عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #5
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الحادي عشر


الشعاع الحادي عشر - ص: 280
الفائدة الرابعة التي تتطلع الى الحياة الاجتماعية:
وهي التي وضحها "الشعاع التاسع" وخلاصتها هي:
ان "الاطفال" الذين يمثلون ربع البشرية، لايمكنهم ان يعيشوا عيشة انسان سوي ينطوي على نوازع انسانية الا بالايمان بالآخرة. اذ لولا هذا الايمان لاضطروا ان يقضوا حياة ملؤها الوقاحة والاضطراب والهموم الأليمة. فلا يهنأون بألعابهم ولايتسلّون بلُعبهم، لان الموت الذي يصيب من حولهم من الاطفال يؤثر بالغ التأثير في نفس كل طفل، وفي شعوره المرهف الرقيق، وفي قلبه الذي سينطوي في المستقبل على آمال ورغبات كثيرة، وفي روحه التي لاتستطيع الثبات فتصاب بالقلق والحيرة، حتى تصبح حياته وعقله، وسيلتَي عذاب له، فلا يجدي ما يتستر به من لهو ولعب نفعا قبل ان يجد لتساؤله وحيرته جوابا.. الا ان ارشاد "الايمان بالآخرة" يجعله يحاور نفسه على النحو الآتي:
"
ان صديقي - او أخي - الذي توفي قد اصبح الآن طيراً من طيور الجنة، فهو اكثر منا أنساً وانطلاقاً وتجوالا. وان والدتي - وان توفيت - الا انها مضت الى الرحمة الإلهية الواسعة، وستضمني ايضا الى صدرها الحنون في الجنة، فأرى تلك الوالدة الشفيقة". وبهذا يمكنه ان يعيش هادئاً مطمئناً عيشا يليق بالانسان.
وكذا "الشيوخ" الذين يمثلون ربع البشرية، فانهم لايرون السلوان حيال انطفاء حياتهم قريبا، ودخولهم تحت التراب، وقد أوصدت الدنيا الجميلة الحلوة ابوابها في وجوههم الا بـ"الايمان بالآخرة". اذ لولا هذا الايمان لتجرع اولئك الآباء المحترمون الرحماء، وتلك الامهات الفدائيات الشفيقات الويل تلو الويل، ولباتوا في حالة نفسية تعسة جدا، وفي قلق قلبي عنيف ولأصبحت الدنيا تضيق عليهم كالسجن، ولغدت الحياة نفسها عذابا مقيما لايطاق. بينما الايمان بالآخرة يهتف بهم قائلاً:

"
لاتغتموا أيها الشيوخ ولاتبالوا كثيرا، فان لكم شبابا خالدا وهو امامكم وسيأتي حتما. وان حياة ساطعة بهيجة، وعمرا مديدا أبدياً في انتظاركم، وستلتقون اولادكم واقاربكم الذين فقدتموهم، وجميع حسناتكم محفوظة وستأخذون ثوابها.." وهكذا يمنح "الايمان بالآخرة" سلواناً وانشراحاً لهم، بحيث لو حمل احدهم اثقال مائة شيخوخة لتحملها صابرا في انتظار ما سيعقبها من حياة اخروية سعيدة.

الشعاع الحادي عشر - ص: 281
وكذا "الشباب" الذين يمثلون ثلث البشرية، قد لايصغون لصوت عقولهم الجريئة. فرغباتهم وهواهم في ثورة وجيشان، وهم مغلوبون على امر حواسهم ونوازعهم، فاذا ما فقد هؤلاء الشباب "الايمان بالآخرة" ولم يتذكروا عذاب جهنم، فان اموال الناس وأعراضهم وراحة الضعفاء وكرامة الشيوخ تصبح مهددة بالخطر، اذ قد يدمر احدهم سعادة بيت آمن هنئ لأجل لذة طارئة، ومن ثم يذوق وبال أمره عذابا لسنين عديدة في مثل هذه السجون فيتحول الى ما يشبه الحيوان الكاسر.
ولكن اذا أمده "الايمان بالآخرة" واغاثه، فسرعان ما يسترجع صوابه ويسترشد بعقله، ويخاطب نفسه قائلا:
"
على الرغم من ان شرطة الحكومة وعيونها لايمكنهم رؤيتي لكوني في خفاء عنهم، فان ملائكة السلطان الاعظم ذي الجلال الذي يملك سجن جهنم ذلك السجن الاكبر الدائم يسجلون علىّ سيئاتي.. فأنا اذن لست طليقا مفلوت الزمام، بل أنا ضيف عابر ذو مهمة.. وسأكون - لامحالة - في يوم ما ضعيفا وشيخا مثلهم". فتترشح قطرات الرحمة والرأفة والشفقة - عندئذٍ - من اعماق قلبه، ويشعر بالاحترام لاولئك الذين كان يريد ان يتعدى على حقوقهم ظلما. وحيث ان رسائل النور قد وضحت هذا المعنى، نقتصر على هذا القدر.
وكذلك "المرضى والمظلومون وامثالنا من ذوي المصائب والفقراء والمساجين" الذين حوكموا بعقوبات مشددة، كل هؤلاء يمثلون الجزء الأهم من البشرية، فان لم يُعنهمْ "الايمان بالآخرة" وان لم يتسلوا به فان الموت الذي يجدونه امامهم دائما بما عندهم من مرض، وأن الاهانة التي يرونها من الظلمة - دون ان يتمكنوا من الاقتصاص منهم ولامن انقاذ شرفهم وكرامتهم من بين مخالبهم - وان اليأس الأليم النابع مما اصاب أموالهم وأولادهم من الضياع في الكوارث، وان الضيق الشديد الناشئ من آلام السجن وعذابه لسنوات عدة نتيجة لذة طارئة لاتستغرق دقائق او ساعات.. كل ذلك يصيّر الدنيا - بلا ريب - سجنا كبيراً لهؤلاء المنكوبين ويجعل الحياة نفسها عذابا أليما لهم ! ولكن ما ان يَمدّهم الايمان بالآخرة بالعزاء والسلوان الا وينشرحون فورا، ويتنفسون الصعداء، لما يزيل عنهم من الضيق واليأس والقلق والاضطراب وسَورة الثأر ازالة كلية او جزئية كلٌ حسب درجات ايمانه.

الشعاع الحادي عشر - ص: 282
حتى يمكنني القول انه: لولا الايمان بالآخرة الذي امدّني واخواني في مصيبتنا الرهيبة ودخولنا السجن هذا - دون ذنب اقترفناه - لكان تحمّل مرارة يوم واحد من ايام العذاب كالموت نفسه، ولساقتنا هذه المصيبة الى ترك الحياة ونبذها. ولكن شكراً لله - بلا عد ولاحد - ان جعلني أتحمل آلام كثير من اخواني الذين هم أحب اليّ من نفسي وأتحمل ضياع آلاف من رسائل النور التي هي أعزّ من عيوني، واتحمل فقدان كثير من مجلداتي الزاهية الثمينة جداً.. فأتحمل كل هذا الحزن والاسى بذلك "الايمان بالآخرة" رغم انني ما كنت أتحمل أية إهانة وتحكّم من احدٍ مهما كان، فاني اقسم لكم - لتطمئنوا - ان نور الايمان بالآخرة وقوته قد منحني صبرا وجلدا وعزاء وتسلية، وصلابة وشوقا للفوز بثواب جهاد عظيم في هذا الامتحان الى حدّ بتّ أعدّ نفسي في مدرسة كلها خير وجمال. وحقٌ أن تطلق عليها "المدرسة اليوسفية" كما ذكرته في مستهل هذه الرسالة، فلولا المرض الذي كان ينتابني احيانا، ولولا الحدة الحاصلة من الكهولة لكنت اسعى بجد اكثر لأتلقى دروسي في هذه المدرسة مع ما أحمله من اطمئنان وسكينة قلب.. على كل حال فقد خرجنا عن الصدد ارجو العفو عن هذا الاستطراد.
وكذلك فان "بيت كل انسان" هو دنياه الصغيرة بل جنته المصغرة فان لم يكن "الايمان بالآخرة" حاكما ومهيمنا في سعادة هذا البيت لوجد كل فرد من افراد تلك العائلة اضطرابا اليما، وعذابا شديدا في علاقة بعضهم ببعض حسب درجات رأفته ومحبته لهم فتتحول تلك الجنة الى جحيم لايطاق، وقد يخدر عقله باللهو والسفه المؤقت فيكون مَثَلهُ في هذا كمثل النعامة اذا رأت الصياد تخفي رأسها في الرمل كيلا يراها الصياد وهي عاجزة عن الفرار والطيران، فهو كذلك يغمر رأسه في الغفلة، لئلا يراه الموت والزوال والفراق، ملغيا شعوره موقتا ببلاهة، وكأنه وجد علاجا لما يُعانيه !
فالوالدة مثلا - التي تضحي بنفسها لأجل ولدها - كلما رأت ابنها يتعرض للخطر ارتعشت هلعا وخوفا عليه. والاولاد كذلك عندما لايستطيعون انقاذ ابائهم أو اخوانهم من المصائب التي لاتنقطع، يظلون في قلق دائم ويحسون خوفا مستمرا. فقياسا على هذا فان حياة تلك العائلة، التي يُظن انها حياة سعيدة، تفقد سعادتها في هذه الدنيا المضطربة الزائلة حيث لاتعطي الرابطة بين الافراد، ولاعلاقة القربى فيما
الشعاع الحادي عشر - ص: 283
بينهم - ضمن حياة قصيرة جدا - الصداقة الحقيقية والوفاء الخالص والاخلاص الكامل، والخدمة والمحبة الصافيين، بل تتصاغر الاخلاق وتنكمش بنسبة قصر الحياة نفسها، وربما تسقط وتنعدم كليا.
ولكن ما ان يحل "الايمان بالآخرة" في ذلك البيت حتى ينور ارجاءه مباشرة ويستضئ، لان علاقة القربى والرأفة والمحبة التي تربطهم لا تقاس عندئذ ضمن زمن قصير جدا، بل تقاس على وفق علاقات تمتد الى خلودهم وبقائهم في دار الآخرة والسعادة الابدية، فيقوم - عندئذ - كلُ فرد باحترام خالص تجاه الآخرين، ويوليهم محبة صافية، ويظهر رأفة صادقة، ويبدي صداقة وفية، صارفاً النظر عن التقصيرات. فتتعالى الاخلاق وتسمو، وتبدأ السعادة الانسانية الحقة بالتألق في ذلك البيت.
وقد بين هذا المضمون في رسائل النور. اكتفينا هنا بما سلف.
وهكذا فان كل "مدينة" هي بحد ذاتها بيت واسع لسكنتها. فان لم يكن "الايمان بالآخرة" مسيطراً على أفراد هذه العائلة الكبيرة فسيستولى عليهم الحقد والمنافع الشخصية والاحتيال والانانية والتكلف والرياء والرشوة والخداع، بدلاً من أسس الاخلاق الحميدة التي هي الاخلاص والمروءة والفضيلة والمحبة والتضحية ورضى الله والثواب الاخروي. وكانت معاني الارهاب والفوضى والوحشية حاكمة ومسيطرة تحت اسم النظام والأمن والانسانية التي يظهرونها، وحينئذ تتسمم حياة تلك المدينة، فيتصف الاطفال بالوقاحة والاهمال، والشباب بالسُكر والعربدة، والاقوياء بالظلم والتجاوز، والشيوخ بالبكاء والأنين.
وقياساً على هذا فان "البلاد" بأكملها ما هي الاّ بيت واسع جداً. والوطن بيت عائلة الامة. فاذا ما حكم "الايمان بالآخرة" هذه البيوت وسيطر، فان الفضائل تتكشف وتنبسط وتتوضح فيها فتظهر الاحترام المتبادل والرحمة الجادة، والمحبة الخالصة بلا عوض، والمعاونة مع الخدمة الحقة بلا احتيال، والمعاشرة والاحسان بلا رياء، والفضيلة والتوقير بلا استكبار، وتشيع الفضائل الاخرى جميعاً ؛ حيث يهتف الايمان بالآخرة بأولئك الاطفال قائلا لهم: "دعوا الوقاحة والاهمال فقدامكم جنة النعيم فلا تشغلوا انفسكم عنها بالألاعيب". فيمكّن الاخلاق عندهم بارشاد القرآن الكريم.
الشعاع الحادي عشر - ص: 284
ويخاطب الشباب: "ان امامكم نار جهنم فانتهوا من السكر والعربدة". ويجعلهم يثوبون الى رشدهم.
ويخاطب الظالم: "احذر فان عذابا شديداً سيحلّ بك" فيردعه عن الظلم ويجعله يرضخ للعدالة.
ويخاطب الشيوخ: "أبشروا فان امامكم شبابا خالدا ذا نضارة، وفي انتظاركم سعادة اخروية دائمة باقية، هي اسمى مما فقدتموه من انواع السعادة واعلى منها فهلموا واسعوا للفوز بها". فيحول بكاءهم الى بهجة وفرح.
وقياسا على هذا، فان "الايمان بالآخرة" يبين تأثيره الطيب ويرسل شعاع نوره الى كل طائفة، جزئيها وكلّيها عامها وخاصها قليلها وكثيرها.
فلترن آذان الاجتماعيين والاخلاقيين من المعنيين بشؤون الانسان !.
واذا قيس على ما ذكرناه آنفا من فوائد الايمان بالآخرة ما بقى من الفوائد فسيفهم بوضوح وبشكل قاطع ان محور السعادة في الدارين وفي كلتا الحياتين انما هو الايمان وحده.
* * *
ولقد جاءت في "الكلمة الثامنة والعشرين" وفي رسائل النور الاخرى اجوبة قوية جدا رداً على شبهات تافهة حول: "الحشر الجسماني" - البعث الجسدي - نكتفي بها، الا اننا نشير اليها هنا اشارة مختصرة وقصيرة جداً ، فنقول:
ان اكثر الاسماء الإلهية الحسنى تتجلّى في الجسمانية فهي اجمع مرآة لها.
وان اقصى المقاصد الإلهية من خلق الكائنات تظهر في الجسمانية، فهي أغنى مركز لتلك المقاصد واكثرها فعالية.
وان اكثر انواع الاحسانات الربانية المختلفة وآلاءها العميمة تتبين في الجسمانية.
وان اغلب بذور الادعية التي يرفعها الانسان بلسان حاجاته، واكثر اصول الشكر والحمد المقدّم منه الى خالقه الرحيم نابعة من الجسمانية.
وان ازيد النوى تنوعاً لعوالم المعنويات والروحانيات هي كذلك تكمن في الجسمانية.
الشعاع الحادي عشر - ص: 285
فقياسا على هذا:
ان الجسمانية تتمركز فيها مئات من الحقائق الكلّية، لذا فان الخالق الكريم يكثّر من الجسمانية ويزيدها على سطح الارض كي تتجلّى فيها تلك الحقائق المذكورة، فيهب للموجودات وجوداً بسرعة متناهية وبفعالية مدهشة، قافلة إثر قافلة مرسلاً اياها الى معرض العالم هذا، ثم يُنهي خدماتها ويبعث عقبها موجودات اخرى باستمرار. وهكذا يجعل ماكنة الكائنات في عمل دائب وشغل دائم، ناسجاً محاصيل جسمانية على الارض، جاعلاً الارض مزرعة الآخرة ومشتل الجنة حتى أنه سبحانه لأجل ان يُطمئن معدة الانسان (الجسمانية) ويجعلها في امتنان ورضى يَسمع دعاءها الذي ترفعه بلسان الحال، لأجل بقائها، ويستجيب له فعلاً، بما يخلق ما لايحصر ولايحصى من المطعومات اللذيذة المتقنة الصنع، وبايجاده النعم النفيسة بمئات الآلاف من الانماط والانواع، مما يظهر بداهة وبلا ريب ان اغلب انواع اللذائذ المادية المحسوسة في الجنة انما هي جسمانية. وان أهم نعم السعادة الابدية التي يطلبها الجميع ويأنس بها إنما هي في الجسمانية ايضاً.
فيا تُرى هل يمكن وهل يعقل وهل هناك احتمال قط أن يقبل القدير الرحيم والعليم الكريم دوما دعاء لسان حال المعدة البسيطة لإستبقائها، ويستجيب لها قصدا وفعلا - دونما تدخّل للمصادفة - بما يخلق لها من أغذية مادية محسوسة في منتهى الاتقان والاعجاز، فيرضى بها تلك المعدة، ثم لايقبل سبحانه أدعية عامة ودعوات غير نهائية ترفعها المعدة الانسانية الكبرى وفطرتها الاصيلة، ولاتغدق عليها لذائذ جسمانية في الآخرة، تلك التي تأنس بها وترجوها فطرةً بل تريدها في دار الخلود ؟ وهل يمكن الاّ يلبي تلك الادعية فعلا ولا ينجز الحشر الجسماني ؟! ولا يُرضي هذا الانسان الذي هو نتيجة الكائنات وخليفة الارض، والعبد المعزز المكرم رضاءً أبديا ؟ كلا.. ثم كلا!.. فهذا محال في مائة محال بل باطل كليا، اذ كيف يسمع طنين الذباب ولايسمع رعود السماء، وكيف يراعي عدّة الجندي البسيط ولايبالي بالجيش العظيم! فتعالى الله عن ذلك علوا ً كبيراً.
نعم، ان الصراحة القاطعة للآية الكريمة:
الشعاع الحادي عشر - ص: 286
(وفيها ما تَشتهيه الأنفس وتلذّ الاعين) (الزخرف:71) تبين ان اكثر ما يأنس الانسان به من اللذائذ المادية المحسوسة - والذي يتذوق نماذجها في الدنيا - سيراها ويتذوقها بصورتها اللائقة بالجنة. وان ثواب ما يؤديه اللسان والعين والاذن وسائر الاعضاء والجوارح من الشكر الخالص والعبادات الخاصة سيمنح لها بتلك اللذائذ الجسمانية المخصوصة بها. فبيان القرآن الكريم للذائذ الجسمانية صريح في غاية الصراحة، بحيث لايمكن ان يتحمل اي تأويل يصرفه عن المعنى الظاهري، بل يمتنع عدم قبول المعنى الظاهري.
وهكذا تُظهر ثمراتُ الايمان بالآخرة ونتائجُه أنه مثلما تدل حقيقة معدة الانسان وحاجاتها دلالة قاطعة على وجود الاطعمة، فان حقيقة الانسان وكمالاته وحاجاته الفطرية وآماله الابدية وحقائقه واستعداداته تتطلب النتائج والفوائد المذكورة للايمان بالآخرة، وتدل قطعا على الآخرة وعلى الجنة وعلى لذائذ مادية محسوسة باقية، وتشهد على تحققها. وان حقيقة كمالات هذا الكون ايضا وآياته التكوينية الحكيمة وجميع حقائقه المرتبطة بالحقائق الانسانية تدل دلالة قاطعة ايضا على وجود الآخرة وعلى تحققها وتشهد شهادة صادقة على مجئ الحشر وانفتاح ابواب الجنة والنار. ولما كانت رسائل النور قد أثبتت هذه المسألة بصورة رائعة وبحجج قوية جدا دون أن تترك غبارا للشبهة، ولاسيما الكلمة العاشرة والثامنة والعشرون - بمقاميها - والتاسعة والعشرون، والشعاع التاسع، ورسالة المناجاة، فاننا سنكتفي بها.
* * *
ان بيان القرآن الكريم فيما يخص جهنم واضح جلي لم يدع مجالا لأي ايضاح آخر، الا اننا سنبين باختصار شديد ما يزيل بضع شبهات تافهة في نكتتين، محيلين تفاصيلها الى رسائل النور:
النكتة الاولـى:
ان التفكير في جهنم والخوف منها لايزيل لذائذ ثمرات الايمان المذكورة ولايفوّتها، لان الرحمة الربانية الواسعة تهتف بذلك الخائف: "تعالَ اليّ فدونك باب التوبة ادخل منه". فان وجود جهنم ليس للتخويف، بل ليعّرفك لذائذ الجنة معرفة
الشعاع الحادي عشر - ص: 287
كاملة، وليذيقك اياها تذوقا كاملا، وليأخذ لك ولمخلوقات غير محدودة الثأر والانتقام ممن انتهك حقوق الجميع واعتدى عليها، وليفرحهم جميعا بهذا ويدخل السرور اليهم.
فيا غارقاً في الضلالة - وليس بمستطيع ان يخرج منها - ان وجود جهنم لهو افضل لك من العدم الابدي، إذ في وجودها نوع من الرحمة حتى للكفار انفسهم، لان الانسان - والحيوانات الولودة - يستمتع بتمتع اقاربه واولاده واحبابه ويسعد - من جهة - بسعادتهم. فيا ايها الملحد! إما انك ستسقط في هاوية العدم - باعتبار ضلالتك - او ستدخل نار جهنم. ولما كان العدم شراً محضا، فان الاعدام النهائي لاحبابك جميعا وممن تسعد بسعادتهم من أقاربك وأبائك ونسلك، سيحرق روحك ويعذب قلبك ويؤلم ماهيتك الانسانية اكثر من عذاب جهنم بألف مرّة؛ لأنه لو لم تكن جهنم لما كانت هناك جنة ايضا. فيسقط كل شئ اذن بكفرك الى العدم. ولكن اذا دخلت جهنم وبقيت ضمن دائرة الوجود، فان احبابك واقاربك اما انهم سيسعدون في الجنة او انهم يكونون ضمن دوائر وجود تحت رحمة الله سبحانه. فلا مناص لك إلاّ ان تقبل بوجود جهنم، اذ العداء لوجودها - ورفضه - يعني الانحياز الى العدم المحض، الذي هو ابادة سعادة جميع الاحبة والاصدقاء وافناؤهم!.
نعم ان جهنم دار وجود تؤدي مهمة السجن بحكمة الحكيم الجليل وعدالته، وهي موضع مرعب ومهيب ضمن دائرة الوجود الذي هو الخير المحض، زد على ذلك لها وظائف اخرى وخدمات جليلة، وحكمٌ شتى تخص عالم البقاء. فهي مسكن ذو جلال وهيبة لكثير من ذوي الحياة أمثال الزبانية.
النكتة الثانية:
ان وجود جهنم وعذابها الشديد لاينافي قطعاً الرحمة غير المحدودة، ولا العدالة الحقيقية، ولا الحكمة الموزونة التي لا اسراف فيها، بل ان الرحمة والعدالة والحكمة تتطلب وجود جهنم وتقتضيه، لأن قتل حيوان افترس مائة من الحيوانات او انزال عقاب بظالم هتك حرمات ألفٍ من الابرياء، هو رحمة بآلاف الاضعاف للمظلومين من خلال العدالة. وان اعفاء ذلك الظالم من العقاب او التجاوز عنه، وترك ذلك
الشعاع الحادي عشر - ص: 288
الحيوان الوحشي طليقا، فيه ظلم شنيع وعدم رحمةٍ لمئات المساكين بمئات الاضعاف، ازاء رحمة في غير موضعها. ومثل هذا ايضا، الكافر المطلق - الذي يدخل سجن جهنم - فانه بكفره ينكر حقوق الاسماء الإلهية الحسنى، اي يتعدى على تلك الحقوق.. وبتكذيبه لشهادة الموجودات - الشاهدة على تلك الاسماء - يتعدى على حقوقها ايضا.. وبانكاره للوظائف السامية للمخلوقات - وهي تسبيحاتها تجاه الاسماء - يتجاوز على حقوقها.. وبجحوده لانواع العبادات التي تؤديها المخلوقات تجاه تظاهر الربوبية والالوهية - وهي غاية خلقتها وسبب من اسباب وجودها وبقائها - يتعدى تعديا صارخا على حقوق جميع المخلوقات؛ لذا فالكفر جناية عظيمة وظلم شنيع تتجاوز بشاعته كل حدود العفو والمغفرة، فيحق عليه اذن تهديد الآية الكريمة (إن الله لايَغفِرُ أن يُشرَكَ به..) (النساء: 48) بل ان عدم القاء مثل هذا الشخص في جهنم رحمةً به هو أمر ينافي الرحمة منافاة كلية في حق هذه الاعداد الهائلة من المخلوقات والكائنات التي اُنتهكت حقوقها.
وهكذا مثلما يطالب اصحاب الدعاوي بوجود جهنم، فان عزة جلال الله وعظمة كماله سبحانه تطلبانها قطعا.
نعم، اذا قال سفيه او شقي عاص لحاكم عزيز للبلاد: "انك لاتستطيع ان تقذفني في السجن ولن تقدر على ذلك ابداً". متجاوزاً حده ومتعديا على عزة ذلك الحاكم وعظمته، فلابد أن ذلك الحاكم سينشئ سجنا لذلك السفيه المتعدي حتى لو لم يكن هناك سجن في البلاد. كذلك الامر في الكافر المطلق، فانه بكفره يتعدى بشدة على عزة جلاله سبحانه، وبانكاره يتحدى عظمة قدرته، وبتجاوزه يمس كمال ربوبيته، فان لم يكن هناك حتى تلك الاسباب الموجبة وتلك المبررات الكثيرة والحكم العديدة والوظائف الكثيرة لجهنم ولوجودها؛ فان خلق جهنم لمثل هؤلاء الكفار والقاءهم فيها هو من شأن تلك العزة وذلك الجلال.
ثم إن ماهية الكفر نفسها توحي بجهنم؛ اذ كما أن ماهية الايمان اذا تجسمت يمكن ان تبني بلذائذها ونعيم جمالها جنة خاصة في وجدان الانسان وقلبه، هي جنة مصغرة تومئ وتخبر عن جنة الخلد التي تنتظره في الآخرة، كذلك الكفر - ولاسيما الكفر المطلق - والنفاق والردة فيه من الآلام والاعذبة والظلمات المرعبة بحيث لو تجسمت وتأصلت في نفس صاحبها كونت له جهنمه الخاصة به تلك التي تشير الى
الشعاع الحادي عشر - ص: 289
ما سيفضي اليه في آخرته من جهنم هي اشد هولاً وأشد عذاباً. ولقد اثبتنا هذا بدلائل قاطعة في رسائل النور، واشير اليه في مستهل هذه المسألة ايضاً.
ولما كانت هذه الدنيا مزرعة الآخرة، فالحقائق الصغيرة التي فيها تثمر وتتسنبل في الآخرة، فهذه البذرة السامة (الكفر) تشير من هذه الزاوية الى شجرة الزقوم تلك، وتقول: "أنا اصل تلك الشجرة وجوهرها.. فمن يحملني في قلبه من المنكوبين سأثمر له نموذجا خاصا من تلك الشجرة الملعونة".
وما دام الكفر تعديا على حقوق غير محدودة، وتجاوزا فاضحا، فهو اذن جناية غير محدودة، لذا يجعل صاحبه مستحقا لعذاب غير محدود. فلئن كان القتل الذي يحدث في دقيقة واحدة يذيق القاتل خمس عشرة سنة من العذاب (ما يقارب ثمانية ملايين دقيقة) ويعتبر ذلك موافقا للعدالة البشرية، وعدّته موافقا للمصلحة العامة وحقوقها، فلا جرم أن دقيقة واحدة من الكفر المطلق - على اعتبار الكفر ألف قتل - تقابل إذن بعذاب يقرب من ثمانية مليارات من الدقائق، على وفق تلك العدالة الانسانية فالذي يقضي سنة كاملة من عمره في الكفر اذاً يستحق عذاب ترليونين وثمانمائة وثمانين مليارا من الدقائق، اي يكون اهلا لـ:
(خالدين فيها أبداً) (النساء: 169).
هذا وان الاسلوب المعجز للقرآن الكريم في بيانه الجنة والنار وما في رسائل النور - التي هي فيض منه وتفسيره - من حجج حول وجودهما، لم يتركا مجالا لأي ايضاح آخر. فآيات كثيرة جدا أمثال: (ويتفكّرونَ في خلقِ السّموات والأرض رَبَّنا ما خَلقتَ هذا باطلاً سُبحانكَ فقِنا عَذابَ النار) (آل عمران: 190)
(رَبَّنا اصرف عَنا عَذابَ جَهَنَّمَ ان عَذابَها كانَ غَراماً_ انَّها سَاءت مُستَقراً ومُقاما) (الفرقان: 65، 66). واغلب ما كان يردده الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم في ادعيته في كل وقت، والانبياء عليهم السلام واهل الحقيقة من:(أجرنا من النار)..(نجنا من النار).. (خلصنا من النار )... الذي حاز عندهم قطعية تامة بناء على الوحي المشهود..كل ذلك يبين لنا ان اعظم قضية للبشرية على الارض انما هي النجاة من النار، وان اعظم حقيقة وادهشها من حقائق الكائنات، بل اكثرها اهمية انما هي "جهنم" التي يشهدها
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس