتها ومصاريفها، بما جُهز من مئات العلوم والوف المؤهلات.. وهو خليفة
الشعاع الحادي عشر - ص: 273
الارض، والمفتش الباحث في مملكة الارض والمرسل من لدن سلطان الازل والابد والعامل تحت رقابته.. وهو المتصرف في شؤون الارض مع تسجيل كامل لأعماله بجزئياتها وكلياتها.. وهو عبد كليّ، مكلف بعبادة واسعة شاملة، والحامل للأمانة الكبرى التي أبت السموات والارض والجبال ان يحملنها، فانفرجت أمامه طريقان: احداهما للاشقياء، والاخرى للسعداء.. وهو الذي يعكس كالمرآة جميع تجليات الاسماء الحسنى ويتجلى فيه اسم الله الاعظم.. وهو المخاطب المقصود للخطاب السبحاني والاكثر فهماً للكلام الرباني.. وهو الاكثر فاقة وعجزاً من بين احياء الكون.. وهو الكائن الحي العاجز الفقير بلا حدود، مع أن له اعداء ومؤذيات بلا عد ومقاصد وآلاماً بلا حد.. وهو اغنى استعداداً من بين ذوي الحياة.. وهو اشد احساسا وشعوراً بالالم - ضمن لذة الحياة - حيث تمتزج لذاته بآلام منغّصة.. وهو أشد شوقاً الى البقاء واكثر حاجة الى الخلود، بل هو الأجدر به.. وهو الذي يتوسل لأجل البقاء والخلود بأدعية غير محدودة فلو اُعطي له ما في الدنيا من متع لما شفت غليله للخلود.. وهو الذي يحب الذي أنعم عليه حباً لحد العبادة، ويحببه للآخرين، وهو المحبوب ايضاً.. وهو اعظم معجزات القدرة الصمدانية بل هو اعجوبة الخلق لما انطوى فيه العالم الاكبر ولما تشهد جميع اجهزته بأنه مخلوق للسير قدما نحو الابدية والخلود.
فهذا الانسان الذي يرتبط بمثل هذه الحقائق العشرين الكلية باسم الله "الحق" والذي هو وثيق العلاقة باسم الله "الحفيظ" الذي لايعزب عنه شئ في السموات والارض، يرى ادنى حاجة لأصغر حيّ ويسمع نداء حاجته فيغيثه فيدوّن كتبتُه الكرام جميع اعمال هذا الانسان وافعاله المتعلقة بالكائنات.. فهذا الانسان - بحكم هذه الحقائق العشرين - لابد ان يكون له حشر ونشور، ولاريب انه سيكافأ - باسم الله الحق - على ما قدّم من خدمات واعمال، وسيجازى على ماقصّر فيها، ولاشبهة أنه سيساق الى المحاسبة والاستجواب عما دوّن من اعماله - باسم الحفيظ - جزئيها وكلّيها، ولاشك ان ستفتح امامه ابواب سعادة خالدة وضيافة ابدية، او ابواب سجون رهيبة وشقاء مقيم؛ وانه لايمكن الاّ يحاسب ويتوارى عن الانظار ضابط قاد اكثر مخلوقات هذا العالم وتدخّل في شؤونها، ولايمكن ألاّ ينبه من رقدته!
الشعاع الحادي عشر - ص: 274
لانه لايعقل قط ان يُسمع دعاءٌ اخفت من طنين الذباب ويُغاث فعلا بلوازم الحياة، ثم لايُسمع أدعية لها من القوة ما يهز العرش والفرش والتي تنطلق من تلك الحقائق العشرين وتسأل البقاء والخلود. ولايعقل قط بل هو خارج عن الامكان أن تُهدر وتُضيّع كلياً تلك الحقوق الكثيرة، بل لايمكن لحكمة لاعبث فيها قط - ولو بمقدار جناح ذبابة بشهادة انتظامها واتقانها - أن تعبث كلياً باستعدادات الانسان المرتبطة بها تلك الحقائق، وتعبث بجميع آماله ورغباته الممتدة الى الخلود، وتعبث بجميع تلك الروابط وحقائق الكائنات العديدة التي تنمي تلك الاستعدادات والرغبات، لأن هذا الاحتمال ظلم فظيع وقبح مشين ترده جميع الموجودات وترفضه قائلة: ان ذلك محال في محال بمائة وجه وممتنع مستحيل بآلاف الوجوه. بل تردّه جميع الموجودات الشاهدة على الاسماء الحسنى: "الحق" و "الحفيظ" و "الحكيم" و "الجميل" و "الرحيم".
وهكذا تجيبنا هذه الاسماء الحسنى "الحق" و"الحفيظ" و"الحكيم" و"الجميل" و"الرحيم"، عن سؤالنا حول الآخرة، فتخاطبنا تلك الاسماء قائلة: "ان الحشر حق لاريب فيه، وهو حقيقة راسخة لا مراء فيها، مثلما اننا حق ومثلما تشهد لنا حقيقة ثبوت الموجودات".
ولولا ان المسألة أوضح من الشمس لزدت بياناً، ولكني اختصرت مكتفياً بالامثلة المذكورة، وقياساً على ما في الفقرات السابقة؛ فان كل اسم من الاسماء الحسنى المائة بل الالف المتوجه الى الكون، يثبت مسمّاه سبحانه بداهة بتجلياته وبمراياه التي هي الموجودات، كما يظهر الحشر والدار الآخرة ويثبته اثباتاً قاطعاً.
ومثلما يجيبنا ربنا سبحانه وتعالى جواباً قدسياً وجازماً بجميع اوامره في جميع ما أنزل من كتب، وبجميع اسمائه التي سمّى بها نفسه، عن سؤالنا الذي سألناه، حول الآخرة، كذلك يجيبنا سبحانه بألسنة ملائكته ويعرّفنا الاخرة بنمط آخر، إذ تقول الملائكة:
"
هناك امارات ودلالات لاحدّ لها على وجودنا والعالم الروحاني، وقد جرت لقاءات ومكالمات وتعارف بينكم وبيننا وبين الروحانيين منذ زمن آدم عليه السلام،

الشعاع الحادي عشر - ص: 275
وهي حوادث يقينية متواترة لاتقبل الريب، ولقد ذكرنا ودوماً نذكر مانراه خلال تجوالنا في منازل الآخرة وصالاتها الى أنبيائكم اثناء لقائنا معهم: اننا نبشركم بشارة لاريب فيها من أن هذه الأروقة الدائمة وما وراءها من قصور خالدة ومنازل معدّة انما اعدّت لاستقبال ضيوف كرام مكرمين وهُيئت لقدومهم".
وبهذا يجيبنا الملائكة الكرام عن سؤالنا حول الآخرة.
ثم ان خالقنا الكريم قد عيّن لنا اعظم معلم.. وأكمل استاذ.. واصدق قدوة.. واقوم رائد.. ألا وهو محمد الهاشمي عليه افضل الصلاة والسلام. وقد ارسله خاتما للرسل الكرام عليهم السلام. فعلينا اذن - وقبل كل شئ - أن نسأل استاذنا ماسألناه من خالقنا عزّ وجل حول الآخرة لعلنا نتكامل في معرفتنا ونترقى من مرتبة علم اليقين الى عين اليقين والى حق اليقين، لان هذا النبي الحبيب الصادق المصدّق من لدن الخالق العليم بألف من المعجزات، مثلما انه معجزة القرآن الكريم، فاثبت للعالم اجمع، أنه كتاب رب العالمين لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقد اصبح القرآن الكريم ايضاً معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم ودليلاً على انه الصادق المصدّق وانه رسول رب العالمين.
فكلتا المعجزتين - احداهما لسان عالم الشهادة ومعها تصديق جميع الانبياء عليهم السلام والاولياء، والاخرى لسان عالم الغيب المتضمن جميع الكتب السماوية وجميع حقائق الكون - قد اقامتا الحجج على حقيقة الحشر والنشور راسخة واضحة وضوح الشمس والنهار. بجميع حياة المعجزة الاولى وآلاف من آيات المعجزة الثانية.
حقاً ان مسألة الحشر والآخرة من المسائل التي هي فوق طاقة العقل وحدوده، ولاتفهم الا بتعليم هذين الاستاذين المعجزين "القرآن الكريم والرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم" وإرشادهما.
أما لِمَ لمْ يُوضح الانبياء السابقون عليهم السلام مسألة الحشر لأممهم كما هو واضح في القرآن الكريم ؟ فلأن عصورهم كانت عصور طفولة البشرية وبداوة الانسانية، والإيضاح يكون وجيزاً في الدروس الابتدائية كما هو معلوم.
الشعاع الحادي عشر - ص: 276
وصفوة القول:
ما دام اكثر الاسماء الحسنى تقتضي الآخرة وتدل عليها، فلابد أن الحجج والدلائل الدالة على الاسماء الحسنى هي بدورها دلائل على ثبوت الاخرة وقيامها..
ومادام الملائكة يخبرون عما يشاهدون من منازل الاخرة وعالم البقاء فلابد ان الدلائل الشاهدة على وجود الملائكة والعالم الروحاني وعباداتهم هي بدورها دلائل اثبات على العالم الآخر..
ومادام أهم ما أعلنه محمد صلى الله عليه وسلم خلال حياته المطهرة المباركة، واساس ما دعا اليه - بعد التوحيد - هو الآخرة، فلابد ان جميع المعجزات والحجج الدالة على نبوته وصدقه صلى الله عليه وسلم هي بدورها شاهدة على حقيقة مجئ الآخرة..
وما دام ربع القرآن الكريم يبحث عن الحشر والآخرة، ويقيم الدلائل عليه بآلاف من آياته ويخبر عنه، فلابد ان الشواهد والحجج والدلائل والبراهين الدالة كلها على أحقية القرآن هي بدورها شاهدة على تحقق الآخرة ودالة عليها.
وهكذا تأملوا في هذا الركن الايماني العظيم لتقدروا مدى قطعية "الايمان بالاخرة" ومدى ثبوته ورسوخه.
* * *
الشعاع الحادي عشر - ص: 277
خلاصة المسألة الثامنة
لقد أردنا في "المسألة السابعة" ان نستوضح مسألة الحشر من مقامات كثيرة، الا ان جواب خالقنا باسمائه الحسنى كان شافياً ووافياً جدا؛ اورث اليقين الجازم والقناعة التامة، فأغنانا عن اي استفسار آخر. فاقتصرنا هناك على ذلك الاثبات.
اما في هذه المسألة فسنلخص واحدة من مئات الثمرات والفوائد والنتائج التي يحققها "الايمان بالآخرة" منها ما يعود الى سعادة الانسان في الآخرة، ومنها ما يعود الى سعادته في الدنيا.
اما ما يعود الى السعادة الاخروية فليس بعد ايضاح القرآن الكريم ايضاح آخر، فليرجع اليه، اما مايعود الى "السعادة الدنيوية" فتوضحه "رسائل النور" وسنبين هنا - بياناً موجزاً - بضع نتائج فقط من بين المئات من النتائج التي يحققها "الايمان بالآخرة" لإسعاد الانسان في حياته الشخصية والاجتماعية.
الثمرة الاولى:
كما أن الانسان - خلافاً للحيوان - ذو علاقة مع بيته، فهو ايضاً ذو ارتباط وثيق مع الدنيا. ومثلما انه مرتبط باقاربه بروابط ووشائج، فهو كذلك ذو نسب فطري بالجنس البشري. وكما انه يحب البقاء في الدنيا الفانية فهو يتوق الى بقائه في الدار الباقية. وكما أنه يسعى دائما لتأمين حاجات معدته الى الغذاء فهو مضطر بفطرته - بل يسعى - لتأمين الاغذية لعقله وقلبه وروحه وانسانيته وتناولها من الموائد الممتدة على سعة الدنيا، بل الممتدة الى الابد، لما له من آمال ومطاليب لايشبعها سوى السعادة الابدية. فلقد حدّثتُ خيالي في عهد صباي كما اشير اليه في رسالة "الحشر":
"
اي الأمرين تفضّل ؟ قضاء عمر سعيد يدوم ألف ألف سنة مع سلطنة الدنيا وأبهتها على أن ينتهي ذلك الى العدم، أم وجوداً باقياً مع حياة اعتيادية شاقة ؟"

الشعاع الحادي عشر - ص: 278
فرأيته يرغب في الثانية ويضجر من الاولى، قائلاً:
"
انني لا أريد العدم بل البقاء ولو كان في جهنم !".
فمادام جميع لذائذ الدنيا لاتشبع الخيال، الذي هو احد خدام الماهية الانسانية، فلابد ان حقيقة الماهية الانسانية الجامعة الشاملة جدا مرتبطة فطرة بالخلود والبقاء.
فكم يكون "الايمان بالآخرة" اذاً كنزاً عظيما كافياً ووافياً لهذا الانسان الوثيق الصلة بهذه الرغبات والآمال التي لاتنتهي، وهو لايملك سوى جزءٍ من الاختيار الجزئي، ويتقلب في الفقر المطلق! وكم يكون هذا الايمان محوراً للسعادة المطلوبة واللذة المبتغاة ! وكم يكون مرجعاً ومدار استمدادٍ وسلوة له تجاه هموم الدنيا غير المحصورة ؟ فلو ضحى هذا الانسان بكل حياته الدنيا في سبيل الفوز بهذه الثمرات والفوائد لكانت اذن زهيدة !
الثمرة الثانية المتوجهة لحياة الانسان الشخصية:
ان ما يقلق الانسان دوما وينغّص حياته، هو تفكيره الدائم في مصيره، وكيفية دخوله القبر، مثلما انتهى اليه مصير أحبته وأقاربه. فتوهم الانسان المسكين - الذي يضحي بروحه لأجل صديق عزيز - وتصوّره من أن آلافا بل ملايين الملايين من اخوانه البشر ينتهون الى العدم بالموت - ذلك الفراق الابدي الذي لا لقاء وراءه - سيذيقه هذا التصور ألما شديدا ينبئ بآلام جهنم. وحينما يتلوى هذا الانسان من ألم ذلك العذاب الأليم النابع من ذلك التفكير، يأتي "الايمان بالآخرة" فاتحا بصيرته، مزيلا الغشاوة عن عينيه، قائلا له: انظر.. فينظر بنور الايمان، فاذا به يكسب لذة روحية عميقة تنبئ بلذة الجنة، بما يشاهد من نجاة أحبته وخلاصهم جميعا من الموت النهائي والفناء والبلى والاندثار، ومن بقائهم خالدين في عالم النور الابدي منتظرين قدومه اليهم. نقتصر على هذا حيث وضحت رسائل النور هذه النتيجة مع حججها.
الثمرة الثالثة التي تعود لعلاقات الانسان:
ان مقام الانسان الراقي وتفوقه على سائر الاحياء وامتيازه عليها انما هو لسجاياه السامية، ولأستعداداته الفطرية الجامعة، ولعبوديته الكلية، ولسعة دوائر وجوده، لذا فالانسان المنحصر في الحاضر فقط المنسلخ من الماضي، المبتوت الصلة بالمستقبل -

الشعاع الحادي عشر - ص: 279
وهما معدومان ميتان مظلمان بالنسبة له - هذا الانسان يكسب سجايا المروءة والمحبة والاخوة والانسانية على اساس حاضره الضيق، وتتحدد عنده على وفق مقاييسه وموازينه المحدودة، فيولي المحبة لأبيه او اخيه او زوجته او امته، ويقوم بخدمتهم على وفق تلك المقاييس الضيقة وكأنه لايعرفهم سابقاً ولن يراهم مستقبلاً فلا يرقى أبداً الى مرتبة الصدق في الوفاء، ولا الى مكانة الاخلاص في الصداقة، ولا الى درجة الود المصفى من الشوائب في المحبة، ولا الى الاحترام المبرأ من الغرض في الخدمة؛ لأن سعة تلك السجايا والكمالات قد تضاءلت وصغرت بالنسبة نفسها، وحينها يتردى الانسان الى درك أدنى الحيوانات عقلا.
ولكن ما ان يأتي "الايمان بالآخرة" الى هذا الانسان لينقذه ويمده ويغيثه، حتى يحول ذلك الزمن الضيق - الشبيه بالقبر - الى زمان فسيح واسع جدا بحيث يستوعب الماضي والمستقبل معا، فيريه وجودا واسعا بسعة الدنيا، بل بسعة تمتد من الازل الى الابد. وعندئذٍ يقوم هذا الانسان باحترام والده وتوقيره بمقتضى الابوة الممتدة الى دار السعادة وعالم الارواح، ويساعد اخاه ويعاونه - بذلك التفكير - بالاخوة الممتدة الى الابد، ويحب زوجته ويرفق بها ويعاونها لأنها أجمل رفيقة حياة له حتى في الجنة، ولايجعل هذه الدائرة الحياتية الواسعة الفسيحة - وما فيها من علاقات وخدمات مهمة - وسيلة لأمور تافهة دنيوية ولا لأغراضها الجزئية ومنافعها الزهيدة. لذا يظفر بالصداقة التامة، والوفاء الخالص، والاخلاص الاتم، في علاقاته وخدماته، فتبدأ كمالاته وخصاله بالسمو والرقي بالنسبة نفسها، وتتعالى انسانيته، ولكل حسب درجته..
فذلك الانسان الذي ما كان له ان يرقى الى مستوى عصفور في تذوقه الحياة، اصبح الآن - بفضل الايمان بالآخرة - ضيفا مرموقاً في الدنيا، وكائنا سعيدا، ومخلوقاً ممتازا فيها، يرقى فوق جميع الحيوانات، بل يصبح احب مخلوق، وأكرم عبد عند رب الكون ومالكه.
اكتفينا بهذا القدر في بيان هذه النتيجة حيث بيّنتها رسائل النور بحجج وبراهين.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس