الموضوع: المكتوبات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-2011
  #32
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب السادس والعشرون



هذا المكتوب السادس والعشرون عبارة عن اربعة مباحث ذات العلاقة البسيطة.



المبحث الاول

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

بِسْمِ اِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} وإما يَنْزَغنّك من الشيطانِ نَزغٌ فاستَعِذ بالله إنه هو السميعُ العليمُ{

(فصلت:36)

حجة القرآن على الشيطان وحزبه

ان هذا المبحث الاول الذي يُلزم ابليس ويفحم الشيطان ويسكت اهل الطغيان، نتيجة حادثة وقعت فعلاً، ردّاً على دسيسة شيطانية رهيبة، ساقها ضمن محاكمة عقلية حيادية. وقد كتبت تلك الحادثة قبل عشر سنوات كتابة مجملة في كتاب ((اللوامع)) واذكرها الآن:

قبل تأليف هذه الرسالة باحدى عشرة سنة كنت انصت يوماً الى القرآن الكريم من حفاظ كرام في جامع بايزيد باستانبول، وذلك في ايام شهر رمضان المبارك، واذا بي أسمع كأن صوتاً معنوياً، صرف ذهني اليه، دون ان ارى شخصه بالذات، فأعرتُ له السمع خيالاً، ووجدته يقول:

- انك ترى القرآن سامياً جداً ولامعاً جداً، فهلاّ نظرت اليه نظرة حيادية، ووازنته بميزان محاكمة عقلية حيادية. اعنى: افرض القرآن قول بشر، ثم انظر اليه بعد هذا الفرض هل تجد فيه تلك المزايا والمحاسن؟!

اغتررت به - في الحقيقة - فافترضت القرآن قول بشر، ونظرت اليه من تلك الزاوية، واذا بي ارى نفسي في ظلام دامس. فقد انطفأت اضواء القرآن الساطعة، وعمّ الظلام الارجاء كما يعم الجامع كله اذا مس احدهم مفتاح الكهرباء.

فعلمت عندها ان المتكلم معي هو شيطان يريد ان يوقعني في هاوية. فاستعصمت بالقرآن الكريم نفسه، واذا بنور يقذفه ا سبحانه في قلبي، أجد نفسي به، قوياً قادراً على الدفاع. وحينها بدأت المناظرة مع الشيطان على النحو الآتي:

قلت: ايها الشيطان! ان المحاكمة الحيادية، دون انحياز الى احد الطرفين، هي التزام موضع وسط بينهما، بيد أن المحاكمة الحيادية التي تدعو اليها - انت وتلاميذك من الانس - انما هي اِلتزام الطرف المخالف. فهي ليست حيادية، بل خروج عن الدين مؤقتاً، ذلك لأن النظر الى القرآن انه كلام بشر واجراء محاكمة عقلية في ضوء هذا الفرض ما هو إلاّ اتخاذ الطرف المخالف اساساً، والتزام للباطل اصلاً. وليس أمراً حيادياً، بل هو انحياز للباطل وموالاة له.

فقال الشيطان: افرضه كلاماً وسطاً، لا تقل انه كلام ا، ولا كلام بشر.

قلت:

- وهذا ايضاً لا يمكن ان يكون قطعاً. لأنه اذا وجد مالٌ منازع فيه، وكان المدعيان متقاربين اي قريبين بعضهما من بعض مكاناً، حينئذٍ يوضع ذلك المال لدى شخص غيرهما. او في مكان تناله ايديهما. فايّما الطرفين اقام الحجة على الآخر، واثبت دعواه، أخذ المال. ولكن لو كان المدعيان متباعدين، احدهما عن الآخر، غاية البعد، كأن يكون احدهما في المشرق والآخر في المغرب، عندئذٍ يترك المال لدى "ذي اليد" منهما، حسب القاعدة المعروفة. ذلك لأنه لا يمكن ترك المال في موضع وسط بينهما.

وهكذا فالقرآن الكريم، متاع ثمين وبضاعة سامية ومال رفيع لله والبعد بين الطرفين، بعدٌ مطلق لا يحده حد، اذ هو البعد ما بين كلام رب العالمين وكلام بشر. ولهذا لا يمكن وضع المال وسط الطرفين، اذ لا وسط بينهما اطلاقاً. لانهما كالوجود والعدم، فلا وسط بينهما. لذا فان صاحب اليد للقرآن هو الطرف الإلهي. ولهذا ينبغي ان يقبل الأمر هكذا وسَوق الادلة في ضوئها اي انه بيده سبحانه. الاّ اذا استطاع الطرف الآخر دحض جميع البراهين المشيرة الى انه كلام الله، وتفنيدها الواحد تلو الآخر، عندئذٍ يمكنه ان يمدّ يده اليه، والاّ فلا.

هيهات! من ذا يستطيع ان يزحزح تلك الدرة الغالية المثبتة بالعرش الاعظم بآلاف من مثبتات البراهين الدامغة، وانّى لأحد الجرأة على هدم دلائل الاعمدة القائمة، ليسقط تلك الدرّة النفيسة من العرش السامي.

فيا ايها الشيطان! ان اهل الحق والانصاف يحاكمون الامور محاكمة عقلية سليمة على هذه الصورة رغم انفك. بل يزدادون ايماناً بالقرآن باصغر دليل.

أما الطريق الذي تدل عليه انت وتلاميذك، اي لو افترض القرآن كلام بشر، ولو لمرة واحدة، أي لو اسقطت تلك الدرة العظيمة الثابتة بالعرش، الى الارض، فيلزم وجود برهان قوي وعظيم يعلو جميع البراهين ويتسع لجميع الدلائل، كي يقوى على الارتفاع بها من الارض ويثبتها في العرش المعنوي، وبذلك وحده ينجو من ظلمات الكفر واوهامه ويبلغ نور الايمان ويدركه، وهذا أمر عسير قلّما يوفق المرء اليه في هذا الزمان، ومن هنا يفقد الكثيرون في هذا الزمان ايمانهم بدسيستك الملفعة باسم المحاكمة العقلية الحيادية.

انبرى الشيطان قائلاً:

- ان سياق الكلام في القرآن شبيه بكلام البشر، فهو يجري محاوراته في اسلوب محاورة البشر، فاذاً هو كلام بشر! اذ لو كان كلام الله، لكان خارقاً للعادة في كل جهاته، بما يليق بالله، ولا يشبه كلام البشر، مثلما لا تشبه صنعة الله صنعة بشر!

فقلت جواباً:

- ان رسولنا الاعظم e ظل في طور بشريته في افعاله واحواله واطواره كلها - فيما سوى معجزاته وخصائصه - فانقاد انقياد طاعة لسنن الله واوامره التكوينية، كأي انسان آخر. فكان يقاسي البرد ويعاني الالم.. وهكذا لم يوهب له خوارق غير عادية في احواله واطواره كلها، وذلك ليكون قدوة للامة بافعاله، ومرشداً لهم باطواره، وهادياً للناس كافة بحركاته وسكناته. اذ لو كان خارقاً للعادة في كل اطواره لَمَا تسنّى له ان يكون اماماً للناس كافة، وقدوة لهم في جميع شؤونه بالذات، ولَمَا كان مرشداً للناس كافة، ولما كان رحمةً للعالمين في جميع احواله.

كذلك الامر في القرآن الحكيم، اذ هو إمام أرباب الشعور ومرشد الجن والانس وهادي الكاملين ومعلم اهل الحقيقة، فالضرورة تقتضي ان يكون على نمط محاورة البشر واسلوبه، لأن الانس والجن يستلهمون مناجاتهم منه، ويتعلمون دعواتهم منه، ويذكرون مسائلهم بلسانه، ويتعرفون منه اداب معاشرتهم.. وهكذا يتخذه كل مؤمن به، إماماً له ومرجعاً يرجع اليه.

فلو كان القرآن على نمط الكلام الإلهي الذي سمعه سيدنا موسى عليه السلام في ((جبل الطور)) لما اطاق البشر سماعه ولا قَدَر على الانصات اليه، ولا استطاع ان يجعله مرجعاً لشؤونه كافة. فسيدنا موسى عليه السلام، وهو من اولي العزم من الرسل، ما استطاع ان يتحمل الاّ سماع بعضٍ من كلامه سبحانه، حيث قال: أهكذا كلامك؟ قال الله: لي قوة جميع الالسنة(1) ولكن الشيطان عاد قائلاً:

- كثير من الناس يذكرون مسائل دينية شبيهة بما في القرآن، ألا يمكن لبشر ان يأتي بشئ شبيه بالقرآن باسم الدين؟

فقلت مستلهماً من فيض القرآن الكريم.

` اولاً: ان ذا الـدين يبين الحق ويقول: الحق كذا، الحقيقة هكذا، وامر الله هذا.. يقوله بدافع حبه للدين، ولا يتكلم باسم الله حسب هواه، ولا يتجاوز طوره بما لا حدّ له، بأن يدّعي انه يتكلم باسم الله اويتكلم عنه فيقلّده في كلامه سبحانه، بل ترتعد فرائصه امام الدستور الإلهي:

} فمن أظلمُ ممن كَذبَ على الله{ (الزمر: 32).

` ثانياً: انه لا يمكن بحال من الاحوال ان يقوم بشر بهذا العمل ثم يوفّق فيه، بل هذا محال في مائة محال. لأن اشخاصاً متقاربين يمكنهم ان يقلد احدهم الأخر. وربما يمكن لمن هم من جنس واحد أو صنف واحد ان يتقمص احدهم شخصية الآخر، فيستغفلوا الناس مؤقتاً. ولكن لا يمكن ان يستغفل احدهم الناس بصورة دائمة. اذ سيظهر لأهل العلم والمعرفة مدى التصنع والتكلف في اطواره وافعاله لا محالة. ولابد أن ينكشف كذبه يوماً، فلا تدوم حيلته قط. وان كان الذي يريد التقليد بعيداً غاية البعد، كأن يكون شخصاً اعتيادياً يريد أن يقلد ابن سينا في العلم، أو راعياً يريد أن يظهر بمظهر السلطان في ملكه، فلا يتمكن ان يخدع أحداً من الناس، بل يكون موضع استهزاء وسخرية، اذ كل حال من احواله ستصرخ: ان هذا خدّاع.

وكما انه محال ظهور اليراعة (ذبابة الليل) لأهل الرصد والفلك بمظهر نجم حقيقي، طوال الف سنة، دون تكلف! وكما انه محال ظهور الذباب بمظهر الطاووس لذوي الابصار، طوال الف سنة دون تصنع! وكما انه محال تقمص جندي اعتيادي طور مشير في الجيش واعتلاء مقامه، مدة مديدة، من دون ان يكشف احد خداعه. وكما انه محال ظهور مفترٍ كاذب لا ايمان له في طور أصدق الناس واكثرهم ايماناً وارسخهم عقيدة، طوال حياته، امام انظار المتفحصين المدققين، بلا تردد ولا اضطراب، ويخفي تصنعه عن انظار الدهاة..

فكما ان هذه الامثلة محالة في مائة محال، ولا يمكن ان يصدّقها كل من يملك مسكة من عقل، بل لابد أن يحكم انها هذيان وجنون.. كذلك افتراض القرآن كلام بشرـ حاش لله الف الف مرة حاش لله ـ اذ يستلزم:

عدّ ماهية الكتاب المبين الذي هو نجم الحقيقة اللامع، بل شمس الكمالات الساطعة، تشع دوماً انوار الحقائق في سماء عالم الاسلام، كما هو مشاهد..يستلزم الفرض عدّ ذلك النور الساطع بصيصاً يحمله متصنع، يصوغه من عند نفسه بالخرافات (حاش لله الف الف مرة) والاقربون منه والمدققون لأحواله لا يميزون ذلك، بل يرونه نجماً عالياً ومنبعاً ثراً للحقائق! وما هذا الاّ محال في مائة محال. فضلاً عن ذلك فانك ايها الشيطان، ان تماديت في خبثك ودسائسك اضعاف اضعاف ما انت عليه الآن، فلن تستطيع ان تجعل هذا المحال ممكناً، ولن تقنع به عقلاً سليماً قط. ولكنك تغرر بالناس باراءتهم الامور من بعيد فتريهم النجم اللامع صغيراً كاليراعة.

` ثالثاً: ان افتراض القرآن كلام بشر يستلزم ان تكون حقائق واسرار الفرقان الحكيم ذي المزايا السامية والبيان المعجز، الجامع لكل رطب ويابس، الذي له آثار جليلة في عالم الانسانية، وتجليات باهرة وتأثيرات طيبة مباركة ونتائج قيمة - كما هو مشاهد - اذ هو الذي ينفث في البشرية الروح ويبعث فيها الحياة ويوصلها الى السعادة الخالدة.. يستلزم الفرض أن يكون هذا الفرقان الحكيم وحقائقه الجليلة من اختلاق وافتراء انسان لا علم له ولا معين، ويلزم الاّ يشاهد عليه اولئك الدهاة الفطنون القريبون منه المتفحصون لأحواله، اية علامة من علائم الخداع والتمويه بل يرون دائماً اخلاصه وثباته وجديته. وهذا محال في مائة محال فضلاً عن ان الذي اظهر في احواله واقواله وحركاته كلها طوال حياتهالامانة والايمان والامان والاخلاص والصدق والاستقامة، وارشد اليها وربّى الصديقين على تلك الصفات السامية والخصال الرفيعة.. يلزم ان يكون - بذلك الافتراض - ممن لا يوثق به، ولا اخلاص له ولا يحمل عقيدة.. وما ذلك الاّ رؤية المحال في المحال المضاعف حقيقة واقعة! وما ذلك الاّ هذيان كفري يخجل منه حتى الشيطان نفسه.. ذلك لأن المسألة لا وسط لها. اذ لو لم يكن القرآن الكريم - بفرض محال - كلام الله ، فانه يهوى ساقطاً من العرش الاعظم الى الارض. ولا يبقى في الوسط، فيكون منبع الخرافات، وهو مجمع الحقائق المحضة، وكذا فان الذي اظهر ذلك الأمر الرباني الخالد لو لم يكن رسولاً ـ حاشَ لله ثم حاش لله - يلزم - بهذا الافتراض - ان يهوى من اعلى عليين الى اسفل سافلين، ومن درجة منبع الكمالات والفضائل الى معدن الدسائس، ولا يبقى في الوسط. ذلك لأن الذي يفترى على الله ويكذب عليه يسقط الى ادنى الدركات.

ان رؤية الذباب طاووساً رؤية دائمة، ومشاهدة اوصاف الطاووس الرفيعة في ذلك الذباب كم هي محال فهذه المسألة ايضاً محال مثله، ولا يمكن ان يعطيها احتمالاً قط الاّ من كان سكيراً فاقد العقل.

` رابعاً: ان افتراض القرآن الكريم كلام بشر يلزم ان يكون القرآن الذي هو القائد المقدس والنور الهادي للامة المحمدية - الممثلة لاعظم جماعة وجيش في بنى آدم - والذي يستطيع بقوانينه الرصينة ودساتيره الراسخة واوامره النافذة ان يغزو بذلك الجيش العظيم كلا العالمين ويفتح الدنيا والآخرة، بما اعطاهم من نظام لتسيير احوالهم وتنسيق شؤونهم، وبما جهّزهم باعتدة معنوية ومادية، وعلّم عقول الافراد - كل حسب درجته - وربّى قلوبهم وسخّر ارواحهم وطهّر وجدانهم واستخدم جوارحهم - كما هو مشاهد - فيلزم بذلك الافتراض ان يكون كلاماً ملفقاً لا قوة له ولا اهمية ولا أصل - حاش لله ثم حاش لله - اي يلزم قبول مائة محال في محال. فضلاً عن ان يكون الذي امضى حياته منقاداً لقوانين الله ومرشداً اليها، وعلّم البشرية دساتير الحقيقة، بافعاله الخالصة واظهر اصول الاستقامة وطريق السعادة باقواله الطيبة المعقولة، وكان اخشى الناس لله واعرفهم به، واكثر من عرّفه بهم بشهادة سيرته العطرة حتى انضوى تحت لوائه خمس البشرية ونصف الكرة الارضية طوال الف وثلائمائة وخمسين عاماً، فكان فيها قائداً رائداً للامة، حتى أنه هزّ العالم اجمع واصبح حقاً فخر البشرية، بل فخر العالمين.. فيلزم بهذا الافتراض ان يكون غير عارف بالله ولا يخشى عذابه وفي مستوى انسان عادي، اي يلزم ارتكاب محال في مائة محال. لأن المسألة لا وسط لها، اذ لو لم يكن القرآن الكريم كلام الله، وسقط من العرش الاعظم، لا يقدر ان يظل في الوسط بل يلزم أن يكون بضاعة احد الكذابين في الارض.

ومن هنا فيا ايها الشيطان لو تضاعفت دسائسك مائة ضعف لما اقنعت بهذا الافتراض من يملك عقلاً لم يفسد وقلباً لم يتفسخ.

انبرى الشيطان قائلاً:

- كيف لا استطيع ان اغويهم؟ فلقد دفعتُ كثيراً من الناس والعقلاء المشهورين منهم خاصة الى انكار القرآن وانكار نبوة محمد!

الجواب:

C اولاً: اذا نُظر الى اكبر شئ من مسافة بعيدة، يظهر كأنه شئ صغير للغاية. حتى يمكن لمن ينظر الى نجم أن يقول: ان ضوءه كالشمعة.

C ثانياً: ان النظر التبعي أو السطحي يرى المحال كالممكن. يروى ان شيخاً كبيراً نظر الى السماء لرؤية هلال رمضان، وقد نزلت شعرة بيضاء من حاجبه أمام عينه، فظنها الهلال، فقال: لقد شاهدت الهلال!!

وهكذا فمن المحال ان تكون تلك الشعرة هلالاً. ولكن لأنه قد قصد في رؤيته الهلال بالذات وتراءت تلك الشعرة امامه فظهرت له ظهوراً تبعياً - اي ثانوياً - لذا تلقّى ذلك المحال ممكناً.

C ثالثاً: ان الانكار شئ وعدم القبول أو الرفض شئ آخر. اذ ان عدم القبول هو عدم مبالاة، فهو اغماض العين امام الحقائق ونفي بجهالة، وليس بحكم. وبهذا يمكن أن يستتر كثير من المحالات تحت هذا الستار، اذ لا يُشغل عقله بتلك الامور.

أما الانكار فهو ليس بعدم قبول، بل هو قبول العدم، فهو حكم، يضطر صاحبه الى اشغال عقله وإعمال فكره.

وعلى هذا يمكن لشيطان مثلك أن يسلب منه العقل، ثم يخدعه بالانكار.

ثم انك ايها الشيطان قدخدعت اولئك الشقاة من الأنعام الذين هم في صور الاناسي فمهّدت لهم الكفر والانكار اللذين يولدان كثيراً جداً من المحالات، بالغفلة والضلالة والسفسطة والعناد والمغالطة والمكابرة والاغفال والتقليد وامثالها من الدسائس التي تُري الباطل حقاً والمحال ممكناً.

C رابعاً: ان افتراض القرآن الكريم كلام بشر يستلزم ان يُتصور كتاباً يرشد - كما هو مشاهد - الاصفياء والصديقين والاقطاب الذين يتلألأون كالنجوم في سماء الانسانية، ويعلّم بالبداهة الحق والعدل والصدق والاستقامة والأمن والامان لجميع اهل الكمال، ويحقق سعادة الدارين بحقائق اركان الايمان ودساتير اركان الاسلام، وهو الكتاب الحق المبين والحقيقة الزكية الطاهرة، وهو الصدق بعينه والقول الفصل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. يستلزم ان يُتصور - بهذا الافتراض - خلاف اوصافه وتأثيراته وانواره، أي يستلزم تصوره انه افتراء من خدّاع.. وما هذا الاّ محال شنيع يخجل منه حتى السوفسطائيون والشياطين انفسهم، اذ هو هذيان كفري ترتعد منه الفرائص. زد على ذلك يلزم بذلك الافتراض، ان يكون من هو ارسخ عقيدة وأمتن ايماناً واصدق كلاماً وآمن قلباً، بشهادة الشريعة الغراء التي أتى بها وبدلالة ما اظهره - بالاتفاق - من التقوى الخارقة، والعبودية الخالصة، وبمقتضى اخلاقه الفاضلة المتفق عليها بين الاولياء والاعداء، وبتصديق من ربّاهم من اهل العلم والتحقيق واهل الحقيقة وارباب الكمال.. يلزم - بذلك الافتراض - ان يكون فاقداً للعقيدة، لا يوثق به، ولا يخشى الله (حاش لله ثم الف الفَ مرة حاش لله) وما هذا الاّ ارتكاب لأقبح محال ممجوج وضلالة موغلة في الظلم والظلمات.

نحصل مما سبق: مثلما ذكر في الاشارة الثامنة عشرة من المكتوب التاسع عشر، ان الذي لا يملك الاّ قدرة الاستماع في فهم اعجاز القرآن قد قال: اذا قيس القرآن مع جميع ما سمعته من كتب، نراه لا يشبه ايٍ منها، وليس في مستوى تلك الكتب. لذا فالقرآن: إما انه تحت الجميع، أو فوق الجميع. اما الشق الاول، فمع كونه محالاً لا يستطيع حتى الاعداء - بل حتى الشيطان نفسه أن يقوله.. لذا فالقرآن ارفع واسمى من جميع تلك الكتب. اي أنه معجزة.

وعلى غرار هذا نقول مستندين الى حجة قاطعة وهي التي تسمى (بالسبر والتقسيم)(1) حسب علم الاصول وعلم المنطق:

ايها الشيطان ويا تلاميذ الشيطان!

ان القرآن الكريم اما انه كلام الله آت من العرش الاعظم، من الاسم الاعظم، أو أنه افتراء شخص لا يخشى الله ولايتقيه ولا يعتقد به ولا يعرفه (حاش لله الف الف مرة حاش لله) وهذا الكلام لا تقدر ان تقوله ولن تقوله قطعاً حسب الحجج السابقة القاطعة. لذا وبالضرورة وبلا أدنى شبهة يكون القرآن الكريم كلام رب العالمين، ذلك لأنه ليس هناك وسط في المسألة، اذ هو محال لا يمكن ان يحدث قط، كما اثبتناه اثباتاً قاطعاً، وقد شاهدتَه بنفسك واستمعت اليه.

وكذا فان محمداً e إما انه رسول الله وسيد المرسلين وافضل الخلق اجمعين، أو يلزم افتراضه (حاش لله ثم حاش لله) بشراً مفترياً على الله لا يعرفه ولا يعتقد به ولا يؤمن بعذابه، فسقط الى اسفل سافلين(2) وهذا ما لا تقدر على قوله يا ابليس، لا أنت ولا من تعتز بهم من فلاسفة اوروبا ومنافقي آسيا، لأنه ليس هناك أحد في العالم يسمع منك هذا الكلام ثم يصدّقه قط.

لأجل هذا فان اشد الفلاسفة فساداً وأفسد اولئك المنافقين وجداناً يعترفون بأن محمداً e كان فذاً في العقل وآية في الاخلاق.

فما دامت المسألة منحصرة في شقين فقط، وان الشق الثاني محال قطعاً، لا يدّعيه أحد، وأن المسألة لا وسط فيها - كما اثبتنا ذلك بحجج قاطعة - فلابد وبالضرورة - ورغم انفك ورغم انف حزبك ايها الشيطان - وبالبداهة وبحق اليقين فان محمداً e رسول الله وسيد المرسلين وفخر العالمين وافضل الخلق أجمعين عليه الصلاة والسلام بعدد الملك والانس والجان.





اعتراض ثانٍ تافهٍ للشيطان

} ما يَلفظُ من قولٍ الاّ لَديه رقيبٌ عتيدٌ^ وجاءتْ سكرةُ الموتِ بالحق ذلك ما كنتَ منه تحيد^ ونُفخَ في الصور ذلك يومُ الوعيد^ وجاءت كلُّ نفسٍ معها سائقٌ وشَهيد^ لقد كنتَ في غفلةٍ من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرُك اليومَ حديد^ وقال قرينُه هذا ما لديّ عتيدٌ^ ألقيا في جهنمَ كلَّ كفّارٍ عنيد{ (ق:18ــ 24).

عندما كنت اتلو هذه الآيات الكريمة من سورة (ق) قال الشيطان:

- انكم ترون سلاسة القرآن ووضوحه اهم ركن في فصاحته، بينما النقلات بعيدة والطفرات هائلة في هذه الآيات. فترى الآية تعبرُ من سكرات الموت الى القيامة، وتنتقل من نفخ الصور الى ختام المحاسبة، ومن هناك تذكر الإلقاء في جهنم.. أيبقى للسلاسة موضع ضمن هذه النقلات العجيبة؟ وفي القرآن في اغلب مواضعه نرى مجموعة من هذه المسائل البعيدة الواحدة عن الاخرى، فاين موقع السلاسة والفصاحة من هذا؟.

الجواب:

ان اهم اساس في اعجاز القرآن المبين هو الايجاز بعد بلاغته الفائقة، فالايجاز اهم اساس لإعجاز القرآن واقواه، فهذا الايجاز المعجز في القرآن الكريم كثير ولطيف جداً في الوقت نفسه، بحيث ينبهر امامه اهل العلم والتدقيق.

فمثلاً قوله تعالى:

} وقيلَ يا ارضُ ابلعي ماءك ويا سماءُ أقلعي وغيضَ الماءُ وقـُـضي الأمر واستوتْ على الجودي وقيل بُعداً للقوم الظالمين{ (هود: 44)

فهذه الآية الكريمة تبين في بضع جمل قصيرة حادثة الطوفان العظيمة ونتائجها، وتوضحها بايجاز معجز في الوقت نفسه، حتى ساقت الكثيرين من اهل البلاغة الى السجود لروعة بلاغتها.

وكذا قوله تعالى:

} كذّبتْ ثمود بطغواها ^ اذ انبعثَ اشقاها ^ فقال لهم رسولُ الله ناقةَ الله وسقياها ^ فكذّبوه فَعَقَروها فدمْدَم عليهم ربُّهم بذَنْبهم فسوّاها ^ ولا يخافُ عُقباها{ (الشمس: 11ــ 15).

تبين هذه الآيات بياناً معجزاً، في ايجاز بليغ، في بضع جمل قصيرة، الحوادث العجيبة التي حدثت لقوم ثمود وعاقبة امرهم، تبينها بايجاز من دون اخلال بالفهم وفي سلاسة ووضوح.

ومثلاً قوله تعالى:

} وذا النونِ اذ ذهبَ مُغاضباً فظنَّ أنْ لن نقدِر عليه فنادى في الظُلماتِ ان لا اله الاّ انت سُبحانك إني كنتُ من الظالمين{ (الانبياء: 87)

ان ما بين قوله تعالى } أن لَن نقدرَ عليه{ الى جملة } فنادى في الظلمات{ هناك كثير من الجمل المطوية. فتلك الجمل غير المذكورة لا تخل بالفهم ولا تسئ الى سلاسة الآية، اذ تذكر الآية الكريمة الحوادث المهمة في حياة سيدنا يونس عليه السلام وتحيل البقية الى العقل.

وكذلك في سورة يوسف. فان ما بين كلمة } فارسلون{ الى } يوسف ايها الصديق{ هناك ما يقرب من ثماني جمل قد انطوت، ولكن دون اخلال بالمعنى ولا إفساد لسلاسة الآية.

وامثال هذه الانماط من الايجاز المعجز كثيرة جداً في القرآن الكريم، وهي لطيفة جداً في الوقت نفسه.

أما الآيات المتصدرة، التي هي في سورة (ق) فان ايجازها عجيب ومعجز، اذ تشير الى مستقبل الكفار الرهيب جداً والمديد جداً، حتى ان يوماً منه خمسون الف سنة، فتذكر الآية ما تحدث فيه من انقلابات وتحولات وحوادث جليلة تصيب الكفار في مستقبلهم، حتى انها تسيّر الفكر بسرعة مذهلة كالبرق فوق تلك الحوادث الرهيبة وتجعل ذلك الزمان الطويل جداً كأنه صحيفة حاضرة أمام الانسان.وتحيل الحوادث غير المذكورة الى الخيال، فتبينها بسلاسة فائقة.

} واذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون{ (الاعراف:204)

فيا ايها الشيطان! قل ما بدا لك!

يقول الشيطان:

- انني لا استطيع ان اقاوم هذه الدلائل والبراهين ولا اتمكن من الدفاع تجاهها. ولكن هناك حمقى كثيرون ينصتون اليّ وكثيرون من شياطين الانس يمدونني ويعاونونني ومعظم الفلاسفة المتفرعنين المغرورين يتلقون مني الدروس التي تلاطف غرورهم وتنفخ فيه.

ولهذا لا استسلم، ولا اسلّم لك السلاح!



} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

المبحث الثاني

كتب هذا المبحث بناء على الحيرة الناشئة لدى الذين يخدمونني دائماً مما يرونه من اختلاف عجيب في اخلاقي.

وكتب ايضاً لتعديل ما لا استحقه من حسن ظن مفرط يحمله اثنان من تلاميذي.

أرى أن قسماً من الفضائل التي تعود الى حقائق القرآن تُمنح الى الوسائل التي تقوم بدور الدعاة والدالين على تلك الحقائق.

والحال أن هذا خطأ، لأن قداسة المصدر وسموه هو الذي يولد تأثيراً يفوق تأثير براهين كثيرة. وعوام الناس انما ينقادون للاحكام بهذه القدسية.

ومتى ما ابدى الدلال والداعي وجوداً لنفسه، أي متى ما توجهت الانظار اليه - دون الحقائق ـ يتلاشى تأثير قدسية المصدر.

ولأجل هذا السرأبيّن الحقيقة الآتية لإخواني الذين يتوجهون اليّ توجهاً يفوق حدي بكثير. فأقول:

ان الانسان قد يحمل شخصيات عدة، وتلك الشخصيات ذات اخلاق متمايزة متباينة، فمثلاً:

ان الموظف الكبير له شخصية خاصة به اثناء اشغاله مهمته من موقعه الرفيع ومقام وظيفته. هذا المقام يتطلب وقاراً واطواراً ليصون كرامة موقعه وعزة مقام المسؤولية. فاظهار التواضع لكل زائر، فيه تذلل وتهوين من شأن المقام. ولكن هذا الشخص نفسه يملك شخصية اخرى خاصة به في بيته وبين أهله، وذلك يتطلب منه اخلاقاً مباينة لما في الوظيفة، بحيث كلما تواضع اكثر كان أفضل واجمل، في الوقت الذي اذا ابدى شيئاً من الوقار يعدّ ذلك تكبراً منه.

أي أن هناك شخصية خاصة بالانسان باعتبار وظيفته، هذه الشخصية تخالف شخصيته الحقيقية في نقاط كثيرة. فان كان ذلك الموظف أهلاً لوظيفته وكفواً لها ويملك استعداداً كاملاً لادارة عمله، فان كلتا الشخصيتين تتقاربان بعضهما من بعض بينما لو لم يكن أهلاً لوظيفته وفقيراً في قابلياته، كأن يكون جندياً نصب في مقام مشير، فالشخصيتان تتباعدان بعضهما عن بعض. اذ صفات الجندي الاعتيادية وأحاسسيه البسيطة لا تنسجم مع ما يقتضيه مقام المشير من اخلاق رفيعة.

وهكذا فان في اخيكم هذا الفقيرثلاث شخصيات كل منها بعيدة عن الأخرى كل البعد، بل بعداً شاسعاً جداً.

أولاها:

شخصية مؤقتة خاصة خالصة لخدمة القرآن وحده، بكوني دلالاً لخزينة القرآن الحكيم السامية. فما تقتضيه وظيفة الدعوة الى القرآن والدلالة عليه من اخلاق رفيعة سامية ليست لي، ولا أنا أملكها. وانما هي سجايا رفيعة يقتضيها ذلك المقام الرفيع وتلك الوظيفة الجليلة. فكل ما ترونه من اخلاق وفضائل من هذا النوع فهي ليست لي، وانما هي خاصة بذلك المقام، فلا تنظروا الي من خلالها.

الشخصية الثانية:

حينما أتوجه الى بابه تعالى واتضرع اليه، ينعم علي سبحانه شخصية خاصة في أوقات العبادة بحيث أن تلك الشخصية تولد آثاراً ناشئة من أساس معنى العبودية، وذلك الاساس هو معرفة الانسان تقصيرَه أمام الله وادراك فقره نحوه وعجزه أمامه والالتجاء اليه بذل وخشوع، فأرى نفسي بتلك الشخصية أشقى وأعجز وأفقر وأكثر تقصيراً امام الله من أي أحد كان من الناس، فلو اجتمعت الدنيا في مدحي والثناء عليّ لا تستطيع أن تقنعني بأنني صالح وفاضل.

ثالثتها:

هي شخصيتي الحقيقية، أي شخصيتي الممسوخة من سعيد القديم وهي عروق ظلت في ميراث سعيد القديم. فتبدو أحياناً رغبة في الرياء وحب الجاه وتبدو فيّ اخلاقاً وضيعة مع خسة في الأقتصاد حيث انني لست سليل عائلة ذات جاه وحسب.

فيا أيها الاخوة!

لن أبوح بكثير من مساوئ هذه الشخصية ومن أحوالها السيئة، لئلا انفركم عني كلياً.

فيا أخوتي! لست أهلاً لمقام رفيع ولا أملك استعداداً له، فشخصيتي هذه بعيدة كل البعد عن اخلاق وظائف الدعوة وآثار مهمة العبودية.

وقد اظهر سبحانه وتعالى قدرته الرحيمة فيّ حسب قاعدة

((داد حق را قابليت شرط نيست))

أي ان الفضل الإلهي لا يشترط القابلية في ذات الشخص. فهو الذي يسخر شخصيتي التي هي كأدنى جندي، في خدمة أسرار القرآن التي هي بحكم أعلى منصب للمشيرية وأرفعها.

فالنفس أدنى من الكل، والوظيفة أسمى من الكل.

فألف شكر وشكر لله سبحانه

الحمد لله هذا من فضل ربي

المبحث الثالث

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} يا ايها الناس إناّ خلقناكُم مِن ذَكَرٍٍ واُنثى وجَعَلناكُم شُعوباً وقبائلَ لِتعارفوا{ (الحجرات:13).

اي: خلقناكم طوائف وقبائل وامماً وشعوباً كي يعرف بعضكم بعضاً وتتعرفوا على علاقاتكم الاجتماعية، لتتعارفوا فيما بينكم، ولم نجعلكم قبائل وطوائف لتتناكروا فتتخاصموا.

في هذا المبحث سبع مسائل:

C المسألة الاولى: ان الحقيقة الرفيعة التي تفيدها هذه الآية الكريمة تخص الحياة الاجتماعية، لذا اضطررت الى كتابة هذا المبحث بنية خدمة القرآن العظيم، وعلى أمل إنشاء سدٍ امام الهجمات الظالمة. فكتبته بلسان (سعيد القديم) الذي له علاقة بالحياة الاجتماعية الاسلامية، وليس بلسان (سعيد الجديد) الذي يريد اجتناب الحياة الاجتماعية(1).

C المسألة الثانية: نقول بياناً لدستور التعارف والتعاون الذي تشير اليه هذه الآية الكريمة انه:

يقسّم الجيش الى فيالق والى فرق والى ألوية والى أفواج والى سرايا والى فصائل والى حظائر، وذلك ليعرف كل جندي واجباته حسب تلك العلاقات المختلفة المتعددة، وليؤدي افراد ذلك الجيش تحت دستور التعاون وظيفة حقيقية عامة لتصان حياتهم الاجتماعية من هجوم الاعداء. والاّ فليس هذا التقسيم والتمييز الى تلك الاصناف، لجعل المنافسة بين فوجين او اثارة الخصام بين سريتين او وضع التضاد بين فرقتين.

وكذلك الامر في المجتمع الاسلامي الشبيه بالجيش العظيم، فقد قُسّم الى قبائل وطوائف، مع ان لهم ألف جهة وجهة من جهات الوحدة ؛ اذ خالقهم واحد، ورازقهم واحد، ورسولهم واحد، وقبلتهم واحدة، وكتابهم واحد، ووطنهم واحد.. وهكذا واحد، واحد.. الى الألوف من جهات الوحدة التي تقتضي الاخوة والمحبة والوحدة. بمعنى ان الانقسام الى طوائف وقبائل - كما تعلنه الآية الكريمة - ماهو الاّ للتعارف والتعاون لا للتناكر والتخاصم.

C المسألة الثالثة: لقد انتشر الفكر القومي وترسّخ في هذا العصر. ويثير ظالمو اوروبا الماكرون بخاصة هذا الفكر بشكله السلبي في اوساط المسلمين ليمزقوهم ويسهل لهم ابتلاعهم. ولما كان في الفكر القومي ذوق للنفس، ولذة تُغفل، وقوة مشؤومة، فلايقال للمشتغلين بالحياة الاجتماعية في هذا الوقت: دعوا القومية!

ولكن القومية نفسها على قسمين:

قسم منها سلبي مشؤوم مضر، يتربى وينمو بابتلاع الآخرين ويدوم بعداوة من سواه، ويتصرف بحذر. وهذا يولد المخاصمة والنزاع. ولهذا ورد في الحديث الشريف (أن الاسلام يجبّ ما قبله) ويرفض العصبية الجاهلية. وامر القرآن الكريم بـ } إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فانزلَ الله سكينتهُ على رسولهِ وعلى المؤمنين وألزمهم كلمةَ التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليماً{ (الفتح:26). فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف يرفضان رفضاً قاطعاً القومية السلبية وفكر العنصرية.لان الغيرة الاسلامية الايجابية المقدسة لاتدع حاجة اليها.

تُرى أيّ عنصر في العالم تعداده ثلاثمائة وخمسون مليوناً ويُكسب فكر المرء - بدل الاسلام - هذا العدد من الاخوان، بل اخواناً خالدين؟

ولقد ظهرت طوال التاريخ أضرار كثيرة نجمت عن القومية السلبية، نذكر منها:

ان الامويين خلطوا شيئاً من القومية في سياساتهم، فأسخطوا العالم الاسلامي فضلاً عما ابتلوا ببلايا كثيرة من جراء الفتن الداخلية.

وكذلك شعوب اوروبا، لما دعوا الى العنصرية واوغلوا فيها في هذا العصر نجم العداء التاريخي الملئ بالحوادث المريعة بين الفرنسيين والالمان كما أظهر الدمار الرهيب الذي احدثته الحرب العالمية، مبلغ الضرر الذي يلحقه هذا الفكر السلبي للبشرية.

وكذلك الحال فينا ؛ ففي بداية عهد الحرية (أي اعلان الدستور) تشكلت جمعيات مختلفة للاجئين وفي المقدمة الروم والارمن، تحت اسماء أندية كثيرة، وسببت تفرقة القلوب - كما تشتتت الاقوام بانهدام برج بابل، وتفرقوا ايدي سبأ في التاريخ - حتى كان منهم من اصبح لقمة سائغة للاجانب، ومنهم من تردى وضل ضلالاً بعيداً.

كل ذلك يبين نتائج القومية السلبية وأضرارها.

اما الآن فان التباغض والتنافر بين عناصر الاسلام وقبائله ـ بسبب من الفكر القومي ـ هلاك عظيم،وخطب جسيم، اذ ان تلك العناصر أحوج ما يكون بعضهم لبعض، لكثرة ما وقع عليهم من ظلم وإجحاف ولشدة الفقر الذي نزل بهم ولسيطرة الاجانب عليهم، كل ذلك يسحقهم سحقاً ؛ لذا فان نظر هؤلاء بعضهم لبعض نظرة العداء مصيبة كبرى لاتوصف، بل انه جنون اشبه ما يكون بجنون من يهتم بلسع البعوض ولايعبأ بالثعابين الماردة التي تحوم حوله.

نعم، ان أطماع اوروبا التي لاتفتر ولاتشبع هي كالثعابين الضخمة الفاتحة افواهها للابتلاع. لذا فان عدم الاهتمام بهؤلاء الاوروبيين، بل معاونتهم معنىً بالفكر العنصري السلبي، وانماء روح العداء ازاء المواطنين القاطنين في الولايات الشرقية او اخواننا في الدين في الجنوب، هلاك وأيّ هلاك وضرر وبيل.

اذ ليس بين افراد الجنوب من يستحق ان يُعادى حقاً، بل ما أتى من الجنوب الاّ نور القرآن وضياء الاسلام، الذي شعّ نوره فينا وفي كل مكان.

فالعداء لاولئك الاخوان في الدين، وبدوره العداء للاسلام، انما يمس القرآن، وهو عداء لجميع اولئك المواطنين، ولحياتَيهم، الدنيوية والاخروية.

لذا فادعاء الغيرة القومية بنية خدمة المجتمع يهدم حجر الزاوية للحياتين معاً فهي حماقة كبرى وليست حمية وغيرة قطعاً.

C المسألة الرابعة: القومية الايجابية نابعة من حاجة داخلية للحياة الاجتماعية، وهي سبب للتعاون والتساند، وتحقق قوة نافعة للمجتمع، وتكون وسيلة لاسناد اكثر للأخوة الاسلامية.

هذا الفكر الايجابي القومي، ينبغي ان يكون خادماً للاسلام، وان يكون قلعة حصينة له، وسوراً منيعاً حوله، لا ان يحل محل الاسلام، ولابديلاً عنه، لان الاخوة التي يمنحها الاسلام تتضمن ألوف انواع الاخوة. وانها تبقى خالدة في عالم البقاء وعالم البرزخ.

ولهذا فلا تكون الاخوة القومية مهما كانت قوية الاّ ستاراً من استار الاخوة الاسلامية. وبخلافه، اي اقامة القومية بديلاً عن الاسلام جناية خرقاء اشبه ما يكون بوضع احجار القلعة في خزينة ألماس فيها وطرح الالماسات خارج القلعة.

يا ابناء هذا الوطن من اهل القرآن !

لقد تحديتم العالم اجمع منذ ستمائة سنة بل منذ ألف سنة من زمن العباسيين، وانتم حاملو راية القرآن والناشرون له في العالم اجمع. وقد جعلتم قوميتكم حصناً للقرآن وقلعة للاسلام، وألزمتم العالم ازاءكم الصمت والانقياد. ودفعتم المهالك العظيمة التي كادت تودي بحياة العالم الاسلامي حتى أصبحتم مصداقاً حسناً للآية الكريمة:

} فسوفَ يأتي الله بقومٍ يُحبُّهم ويُحبّونَهُ أذلّةٍ على المؤمنين أعزّةٍ على الكافرين يجاهدونَ في سبيل الله{ (المائدة:54).

فلاتنخدعوا ولاتميلوا الى مكايد الاوروبيين ودسائس المتفرنجين. واحذروا حذراً شديداً ان تكونوا مصداق بداية هذه الآية الكريمة(1).

حالة تثير الانتباه

ان الشعب التركي هم اكثر عدداً من اي قوم من الاقوام الاسلامية الاخرى، وانهم مسلمون في كل بقاع العالم، بينما الاقوام الاخرى، فيهم المسلمون وغير المسلمين معاً، لذا لم تنقسم الامة التركية كبقية الاقوام، فاينما توجد طائفة من الاتراك فهم مسلمون، والذين ارتدوا عن الاسلام او الذين لم يسلموا اصلاً، قد خرجوا عن وصف الترك كالمجر. علماً ان الاقوام الاخرى حتى الصغيرة منها فيهم المسلمون وغير المسلمين.

ايها الاخ التركي !

احذر وانتبه ! انت بالذات، فان قوميتك امتزجت بالاسلام امتزاجاً لايمكن فصلها عن الاسلام، ومتى ما حاولت عزلها عن الاسلام فقد هلكت اذاً وانتهى أمرك. ألا ترى ان جميع مفاخرك في الماضي قد سجّل في سجل الاسلام، وان تلك المفاخر لايمكن ان تمحى من الوجود قطعاً فلا تمحها انت من قلبك بالاستماع الى الشبهات التي تثيرها شياطين الانس.

C المسألة الخامسة: ان الاقوام المتيقظة في آسيا، قد تمسكوا بالقومية، وحذوا حذو اوروبا في كل النواحي. حتى ضحوا بكثير من مقدساتهم في سبيل ذلك التقليد.

والحال ان كل قوم يلائمه لباس على قدّه وقامته، وحتى لو كان نوع القماش واحداً فانه يلزم الاختلاف في الطراز. اذ لايمكن إلباس المرأة ملابس الشرطي، ولايمكن إلباس العالم الديني ملابس الخليعات.

فالتقليد الاعمى يؤدي في كثير من الاحيان الى حالة من الهزء والسخرية كهذه.. لان:

اولاً: ان كانت اوروبا حانوتاً، او ثكنة عسكرية، فان آسيا تكون بمثابة مزرعة او جامع. وان صاحب الحانوت قد يذهب الى المسرح، بينما الفلاح لايكترث به. وكذلك تتباين اوضاع الثكنة العسكرية والمسجد او الجامع.

ثم ان ظهور اكثر الانبياء في آسيا، وظهور اغلب الحكماء والفلاسفة في اوروبا، رمزٌ للقدر الإلهي واشارة منه الى ان الذي يوقظ اقوام آسيا ويدفعهم الى الرقي ويحقق ادامة إدارتهم هو الدين والقلب. اما الفلسفة والحكمة فينبغي ان تعاونا الدين والقلب لا ان تحلا محلهما.

ثانياً: لايقاس الدين الاسلامي بالنصرانية، اذ ان تقليد الاوروبيين في اهمالهم دينهم تقليداً أعمى خطأ جسيم؛

لان الاوروبيين متمسكون بدينهم اولاً، والشاهـد على هـذا، في المقـدمة وسر الحكمة والفرق الاساس بين الاسلام وسائر الاديان، ومنها النصرانية هو الآتي:

ان اساس الاسلام هو التوحيد الخالص، فلايسند التأثير الحقيقي الى الاسباب او الوسائط ولاقيمة لها في الاسلام من حيث الايجاد والخلق.

اما في النصرانية، فان فكرة البنوة التي ارتضوها، تعطي اهمية للوسائط وقيمة للاسباب، فلا تكسر الغرور والتكبر بل يسند قسطاً من الربوبية الالهية الى الاحبار والرهبان، حتى صدق عليهم قوله تعالى: } اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله{ (التوبة:31).

ومن هذا فان عظماء النصارى يكونون متعصبين لدينهم، مع انهم يحافظون على غرورهم وانانيتهم رغم ما يتسنمون من مهام دنيوية كبيرة، مثال ذلك: رئيس امريكا (ولسن) الذي كان رجل دين متعصباً.

بينما في الاسلام الذي هو دين التوحيد الخالص، ينبغي للمتقلدين للوظائف الكبيرة في الدولة ان يدعوا غرورهم ويتركوا انانيتهم، او لايبلغون التدين الحق، ولهذا يظل قسم منهم مهملين امور الدين، بل قد يكون منهم خارجين عن الدين.

C المسألة السادسة:نقول لأولئك الذين يغالون في العنصرية وفي القومية السلبية.

اولاً: لقد حدثت هجرات كثيرة جداً في بقاع الارض كلها ولاسيما في بلادنا هذه، منذ سالف العصور. وتعرضت اقوام كثيرة الى تغيرات وتبدلات كثيرة، وازدادت تلك الهجرات الى بلادنا بعد ان اصبحت مركزاً للحكومة الاسلامية حتى حامت سائر الاقوام كالفراش حولها، وألقت بنفسها فيها واستوطنتها. فلا يمكن ـ والحال هذه ـ تمييز العناصر الحقيقية بعضها عن بعض الاّ بانفتاح اللوح المحفوظ.

لذا فبناء المرء اعماله وحميته على العنصرية لامعنى له البتة، فضلاً عن أضرارها.

ولاجل هذا اضطر احد دعاة العنصرية والقومية السلبية ـ الذي لايقيم وزناً للدين ـ ان يقول: اذا اتحد الدين واللغة فالامة واحدة.

ولما كان الامـر هكذا فلابد من النظر الى اللغة والدين والـروابط الوطنية لا الى العنصرية الحقيقية. فان اتحدت هذه الثلاثة، فالامة قوية اذاً بذاتها. وان نقص أحد هذه الثلاثة فهو داخل ايضاً ضمن القومية.

ثانياً: نبين فائدتين ـ على سبيل المثال ـ من مئات الفوائد التي تكسبها الحمية الاسلامية المقدسة للحياة الاجتماعية لابناء هذا الوطن.

الفائدة الاولى:

ان الذي حافظ على حياة الدولة الاسلامية وكيانها ـ رغم ان تعدادها عشرون او ثلاثون مليوناً ـ تجاه جميع دول اوروبا العظيمة، هو هذا المفهوم النابع من القرآن الذي يحمله جيشها: (( اذا متُّ فانا شهيد وان قتلتُ فانا مجاهد)).. هذا المفهوم دفع ابناء هذا الوطن الى استقبال الموت باسمين، مما هزّ قلوب الاوروبيين وارهبهم.

تُرى اي شيء يمكن ان يبرز في الميدان ويبعث في روح الجنود مثل هذه التضحية والفداء وهم ذوو أفكار بسيطة وقلوب صافية؟.

اية عنصرية يمكن ان تحل محل هذا المفهوم العلوي؟ واي فكر غيره يمكن ان يجعل المرء يضحي بحياته وبدنياه كلها طوعاً في سبيله ؟.

ثانياً:

ما آذت الدول الاوروبية الكبرى وثعابينها المردة ؛ هذه الدولة الاسلامية وتوالت عليها بضرباتها، الاّ وابكت ثلاثمائة وخمسين مليوناً من المسلمين في انحاء العالم، وجعلتهم يئنون لأذاها، حتى سحبت تلك الدول الاستعمارية يدها عن الاذى والتعدي لتحول دون اثارة عواطف المسلمين عامة، فتخلت عن الاذى.

فهل تُستصغر هذه القوة الظهيرة المعنوية والدائمة لهذه الدولة، وهل يمكن انكارها؟

تُرى اية قوة اخرى يمكن أن تحلّ محلها؟ فهذا ميدان التحدي فليُظهروا تلك القوة؟ لذا ينبغي الاّ نجعل تلك القوة الظهيرة العظمى تعرض عنّا لاجل التمسك بقومية سلبية وحمية مستغنية عن الدين.

C المسألة السابعة:نقول للذين يبدون حماسةً شديدة للقومية السلبية:

ان كنتم حقاً تحبون هذه الامة حباً جاداً خالصاً، وتشفقون عليها، فعليكم ان تحملوا في قلوبكم غيرة تسع الاشفاق على غالبية هذه الامة لاعلى قلة قليلة منها، اذ ان خدمة هؤلاء خدمة اجتماعية مؤقتة غافلة عن الله ـ وهم ليسوا بحاجة الى الرأفة والشفقة ـ وعدم الرأفة بالغالبية العظمى منهم ليس من الحمية والغيرة في شئ.

اذ الحمية بمفهوم العنصرية يمكن ان يجلب النفع والفائدة لاثنين من كل ثمانية اشخاص من الناس، فائدة مؤقتة، فينالون مما لايستحقونه من الحمية، اما الستة الباقون فهم إما شيخ او مريض او مبتلى ببلاء، او طفل، او ضعيف جداً، او متقٍ يخشى الله ويرجو الآخرة.. فهؤلاء يبحثون عن سلوان ونور يبعث فيهم الامل، حيث انهم يتوجهون الى حياة برزخية واخروية. فهم محتاجون الى ايدي اللطف والرحمة تمتد اليهم. فأية حمية تسمح لاطفاء نور الامل لدى هؤلاء والتهوين من سلوانهم؟

هيهات ! اين الاشفاق على الامة واين التضحية في سبيلها!.

اننا لانيأس من روح الله قطعاً، فلقد سخّر سبحانه ابناء هذا الوطن وجماعاته المعظمة وجيشه المهيب منذ ألف سنة في خدمة القرآن وجعلهم رافعي رايته. لذا فأملنا عظيم في رحمته تعالى الاّ يهلكهم بعوارض موقتة ان شاء الله، وسيمد سبحانه ذلك النور ويجعله اسطع وابهر اشراقاً فيديم وظيفتهم المقدسة.

الـمبحث الرابع

تنبيه: كما ان المباحث الاربعة للمكتوب السادس والعشرين غير مترابطة،كذلك هذه المسائل العشر لهذا المبحث غير مترابطة ايضاً، لذا لايتحرى عن الارتباط والعلاقة فيما بينها. فقد كتبت كما وردت.

فهذا المبحث جزء من رسالته التي بعثها الى احد طلابه المهمين، تتضمن اجابات عن خمسة او ستة من الاسئلة.

المسألة الاولى

C ثانياً: انك تقول ياأخي في رسالتك: ان المفسرين قالوا لدى تفسيرهم (رب العالمين) ان هناك ثمانية عشر ألف عالم، وتستفسر عن حكمة ذلك العدد؟.

أخي! انني الآن لا أعلم حكمة ذلك العدد، ولكني اكتفي بالآتي:

ان جمل القرآن الحكيم لاتنحصر في معنىً واحد، بل هي في حكم كلي يتضمن معاني لكل طبقة من طبقات البشرية، وذلك لكون القرآن الكريم خطاباً لعموم طبقات البشر. لذا فالمعاني المبينة هي في حكم جزئيات لتلك القاعدة الكلية، فيذكر كل مفسّر، وكل عارف بالله جزءاً من ذلك المعنى الكلي ويستند في تفسيره هذا إما الى كشفياته او الى دليله او الى مشربه، فيرجّح معنىً من المعاني. وقد كشفت طائفة في هذا ايضاً معنىً موافقاً لذلك العدد.

فمثلاً: يذكر الاولياء في اورادهم ويكررون باهتمام بالغ قوله تعالى: } مَرجَ البحرين يلتقيان ^ بينهما برزخ لايبغيان{ (الرحمن:19ـ 20) ولهذه الآية الكريمة معانٍ جزئية ابتداءً من بحر الربوبية في دائرة الوجوب وبحر العبودية في دائرة الامكان، وانتهاءً الى بحري الدنيا والآخرة، والى بحري عالم الشهادة وعالم الغيب، والى البحار المحيطة في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب، الى بحر الروم وبحر فارس والبحر الابيض والاسود ـ والى المضيق بينهما الذي يخرج منه السمك المسمى بالمرجان ـ والى البحر الابيض والبحر الاحمر وقناة السويس، والى بحار المياه العذبة والمالحة، والى بحار المياه الجوفية العذبة المتفرقة والبحار المالحة التي على ظهر الارض المتصل بعضها ببعض وما يسمى بالبحار الصغيرة العذبة من الانهار الكبيرة كالنيل ودجلة والفرات، والبحار المالحة التي يختلط معها.

كل هذه الجزئيات موجودة ضمن معاني تلك الآية الكريمة، وجميع هذه الجزئيات تصح ان تكون مرادة ومقصودة، فهي معانٍ حقيقية للآية الكريمة ومعانٍ مجازية.

وهكذا فان } الحمد لله رب العالمين{ ايضاً جامعة لحقائق كثيرة جداً مثلما ذكر، وان اهل الكشف والحقيقة يبينونها بيانات متباينة حسب كشفياتهم.

وانا افهم من الآية الكريمة الآتي:

ان في السماوات الوفاً من العوالم، ويمكن ان يكون كل نجم في مجموعته، عالماً بذاته، وان في الارض ايضاً كل جنس من المخلوقات كذلك عالم بذاته، حتى ان كل انسان عالم صغير، فكلمة } رب العالمين{ تعني: ان كل عالم يدار ويربىّ ويدبّر شؤونه بربوبيته سبحانه وتعالى مباشرة.

C ثالثاً: لقد قال الرسول e :(اذا أراد الله بقوم خيراً أبصرهم بعيوب أنفسهم)(1) وقد قال سيدنا يوسف عليه السلام في القرآن الكريم: } وما أُبرىء نفسي ان النفس لأمارة بالسوء{ (يوسف:53).

نعم، ان من يعجب بنفسه ويعتدّ بها شقي، بينما الذي يرى عيب نفسه محظوظ سعيد، لذا فأنت سعيد يا أخي. ولكن قد يحدث احياناً ان تنقلب النفس الامارة الى نفسٍ لوامة او مطمئنة، إلاّ انها تسلّم اسلحتها واعتدتها الى الاعصاب والعروق فتؤدي الاعصاب والعروق هذه تلك الوظيفة الى نهاية العمر، ورغم موت النفس الامارة منذ مدة طويلة فان آثارها تظهر ايضاً، فهناك كثير من الاولياء والاصفياء العظام شكَوا من النفس الامارة رغم ان نفوسهم مطمئنة، واستغاثوا بالله من امراض القلب رغم ان قلوبهم سليمة ومنوّرة جداً. فهؤلاء الافاضل لايشكون من النفس الامارة، بل من وظيفتها التي أُودعت الى الاعصاب. اما المرض فليس قلبياً، بل مرض خيالي، والذي يشن عليكم الهجوم ياأخي ليس نفسك ولا أمراض قلبك، بل هي حالة كما ذكرناها انتقلت الى الاعصاب لأجل دوام المجاهدة واستمرارها الى نهاية العُمُر ـ حسب مقتضى البشرية ـ والتي تسبب رقياً دائماً.

المسألة الثانية

ان اجزاء رسائل النور تتضمن الاجابة عن ثلاث مسائل، كان العالم القديم قد سأل عنها وفيها ايضاحاتها، الا اننا نشير هنا اليها باجمال فحسب:

السؤال الأول:

ماذا يعني محي الدين بن عربي عندما قال في رسالته الموجهة الى فخر الدين الرازي(1): ((ان معرفة الله غير معرفة وجوده)) وما قصده منه؟

اولاً: ان ما قرأتَ له من المثال الموجود في الفرق بين التوحيد الحقيقي والتوحيد العامي المذكور في الكلمة الثانية والعشرين يشير الى المقصود من السؤال، ويوضحه اكثر ما جاء في الموقف الثاني والثالث من الكلمة الثانية والثلاثين.

ثانياً: ان الذي دعا محي الدين بن عربي الى أن يقول هذا الكلام لفخر الدين الرازي وهو امام من ائمة الكلام هو: ان ما بينه أئمة اصول الدين وعلماء الكلام فيما يخص العقائد ووجود الله سبحانه وتوحيده غيركاف في نظر ابن عربي.

حقاً! ان معرفة الله المستنبطة بدلائل علم الكلام ليست هي المعرفة الكاملة، ولا تورث الاطمئنان القلبي، في حين ان تلك المعرفة متى ما كانت على نهج القرآن الكريم المعجز، تصبح معرفة تامة وتسكب الاطمئنان الكامل في القلب. نسأل الله العلي القدير أن يجعل كل جزء من اجزاء رسائل النور بمثابة مصباح يضئ السبيل القويم النوراني للقرآن الكريم.

ثم ان معرفة الله التي استقاها الرازي من علم الكلام كما تبدو ناقصة وقاصرة في نظر ابن عربي، فان المعرفة الناتجة عن طريق التصوف ايضاً ناقصة ومبتورة بالنسبة نفسها امام المعرفة التي استقاها ورثة الانبياء من القرآن الكريم مباشرة، ذلك لأن ابن عربي يقول ((لا موجود إلاّ هو)) لأجل الحصول على الحضور القلبي الدائم، أمام الله سبحانه وتعالى، حتى وصل به الأمر الى انكار وجود الكائنات.

أما الآخرون فلاجل الحصول على الحضور القلبي ايضاً قالوا: ((لا مشهود الاّ هو)) وألقوا ستار النسيان المطلق على الكائنات واتخذوا طوراً عجيباً.

بينما المعرفة المستقاة من القرآن الكريم تمنح الحضور القلبي الدائم، فضلاً عن انها لا تقضي على الكائنات بالعدم ولا تسجنها في سجن النسيان المطلق، بل تنقذها من الاهمال والعبثية وتستخدمها في سبيل الله سبحانه، جاعلة من كل شئ مرآة تعكس المعرفة الالهية وتفتح في كل شئ نافذة الى المعرفة الإلهية، كما عبر عنها سعدي الشيرازي شعراً:

در نظر هوشيار هر ورقي دفتريست أز معرفت كردكار

ولقد شبهنا في كلمات اخرى من رسائل النور لبيان الفروق بين الذين يستلهمون نهجهم من القرآن الكريم - ذلك المنهج الأقوم - والذين يسلكون نهج علماء الكلام بمثال هو:

انه لأجل الحصول على الماء، هناك من يأتي به بوساطة انابيب من مكان بعيد يحفره في اسفل الجبال. وآخرون يجدون الماء اينما حفروا ويفجرونه اينما كانوا. فالأول سير في طريق وعر وطويل والماء معرض فيه للانقطاع والشحة. بينما الذين هم أهل لحفر الآبار فانهم يجدون الماء اينما حلوا دونما صعوبة ومتاعب.

فعلماء الكلام يقطعون سلسلة الاسباب باثبات استحالة الدور والتسلسل(1) في نهاية العالم، ومن بعده يثبتون وجود واجب الوجود.

أما المنهج الحقيقي للقرآن الكريم فيجد الماء في كل مكان ويحفره اينما كان. فكل آية من آياته الجليلة كعصا موسى تفجر الماء اينما ضربت. وتستقرئ كل شئ القاعدة الآتية:

وفي كل شئ له آية تدل على أنه واحد

ثم ان الايمان لا يحصل بالعلم وحده، اذ ان هناك لطائف كثيرة للانسان لها حظها من الايمان فكما ان الأكل اذا ما دخل المعدة ينقسم ويتوزع الى مختلف العروق حسب كل عضو من الاعضاء، كذلك المسائل الايمانية الآتية عن طريق العلم اذا ما دخلت معدة العقل والفهم، فان كل لطيفة من لطائف الجسم - كالروح والقلب والسر والنفس وامثالها - تأخذ منها وتمصها حسب درجاتها. فان فقدت لطيفة من اللطائف غذاءها المناسب، فالمعرفة اذن ناقصة مبتورة، وتظل تلك اللطيفة محرومة منها.

وهكذا ينبه ابن عربي فخر الدين الرازي الى هذه النقطة ويلفت نظره اليها.

المسألة الثالثة

سؤال: ماوجه التوفيق بين الآية الكريمة: } ولقد كرّمنا بني آدم..{ (الاسراء:70) والآية الكريمة: } انه كان ظلوماً جَهولاً{ (الاحزاب:72)؟.

الجــواب: ان ايضاح هذا السؤال موجود في كل من الكلمات (الحادية عشرة) و (الثالثة والعشرين)، والثمرة الثانية من الغصن الخامس من الكلمة (الرابعة والعشرين). ومجمله هو الآتي:

ان الله سبحانه وتعالى يخلق بقدرته الكاملة اشياء كثيرة جداً من شئ واحد كما يسوق شيئاً واحداً الى القيام بوظائف كثيرة جداً. فيكتب ألف كتاب وكتاب في صحيفة واحدة.

وقد خلق سبحانه وتعالى الانسان ايضاً نوعاً جامعاً لكثير من الانواع. اي انه قد أراد أن ينجز بنوع الانسان ما تنجزه الدرجات المختلفة لجميع انواع الحيوانات. بحيث لم يحدّد قوى الانسان ورغباته بحدود وقيود فطرية، بل جعلها حرة طليقة، بينما حدّد قوى سائر الحيوانات ورغباتها، اي انها تحت قيود فطرية. بمعنى ان كل قوة من قوى الانسان تتجول في ميدان فسيح واسع جداً، لاتتناهى، لان الانسان مرآة لتجليات لانهاية لها لاسماء رب العالمين، لذا فقد منحت قواه استعداداً لانهاية لها.

فمثلاً: لو اعطي الانسان الدنيا برمتها، لطلب المزيد بحرصه، وانه يرضى بإلحاق الضرر بالوف من الناس في سبيل منفعة ذاتية!.

وهكذا تنكشف امام الانسان درجات لاحدّ لها من الاخلاق السيئة، حتى توصله الى دركات النماردة والفراعنة. فيكون مصداق صفة ظلوماً بحق (بالصيغة المبالغة)، كما تنفتح امامه درجات الرقي التي لامنتهى لها في الخصال الحميدة حتى بلغ مرتبة الانبياء والصديقين.

ثم ان الانسان ـ بخلاف الحيوان ـ جاهل كل ما يخص الحياة ويلزمها ومضطر الى تعلم كل شئ، فهو (جهول) بالصيغة المبالغة لأنه محتاج الى مالايحدّ من الاشياء.

اما الحيوان؛ فعندما يفتح عيونه الى الحياة، فانه لايحتاج الاّ الى اشياء قليلة، فضلاً عن انه يتعلم شروط حياته في شهر او شهرين او في يوم او يومين بل ربما في ساعة او ساعتين، وكأنه قد اكتمل في عالم آخر ثم أتى الى هنا. بينما الانسان لايتمكن من أن يقف منتصباً معتمداً على نفسه الاّ بعد سنة او سنتين، ولايعرف نفعه من ضره الاّ بعد خمس عشرة سنة.

فالمبالغة في (جهولاً) تشير الى هذا ايضاً.

المسألة الرابعة

تسألون ياأخي عن حكمة الحديث الشريف:(جددوا ايمانكم بـلا إله الاّ الله)(1) فقد ذكرناها في كثير من ((الكلمات)). والآن نذكر حكمة منها:

ان الانسان لكونه يتجدد بشخصه وبعالمه الذي يحيط به فهو بحاجة الى تجديد ايمانه دائماً، لأن الانسان الفرد ما هو الاّ افراد عديدة، فهو فرد بعدد سني عمره، بل بعدد ايامه، بل بعدد ساعاته حيث أن كل فرد يعد شخصاً آخر، ذلك لان الفرد الواحد عندما يجري عليه الزمن يصبح بحكم النموذج، يلبس كل يوم شكل فرد جديد آخر.

ثم ان الانسان مثلما يتعدد ويتجدد هكذا. فان العالم الذي يسكنه سيار ايضاً لايبقى على حال. فهو يمضي ويأتي غيره مكانه، فهو في تنوع دائم، فكل يوم يفتح باب عالم جديد.

فالايمان نور لحياة كل فرد من افراد ذلك الشخص من جهة كما انه ضياء للعوالم التي يدخلها. وما ((لا اله الاّ الله)) الا مفتاح يفتح ذلك النور.

ثم ان الانسان تتحكم فيه النفس والهوى والوهم والشيطان وتستغل غفلته وتحتال عليه لتضيق الخناق على ايمانه، حتى تسد عليه منافذ النور الايماني بنثر الشبهات والاوهام. فضلاً عن انه لا يخلو عالم الانسان من كلمات واعمال منافية لظاهر الشريعة، بل تعد لدى قسم من الائمة في درجة الكفر.

لذا فهناك حاجة الى تجديد الايمان في كل وقت، بل في كل ساعة، في كل يوم.

سؤال: ان علماء الكلام يثبتون التوحيد بعد ظهورهم ذهناً على العالم كله الذي جعلوه تحت عنوان الامكان والحدوث. وان قسماً من اهل التصوف لاجل ان يغنموا بحضور القلب واطمئنانه قالوا: ((لامشهود الا هو)) بعد أن ألقوا ستار النسيان على الكائنات. وقسم آخر منهم قالوا: ((لاموجود الا هو)) وجعلوا الكائنات في موضع الخيال وألقوها في العدم ليظفروا بعد ذلك بالاطمئنان وسكون القلب. ولكنك تسلك مسلكاً مخالفاً لهذه المشارب وتبين منهجاً قويماً من القرآن الكريم وقد جعلت شعار هذا المنهج: ((لامقصود الا هو.. لامعبود الا هو)). فالرجاء ان توضح لنا باختصار برهاناً واحداً يخص التوحيد في هذا المنهج القرآني.

الجواب: ان جميع ما في ((الكلمات)) و ((المكتوبات)) يبين ذلك المنهج القويم.

اما الآن فأشير اشارة مختصرة جداً نزولاً عند رغبتكم الى حجة واحدة من حججه العظيمة والى برهان واسع طويل من براهينه الدامغة.

ان كل شئ في العالم، يسند جميع الاشياء الى خالقه.. وان كل أثر في الدنيا يدل على ان جميع الآثار هي من مؤثره هو.. وان كل فعل ايجادي في الكون يثبت ان جميع الافعال الايجادية انما هي من افعال فاعلها هو.. وان كل اسم من الاسماء الحسنى الذي يتجلى على الموجودات يشير الى ان جميع الاسماء انما هي لمسماه هو.. اي ان كل شئ هو برهان وحدانية واضح، ونافذة مطلة على المعرفة الالهية.

نعم، انه ما من أثر، ولاسيما الكائن الحي، الا هو مثال مصغر للكائنات، وبمثابة نواة للعالم، وثمرة للكرة الارضية. لذا فخالق ذلك المثال المصغر والنواة والثمرة لابد أن يكون هو ايضاً خالق الكائنات برمتها، ذلك لانه لايمكن أن يكون موجد الثمرة غير موجد شجرتها.

لذا فان كل أثر مثلما يُسند جميع الآثار الى مؤثّره، فان كل فعل ايضاً يُسند جميع الافعال الى فاعله. لاننا نرى ان اي فعل ايجادي كان، وهو يبرز طرفاً من قانون خلاقية يسع الكون كله ويمتد حكمه وطوله من الذرات الى المجرات. اي ان مَن كان صاحب ذلك الفعل الايجادي الجزئي وفاعله لابد ان يكون هو ايضاً فاعل جميع الافاعيل التي ترتبط بالقانون الكلي المحيط بالكون الواسع من الذرات الى الشموس.

فالذي يحيي بعوضة لابد أن يكون هو المحيي لجميع الحشرات بل جميع الحيوانات بل محيي الارض كلها.

ثم ان الذي يجعل الذرات تدور بجذبة حب كالمريد المولوي لابد أن يكون هو ايضاً ذلك الذي يحرك الموجودات جميعاً تحريكاً متسلسلاً حتى الشمس بسياراتها. لان القانون الساري في الموجودات هو سلسلة ـ تشد جميعها بعضها ببعض ـ والافعال مرتبطة به.

بمعنى ان كل أثر يسند جميع الآثار الى مؤثره هو، كما ان كل فعل ايجادي يسند جميع الافعال الى فاعله هو. كما ان كل اسم يتجلى على الكائنات يسند جميع الاسماء الى مسماه ويثبت أنها جميعاً عناوينه. ذلك لان الاسماء المتجلية في الكون متداخل بعضها في بعض كالدوائر المتداخلة والوان الضوء السبعة. كل منها يسند الآخر ويمده، كل منها يكمل اثر الآخر ويزينه.

فمثلاً: ان اسم ((المحيي)) عندما يتجلى لشئ وحالما يمنح شيئا الحياة يتجلى اسم ((الحكيم)) ايضاً فينظم جسد ذلك الكائن الحي الذي هو مأوى روحه، وفي الوقت نفسه يتجلى اسم ((الكريم)) فيزين ذلك العش والمأوى، وآنئذ يتجلى اسم ((الرحيم)) ايضاً فيهيئ حاجات ذلك الجسد، وفي الوقت نفسه يتجلى اسم ((الرزاق)) فيمنح ما يلزم ذلك الحي من ارزاق مادية ومعنوية ومن حيث لايحتسب، وهكذا...

اي: لمن يعود اسم ((المحيي)) فان له ايضاً اسم ((الحكيم)) الذي ينير الكون ويحيط به، وان له ايضاً اسم ((الرحيم)) الذي يربي الكائنات بالرحمة والشفقة. وان له ايضاً اسم ((الرزاق)) الذي يغدق على الكائنات.. وهكذا...

بمعنى ان كل اسم ، وكل فعل، وكل أثر، برهان وحدانية، وختم توحيد، وخاتم احدية بحيث يدل على ان الكلمات التي هي الموجودات المسطورة في صحائف الكون وفي سطور العصور انما هي كتابة قلم نقاشه ومصوره جل وعلا.

اللهم صل على من قال: (افضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا اله الاّ الله)(1) وعلى آله وصحبه وسلم.

المسألة الخامسة

ثانياً: تسألون ياأخي في رسالتكم عن كفاية (( لا اله الاّ الله)) فحسب، اي من دون ذكر ((محمد رسول الله)) في جعل المرء من اهل النجاة.

ان جواب هذا السؤال طويل، الاّ اننا نقول الآن:

ان كلمتي الشهادة لاتنفك احداهما عن الاخرى ولاتفترقان، بل تثبت احداهما الاخرى وتتضمنها، فلا تكون احداهما الاّ بالاخرى.

وحيث ان الرسول e هو خاتم الانبياء عليهم السلام، ووارث جميع المرسلين، فلاشك انه في مقدمة كل الطرق الموصلة الىاللهوفي رأسها، فليست هناك طريق حقة ولاسبيل نجاة غير جادته الكبرى وصراطه المستقيم.

ويقول جميع أئمة اهل المعرفة والتحقيق ما يعبّر عنه سعدي الشيرازي شعراً:

مُحَالَست سَعدي بَراهِ نَجَاتْ ظَفَر بُردَنْ جُزْ دَربىِ مُصطفى

(اي: من المحال ان يظفر أحد بطريق السلامة والصفاء من دون اتباع المصطفىe ).. وكذا قالوا: ان كل الطرق مسدودة الاّ المنهاج المحمدي.

ولكن قد يكون احياناً ان بعضهم يسلكون الجادة الاحمدية ولكنهم لايعلمون انها جادة احمدية او انها داخلة ضمنها.

وقد يكون احياناً انهم لايعرفون النبي e ولكن الطريق التي يسلكونها هي جزء من الجادة الاحمدية.

وقد يكون احياناً انهم لايفكرون في الجادة المحمدية مكتفين: بـ((لا اله الاّ الله)) إما بسبب من حالة الجذب او الاستغراق او بسبب وضع من اوضاع الانزواء والعزلة.

ومع هذا فان اهم جهة في هذه الامور هي:

ان عدم القبول شئ وقبول العدم شئ آخر. فان أمثال هؤلاء من اهل الجذب والعزلة او ممن لم يسمع او لايعلم وامثالهم ممن لايعرفون النبي e او لايتفكرون فيه ليقبلوه ويرضوا به فانهم يظلون جاهلين في تلك النقطة ولايعرفون غير (( لا اله الاّ الله)) في معرفة الله ، فهؤلاء ربما يكونون من اهل النجاة، ولكن الذين سمعوا بالنبي e وعرفوا دعوته، ان لم يصدّقوه يكونون من الذين يعرفون الله ولا يؤمنون به، لان قول: ((لا اله الاّالله)) لا يفيد لأمثال هؤلاء التوحيد الذي هو سبب النجاة، حيث ان تلك الحالة ليست حالة ناشئة من عدم قبول نابع من الجهل والذي يُعدّ عذراً، بل هو قبول العدم، وهو انكار. فالذي ينكر محمداً عليه الصلاة والسلام وهو مدار فخر الكون وشرف البشرية بمعجزاته وآثاره الجليلة، لاشك انه لاينال نوراً قط ولايكون مؤمناً بالله.

وعلى كل حال نكتفي بهذا القدر.

المسألة السادسة

ثالثاً: لقد جاءت تعابير ممجوجة تخص مسلك الشيطان، وذلك في المحاورة الجارية مع الشيطان في المبحث الاول. وعلى الرغم من تعديلها وتخفيفها بكلمة ((حاش لله، وكلا...)) وابرازها على صورة فرض محال فان فرائصي ارتعدت من هولها.

ثم ان هناك تعديلات طفيفة في القسم الذي اُرسل اليكم، فهل صححتم نسختكم في ضوئه؟ فاني أنيبكم واُوكل ذلك اليكم، فتستطيعون حذف تعابير ترونها زائدة.

اخي العزيز !

ان ذلك المبحث مهم للغاية، لان استاذ الزنادقة هو الشيطان، فان لم يلزم الشيطان الحجة ولم يفحم بالبينة، لايقنع مقلّدوه ولايرضحون.. ولقد استعمل القرآن الحكيم بعض تعابير الكفار القبيحة في معرض الرد عليها، مما أعطاني الجرأة لاظهار تفاهة هذا المسلك الشيطاني وفساده كلياً. وقد استعملت ـ وانا ارتعد ـ تلك التعابير التي تنم عن الحماقة التي اضطر حزب الشيطان الى قبولها واستعمالها بمقتضى مسلكهم، والتي يتفوهون بها لامحالة بلسان مسلكهم، فذكرتها في صورة فرض المحال لبيان فساد مسلك الشيطان فساداً كلياً. وقد حصرتهم بذلك الاستعمال في قعر البئر واستولينا على الميدان كله وجعلناه ملكاً للقرآن وفي سبيله. وكشفنا عن خباياهم واباطيلهم فانظر الى هذا الفوز من خلال هذا التمثيل:

نفرض ان هناك منارة عالية تناطح السماء، وتحتها مباشرة بئر عميقة قعرها في مركز الارض، وثمة فريقان من الناس يتناقشان حول اثبات موقع المؤذن الذي يبلغ صوته الى الناس كافة في البلاد كلها. اي: في اي مرتبة من درجات سلم المنارة يقف المؤذن، اعتباراً من السماء الى مركز الارض؟.

يقول الفريق الاول: ان المؤذن في قمة المنارة، يرفع الاذان من هناك. ويُسمع العالم أجمع. لاننا نسمع ذلك الاذان العلوي الندي، وعلى الرغم من ان كل واحد منا لايستطيع رؤيته هناك الاّ ان كلاً منا يراه حسب درجته اثناء صعوده ونزوله من المنارة.

ومن ذلك يُعلم ان ذلك المؤذن يصعد المنارة، واينما كان موقعه فهو صاحب مقام عالٍ.

اما الفريق الآخر، وهو فريق الشيطان الاحمق، فيقول:

- كلا، ان موقع المؤذن في قعر البئر وليس في قمة المنارة، اينما شوهد. علماً انه لم يشاهده أحد أصلاً في قعر البئر ولايستطيع رؤيته هناك الاّ إن كان حجراً ثقيلاً لاإرادة له، عندئذ فقط يمكن رؤيته هناك.

وبعد، فان ميدان نقاش وصراع هاتين الفئتين المتعارضتين، هو المسافة الممتدة من قمة المنارة الى قعر البئر.

فجماعة اهل النور وهم حزب الله؛ يبينون موقع ذلك المؤذن في قمة المنارة لمن كان نظره يرقى الى هناك، ويبينون ان له مرتبة رفيعة في درجات سلم المنارة لقاصري النظر الذين لايرقى نظرهم الى الدرجات الرفيعة. اي يبينون مرتبته الرفيعة كل حسب اُفق نظره ومداه. لذا فان أمارة صغيرة تكفيهم وتثبت لهم ان ذلك المؤذن الفاضل ليس جسماً كالحجر الجامد، بل هو كالانسان الكامل يستطيع ان يصعد الى اعلى المراتب وان يشاهد وهو يرفع الاذان من هناك.

اما الفئة الاخرى ؛ وهم حزب الشيطان، فيقولون: اما ان تظهروه لنا وهو في قمة المنارة، او ان مقامه في قعر البئر. فيحكمون هذا الحكم بحماقة غير متناهية.

فهم لايعلمون ـ لحماقتهم ـ ان عدم ظهوره لكل الناس في قمة المنارة ناشئ من عجز نظر الناس عن الارتفاع الى تلك المرتبة، ثم انهم يريدون ان يغالطوا ليسيطروا على المسافة كلها باستثناء قمة المنارة.

ولاجل فض المناقشة بين الفئتين، اندفع احدهم في الميدان وخاطب حزب الشيطان قائلاً:

ايتها الجماعة المشؤومة، ان كان مقام ذلك المؤذن العظيم في قعر البئر للزم ان يكون جامداً كالحجر لاحياة فيه ولاقوة، ولما كان يشاهد في اية مرتبة من مراتب المنارة او البئر. ولكن وما دمتم تشاهدونه في كل المراتب، فلاشك الاّ يكون جامداً لاحقيقة له ولاحياة، بل لابد أن يكون مقامه قمة المنارة. لذا فاما ان تظهروه في قعر البئر ـ وهذا ما لاتقدرون عليه قطعاً ولاتستطيعون ان تقنعوا به احداً ابداً ـ او ألزموا الصمت، فان ميدان دفاعكم محصور في قعر البئر. اما بقية الميدان والمسافة الطويلة فانها تخص هذه الجماعة، الجماعة المباركة فانهم اينما أظهروه، سوى قعر البئر، فهم يكسبون القضية.

وهكذا فان مبحث المناظرة مع الشيطان شبيه بهذا التمثيل، فانه يأخذ الميدان الممتد من العرش الى الفرش، من يد حزب الشيطان ويحصرهم في اضيق مكان وهو قعر البئر، ويقحمهم في اضيق ثقب لايمكنهم الدخول فيه، بل هو محال وغير معقول قطعاً، وفي الوقت نفسه يستولي على المسافة كلها باسم القرآن الكريم.

فان قيل لهم: كيف ترون مرتبة القرآن؟

فسيقولون: كتاب انساني يرشد الى الاخلاق الحسنة، وعندها يقال لهم:

اذن هو كلام الله، اذ انتم مضطرون الى قبول هذا، لأنكم لاتستطيعون القول بـ((حسن)) حسب مسلككم.

وكذا ان قيل لهم: كيف تعرفون الرسول e ؟

فسيقولون: انه انسان ذو اخلاق حسنة وعقل راجح، وعندها يقال لهم:

اذاً عليكم الايمان به، لانه إن كان ذا اخلاق حسنة، وعقل راجح فانه رسول الله، لأن قولكم ((حسن)) لايوجد في مسلككم..

وهكذا يمكن تطبيق سائر جهات الحقيقة على بقية اشارات التمثيل.

فبناءاً على هذا:

فان ذلك المبحث الاول الذي يتضمن المناظرة مع الشيطان ينجي ايمان اهل الايمان بأدنى أمارة واصغر دليل دون ان يكونوا بحاجة الى معرفة المعجزات الاحمدية ببراهينها القاطعة.

اذ ان كل حال من الاحوال الاحمدية، وكل خصلة من الخصال المحمدية، وكل طور من الاطوار النبوية بمثابة معجزة من معجزاته e تبين وتثبت ان مقامه في اعلى عليين وليس في قعر البئر البتة.

المسألة السابعة

مسألة ذات عبرة:

لقد اضطررت الى بيان اكرام رباني وحماية الهية يخصان خدمة القرآن وحدها. بدلالة سبع امارات تشدّ القوة المعنوية لقسم من اصحابي الذين تعرضوا للشبهات واصابهم الفتور في العمل للقرآن. وذلك لكي أنقذ بعض اصحابي من مرهفي الاعصاب الذين يتأثرون بسرعة.

فالامارات السبعة، اربعة منها تعود لاشخاص كانوا اصدقاء واصحاب اتخذوا طور العداء لكوني خادماً للقرآن وليس لشخصي بالذات. وتلبسوا بهذا الطور لمقاصد دنيوية، فتلقوا الصفعات خلاف مقصودهم.

اما الامارات الثلاث الباقية فتعود لافراد كانوا اصدقاء ومخلصين حقيقيين، وهم لايزالون كذلك. الاّ انهم لم يُظهروا طور الرجولة والشهامة ـ الذي يقتضيه الوفاء والاخوة ـ كسباً لودّ اهل الدنيا واعجابهم بهم، وليغنموا مغنماً دنيوياً ويسلموا من المصائب والبلايا. ولكن اصحابي الثلاثة هؤلاء تلقوا عتاباً ـ مع الاسف ـ خلاف مقصودهم.

الشخص الاول: ممن كانوا اصدقاء في الظاهر ثم بدر منهم طور العداء، هو مدير مسؤول، طلب مني نسخة من كتاب (الكلمة العاشرة) بتوسل وإلحاح وبعدة وسائط، فاعطيته إياها، الاّ انه تقلد طور العداء وترك صداقتي علّه يترقى في الوظيفة، وسلّم الرسالة الى الوالي في صورة شكوى وإخبار عني، ولكنه عُزل من الوظيفة بدلاً من الترقي فيها، كأثر ٍمن آثار الاكرام الإلهي لخدمة القرآن.

الثاني: مدير مسؤول آخر، كان صديقاً، ولكنه اتخذ طور العداء والمنافس لالشخصي بالذات، وانما لكوني خادماً للقرآن الكريم، وذلك ليرضي رؤساءه، وليكسب اقبال اهل الدنيا وتوجههم نحوه، الاّ انه قوبل بلطمة خلاف مقصوده، فحكم في قضية لم تخطر له على بال، ثم رجا دعاءً من خادم للقرآن، فلعل الله ينجيه، فلقد دعي له.

الثالث: معلم مدرسة، كان صديقاً لنا في الظاهر، فاظهرتُ له وجه الصداقة الخالصة. الاّ انه اتخذ طور العداء ليُنقل الى ((بارلا)) فتلقى لطمة، خلاف مقصوده، اذ سيق الى الجندية فاُبعد عن ((بارلا)).

الرابع: معلم مدرسة، كنت أراه متديناً وحافظاً للقرآن الكريم فاظهرت له وجه الصداقة الخالصة، لعل اللهيرزقه العمل للقرآن، الاّ انه ـ بمجرد كلام من موظف مسؤول ـ اتخذ موقفاً متخاذلاً ومجافياً لنا لينال توجّه اهل الدنيا له، فجاءته لطمة تأديب خلاف مقصوده، اذ وبخّه مفتشه توبيخاً شديداً، ثم عُزل عن الوظيفة.

ان هؤلاء الاربعة ذاقوا لطمة تأديب لاتخاذهم طور العداء لخدمة القرآن.

اما الثلاثة الآخرون من اصدقائي الحقيقيين فقد تلقوا تنبيهاً ـ لا لطمة ـ لعدم اتخاذهم طور الرجولة والشهامة التي تقتضيها الصداقة والوفاء.

الاول: هو احد طلابي الجادين المخلصين الحقيقيين الذين حازوا اهمية (في الخدمة القرآنية) وهو شخص موقر فاضل كان يكتب (الكلمات) باستمرار وينشرها، الاّ انه خبأ (الكلمات) التي كتبها وترك الاستنساخ موقتاً بسبب مجئ مسؤول كبير غريب الاطوار ولوقوع حادثة معينة، وذلك لئلا يجابه عنتاً من اهل الدنيا ولايجد الضيق منهم، وليأمن شرهم.

والحال ان التقصير الناجم عن تعطيل العمل للقرآن أورثه ان يوضَع نصب عينيه دفع غرامة ألف ليرة لسنة كاملة، الاّ انه حالما نوى الاستنساخ وعاد الى وضعه السابق، تبرأ من تلك الدعوى المقامة عليه، وبرئت ساحته ولله الحمد، ونجا عن دفع ألف ليرة، وهو فقير الحال.

الثاني: صديق وفيّ شجاع شهم كان جاري منذ خمس سنوات، الاّ انه لم يلقني لبضعة اشهر، ولم يزرني حتى في شهر رمضان والعيد تهاوناً منه، وذلك لكسب توجه اهل الدنيا له ونيل رضاهم عنه، ولاسيما المسؤول الذي أتى حديثاً، لكن خاب أمله، ولقى خلاف مقصوده، اذ لم يعد لهذا المسؤول نفوذ كالسابق، حيث انتهت مسألة القرية.

الثالث: حافظ للقرآن، كان يزورني مرة او مرتين في الاسبوع، عيّن اماماً في جامع، وتركني ليتمكن من لبس العمامة، ولم يأتني حتى في العيد، الاّ انه لم يلبسها ـ خلافاً للعادة ـ وبعكس مقصوده، رغم انه ادّى الامامة زهاء ثمانية شهور.

وامثال هذه الحوادث كثيرة جداً، لاأذكرها لئلا أجرح شعور البعض، ولكنها مهما كانت حوادث منفردة قد تعد امارات ضعيفة الاّ ان اجتماعها تشعر بالقوة وتورث القناعة والاطمئنان ؛ باننا نعمل في ظل إكرام الهي وتحت رعاية ربانية من حيث خدمة القرآن الكريم، وليس من جهة شخصي بالذات، اذ لا أجد في نفسي ما يليق بأي إكرام إلهي مهما كان.

فعلى أصحابي الاحباب ان يدركوا هذا جيداً، والاّ يبالوا بالشبهات والاوهام. واني ابينها لهم خاصة لأن الاكرام اكرام إلهي من حيث الخدمة القرآنية، وان الامر ليس للفخر بل هو شكر لله. فالامر الالهي صريح في قوله تعالى:

} واما بنعمة ربك فحدث{ (الضحى:11) .



المسألة الثامنة

سؤال المثال الثالث من النقطة الثالثة للسبب الخامس من الاسباب المانعة للاجتهاد في الوقت الحاضر من الكلمة السابعة والعشرين

سؤال مهم: يقول بعض اهل العلم والتحقيق:

لما كانت الالفاظ القرآنية، والاذكار المأثورة، والتسبيحات الواردة، تنور شتى جوانب اللطائف المعنوية للانسان وتغذيه روحياً، الا يكون من الافضل ان يصوغ كل قوم تلك الالفاظ وفق لسانهم الخاص حتى تفهم معانيها؟ اذ الالفاظ وحدها لا تفي بالغرض المطلوب إذ هي في حقيقتها ألبسة وقوالب للمعاني؟

الجواب: ان الفاظ الكلمات القرآنية، والتسبيحات النبوية، ليس لباساً جامداً يقبل التبديل والتغيير وانما مثله مثل الجلد الحي للجسد، بل انها اصبحت فعلاً جلداً حياً بمرور الزمن، ولا جدال في ان تبديل الجلد وتغييره يضر الجسم.

ثم ان تلك الكلمات المباركة في الصلاة، والذكر، والاذان، اصبحت إسما و عَلَما لمعانيها العرفية والشرعية ولا يمكن تبديل الاسم والعلَم.

ولقد توصلتُ الى هذه الحقيقة، بعد التأمل والامعان في حالة مرت عليَّ، وهي:

عندما كنت أقرأ يوم يوم عرفة سورة الاخلاص مائة مرة مكرراً اياها باستمرار لاحظت:

ان قسماً من حواسي الروحية اللطيفة، بعدما اخذت غذاءها بالتكرار قد ملت وتوقفت؛ وان قوة التفكير فيّ قد توجهت الى المعنى، فأخذت حظها، ثم توقفت وملّت. وان القلب الذي يتذوق المعاني الروحية ويدركها، هو ايضاً قد سكت، بعدما اخذ نصيبه من التكرار.

بينما بالمواظبة والتكرار المستمر على القراءة رأيت ان قسماً من اللطائف في الكيان الانساني لا يمل بسرعة، فلا تضره الغفلة التي تضر قوة التفكير، بل انه يستمر ويداوم في اخذ حظه بحيث لا يدع حاجة الى التدقيق والتفكر في المعنى، اذ يكفيه المعنى العرفي الذي هو اسمٌ وعلَم، ويكفيه اللفظ والمعنى الاجمالي لتلك الالفاظ الغنية المشبعة. بل ربما يورث سآمة ومللاً حينما يبدأ التفكر يتوجه الى المعنى، ذلك لان تلك اللطائف لا تحتاج الى تعلّم وتفهيم بقدر ما هي بحاجة الى التذكر والتوجيه والحث.

لذا فان اللفظ الذي هو اشبه بالجلد يكفي لتلك اللطائف وفي اداء وظيفة المعنى، وخاصة ان تلك الالفاظ العربية هي مبعث فيض دائم، اذ تذكر بالكلام الإلهي والتكلم الرباني.

فهذه الحالة التي جربتها بنفسي تبين لنا:

ان التعبير باي لغة كانت غير اللغة العربية، عن حقائق الاذان وتسبيحات الصلاة، وسورة الاخلاص والفاتحة التي تتكرر دائما، ضار جداً. ذلك لان اللطائف الدائمة تبقى محرومة من نصيبها الدائم بعدما ان تفقد المنابع الحقيقية الدائمية التي هي الالفاظ الإلهية والنبوية. فضلاً عن انه يضيع في الاقل عشر حسنات لكل حرف. ولعدم دوام الطمأنينة والحضور القلبي لكل واحد في الصلاة، تبعث التعابير البشرية المترجمة عند الغفلة ظلمتها في الروح.. وامثالها من الاضرار الاخرى.

نعم، فكما قال الامام ابو حنيفة رضي الله عنه ان: (لا إله إلا الله) علم للتوحيد. كذلك نقول:

ان الاكثرية المطلقة لكلمات التسبيحات والاذكار وخاصة كلمات الاذان والصلاة والذكر، اصبحت بمثابة الاسم والعَلَم، فتُنظر الى معانيها العرفية الشرعية اكثر من النظر الى معانيها اللغوية، لذا لا يمكن شرعاً تبديلها مطلقاً.

اما معانيها التي لابد ان يفهمها كل مؤمن، فان اي شخص عامي يمكنه ان يفهم ويتعلم مجمل معانيها في اقصر وقت. فكيف يعذر ذلك المسلم الذي يقضي عمره مالئاً فكره وعقله بما لا يعنيه من الامور ولا يصرف جزءاً ضئيلاً من وقته لفهم تلك المعاني التي هي مفاتيح حياته الابدية وسعادته الدائمة. بل كيف يعتبر من المسلمين وكيف يقال عنه انه انسان عاقل!!

فهل من العقل في شئ ان تفسد تلك الالفاظ التي هي مستودع منابع تلك الانوار لاجل تقاعس هؤلاء الكسالى؟!

ثم انه عندما يقول أي مؤمن، بأي لغة يتكلم: ((سبحان الله)) فانه يعلم انه يقدس ربه جل وعلا.. الا يكفي هذا القدر؟! بينما اذا حصر اهتمامه بالمعنى المجرد، بلسانه الخاص، فانه لا يتعلم الا حسب تفكيره وعقله، الذي يأخذ حظه ويفهم مرة واحدة، والحال انه يكرر تلك الكلمة المباركة اكثر من مائة مرة يومياً ففضلاً عن ذلك الفهم العقلي فان المعنى الاجمالي الذي سرى في اللفظ وامتزج معه هو مبعث انوار وفيوضات كثيرة جداً، ولاسيما ان تلك الالفاظ العربية لها اهميتها وقداستها وانوارها وفيوضاتها، حيث انها كلام إلهي.

ومجمل القول: انه لا يمكن ان يقوم مقام الالفاظ القرآنية التي هي محافظ ومنابع للضروريات الدينية اي لفظ آخر، ولا يمكن لاي لفظ آخر ان يحل محلها قطعاً، ولا ان يؤدي الغرض منها لقدسيتها، وسموها، ودوامها، وان ادى مؤقتاً جزءاً ضئيلاً منها. اما الامور الدينية من غير الضروريات فليس هناك حاجة الى تبديل الفاظها ايضاً لان تلك الحاجة تندفع بالمواظبة على النصيحة والارشاد والوعظ.

والنتيجة: ان شمولية اللغة العربية الفصحى وسعتها، والبيان المعجز في الالفاظ القرآنية، تحولان دون ترجمة تلك الالفاظ، ولذلك لا يمكن ترجمتها قطعاً، بل انه محال. ومن كان يساوره الشك في هذا فليراجع (الكلمة الخامسة والعشرين) في المعجزات القرآنية ليرى منزلة الآية الكريمة باعجازها وتشعبها وشمولها وجمالها ومعناها الرفيع واين منها ((الترجمة)) التي هي معنى مبتور بل ناقص وقاصر.

المسألة التاسعة

مسألة مهمة خاصة تكشف سراً من اسرار الولاية

ان اهل الحق والاستقامة الذين يطلق عليهم ((اهل السنة والجماعة، وهم يمثلون الغالبية العظمى في العالم الاسلامي، قد قاموا بحفظ حقائق القرآن والايمان كما هي على محجتها البيضاء الناصعة، وذلك باتباعهم السنة الشريفة بحذافيرها كما هي، دون نقص أو زيادة، فنشأت الاكثرية المطلقة من الاولياء الصالحين من هذه الجماعة. ولكن شوهد أولياء آخرون في طريق تخالف أصول أهل السنة والجماعة، وخارجة عن قسم من دساتيرهم، فانقسم الناظرون في شأن هؤلاء الاولياء الى قسمين:

الاول:

هم الذين انكروا ولايتهم وصلاحهم، وذلك لمخالفتهم اصول اهل السنة والجماعة بل قد ذهبوا الى أبعد من الانكار، حيث كفّروا عدداً منهم.

أما الاخر:

فهم الذين اتبعوهم وأقروا ولايتهم، ورضوا عنهم، لذا قالوا:إن الحق ليس محصوراً في سبيل اهل السنة والجماعة. فشكلوا بهذا القول فرقة مبتدعة وانساقوا الى الضلال. ناسين أن المهتدي لنفسه ليس من الضروري ان يكون هادياً لغيره، ولئن كان شيوخهم يُعذرون على ما ارتكبوا من أخطاء لأنهم مجذوبون، الا انهم لا يعذرون في اتباعهم لهم.

وهناك قسم ثالث:

سلكوا طريقاً وسطاً، حيث لم ينكروا ولاية اولئك الاولياء وصلاحهم، الا أنهم لم يرضوا بطريقتهم ومنهجهم، وقالوا: ان ما تفوهوا به من الاقوال المخالفة للاصول الشرعية، اما انها ناشئة عن غلبة الاحوال عليهم مما جعلهم يخطئون، أو انها شطحات شبيهة بالمتشابهات التي لا تعرف معانيها ولا تفهم مراميها.

فالقسم الاول ولاسيما علماء اهل الظاهر قد انكروا ولاية كثير من اولياء عظام - مع الاسف - وذلك بنية الحفاظ على طريق اهل السنة، بل ذهبوا مضطرين الى الحكم بضلالهم تحدوهم تلك النية.

أما الآخرون المؤيدون لهم، فقد تركوا طريق الحق وأداروا ظهورهم لها، لما يحملون من حسن الظن المفرط بشيوخهم، بل حصل انجراف قسم منهم الى الضلال فعلاً.

وبناء على هذا السر، فقد كانت هناك حالة تشغل فكري كثيراً وهي:

انني دعوت الله بهلاك قسم من اهل الضلال في وقت مهم، ولكن قوة معنوية رهيبة صدت دعائي عليهم، وردّت عليّ ذلك الدعاء، ومنعتني من القيام بمثله. ثم رأيت ان ذلك القسم من ارباب الضلال انما يوغلون في اجراءاتهم الباطلة ويتمادون في مجانبة الحق، ويجرون الناس خلفهم الى الهاوية بتيسير وتسهيل من قوة معنوية، فيوفــّقون في أعمالهم لا بالاكراه وحده بل ينساق ايضاً قسم من المؤمنين وينخدعون بهم لامتزاجهم بميل من جانب قوة الولاية، فيسامحهم هؤلاء المؤمنون ولا يرونهم على فساد كبير!

وحينما شعرت بهذين السرين تملكتني دهشة ورهبة، فقلت متعجباً:

يا سبحان الله! هل يمكن ان تكون ولاية في غير طريق الحق؟ وهل يمكن ان يوالي أهل الحقيقة والولاية تيار ضلالة رهيبة؟

ثم كان في يوم مبارك من أيام عرفة المشهودة، اذ قرأت سورة الاخلاص مائة مرة وكررتها مرات ومرات اتباعاً لعادة اسلامية مستحسنة، فوردت الى قلبي العاجز من لدن الرحمة الإلهية ببركة تلك القراءة، الحقيقةُ الآتية فضلاً عما ورد من ((جواب عن مسألة مهمة)):

والحقيقة هي:

ان قسماً من الاولياء مع ما يبدو منهم من حصافة ورشد، ولهم محاكمات عقلية منطقية الا انهم مجذوبون. فهم اشبه بـ ((جبالى بابا)) الذي تروى قصته عن زمن السلطان محمد الفاتح، تلك القصة المشهورة ذات العبرة(1).

وان قسماً آخر من الأولياء مع انهم ضمن نطاق العقل والصحو والرشاد، الا انهم يتلبسون احياناً حالات خارجة عن طور العقل والمحاكمات المنطقية. وان صنفاً من هذا القسم هم أهل التباس، أي يلتبس عليهم الأمر فلا يميزون، اذ ما يرونه من مسألة ما في حالة السكر يطبقونه في حالة الصحو. فيخطئون ولا يدركون انهم يخطئون.

أما المجذوبون، فقسم منهم محفوظون عند الله، لا يضلون ولا ينساقون مع أهله، بينما قسم آخر منهم ليسوا محفوظين عند الله، فلربما يكونون ضمن فرق اهل البدعة والضلالة، بل هناك احتمال ان يكونوا ضمن الكفار.

وهكذا. فلأنهم مجذبون - سواء أكانوا بصورة مؤقتة أم دائمة - فهم في حكم مجانين طيبين مباركين - اي ينسحب عليهم حكمهم - ولأنهم مجانين مباركين طليقون في تصرفاتهم فليسوا مكلفين، ولأنهم غير مكلفين فلا يؤاخذون على تصرفاتهم. فمع ان ولايتهم المجذوبة محفوظة يوالون أهل البدع فيروجون مسالكهم الى حد ما ويكونون سبباً سيئاً مشؤوماً في دخول قسم من المؤمنين واهل الحق في ذلك المسلك.

المسألة العاشرة

كتبتْ هذه المسألة بناء على تذكير بعض الأصدقاء في بناء قاعدة تخص الزائرين

ليكن معلوماً لدى الجميع، ان الذي يزورنا اما انه يأتي الينا لأجل امور تخص الحياة الدنيا. فذلك الباب مسدود.

او أنه يأتي الينا من حيث الحياة الآخرة. ففي تلك الجهة بابان: فاما انه يتصور انني رجل مبارك صاحب مقام عند الله ولأجل هذا يأتي الينا، هذا الباب ايضاً مسدود. اذ لا تعجبني نفسي ولا يعجبني من يعجب بي. فحمداً لله اجزل حمد اذ لم يجعلني راضياً عن نفسي.

أما الجهة الاخرى فهو يأتي الينا لكوني خادماً للقرآن ودلالاً له وداعياً اليه ليس إلاّ. فمرحباً واهلاً وسهلاً وعلى العين والرأس لمن يأتينا من هذا الباب.

وهؤلاء ايضاً على ثلاثة انماط.

فاما انه صديق، او انه اخ، او انه طالب.

فخاصية الصديق وشرطه:

ان يكون مؤيداً تأييداً جاداً لعملنا في نشر الانوار القرآنية (رسائل النور)، وان لا يميل الى الباطل والبدع والضلالة قلباً، وان يسعى ايضاً ليفيد نفسه.

وخاصية الاخ وشرطه:

ان يكون ساعياً سعياً حقيقياً وجاداً لنشر الرسائل، فضلاً عن ادائه الصلوات الخمس، واجتنابه الكبائر السبع.

وخاصية الطالب وشرطه:

ان يعد رسائل النور كأنها من تأليفه هو، وانها تخصه بالذات، فيدافع عنها وكأنها ملكه، ويعتبر نشر تلك الانوار والعمل لها اجلّ وظيفة لحياته.

فهذه الطبقات الثلاث تتعلق بالجوانب الثلاث لشخصيتي.

فالصديق يرتبط بشخصيتي الذاتية. والاخ يرتبط بشخصيتي العبدية اي كوني اؤدي مهمة العبودية لله سبحانه. اما الطالب فهو يرتبط بي من حيث كوني داعياً ودلالاً للقرآن الحكيم ومرشداً اليه.

وهذا النوع من اللقاء له ثلاث ثمرات:

الاولى:

اخذه لجواهر القرآن درساً مني او من رسائل النور ولو كان درساً واحداً، هذا من حيث الدعوة الى القرآن.

الثانية:

يكون مشاركاً لي في ثوابي الاخروي. وهذا من حيث العبودية لله.

الثالثة:

نتوجه معاً الى الرحمة الإلهية مرتبطين قلباً متساندين في خدمة القرآن ونسأله التوفيق والهداية.

فان كان طالباً فهو حاضر معي صباح كل يوم باسمه واحياناً بخياله.

وان كان اخاً فهو حاضر معي في دعائي على دفعات باسمه وبصورته فيشاركني في الثواب و الدعاء ثم يكون ضمن جميع الاخوان واسلّمه الى الرحمة الإلهية، اذ عندما اقول في ذلك الدعاء: اخوتي واخواني، فهو منهم، ان لم اكن اعرفه انا بالذات فالله اعلم به وابصر.

وان كان صديقاً فهو داخل ضمن دعائي باعتباره من الاخوة عامة اذا ما ادّى الفرائض واجتنب الكبائر.

وعلى هؤلاء الطبقات الثلاث ان يجعلوني ضمن كسبهم الاخروي ايضاً.



اللهم صل على من قال: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بـعضه بعضاً وعلى آله وصحبه وسلم.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

(وقالوا الحمد لله الذي هدينا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدينا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق).

اللهم يا من اجاب نوحاً في قومه، ويا من نصر ابراهيم على اعدائه، ويا من ارجع يوسف الى يعقوب، ويا من كشف الـضر عن ايوب، ويا من اجاب دعوة زكريا، ويا من تقبّل يونس ابن متى..

نسألك باسرار اصحاب هذه الدعوات المستجابات ان تحفظني وتحفظ ناشر هذه الرسائل ورفقاءهم من شر شياطين الانس والجن.

وانصرنا على اعدائنا

ولا تكلنا الى انفسنا

واكشف كربتنا وكربتهم

واشف امراض قلوبنا وقلوبهم

آمين.آمين .آمين

المكتوب السابع والعشرون



هذا المكتوب يضم رسائل لطيفة جميلة وعين الحقيقة كتبها مؤلف رسائل النور وبعثها الى طلابه، علاوة على رسائل بعثها طلاب رسائل النور الى استاذهم، واحياناً بعضهم الى بعض، يعبّرون فيها عمّا استفاضوه من اذواق سامية لدى مطالعتهم لرسائل النور. فاصبح هذا المكتوب الغني جداً بهذه الرسائل. باربعة اضعاف حجم هذا المجلد لذا سينشر مستقلاً باسم ((الملاحق)) وهي ملحق بارلا وملحق قسطموني وملحق اميرداغ.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس