الموضوع: المكتوبات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-2011
  #12
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب الثاني عشر

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

السلام عليكم وعلى رفقائكم!

اخوتي الاعزاء!

لقد سألتموني في تلك الليلة سؤالاً لم اجب عنه، لأن البحث في المسائل الايمانية والخوض فيها على صورة مناقشات غير جائز. فانتم قد بسطتم الموضوع على بساط النقاش. والآن اكتب جواباً في غاية الاختصار عن الاسئلة الثلاثة التي هي اساس نقاشكم. وتجدون تفاصيله في ((الكلمات)) التي سجل اسماءها ((السيد الصيدلي)) الاّ انه لم ترد ببالي ((الكلمة السادسة والعشرون)) الخاصة بالقدر والجزء الاختياري، فلم اذكرها، راجعوها، ولكن لا تقرأوها قراءة الجرائد والصحف. والسبب الذي دعاني الى احالتي السيد الصيدلي الى مطالعة تلك ((الكلمات)) هو ان الشبهات التي ترد في امثال تلك المسائل نابعة من ضعف الاعتقاد في الاركان الايمانية، وأن تلك ((الكلمات)) تثبت الاركان الايمانية بتمامها اثباتاً كاملاً.

u سؤالكم الاول: ما الحكمة في اخراج سيدنا آدم عليه السلام من الجنة؟ وما الحكمة في ادخال قسم من بني آدم جهنم؟

الجواب: حكمته: التوظيف.. فقد بُعثَ الى الارض موظفاً، موكولاً اليه مهمة جليلة، بحيث ان نتائج تلك الوظيفة هي جميع انواع الرقي المعنوي البشري، وانكشاف جميع استعدادات البشر ونمائها، وصيرورة الماهية الانسانية مرآة جامعة للاسماء الإلهية الحسنى كلها.

فلو كان سيدنا آدم عليه السلام باقياً في الجنة لبقى مقامه ثابتاً كمقام المَلَك، وَلما نمت الاستعدادات البشرية. بينما الملائكة الذين هم ذوو مقام ثابت مطرد كثيرون فلا داعي الى الانسان للقيام بذلك النوع من العبودية. فاقتضت الحكمة الإلهية وجود دار تكليف تلائم استعدادات الانسان التي تتمكن من قطع مقامات لا نهاية لها. ولذلك اُخرج آدم عليه السلام من الجنة بالخطيئة المعروفة التي هي مقتضى فطرة البشر خلاف الملائكة.

اي ان اخراج آدم عليه السلام من الجنة، هو عين الحكمة ومحض الرحمة. كما ان ادخال الكفار جهنم حق وعدالة، مثلما جاء في ((الاشارة الثالثة من الكلمة العاشرة)) ان الكافر وإن عمل ذنباً في عمر قصير، الاّ أن ذلك الذنب ينطوي على جناية لا نهاية لها؛ ذلك لأن الكفر تحقير للكائنات جميعاً وتهوين من شأنها.. وتكذيب لشهادة المصنوعات كلها للوحدانية.. وتزييف للاسماء الحسنى المشهودة جلواتها في مرايا الموجودات.. ولهذا يلقى القهارالجليل، سلطان الموجودات، الكفارَ في جهنم ليخلدوا فيها، أخذاً لحقوق الموجودات كلها منهم.

والقاؤهم في جهنم ابداً هو عين الحق والعدالة، لأن جناية بلا نهاية تقتضي عذاباً بلا نهاية.

u سؤالكم الثاني: لماذا خلقت الشياطين؟ فلقد خلق الله سبحانه وتعالى الشيطان والشرور، فما الحكمة فيه؟ اذ خلق الشر شر وخلق القبح قبيح!.

الجواب: حاشَ لله.. وكلا.. ان خلق الشر ليس شراً، بل كسب الشر شر، لأن الخلق والايجاد يتطلع الى جميع النتائج ويتعلق بها، بينما الكسب يتعلق بنتائج خصوصية، لأنه مباشرةٌ خاصة. فمثلاً: ان النتائج المترتبة على نزول المطر تبلغ الالوف، وجميعها نتائج حسنة وجميلة، فاذا ما تضرر أحدهم من المطر بسوء تصرفه وعمله، فليس له الحق ان يقول: ان ايجاد المطر لا رحمة فيه. وليس له أن يحكم بأن خلق المطر شر، بل صار شراً في حقه بسوء اختياره وسوء تصرفه وبكسبه هو بالذات.

وكذا خلق النار، فيه فوائد كثيرة جداً، وجميعها خير، ولكن لو تأذى أحدهم من النار بسوء كسبه وباستعماله السئ لها، فليس له أن يقول: ان خلق النار شر، اذ النار لم تخلق لإحراقه فقط، بل هو الذي أدخل يده في النار التي تطبخ له طعامه، فجعل بسوء عمله تلك الخادمة المطيعة عدوة له.

حاصل الكلام: ان شراً قليلاً يُقبل به للحصول على خير كثير، اذ لو ترك شرٌ ينتج خيراً كثيراً للحيلولة دون حصول ذلك الشر القليل، لحصل عندئذٍ شر كثير.

مثال ذلك: عند سوق الجيش الى الجهاد لابد من حدوث اضرار وشرور جزئية مادية وبدنية، ومن المعلوم كذلك ان في الجهاد خيراً كثيراً حيث ينجو الاسلام من سيطرة الكفار، فلو ُترك الجهاد خشية حدوث تلك الاضرار والشرور القليلة لحصل اذاً شر كثير من دون الحصول على خير كثير، وهذا هو عين الظلم. ومثال آخر: ان قطع الأصبع التي اصابها (الغنغرينا) فيه خير وهو حسن، بينما يبدو ذلك القطع في الظاهر شراً، ولكن لو لم تقطع تلك الاصبع لقطعت اليد، فيحصل آنذاك شر أكبر.

وهكذا فان خلق الشرور والاضرار والبلايا والشياطين، ليس شراً ولا قبيحاً لأن هذه الامور خُلقت للحصول على نتائج مهمةكثيرة جداً. فالملائكة مثلاً لا درجات رقي لهم، وذلك لعدم تسلط الشياطين عليهم؛ لذا يكون مقامهم ثابتاً لا يتبدل. وكذا الحيوانات فان مراتبها ثابتة وناقصة حيث لم تسلط عليها الشياطين. بينما في عالم الانسان تمتد المسافة بين مراتب الرقي ودركات التدني الى أبعاد مديدة طويلة جداً، اذ بدءً من النماردة والفراعنة وانتهاءً الى الصدّيقين والاولياء والانبياء عليهم السلام هناك مراتب للرقي والتدني؛ لذا بخلق الشياطين؛ وبسر التكليف، وبارسال الانبياء، انفتح ميدان الامتحان والتجربة والجهاد والمسابقة، وبه تتميز الارواح السافلة التي هي كالفحم في خساسته عن الارواح العالية التي هي كالالماس في نفاسته.فلولا المجاهدة والمسابقة لبقيت الاستعدادات كامنة في جوهر الانسانية، اي لتساوى الفحم والالماس. اي لتساوت الروح السامية لسيدنا ابى بكر الصديق رضى الله عنه وهي في اعلى عليين مع روح ابي جهل التي هي في اسفل سافلين!

اذاً فخلق الشياطين والشرور وايجادها ليس شراً وليس؛ قبيحاً؛ لأنه متوجه نحو نتائج كلية وعظيمة. بل الشرور والقبائح الناتجة انما هي حاصلة من سوء الاستعمال ومن الكسب الانساني الذي هو مباشرةٌ خاصة، راجعة الى الكسب الانساني وليست الى الخلق الإلهي.

u واذا سألتم:

ان كثيراً من الناس يسقطون في هاوية الكفر والضلال بوجود الشياطين ويتضررون من جرائهم على الرغم من بعثة الانبياء عليهم السلام. وحيث ان الحكم جار على الاكثرية، وان الاكثرين يتضررون، فخلق الشر اذاً شر، بل يمكن ان يقال ان بعثة الانبياء ليست رحمة!

فالجواب: انه لا اعتبار للكمية بالنسبة الى النوعية، فالاكثرية في الحقيقة متوجهة اصلاً الى النوعية، لا الى الكمية. فلو كانت هناك مائة نواة للتمر - مثلاً - ولم توضع تحت التراب ولم تسق بالماء، اي إن لم تحدث فيها تفاعلات كيمياوية، اي ان لم تنل مجاهدة حياتية، فانها تظل على حالها مائة نواة وتساوي قيمتها مائة درهم. بينما اذا سقيت بالماء وتعرضت لمجاهدة حياتية فتفسخت من جرائها، وبسوء طبعها، ثمانون منها، ونمت عشرون منها نخلاً مثمراً، أفيمكنك ان تقول: ان سقي تلك البذور شر حيث أفسد الكثير منها! لا تستطيع قول ذلك بلا شك، لان تلك النوى العشرين قد اصبحت بمثابة عشرين الف نواة، فالذي يفقد الثمانين ويكسب العشرين ألفاً لاشك انه غانم لم يتضرر، فلا يكون السقي اذاً شراً.

وكذا لو وجدت مائة من بيض الطاووس - مثلاً - فثمنها يساوي ثمن البيض وهو خمسمائة قرش ولكن اذا حضنت تلك المائة من البيض وفرخ عشرون منها، وفسدت الثمانون الباقية، هل يمكن ان يقال حينئذٍ ان ضرراً كبيراً قد حدث، أو أن هذه المعاملة شر، أو أن حضانة الطاووسة على البيض عمل قبيح.. لاشك ان الجواب ليس كذلك، بل العمل هذا خير، لأن الطاووس وبيضه قد كسبا عشرين طاووساً اثمانها باهظة بدلاً عن تلك البيوض الكثيرة الزهيدة الثمن.

وهكذا فقد غنم النوع البشري مائة الف من الانبياء عليهم السلام وملايين الاولياء وملايين الملايين من الاصفياء الذين هم شموس عالم الانسانية واقمارها ونجومها، ببعثة الانبياء وبسر التكليف وبمحاربة الشياطين، ازاء ما خسره من المنافقين - الكثيرين كماً والتافهين نوعاً - والكفار الذين هم ضرب من الحيوانات المضرة.

u سؤالكم الثالث: ان الله سبحانه وتعالى ينزل المصائب ويسـلط البلايا، ألا يكون هذا ظلماً على الابرياء بل حتى على الحيوانات؟

الجواب: حاشَ لله وكلا.. فان المُلك ملكه وحده، وله أن يتصرف فيه كيف يشاء. تُرى لو ان صنّاعاً ماهراً جعلك نموذجاً ((موديلاً)) مقابل اجرة، وألبسك ثوباً زاهياً خاطه بأفضل ما يكون، ثم بدأ يقصّره ويطوله ويقصه.. ثم يقعدك وينهضك ويثنيك.. كل ذلك لكي يبين حذاقته ومهارته، فهل لك أن تقول له: لقد شوهت جمال ثيابي الذي زادني جمالاً، وقد ارهقتنى لكثرة ما تقول لي: اجلس.. إنهض! فلا ريب انك لا تقدر على هذا القول. بل لو قلته، فهو دليل الجنون ليس الاّ.

وعلى غرار هذا فان الصانع الجليل قد ألبسك جسماً بديعاً مزيناً بالعين والاذن والانف وغيرها من الاعضاء والحواس. ولأجل اظهار آثار اسمائه الحسنى المتنوعة يبتليك بانواع من البلايا فيمرضك حيناً ويمتعك بالصحة احياناً اخرى، ويجيعك مرة ويشبعك تارة ويظمئك اخرى. وهكذا يقلبك في امثال هذه الاطوار والاحوال لتتقوى ماهية الحياة وتظهر جلوات اسمائه الحسنى.

فان قلت: لماذا يبليني بهذه المصائب؟ فان مائة من الحِكَم الجليلة تسكتك، كما اشير اليها في المثال السابق. اذ من المعلوم ان السكون والهدوء والرتابة والعطالة نوع من العدم والضرر، وبعكسه الحركة والتبدل وجودٌ وخير. فالحياة تتكامل بالحركة وتترقى بالبلايا وتنال حركات مختلفة بتجليات الاسماء وتتصفى وتتقوى وتنمو وتتسع، حتى تكون قلماً متحركاً لكتابة مقدراتها، وتفى بوظائفها، وتستحق الاجر الاخروي.

نكتفي بهذا القدر من الاجوبة المختصرة لاسئلتكم الثلاث التي دارت حولها مناقشاتكم. أما ايضاحها ففي الثلاث والثلاثين كلمة من ((الكلمات)).

اخي العزيز!

اقرأ هذه الرسالة للسيد الصيدلي، ومن تراه لائقاً ممن سمعوا المناقشة وبلّغ سلامي الى الصيدلي الذي هو من طلابي الجدد، وقل له:

لايجوز بحث المسائل الايمانية الدقيقة - كالمذكورة - بشكل مناقشات جدلية من دون ميزان، ولا امام جماعة من الناس، اذ تتحول الادوية عندئذٍ الى سموم، لانها دون ميزان، فتضر المتكلمين والمستمعين معاً. وانما يجوز ذلك عند فراغ البال وسكون القلب وتوفّر الانصاف عند الباحثين، وتداولاً فكرياً ليس الاّ.

وقل له: ان كانت ترد الى قلبك الشبهات في مثل هذه المسائل ولم تجد لهاجواباً في ((الكلمات)) فليكتب اليّ رسالة خاصة بشأنها.

وقل للصيدلي ايضاً: لقد ورد المعنى الآتي بحق الرؤيا التي رآها، والتي تعود الى والده المرحوم:

لما كان الوالد المرحوم طبيباً، فقد نفع اناساً اتقياء وصالحين كثيرين بل أولياء. فارواح اولئك الميامين الذين انتفعوا منه ظهرت - لأبنه القريب منه - على صورة طيور اثناء وفاته. فخطر لي ان ذلك استقبال مفرح وترحيب مفعم بالشفاعة.

سلامي ودعواتي الى كل من حضر معنا هنا تلك الليلة.

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس