الموضوع: اللمعات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-01-2011
  #24
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

الرجاء الرابع عشر

جاء في مستهل (الشعاع الرابع) الذي هو تفسير للآية الكريـمة: } حَسْبُنا اللهُ وَنِعْمَ الوَكيل { (آل عمران:173) ما خلاصته:

حينما جرّدني أرباب الدنيا من كل شيء، وقعت في حـمسة ألوان من الغربة. ولـم ألتفت الى ما في ((رسائل النور)) من أنوار مسلـّية مـمدّة، جراء غفلة اورثها الضـجر والضيق وانـما نظرت مباشرة الى قلبي وتـحسست روحي، فرأيت انه يسيطر عليّ عشق في منتهى القوة للبقاء، وتهيمن عليّ مـحبة شديدة للوجود، ويتحكم فيّ شوق عظيم للـحياة.. مع ما يمكن فيّ من عـجز لاحد له، وفقر لانهاية له. غير ان فناءً مهولاً مدهشاً، يطفىء ذلك البقاء ويزيله، فقلت مثلما قال الشاعر الـمحترق الفؤاد:

حكمة الأله تقضي فناء الـجسد والقلـب تــوّاق الى الابـــــد

لـهـف نفســي من بـلاء وكمـد حار لقمان في ايـجاد الضمد

فطأطأت رأسي يائساً.. واذا بالآية الكريـمة: } حسبنا الله ونعم الوكيل{ تغيثني قائلة: إقرأني جيداً بتدبر وامعان، فقرأتها بدوري خـمسمائة مرة في كل يوم، فكلما كنت أتلوها كانت تكشف عن بعضٍ من أنوارها وفيوضاتها الغزيرة، فرأيت منها بعين اليقين – وليس بعلم اليقين – تسع مراتب حسبية:

الـمرتبة النورية الـحسبية الاولى:

ان ما فيّ من عشق البقاء، ليس متوجهاً الى بقائي أنا، بل الى وجود ذلك الكامل الـمطلق والى كماله وبقائه. وذلك لوجود ظلٍ لتجلٍ من تـجليات اسمٍ من اسـماء الـجليل والـجميل الـمطلق ذي الكمال الـمطلق، وهو الـمحبوب لذاته – أي دون داعٍ الى سبب – في ماهيتي الاّ ان هذه الـمحبة الفطرية ضلت سبيلها وتاهت بسبب الغفلة، فتشبثت بالظل وعشق بقاء الـمرآة.

ولكن ما ان جاءت } حسبنا الله ونعم الوكيل { حتى رفعت الستار فاحسستُ وشاهدت، وتذوقتُ بـحق اليقين:

ان لذة البقاء وسعادته، موجودة بنفسها، بل افضل وأكمل منها، في ايـماني وإذعاني وإيقاني ببقاء الباقي ذي الكمال، وبأنه ربي وإلـهي. وقد وضحت دلائل هذا بعمق ودقة متناهية في الرسالة ((الـحسبية)) في اثنتي عشرة كذا.. كذا.. كذا..)). وبينت الاستشعار الإيـماني بـما يـجعل كل ذي حسّ وشعور في تقدير واعجاب!.

الـمرتبة النورية الـحسبية الثانية:

انه مع عجزي غير الـمتناهي الكامن في فطرتي، ومع الشيخوخة الـمستقرة في كياني، ومع تلك الغربة التي لفـّتني، ومع عدم وجود الـمعين لي، وقد جُردت من كل شيء ويهاجمني اهل الدنيا بدسائسهم وبـجواسيسهم.. في هذا الوقت بالذات خاطبت قلبي قائلاً:

((ان جيوشاً كثيفة عارمة تهاجم شخصاً واحداً ضعيفاً مريضاً مكبـّل اليدين.. أوَ ليس له – أي لي – من نقطة استناد؟)).

فراجعت آية } حسبنا الله ونعم الوكيل { فاعلمتني:

انك تنتسب بهوية الانتساب الإيـماني الى سلطان عظيم ذي قدرة مطلقة، بـحيث يجهز بانتظام تام في الربيع جـميع ماتـحتاجه جيوش النباتات والـحيوانات الـمنتشرة على سطح الارض من معدّات، فيزوّد جـميع تلك الـجيوش الـمتشكلة في اربعمائة ألف نوع من الأمـم الـمختلفة، ويوزع جـميع ارزاق الـجيش الـهائل للأحياء – وفي مقدمتها الانسان – لابشكل ما اكتشفه الانسان في الآونة الأخيرة من مستخلصات اللحم والسكر وغيرهما، بل بصورة مستخلصات أكمل وافضل بكثير بل تفوقها مائة مرة، فهي مستخلصات متضمنة جـميع انواع الاطعمة. بل هي مستخلصات رحـمانية.. تلك التي تسمى البذور والنوى.. زد على ذلك فانه يغلف ايضاً تلك الـمستخلصات باغلفة قَدَرية تتناسب مع نضجها وانبساطها ونـموها، ويـحفظها في عليبات وصنيدقات صغيرة وصغيرة جداً، وهذه الصُنيدقات ايضاً تُصنع بسرعة متناهية جداً، وبسهولة مطلقة للغاية، وبوفرة هائلة، وذلك في معمل ((ك.ن)) الـموجود في أمر ((كـُنْ))، حتى أن القرآن الكريم يقول: } فإنـما يَقولُ لهُ كـُنْ فيكُونْ! { .

فما دمت قد ظفرت بنقطة استناد مثل هذه بهوية الانتساب الإيـماني، فيمكنك الاستناد والاطمئنان اذاً الى قوة عظيمة وقدرة مطلقة. وحقاً لقد كنت أحسّ بقوة معنوية عظيمة كلما كنت أتلقى ذلك الدرس من تلك الآية الكريـمة، فكنت أشعر انني أملك قوة يـمكنني أن اتـحدّى بها جـميع اعدائي في العالـم وليس الـماثلين امامي وحدهم، لذا رددتُ من اعماق روحي: } حسبنا الله ونعم الوكيل { .

الـمرتبة النورية الـحسبية الثالثة:

حينما اشتد خناق الامراض وألوان الغربة وأنواع الظلم عليّ، وجدت ان علاقاتي تنفصم مع الدنيا، وان الإيـمان يرشدني بانك مرشح لدنيا اخرى ابدية، وانك مؤهل لـمملكة باقية وسعادة دائمة. ففي هذه الاثناء تركت كل شيء تقطر منه الـحسرة ويـجعلني أتأوّه وأتأفف، وأبدلته بكل ما يبشـّر بالـخير والفرح ويـجعلني في حـمدٍ دائم. ولكن أنـّى لـهذه الغاية أن تتحقق وهي غاية الـمنى ومبتغى الـخيال وهدف الروح ونتيجة الفطرة، الاّ بقدرة القدير الـمطلق الذي يعرف جـميع حركات مـخلوقاته وسكناتهم قولاً وفعلاً، بل يعرف جـميع احوالـهم واعمالـهم ويسجلها كذلك. وانـّى لـها أن تـحصل الاّ بعنايته الفائقة غير الـمحدودة لـهذا الانسان الصغير الهزيل الـمتقلب في العجز الـمطلق حتى كـّرمه، واتـخذه خليلاً مـخاطباً، واهباً له الـمقام السامي بين مـخلوقاته.

نعم، حينما كنت أفكر في هاتين النقطتين، أي: في فعالية هذه القدرة غير الـمحدودة، وفي الاهمية الـحقيقية التي أولاها البارىء سبحانه لـهذا الانسان الذي يبدو حقيراً. اردت ايضاحاً في هاتين النقطتين ينكشف به الإيـمان ويُطمئن به القلب فراجعت بدوري تلك الآية الكريـمة ايضاً، فقالت لي: دقق النظر في ((نا)) التي في ((حسبنا))، وانظر مَنْ هم اولاء ينطقون ((حسبنا)) معك، سواء ينطقونها بلسان الـحال، او بلسان الـمقال، أنصت اليهم.. نعم هكذا أمرتني الآية!. فنظرت.. فاذا بي أرى طيوراً مـحلـّقة لاتـحدّ، وطويرات صغيرة صغيرة جداً كالذباب لاتـحصى، وحيوانات لا تعد ونباتات لاتنتهي واشجاراً لاآخر لـها ولانهاية...

كل ذلك يردد مثلي بلسان الـحال معنى } حسبنا الله ونعم الوكيل { ، بل يُذكر الآخرين بها.. أن لـهم وكيلاً – نِعمَ الوكيل – تكفـّل بـجـميع شرائط حياتهم، حتى انه يـخلق من البيوض الـمتشابهة بعضها مع بعض وهي الـمتركبة من الـمواد نفسها، ويـخلق من النطف التي هي مثل بعضها البعض، ويـخلق من الـحبوب التي هي البعض عينه، ويـخلق من البذور الـمتماثلة بعضها مع البعض الآخر مائة الف طراز من الـحيوانات ومائة الف شكل من الطيور ومائة الف نوع من النباتات، ومائة الف صنف من الاشجار، يـخلقها بلاخطأ وبلانقص وبلا التباس، يـخلقها مزينة جـميلة وموزونة منظمة، مع تـميـّز بعضها عن البعض الآخر واختلاف بعضها عن بعض، يـخلقها باستمرار ولاسيما ايام كل ربيع امام اعيننا في منتهى الكثرة، وفي منتهى السهولة، وفي منتهى السعة، وفي منتهى الوفرة.. فخلقُ جـميع هذه الـمخلوقات متشابهاً ومتداخلاً ومـجتمعة على النمط نفسه والاشكال عينها، ضمن عظمة هذه القدرة الـمطلقة وحشمتها، يظهر لـنا بوضوح: وحدانيته سبحانه وتعالى وأحديته.

وقد أفهمتني الآية أنه لا يـمكن التدخل مطلقاً ولا الـمداخلة قطعاً في مثل هذا الفعل للربوبية الـمطلقة وفي تصرف هذه الـخلاقية، اللتين تبرزان هذه الـمعجزات غير الـمحدودة وتنشرانها.

فالى الذين يريدون ان يفهموا هويتي الشخصية وماهيتي الانسانية كما هي لكل مؤمن.. والى الذين يرغبون أن يكونوا مثلي، عليهم أن ينظروا الى تفسير نفسي (أنا) في جـمع ((نا)) في الآية الكريـمة ويتدبّروا في موقعه في ذلك الـجمع. وليفهموا ما وجودي وجسمي الذي يبدو ضئيلاً وفقيراً لا اهمية له – كوجود كل مؤمن.؟! وليعلموا ما الـحياة نفسها بل ما الانسانية؟! وما الإسلام؟! وما الإيـمان التحقيقي؟ وما معرفة الله؟ وكيف تـحصل محبة الله؟. فليفهموا.. وليتلقوا درساً في ذلك!.

الـمرتبة النورية الـحسبية الرابعة:

وافقت العوارض الـمزلزلة لكياني أمثال الشيب والغربة والـمرض وكوني مغلوباً على أمري، وافقت تلك العوارض فترة غفلتي، فكأن وجودي الذي أتعلق به بشدة يذهب الى العدم، بل وجود الـمخلوقات كلها تفنى وتنتهي الى الزوال، فولـّد عندي ذهاب الـجميع الى العدم قلقاً شديداً واضطراباً أليماً فراجعت الآية الكريـمة ايضاً } حسبنا الله ونعم الوكيل { فقالت لي: ((تدبـّر في معانيّ، وانظر اليها بـمنظار الإيـمان)) وانا بدوري نظرت الى معانيها بعين الإيـمان فرأيت:

ان وجودي الذي هو ذرة صغيرة جداً – كوجود كل مؤمن – مرآةٌ لوجود غير مـحدود، ووسيلة للظفر بانواع من وجود غير مـحدود بإنبساط غير متناه.. وهو بـمثابة كلمة حكيمة تثمر من انواع الوجود الكثيرة الباقية ما هو اكثر قيمة من وجودي حتى أن لـحظة عيش له من حيث انتسابه الإيـماني ثمين جداً، وله قيمة عالية كقيمة وجودٍ أبدي دائم، فعلمت كل ذلك بعلم اليقين؛ لأن معرفتي بالشعور الإيـماني بان وجودي هذا أثرٌ من آثار واجب الوجود وصنعةٌ من صنعته وجلوة من جلواته جعلتني انـجو من ظلمات لا حدّ لـها تورثها أوهام موحشة، واتـخلص من الآم لاحدّ لـها نابعة من افتراقات وفراقات غير متناهية، ودفعتني لأمدّ روابط اخوة وثيقة الى جـميع الـموجودات ولاسيما الى ذوي الـحياة روابط بعدد الافعال والاسـماء الإلـهية الـمتعلقة بالـموجودات. وعلمت أن هناك وصالاً دائماً بهذه الروابط مع جـميع ما أحبه من الـموجودات من خلال فراق موقت.

وهكذا فان وجودي كوجود كل مؤمن، قد ظفر بالإيـمان والانتساب الذي فيه بأنوار انواع وجود غير مـحدودة لاافتراق فيها. فـحتـّى لو ذهب وجودي فان بقاء تلك الأنواع من الوجود من بعده يُطمئن وجودي وكأنه قد بقي بنفسه كاملاً.

والـخلاصة: ان الـموت ليس فراقاً بل هو وصال وتبديل مكان وإثـمار لثمرة باقية..

الـمرتبة النورية الـحسبية الـخامسة:

لقد تصدّعت حياتي حيناً تـحت اعباء ثقيلة جداً، حتى لفتت نظري الى العمر، والى الـحياة فرأيت أن عمري يـجري حثيثاً الى الآخرة.. وان حياتي الـمتقربة الى الآخرة قد توجهت نـحو الانطفاء تـحت الـمضايقات العديدة، ولكن الوظائف الـمهمة للحياة ومزاياها الراقية وفوائدها الثـمينة لاتليق بهذا الانطفاء السريع، بل تليق بـحياة طويلة، مديدة، ففكرت في هذا بكل ألـم وأسى، وراجعت استاذي الآية الكريـمة } حسبنا الله ونعم الوكيل { فقالت لي: انظر الى الـحياة من حيث ((الـحي القيوم)) الذي وهب لك الـحياة. فنظرت اليها بهذا الـمنظار وشاهدت أنه ان كان للحياة وجه واحد متوجه اليّ انا فان لـها مائة وجه متوجه الى ((الـحي الـمحيي)) وان كانت لـها نتيجة واحدة تعود اليّ انا، فان لـها الفاً من النتائج تعود الى خالقي؛ لذا فان لـحظة واحدة من الـحياة، او آناً من الوقت ضمن هذه الـجهة كافٍ جداً، فلا حاجة الى زمان طويل.

هذه الـحقيقة تتوضح باربع مسائل: فليفتش اولئك الذين ينشدون الـحياة او الذين هم ليسوا أمواتاً… ليفتشوا عن ماهية الـحياة وعن حقيقتها وعن حقوقها الـحقيقية ضمن تلك الـمسائل الاربع. فليظفروا.. وليحيوا..

وخلاصتها هي: ان الـحياة كلما تتوجه الى الـحيّ القيوم وتتطلع اليه، وكلما كان الإيـمان حياةً للحياة وروحاً لـها تكسب البقاء بل تعطي ثـماراً باقية كذلك، بل أنها ترقى وتعلو الى درجة تكتسب تـجلى السرمدية، وعندها لاينظر الى قصر العمر وطوله.

الـمرتبة النورية الـحسبية السادسة:

من خلال الشيب الذي يذكـّر بفراقي الـخاص، ومن خلال حوادث آخر الزمان التي تنبىء عن دمار الدنيا ضمن الفراقات العامة الشاملة، ومن خلال الانكشاف الواسع فوق العادة في اوآخر عمري لأحاسيس الـجمال والعشق له والافتتان بالكـمالات الـمغروزة في فطرتي. من خلال كل هذا رأيت ان الزوال والفناء اللذين يدمران دائماً، وان الـموت والعدم اللذين يفرّقان باستمرار، رأيتهما يفسدان بشكل مرعب ومخيف، جـمال هذه الدنيا الرائعة الـجمال ويشوهانه بتحطيمهما لـها، ويُتلفان لطافة هذه الـمخلوقات… فتألـّمت من اعماقي بالغ التألـم لـما رأيت. ففار ما في فطرتي من عشق مـجازي فوراناً شديداً وبدأ يتاجج بالرفض والعصيان امام هذه الـحالة الـمفجعة، فلم يك لي منها بد الاّ مراجعة الآية الكريـمة ايضاً لأجد الـمتنفس والسلوان، فقالت: ((إقرأني جيداً، أنعم النظر في معانيَّ)) وأنا بدوري دخلت الى مركز الارصاد لسورة النور لآية } الله نور السموات والارض… { (النور:35). فنظرت من هناك ((بـمنظار)) الإيـمان الى أبعد طبقات الآية الـحسبية، وفي الوقت نفسه نظرت ((بـمجهر)) الشعور الإيـماني الى أدق اسرارها.. فرأيت انه مثلما تُظهر الـمرايا والزجاج والـمواد الشفافة وحتى حباب البحر الـجمال الـمخفي الـمتنوع لضوء الشمس، فيُظهر كل منها مـختلف الـجمال للالوان السبعة لذلك الضوء ومثلما يتجدد ذلك الـجمال وذلك الـحسن بتجدد تلك الـمواد وبتحركها وحسب قابليتها الـمختلفة ووفق انكساراتها الـمتنوعة، أي مثلما أنها تُظهر الـجمال الـمخفي للشمس ولضوئها ولألوانها السبعة – بشكل جـميل جذاب – فكذلك الامر في هذه الـمصنوعات الـجميلة وهذه الـمخلوقات اللطيفة والـموجودات الـجميلة التي تقوم مقام مرايا عاكسة لذلك الـجمال الـمقدس للجميل ذي الـجلال الذي هو ((نور الأزل والابد)). فهذه الـمخلوقات لاتلبث أن تذهب دون توقف مـجدّدة بذلك تـجليات لأسـمائه الـحسنى جل علا. فالـجمال الظاهر في هذه الـمخلوقات والـحسن البارز فيها اذن ليس هو ملك ذاتها، وانـما هو اشارات الى ذلك الـجمال الـمقدس السرمدي الذي يريد الظهور، وعلامات واشارات وتـجليات لذلك الـحسن الـمجرد والـجمال الـمنزّه الـمتجلي دائماً والذي يريد الـمشاهدة والاشهاد.

وقد وضحـّت دلائل هذا مفصلاً في ((رسائل النور)) لاسيما تلك الرسالة التي تستهل بـ ((هنا سنذكر ثلاثة براهين بصورة مـختصرة جداً ومعقولة))(1). فأيـّما إنسان نظر الى هذه الرسالة من اصحاب الذوق السليم لايـمكن أن يتمالك نفسه من غير الاعجاب والتقدير بل سيرى أن عليه أن يسعى لإفادة الآخرين بعدما أفاد نفسه، ولاسيما النقاط الـخمس الـمذكورة في البرهان الثاني. فلابد ان مَن لـم يفسد عقله ولـم يصدأ قلبه أن يقول مستحسناً ومستصوباً: ماشاء الله.. بارك الله.. ويـجعل وجوده الذي يظهر فقيراً حقيراً يسمو ويتعالى.. ويدرك مصدقاً أنه: معجزة خارقة حقاً!!.

الرجاء الـخامس عشر(2)

عندما كنت نزيل غرفة في ((اميرداغ))(3) تـحت الاقامة الـجبرية وحيداً فريداً، كانت عيون الترصد تتعقبني وتضايقني دائماً فأتعذب منها أشد العذاب، حتى مللت الـحياة نفسها وتأسفت لـخروجي من السجن، بل رغبتُ من كل قلبي في ان اعود الى سجن ((دنيزلي)) او دخول القبر، حيث السجن او القبر افضل من هذا اللون من الـحياة. فأتتني العناية الإلـهية مغيثة، إذ وهبتْ آلة الرونيو التى ظهرت حديثاً لطلاب ((مدرسة الزهراء))(4) وهم يـحملون اقلاماً ماسية كآلة الرونيو. فباتت ((رسائل النور)) تظهر بـخمسمائة نسخة بقلم واحد، فتلك الفتوحات التي هيأتها العناية الإلـهية لرسائل النور جعلتني أحب تلك الـحياة الضجرة القلقة الـمضطربة، بل جعلتني اردد الف شكر وشكر للبارىء سبحانه وتعالى.

ولكن بعد مرور فترة وجيزة لـم يتمكن اعداء رسائل النور الـمتسترين ان يتحملوا تلك الفتوحات النورية، فنبهوا الـمسؤولين في الدولة ضدنا وأثاروهم علينا، فاصبحت الـحياة – مرة اخرى – ثقيلة مضجرة، الاّ ان العناية الإلـهية تـجلت على حين غرة، حيث ان الـمسؤولين أنفسهم – وهم أحوج الناس الى رسائل النور – بدأوا فعلاً بقراءة الرسائل الـمصادرة بشوق واهتمام، وذلك بـحكم وظيفتهم. واستطاعت تلك الرسائل بفضل الله أن تليـّن قلوبَهم وتـجنحها الى جانبها. فتوسعت بذلك دائرة مدارس النور، حيث أنهم بدأوا بقدرها والاعجاب بها بدلاً من جرحها ونقدها. فأكسبتنا هذه النتيجة منافع جـمة، اذ هي خير مائة مرة مـّما نـحن فيه من الاضرار الـمادية، وأذهبت ما نعانيه من اضطراب وقلق. ولكن ما ان مرّت فترة وجيزة، حتى حـوّل الـمنافقون – وهم الاعداء الـمتسترون – نظر الـحكومة الى شخصي أنا، ونبـّهوا أذهانها الى حياتي السياسية السابقة، فأثاروا الأوهام والشكوك، وبثوا الـمخاوف من حولي في صفوف دوائر العدل والـمعارف (التربية) والامن ووزارة الداخلية، ومـما وسّع تلك الـمخاوف لديهم ما يـجري من الـمشاحنات بين الاحزاب السياسية، وما أثاره الفوضويون والارهابيون – وهم واجهة الشيوعيين – حتى أن الـحكومة قامت إثر ذلك بـحملة توقيف وتضييق شديد علينا، وبـمصادرة ما تـمكنت من الـحصول عليه من الرسائل فتوقف نشاط طلاب النور وفعالياتهم.

وبالرغم من أن بعض الـموظفين الـمسؤولين أشاعوا دعايات مغرضة عجيبة لـجرح شخصيتي وذمـّها – مـما لايـمكن أن يصدّقه أحد – الاّ انهم باؤوا بالاخفاق الذريع، فلم يستطيعوا ان يقنعوا احداً بها. ومع ذلك احالوني الى الـموقف لـمدة يومين بـحجج رخيصة تافهة جداً، ووضعوني في قاعة واسعة جداً وحيداً في تلك الايام الشديدة البرد كالزمهرير، علماً انني ما كنت اتـحمل البرد في بيتي الاّ على مضض وكنت اقاومه بشدة بإشعال الـموقد دائماً وبأشعال الـمدفأة عدة مرات يومياً، وذلك لـما أعانيه من ضعف ومرض.

فبينما كنت اتقلب من شدة الـحمـّى الـمتولدة من البرد، واتـململ من حالتي النفسية الـمتضايقة جداً، انكشفت في قلبي حقيقة عناية إلـهية، ونُبهـّت الى ما يأتي:

((أنك قد اطلقت على السجن اسم ((الـمدرسة اليوسفية))، وقد وهب لك ((سجن دنيزلي)) من النتائج والفوائد اضعاف اضعاف ما اذاقكم من الضيق والشدة، ومنحكم فرحاً شديداً وسروراً عظيماً وغنائم معنوية كثيرة: واستفادة الـمساجين معكم من رسائل النور، وقراءة رسائل النور في الاوساط الرسـمية العليا وغيرها من الفوائد، حتى جعلتكم في شكر دائم مستمر بدل التشكي والضجر محوّلة كل ساعة من ساعات السجن والضيق الى عشر ساعات من العبادة، فخلـّدت تلك الساعات الفانية، فهذه ((الـمدرسة اليوسفية الثالثة))(1) كذلك ستعطي – باذن الله – من الـحرارة الكافية ما يدفىء هذا البرد الشديد، وستمنح من الفرح والبهجة ما يرفع هذا الضيق الثقيل، باستفادة اهل الـمصائب والبلاء معكم من رسائل النور ووجدانهم السلوان فيها. أما الذين غضبت واحتدت عليهم، فان كانوا من الـمغرّربهم ومن الـمخدوعين فلا يستحقون الغضب والـحدّة، اذ انهم يظلمونك دون قصد ولاعلم ولاشعور. وان كانوا يعذبونك ويشددون عليك الـخناق يقومون بها عن علم وعن حقد دفين ارضاء لأهل الضلالة فإنهم سيعذّبون عن قريب بالـموت الذي يتصورونه إعداماً أبدياً، وسيرون الضيق الشديد الدائمي الـمقيم في السجن الـمنفرد وهو القبر. وانت بدورك تكسب ثواباً عظيماً – نتيجة ظلمهم – وتظفر بـخلود ساعاتك الفانية، وتغنم لذائذ روحية معنوية فضلاً عن قيامك بـمهمتك العلمية والدينية باخلاص.

هكذا ورد الى روحي هذا الـمعنى فقلت بكل ماأوتيت من قوة: ((الـحمد لله)). واشفقت على اولئك الظَلَمة بـحكم انسانيتي ودعوت: ياربـّي أصلح شأن هؤلاء..

ولقد ثبتّ في افادتي التي كتبتُها الى وزارة الداخلية: ان هذه الـحادثة الـجديدة غير قانونية، وأثبتها بعشرة أوجه، بل ان هؤلاء الظلمة الذين يـخرقون القانون باسم القانون هم الـمجرمون حقاً، حيث بدأوا بالبـحث عن حجج واهية جداً وتتبعوا افتراءات مـختلفة الى حدّ ان جلبوا سخرية السامعين وابكت اهل الـحق الـمنصفين، وأظهروا لأهل الانصاف أنهم لايـجدون باسم القانون والـحق أي مسـوّغ للتعرض لرسائل النور ومسّ طلابها بسوء، فيزلـّون الى البلاهة والـجنون ويتخبطون خبط عشواء.

مثال ذلك:

لـم يـجد الـجواسيس الذين راقبونا لـمدة شهر شيئاً علينا، لذا لفـّقوا التقرير الآتي: ان خادم ((سعيد)) قد اشترى له الـخمر من حانوت. الاّ أنهم لـم يـجدوا أحداً يوقـّع على هذا التقرير تصديقاً لـهم، الاّ شخصاً غريباً وسكيراً في الوقت نفسه، فطلبوا منه – تـحت الضغط والتهديد – ان يوقع مصدقاً على ذلك التقرير، فردّ عليهم: ((استغفر الله من يستطيع أن يوقع مصدقاً هذا الكذب العجيب)) فاضطروا الى اتلاف التقرير.

مثال آخر

لـحاجتي الشديدة لاستنشاق الـهواء النقي، ولـما يُعلم من اعتلال صحتي، فقد أعارني شخص لاأعرفه – ولـم اتعرف عليه لـحدّ الآن – عربة ذات حصان لأتنزه بها خارج البلدة فكنت اقضي ساعة او ساعتين في هذه النزهة، وكنت قد وعدت صاحب العربة والـحصان بأن أوفي اجرتها كتباً تثمن بـخمسين ليرة، لئلا أحيد عن قاعدتي التي اتـخذتها لنفسي، ولئلا أظل تـحت منـّة أحد من الناس واذاه.. فهل هناك احتمال لان ينجم ضرر ما من هذا العمل؟! غير أن دائرة الشرطة ودائرة العدل والامن الداخلي وحتى الـمحافظ نفسه استفسر باكثر من خـمسين مرة: لـمنْ هذا الـحصان؟ ولـمن هذه العربة؟ وكأنه قد حدثت حادثة سياسية خطيرة للاخلال بالأمن والنظام! مـما اضطر ان يتطوع أحد الاشخاص لقطع دابر هذه الاستفسارات السخيفة الـمتتالية فيدّعي أن الـحصان ملكه، وادّعى آخر بان العربة له، فصدر الامر بالقبض عليهما واودعا معي في السجن. فبمثل هذه النماذج اصبحنا من الـمتفرجين على لعب الصبيان ودُماهم، فبكينا ضاحكين وحزنـّا ساخرين، وعرفنا أن كل من يتعرض لرسائل النور ولطلابها يصبح اضحوكة وموضع هزء وسخرية.

واليك مـحاورة لطيفة من تلك النماذج: لقد قلتُ للـمدعي العام – قبل ان اطلـّع على ماكتب في مـحضر اتهامي من الاخلال بالامن – قلت له: لقد اغتبتك امس اذ قلت لأحد افراد الشرطة الذي استجوبني نيابة عن مدير الامن: ((ليهلكني الله – ثلاثة مرات – ان لـم اكن قد خدمت الامن العام لـهذا البلد أكثر من الف مدير أمن واكثر من ألف مدع عام..)).

ثم انني في الوقت الذي كنتُ في أمسّ الـحاجة الى الاخلاد الى الراحة وعدم الاهتمام بهموم الدنيا والابتعاد نهائياً عن البرد، فان قيام هؤلاء بنفيي – في هذه الفترة من البرد بالذات – وتهجيري من مدينة لاخرى بـما يفوق تـحملي، ومن ثم توقيفي والتضيق عليّ باكثر من طاقتي وبـما يشعر أنه حقدٌ دفين وأمر متعمد مقصود.. كل ذلك ولـّد عندي غيظاً وامتعاضاً غير اعتيادي تـجاه هؤلاء. ولكن العناية الإلـهية أغاثتني فنبهت القلب الى هذا الـمعنى:

ان للقدر الإلـهي – الذي هو عدل مـحض – حصةً عظيمةً جداً فيما يسلطه عليك هؤلاء البشر من الظلم البيـّن، وان رزقك في السجن هو الذي دعاك الى السجن، فينبغي اذاً ان تقابل هذه الـحصة بالرضى والتسليم.

وان للـحكمة الربانية ورحـمتها حظاً وافراً ايضاً كفتح طريق النور والـهداية الى قلوب الـمساجين وبث السلوان والأمل فيهم، ومن ثم احراز الثواب لكم؛ لذا ينبغي تقديم آلاف الـحمد والشكر لله – من خلال الصبر – تـجاه هذا الـحظ العظيم.

وكذا فان لنفسك انت ايضاً حصتها حيث ان لـها مالاتعرف من التقصيرات.. فينبغي مقابلة هذه الـحصة ايضاً بالاستغفار والتوبة والانابة الى الله وتأنيب النفس بأنها مستحقة لـهذه الصفعة.

وكذا فان بعض الـموظفين السذج والـجبناء الـمنخدعين الذين يساقون الى ذلك الظلم بدسائس الاعداء الـمتسترين منهم حصة ايضاً ونصيب، فرسائل النور قد ثأرت لك ثأراً كاملاً من هؤلاء الـمنافقين بـما أنزلت بهم من صفعاتها الـمعنوية الـمدهشة. فـحسبهم تلك الضربات.

أما الـحصة الاخيرة فهي لاولئك الـموظفين الذين هم وسائط فعلية. ولكن لكونهم منتفعين حتماً من جهة الإيـمان – سواء أرادوا أم لـم يريدوا – عند نظرهم الى رسائل النور وقراءتهم لـها بنيـّة النقد او الـجرح، فان العفو والتجاوز عنهم وفق دستور } والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس { (آل عمران:134) هو شهامة ونـجابة.

وبعد ان تلقيت هذا التنبيه والـتحذير الذي كلـّه حق وحقيقة قررت أن أظل صابراً وشاكراً جذلاً في هذه الـمدرسة اليوسفية الـجديدة. بل قررت أن أساعد وأعاون حتى اولئك الذين يسيئون اليّ ويـخاصمونني مؤدباً نفسي بتقصير لا ضرر منه.

ثم ان من كان مثلي في الـخامسة والسبعين من عمره، وقد انقطعت علاقاته مع الدنيا ولـم يبق من احبابه في الدنيا الاّ خـمسٌ من كل سبعين شخص، وتقوم سبعون ألف نسخة من رسائل النور بـمهمته النورية بكل حرية، وله من الاخوان ومن الورثة مَن يؤدون وظيفة الإيـمان بآلاف الالسنة بدلاً من لسان واحد.. فالقبر لـمثلي اذاً خير وأفضل مائة مرّة من هذا السجن. فضلاً عن أن هذا السجن هو اكثر نفعاً واكثر راحة بـمائة مرة من الـحرية الـمقيدة في الـخارج، ومن الـحياة تـحت تـحكـّم الآخرين وسيطرتهم؛ لان الـمرء يتحمل مضطراً مع مئات الـمساجين تـحكماً من بعض الـمسؤولين؛ امثال الـمدير ورئيس الـحراس بـحكم وظيفتهم، فيجد سلواناً وإكراماً أخوياً من اصدقاء كثيرين من حوله، بينما يتحمل وحده في الـخارج سيطرة مئات الـموظفين والـمسؤولين.

وكذلك الرأفة الإسلامية والفطرة البشرية تسعيان بالرحـمة للشيوخ ولاسيما من هم في هذه الـحالة فتبدلان مشقة السجن وعذابه الى رحـمة ايضاً.. لاجل كل ذلك فقد رضيت بالسجن..

وحينما قُدمت الى هذه الـمحكمة الثالثة جلست على كرسي خارج باب الـمحكمة لـما كنت أحسّ من النصب والضيق في الوقوف لشدة ضعفي وشيخوختي ومرضي. وفجأة أتى الـحاكم وقال مغاضباً مع إهانة وتـحقير: لـمَ لا ينتظر هذا واقفاً؟!.

ففار الغضب في اعماقي على انعدام الرحـمة للشيب، والتفتُّ واذا بـجمع غفير من الـمسلمين قد احتشدوا حولنا ينظرون الينا بعيون ملؤها الرأفة، بقلوب ملؤها الرحـمة والاخوة، حتى لـم يستطع أحد من صرفهم عن هذا التجمع، وهنا وردت الى القلب هاتان الـحقيقتان:

الاولى

ان اعدائي، واعداء النور الـمتسترين قد اقنعوا بعض الـموظفين الغافلين وساقوهم الى مثل هذه الـمعاملات الـمهينة كي يـحطموا شخصيتي امام أنظار الناس، ويصرفوا ما لا أرغبه أبداً من توجه الناس واقبالـهم عليّ، ظناً منهم أنهم يتمكنون بذلك من إقامة سدّ منيع امام سيل فتوحات النور. فتجاه تلك الاهانة الصادرة من رجل واحد فقد صرفت العناية الإلـهية نظري الى هؤلاء ((الـمائة)) إكراماً منها للـخدمة الإيـمانية التي تقدمها رسائل النور وطلابها قائلة: ((انظر الى هؤلاء، فقد أتوا للترحيب بكم لـخدمتكم تلك، بقلوب ملأى بالرأفة والـحزن والاعجاب والارتباط الوثيق)).

بل حتى في اليوم الثاني عندما كنت أجيب عن اسئلة حاكم التحقيق؛ إحتشد ألفٌ من الناس في الساحة الـمقابلة لنوافذ الـمقر. كانت ملامح وجوههم تعبـّر عن وضعهم، وتقول: ((لاتضايقوا هؤلاء)). ولشدة ارتباطهم بنا، عجزت الشرطة عن ان تفرقهم. وعند ذلك ورد الى القلب:

((ان هؤلاء الناس في هذا الوقت العصيب؛ ينشدون سلوانا كاملا، ونوراً لاينطفىء، وإيـماناً راسخاً، وبشارة صادقة بالسعادة الابدية، بل يبحثون عنها بفطرتهم، وقد طرق سـمعُهم أن ما يبحثون عنه موجود فعلاً في رسائل النور، لذا يبدون هذا الاحترام والقدر لشخصي – الذي لا اهمية له – بـما يفوق طاقتي وحدي، من موقع كوني خادماً للإيـمان، وعسى أن اكون قد قمت بشيء من الـخدمة له)).

الـحقيقة الثانية

لقد ورد الى القلب: انه حيال اهانتنا والاستخفاف بنا بحجة اخلالنا بالامن العام، وازاء صرف اقبال الناس عنا بالـمعاملات الدنيئة التي يقوم بها اشخاص معدودون من الـمغرربهم.. فان هناك الترحيب الـحار والقدر اللائق لكم من قبل اهل الـحقيقة وابناء الـجيل القادم. نعم، في الوقت الذي تنشط الفوضى والارهاب الـمتستـّر بستار الشيوعية للاخلال بالأمن العام، فان طلاب رسائل النور يقفون ذلك الأفساد الـمرعب، في جـميع ارجاء البلاد ويكسرون شوكته بقوة الإيـمان التحقيقي، ويسعون حثيثاً لإحلال الأمن والنظام مكان الـخوف والفوضى، فلـم تظهر في العشرين سنة السابقة اية حادثة كانت حول اخلالـهم بالأمن، رغم كثرة طلاب النور وانتشارهم في جـميع انـحاء البلاد، فلـم يـجد ولـم يسجل عليهم أحد من الضباط الـمسؤولين حدثاً، في عشر ولايات وعبر حوالي اربع محاكم ذات علاقة، بل لقد قال ضباط منصفون لثلاث ولايات: ((ان طلاب النور ضباط معنويون للأمن في البلاد، انهم يساعدوننا في الـحفاظ على الامن والنظام لـما يـجعلون من فكر كل من يقرأ رسائل النور بالإيـمان التحقيقي حارساً ورقيباً عليه فيسعون بذلك للحفاظ على الأمن العام)).

وسجن ((دنيزلي)) مثال واضح ونـموذج جيد لـهذا الكلام، فما ان دخل طلاب النور ورسالة ((الثـمرة)) التي كتبت للـمسجونين حتى تاب اكثر من مائتي سجين وتـحلـّوا بالطاعة والصلاح، وذلك في غضون ثلاثة أشهر أو تزيد. حتى أن قاتلاً لاكثر من ثلاثة اشخاص كان يتحاشى أن يقتل ((بقة الفراش). فلم يعد عضواً لا يضر، بل اصبح نافعاً رحيماً للبلاد.

فكان الـموظفون الـمسؤولون ينظرون الى هذا الوضع بـحيرة واعجاب، حتى صرّح بعض الشباب قبل ان يستلموا قرار الـمحكمة: ((اذا لبث طلاب النور في السجن فسنحكم على انفسنا وندينها لنظل معهم ونتتلمذ عليهم ونصلح انفسنا بارشاداتهم لنكون امثالـهم)). فالذين يتهمون طلاب النور الذين لـهم هذه الـخصائص والـخصال بإخلال الامن لامـحالة قد انـخدعوا بشكل مفجع، او خُدعوا، او انهم يغفلون اركان الـحكومة في سبيل الفوضى والارهاب – من حيث يعلمون او لا يعلمون – لذا يسعون لإبادتنا واقتحامنا في العذاب.

فنحن نقول لهؤلاء:

((مادام الـموت لايُقتل والقبر لايُغلق بابه، وقوافل البشرية في دار ضيافة الدنيا تغيب وتتوارى فيما وراء التراب بسرعة مذهلة.. فلا مناص اننا سنفترق في اقرب وقت، وسترون جزاء ظلمكم جزاءً رهيباً، وفي الاقل ستذوقون الـموت الذي هو رخصة من الـحياة عند اهل الإيـمان الـمظلومين، ستذوقونه إعداماً ابدياً لكم، فالاذواق الفانية التي تكسبونها بتوهمكم الـخلود في الدنيا ستنقلب الى آلام باقية مؤلـمة دائمة..

ان حقيقة الإسلام التي ظفرت بها هذه الامة الـمتدينة وحافظت عليها بدماء مئات الـملايين من شهدائها الذين هـم بـمرتبة الاولياء وسيوف ابطالـها الـمجاهدين يطلق عليها اليوم – مع الاسف- اعداؤنا الـمنافقون الـمتسترون اسم ((الطريقة الصوفية)) احياناً، ويظهرون الطريقة الصوفية التي هي شعاع واحد من اشعة تلك الشمس الـمنيرة انها الشمس نفسها ليموهو على بعض الـموظفين السطحيين. مطلقين على طلاب النور الذين يسعون بـجد ونشاط الابراز حقيقة القرآن وحقائق الإيـمان اسم ((اهل الطريقة الصوفية)) او ((جمعية سياسية)) ولا يبغون من ورائها الاّ التشويه والتحريض علينا. فنحن نقول لـهؤلاء ولكل من يصغي اليهم قولتنا التي قلناها امام مـحكمة دنيزلي العادلة:

((ان الـحقيقة الـمقدسة التي افتدتها ملايين الرؤوس فداءٌ لـها رأسنا ايضاً، فلو اشعلتم الدنيا على رؤوسنا ناراً فلن ترضخ تلك الرؤوس التي افتدت الـحقيقة القرآنية ولن تسلم القيادة للزندقة ولن تتخلـّى عن مهمتها الـمقدسة باذن الله)).

وهكذا فلا أستبدل بسنة واحدة من شيخوختي التي أنشأت حوادثُها اليأسَ والاعباء الثقيلة والتي اسعفها السلوان النزيه النابع من الإيـمان والقرآن، مع ما فيها من معاناة وضيق، عشر سنوات بهيجة سارة من حياة شبابي. وبالاخص اذا كان كل ساعة من ساعات التائب الـمقيم لفرائضه في السجن بـحكم عشر ساعات له من العبادة، وان كُل يوم يـمـّر بالـمريض وهو مظلوم يـجعل صاحبه يفوز بثواب عشرة ايام خالدة، فكم يكون مثل هذه الـحياة مبعث شكر وامتنان لله لـمثلي الذي يترقب دوره وهو على شفير القبر.

نعم، فهذا هو الذي فهمته من ذلك التنبيه الـمعنوي، فقلت: شكراً لله بلا نهاية.. وفرحت بشيخوختي ورضيت بالسجن. حيث ان العمر لايتوقف بل يـمضي مسرعاً، فان مضى باللذة والفرح فانه يورث الـحزن والاسى؛ لان زوال اللذة يورث الألـم، وان مضى مشبعاً بالغفلة خاوياً من الشكر. فانه يترك بعض آثار الآثام ويفنى هو ويـمضي. ولكن اذا مضى العمر بالعناء والسجن، فلكون زوال الألـم يورث لذةً معنوية، وأن مثل هذا العمر يعدّ نوعاً من العبادة؛ لذا يظل باقياً من جهة، فيجعل صاحبه يفوز بعمر خالد بثـمرات خالدة خيـّرة، ومن جهة اخرى كفـّارة للذنوب السابقة وتزكية للاخطاء التي سببت السجن. فمن زاوية النظر هذه على الـمسجونين الذين يؤدون الفرائض أن يشكروا الله تعالى ضمن الصبر.

الرجاء السادس عشر

عندما ساقوني منفياً الى قسطموني(1) بعد أن اكملت سنة مـحكوميتي في سجن ((اسكي شهر)) وانا الشيخ الـهرم، مكثت موقوفاً هناك في مركز الشرطة حوالي ثلاثة اشهر. ولا يـخفى عليكم مدى الأذى الذي يلحق بـمثلي في مثل هذه الاماكن، وقد انعزل عن الناس، ولا يتحمل البقاء حتى مع اصدقائه الاوفياء، ولا يطيق أن يبدل زيـّه الذي اعتاد عليه(1).

فبينما كان اليأس يـحيط بي من كل جانب، اذا بالعناية الإلـهية تغيث شيخوختي، اذ اصبح افراد الشرطة الـمسؤولين في ذلك الـمخفر بـمثابة اصدقاء أوفياء، حتى كانوا يـخرجونني متى شئت للاستجمام والتجوال في سياحة حول الـمدينة وقاموا بـخدمتي كأي خادم خاص، فضلاً عن أنهم لـم يصروا عليّ بلبس القبعة مطلقاً.

ثم دخلت الـمدرسة النورية التي كانت مقابل ذلك الـمخفر في قسطموني وبدأت بتأليف الرسائل، وبَدأ كل من ((فيضي وامين وحلمي وصادق ونظيف وصلاح الدين)) وامثالـهم من ابطال النور يداومون في تلك الـمدرسة لاجل نشر الرسائل وتكثيرها، وأبدوا في مذكراتهم العلمية القيـّمة التي أمضوها هناك جدارة تفوق ما كنت قضيتها ايام شبابي مع طلابي السابقين.

ثم بدأ اعداؤنا الـمتسترون يحرَضون علينا بعضاً من الـمسؤولين وبعضاً مـمن يعتـّدون بأنفسهم والـمغرورين من العلماء والـمشايخ الصوفية، فأصبحوا الوسيلة في جـمعنا في تلك الـمدرسة اليوسفية ((سجن دنيزلي)) مع طلاب النور القادمين من عدة ولايات.

هذا وان تفاصيل هذا الرجاء السادس عشر هي في تلك الرسائل التي ارسلتها سراً من ((قسطموني)) والتي ضمت في كتاب ((ملحق قسطموني)) وفي الرسائل الـمقتضبة السرية التي كنت قد ارسلتها الى اخواني من سجن دنيزلي. ويرد تفاصيله ايضاً في ((الدفاع)) الـمرفوع امام مـحكمة دنيزلي.

فحقيقة هذا الرجاء تظهر بوضوح في ذلك، نـحيل الى تلك التفاصيل الـمذكورة في (الـملحق) و (الدفاع) ونشير هنا اشارة مـختصرة اليها:

لقد خبأتُ بعض الرسائل الـخاصة والـمجموعات الـمهمة ولاسيما التي تبحث عن دجـّال الـمسلمين (السفياني) وعن كرامات رسائل النور، خبـّأتها تـحت أكوام من الـحطب والفحم لأجل أن تنشر بعد وفاتي، او بعد أن تصغي آذان الرؤساء وتعي رؤوسهم الـحقيقة ويرجعوا الى صوابهم. كنت مطمئت البال من هذا العمل، ولكن ما ان داهم موظفو التحريات ومعاون الـمدعي العام البيت واخرجوا تلك الرسائل الـمهمة الـمخبوءة من تـحت اكوام الفحم والـحطب، ساقوني الى سجن ((اسبارطة)) وانا اعاني من اعتلال صحتي ما اعاني. وبينما كنت متألـماً بالغ الالـم ومستغرقاً في التفكير حول ما اصاب رسائل النور من اضرار، اذا بالعناية الربانية تأتي لأغاثتنا جـميعاً حيث بدأ الـمسؤولون الذين هـم في أمسّ الـحاجة الى قراءة تلك الرسائل الـمخبوءة القيمة، بدأوا بدراستها بكل اهتمام ولـهفة، فتحولت تلك الـمحافل الرسمية الى ما يشبه الـمدارس النورية، اذ انقلب النقد والـجرح عندهم الى نظرة الاعجاب والتقدير. حتى انه في (دنيزلي) قرأ الكثيرون سواء من الـمسؤولين او غيرهم – دون علمنا – رسالة ((الآية الكبرى)) الـمطبوعة بسرية تامة فازدادوا أيـماناً واصبحوا سبباً لـجعل مصيبتنا كأن لـم تكن.

ثم ساقونا الى سجن دنيزلي وزجـّوني في ردهة كبيرة ذات عفونة ورطوبة شديدتين فوق ما فيها من برودة شديدة، فاعتراني حزن وألـم شديدان من جراء ابتلاء اصدقائي الابرياء بسببي فضلاً عن الـحزن النابع مـما اصاب انتشار ((النور)) من عطل ومصادرة مع ما كنت اعانيه من الشيب والـمرض.. كل ذلك جعلني اتقلب مضطرباً في ضجر وسأم.. حتى اغاثتني العناية الربانية فحوّلت ذلك السجن الرهيب الى مدرسة نورية، فحقاً ان السجن مدرسة يوسفية، وبدأت رسائل النور بالانتشار والتوسع حيث بدأ أبطال ((مدرسة الزهراء)) بكتابة تلك الرسائل بأقلامهم الالـماسية. حتى أن بطل النور قد استنسخ اكثر من عشرين نسخة من رسالتي ((الثـمرة)) و((الدفاع)) خلال مدة لـم تتجاوز اربعة اشهر، مع ضراوة تلك الظروف الـمحيطة، فكانت تلك النسخ سبباً للفتوحات في السجن وفي خارجه فحوّل ضررنا في تلك الـمصيبة الى منافع وبدّل ضجرنا وحزننا الى افراح، مبدياً مرة اخرى سراً من اسرار الآية الكريـمة } وعَسى أنْ تَكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكُم { (القرة:216).

ثم وُزّع ضدنا بيان شديد اللهجة بناء على التقرير السطحي الـخاطيء الـمقدَّم من قبل ((الـخبراء الاوليين)) وشنّ وزير التربية هجوماً عنيفاً علينا، مـما حدا بالبعض أن يطالب باعدامنا بل قد سعوا في الامر.

وفي هذا الوقت العصيب بالذات جاءتنا العناية الربانية فأسعفتنا ايضاً، اذ بينا ننتظر انتقادات لاذعة عنيفة من ((خبراء انقرة)) اذا بتقاريرهم الـمتضمنة للاعجاب والتقدير برسائل النور، واذا بهم لـم يـجدوا من مـجموع خـمسة صناديق من رسائل النور الاّ بضعة اخطاء لاتتجاوز العشرة، وقد وضحـّنا امام الـمحكمة واثبتنا كذلك ان هذه الاخطاء التي أوردوها ليست أخطاءً، بل الـحقيقة بعينها، وان الـخبراء هم انفسهم على خطأ فيما يدّعون، وبيـّنا أن في تقريرهم الـمتكون من خـمس اوراق حوالي عشرة اخطاء.

وبينما كنا ننتظر التهديد والاوامر الـمشددّة من الدوائر الرسـمية السبع التي ارسلت اليها رسائل الثـمرة والدفاع كما اُرسلت الى دائرة العدل جـميع الرسائل، ولاسيما تلك الرسائل الـخاصة الـمتضمنة للصفعات الشديدة والتعرض لاهل الضلالة.. اجل بينما كنا ننتظر التهديد العنيف منهم، إذا بتقاريرهم الـمسلـّية وهي في منتهى اللين والرقة – الشبيهة بتلك الرسالة التي بعثها رئيس الوزراء الينا – وكأنهم يبدون رغبتهم في الـمصالـحة معنا. فأثبت – كل هذا – اثباتاً قاطعاً ان حقائق رسائل النور بفضل العناية الإلـهية وكرامتها قد غلبتهم وانتصرت عليهم حتى جعلتهم يقرأونها ويسترشدون بها، وحولت تلك الدوائر الرسـمية الواسعة الى ما تشبه الـمدارس النورية، وانقذت كثيراً من الـحيارى والـمترددين وشدّت من ايـمانهم، مـما ملأنا بهجة وسروراً هو اضعاف اضعاف ما كنا نعانيه من ضيق وضجر.

ثم دسّ الاعداء الـمتسترون السـُّم في طعامي، ونقل بطل النور الشهيد (حافظ علي) على اثرها الى الـمستشفى بدلاً عني، ومن ثم ارتـحل الى عالـم البرزخ ايضاً عوضاً عني، مـما جعلنا نـحزن كثيراً ونبكي بكاءً حاراً عليه.

لقد قلت يوماً – قبل نزول هذه الـمصيبة بنا – وانا على جبل قسطموني. بل صرخت مراراً: يا اخواني ((لاتلقوا اللـحم امام الـحصان ولا العشب امام الاسد)) بمعنى: لا تعطوا كل رسالة أياً كان حذراً من أن يتعرضوا لنا بسوء. وكأن الاخ ((حافظ علي)) قد سمع بهاتفه الـمعنوي كلامي هذا (وهو على بعد مسيرة سبعة ايام)). فكتب اليّ – في الوقت نفسه – يقول : ((نعم يا استاذي.. انها من احدى كرامات رسائل النور وخصائصها أنها لا تعطي اللحم الـحصان ولا العشب الأسد، بل تعطي العشب الـحصان واللحم الاسد!)) حتى اعطى ذلك العالِم رسالة الاخلاص، وبعد سبعة ايام تسلمنا رسالته هذه، وبدأنا بالعدّ والـحساب فعلمنا انه قد كتب تلك العبارة الغريبة نفسها في الوقت الذي كنت ارددها من فوق جبل قسطموني.

فوفاة بطل معنوي مثل هذا البطل من ابطال النور، والـمنافقون يسعون لادانتنا وانزال العقوبة بنا، علاوة على قلقي الـمستمـرّ من اخذهم إياي بأمر رسـمي الى الـمستشفى لـمرشي الناشيئ من التسمم.. في هذا الوقت وجـميع هذه الـمضايقات تـحيط بنا، اذا بالعاية الإلـهية تأتي لإمدادنا؛ فلقد أزال الدعاء الـخالص الـمرفوع من قبل اخواني الطيبين خطر التسمم. وهناك أمارات قوية جداً تدل على أن ذلك البطل الشهيد منهمك في قبره برسائل النور وانه يـجيب بها عن اسئلة الـملائكة. وان بطل دنيزلي ((حسن فيضي)) (تغمده الله برحـمته) واصدقاءه الاوفياء سيحلون مـحله فيقومون بـمهمته في خدمة النور سراً.. وان اعداءنا قد انضموا الىالرأي القائل بضرورة اخراجنا من السجن خوفاً من سعة انتشار الرسائل بين الـمساجين وسرعة استجابتهم لـها ليحولوا بيننا وبين السجناء وقد حوّل تلاميذ النور تلك الـخلوة الـمزعجة الى ما يشبه كهف اصحاب الكهف، اولئك الفتية الـمؤمنون، أو ما يشبه مغارات الـمنزوين من الزهاد، وسعوا بكل اطمئنان وسكينة في كتابة الرسائل ونشرها.. كل ذلك أثبت ان العناية الإلـهية كانت تـمدّنا وتغيثنا.

ولقد خطر للقلب: مادام الامام الاعظم ((ابو حنيفة النعمان)) وامثاله من الائمة الـمجتهدين قد اوذوا بالسجن وتـحملوا عذابه، وان الامام احـمد بن حنبل وامثاله من الـمجاهدين العظام قد عذّبوا كثيراً لاجل مسألة واحدة من مسائل القرآن الكريـم. وقد ثبت الـجميع امام تلك الـمحن القاسية وكانوا في قمة الصبر والـجلد، فلـم يُبد احدهم الضجر والشكوى، ولـم يتراجع عن مسألته التي قالـها. وكذا علماء عظام كثيرون وأئمة عديدون لـم يتزلزلوا قط امام الآلام والاذى الذي نزل بهم، بل صبروا شاكرين لله تعالى، مع أن، البلاء الذي نزل بهم كان أشدّ مـما هو نازل بكم، فلابد أن في اعناقكم دَين الشكر لله تبار وتعالى شكراً جزيلاً على ما تتحملونه من العذاب القليل والـمشقة اليسيرة التنازلة بكم في سبيل حقائق عديدة للقرآن الكريم مع الثواب الـجزيل والاجر العميم.

وسأبين هنا باختصار احدى تـجليات العناية الربانية من خلال الظلم الذي يقترفه البشر:

كنت اكرر واقول في العشرين من عمري: سأنزوي في اخريات حياتي في مغارة، مبتعداً عن الـحياة الاجتماعية كما كان ينزوي الزهاد في الـجبال، وكذلك قررت عندما كنت اسيراً في شـمال روسيا في الـحرب العالـمية الاولى أن سأقضي بقية ايام عمري في الكهوف والـمغارات منسلاً عن الـحياة الاجتماعية والسياسية. كفاني تدخلاً.. فتجلت العناية الربانية وعدالة القدر – رحـمة بشيخوختي – وحولتا تلك الـمغارات التي كنت أتصورها الى ما هو خير وافضل منها، وبـما يفوق كثيراً رغبتي وقراري.. حوّلتا الى سجون انزواء وانفراء، ومنحتا لي ((مدارس يوسفية)) بدلاً عن تلك الـمغارات في الـجبال للـمنزوين واهل الرياضة الروحية، لئلا تضيع اوقاتنا سدىً، حيث ان في تلك الـمغارات فوائد اخروية زيادة عما فيها من اداء مهمة الـجهاد لاجل القرآن والـحقائق الإيـمانية. حتى عزمت – بعد الافراج عن اخواني وتبرئتهم – أن أظهر شيئا يدينني ويبقيني في زنزانة السجن مع ((خسرو وفيضي)) وامثالـهم من الـمجاهدين الـمخلصين الـمتفرغين للخدمة لأتـخذها حجة تغنيني عن الاختلاط بالناس ولئلا أضيـّع شيئاً من وقتي فيما لايعني من الامور وبالتصنع وحب الظهور، حيث البقاء في ردهات السجن افضل، الاّ ان القدر الإلـهي وما قسم الله لنا من رزق قد ساقني الى مـحل انزواء آخر. فحسب مضمون (الـخير فيما اختاره الله) وبسر الآية الكريـمة } وعَسى أنْ تَكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكُم { (القرة:216) ورحـمة بشيخوختي، ولاجل ان نسعى بشوق اكثر في الـخدمة الإيـمانية، فقد وُهبتْ لنا مهمة، وأوكلت الينا وظيفة، هي خارج إرادتنا وطوقنا في هذه الـمدرسة اليوسفية الثالثة.

نعم ان في تـحويل العناية الإلـهية مغارات عهد الشباب الذي لـم يكن له اعداء شرسون، لي ردهات السجن الـمنفرد، ثلاث حِكم وثلاث فوائد مهمة لـخدمة النور:





T الـحكمة والفائدة الاولى

اجتماع طلاب النور في هذا الوقت دون ان يتضرر منهم احد انـّما يكون في ((الـمدرسة اليوسفية)). حيث ان اللقاء فيما بينهم في الـخارج قد يثير الشبهة ويـحتاج الى مصاريف، اذ كان بعضهم ينفق حوالي خـمسين ليرة لاجل لقائي مدة لاتزيد عن عشرين دقيقة، او كان يرجع دون أن يتمكن من مقابلتي. لذا فأنا اتـحمل ضيق السجن بل أتقبله مسروراً لاجل اللقاء عن قرب مع بعض اخوتي الاوفياء، فالسجن بالنسبة لنا اذن نعمة ورحـمة.

T الـحكمة والفائدة الثانية

انه لابّد من الاعلان والتبليغ في كل جهة في وقتنا هذا عن خدمة الإيـمان برسائل النور، ولفت أنظار الـمحتاجين اليها في كل مكان. فدخولنا السجون يلفت الانظار الى الرسائل، فيكون اذن بـمثابة اعلان عنها، فيجدها اعتى الـمعاندين والـمحتاجين فتكسر بها شوكة عنادهم وينقذون بها ايـمانهم، وينجون من الـمهالك، وتتوسع دائرة مدارس النور.

T الـحكمة والفائدة الثالثة

ان طلاب النور الذين دخلوا السجن يتعرف كل منهم على احوال الآخر، ويتعلم كل منهم من الآخر السجايا الـحميدة والاخلاص والتضحية، فلا يبالون بعدئذٍ بالـمنافع الدنيوية في الـخدمة النورية.

نعم انهم يوفقون بالظفر بالاخلاص الكامل لـما يـجدون ويرون من أمارات كثيرة تدل على ان كل ضيق ومشقة في الـمدرسة اليوسفية لـها عشرة اضعافها من الفوائد الـمعنوية والـمادية، ومن النتائج اللطيفة، ومن الـخدمات الواسعة الـخالصة للإيـمان، بل قد تصل الى مائة صعف، وعندئذٍ لا يتنازلون لكسب الـمنافع الـخاصة الجزئية.

وبالنسبة لي فان لأماكن الانزواء والـمعتكفات هذه لطافة حزينة الاّ أنها لذيذة وهي كما يأتي:

اني أجد هنا من الاوضاع والاحوال ما كنت اجدها في ايام شبابي في بلدتي وفي مدرستي القديـمة، حيث كان طعام قسم من طلاب الـمدارس – حسب عادة الولايات الشرقية – يأتيهم من خارج الـمدرسة وقسم آخر يطبخونه فيما بينهم في الـمدرسة، فكما نظرت هنا – مع حالات اخرى متشابهة 0 تذكرت تلك الـحالة ايام شبابي من خلال حسرة لذيذة فأذهب خيالاً الى تلك الايام، وأنسى حالات شيخوختي.

ذيل اللمعة السادسة والعشرين

هو الـمكتوب الـحادي والعشرون، نشر ضمن ((الـمكتوبات))

اللمعة السابعة والعشرون

هي دفاع الاستاذ النورسي امام مـحكمة اسكي شهر، ينشر في مـجموعة

((سيرة ذاتية))
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس