الموضوع: المكتوبات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-2011
  #13
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب الثالث عشر

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

السلام على من اتبع الهدى.. والملام على من اتبع الهوى

اخوتى الاعزاء!

تسألون كثيراً عن حالي وراحتي، وعن عدم مراجعتي الجهات المسؤولة للحصول على شهادة (للمنفيين) وعن عدم اهتمامي لأحوال العالم السياسية. وحيث ان اسئلتكم تتكرر كثيراً، فضلاً عن انها تُسأل مني معنىً، اضطر الى اجابة هذه الاسئلة الثلاثة بلسان سعيد القديم وليس بلسان سعيد الجديد.

o سؤالكم الاول:

كيف حالكم؟ أأنتم في خير وعافية؟

الجواب: انني أحمد الله تعالى حمداً لا أحصيه، اذ حوّل أنواع الظلم والمكاره التي جابهني بها أهل الدنيا(1) الى أنواع من الفضل والرحمة. واليكم البيان:

بينما كنت منعزلاً في مغارة أحد الجبال، وقد طلّقت السياسة وتجردت عن الدنيا منشغلاً بامور آخرتي، أخرجني أهل الدنيا من هناك ونفوني ظلماً وعدواناً. فجعل الخالق الرحيم الحكيم هذا النفي لي رحمة، اذ حوّل ذلك الانزواء في الجبل الذي كان معرضاً لعوامل تخل بالاخلاص والأمان، الى خلوة في جبال (بارلا) يحيط بها الأمن والاطمئنان والاخلاص. وقد عزمت عندما كنت أسيراً في روسيا ورجوت الله ان أنزوي في أواخر عمري في مغارة. فجعل أرحم الراحمين (بارلا) في مقام تلك المغارة ويسّر لي فائدتها ولم يحمّل كاهلي الضعيف متاعب المغارة وصعوباتها إلاّ ما اصابتني من مضايقات بسبب أوهام وريوب كان يحملها بضعة أشخاص فيها، فهؤلاء الذين كانوا أصدقائي - وقد ركبتهم الأوهام ظناً منهم انهم يعملون لصالحي ولراحتي - إلاّ انهم بأوهامهم هذه قد جلبوا الضيق على قلبي والضرر على خدمة القرآن.

وعلى الرغم من ان أهل الدنيا اعطوا للمنفيين جميعاً وثائق العودة وأخلوا سبيل المجرمين من السجون وعفوا عنهم، فقد منعوا الوثيقة عني ظلماً وجوراً، ولكن ربي الرحيم شاء ان يبقيني في هذه الغربة ليستخدمني في خدمة القرآن أكثر وليجعلني أكتب هذه الأنوار القرآنية التي سميتها ((الكلمات)) أكثر فاكثر، فابقاني في هذه الغربة بلا ضجة ولا ضوضاء، وحوّلها الى رحمة سابغة.

ومع ان أهل الدنيا سمحوا لذوي النفوذ والشيوخ ولرؤساء العشائر (من المنفيين) - الذين يمكنهم المداخلة في دنياهم - بالبقاء في الأقضية والمدن الكبيرة وسمحوا لأقاربهم ولجميع معارفهم بزيارتهم، فانهم فرضوا عليّ حياة العزلة ظلماً وعدواناً وارسلوني الى قرية صغيرة. ولم يسمحوا لأقاربي ولا لأهل بلدتي - باستثناء واحد أو اثنين - بزيارتي. فقلب خالقي الرحيم هذه العزلة الى رحمة غامرة بالنسبة لي، اذ جعل هذه العزلة وسيلة لصفاء ذهني وتخليصه من توافه الأمور وتوجيهه للاستفاضة من القرآن الحكيم على صفائه ونقائه.

ثم ان أهل الدنيا استكثروا عليّ في البدء حتى كتابة رسالة أو رسالتين أعتياديتين في مدة سنتين كاملتين. بل انهم حتى اليوم لا يرتاحون عندما يحضر لزيارتي ضيف أو ضيفان مرة كل عشرة أيام أو كل عشرين يوماً أو كل شهر، مع ان غرض الزيارة هو ثواب الآخرة ليس إلاّ. فارتكبوا الظلم في حقي، ولكن ربي الرحيم وخالقي الحكيم بدّل لي ذلك الظلم الى رحمة، اذ أدخلني في خلوة مرغوبة وعزلة مقبولة في هذه الشهور الثلاثة التي يكسب المرء فيها تسعين سنة من حياة معنوية. فالحمد لله على كل حال.

هذه هي حالي وظروف راحتي.

o سؤالكم الثاني:

لِمَ لا تراجع (المسؤولين) للحصول على شهادة؟

الجواب: انني في هذه المسألة محكوم للقدر ولست محكوماً لأهل الدنيا، لذا اراجع القدر. وارحل من ههنا متى ما سمح القدر وقطع رزقي هنا ارحل.

وحقيقة هذا المعنى هي:

ان في كل ما يصيب الانسان سببين:

الاول: سبب ظاهر. والآخر: حقيقي.

وقد اصبح اهل الدنيا سبباً ظاهراً وأتوا بي الى ههنا. أما القدر الإلهي فهو السبب الحقيقي، فحكم عليّ بهذه العزلة. والسبب الظاهر ظَلَمَ، أما السبب الحقيقي فقد عدل.

والسبب الظاهر فكرّ على هذا النمط: ((ان هذا الرجل يخدم العلم والدين بافراط، فلربما يتدخل في امور دنيانا)). فنفوني بناء على هذا الاحتمال، وظلموا ظلماً مضاعفاً بثلاث جهات.

اما القدر الإلهي فقد رأى: انني لا اخدم الدين والعلم خدمة خالصة كاملة، فحكم عليّ بهذا النفي، وحوّل ظلمهم المضاعف الى رحمة مضاعفة.

فما دام القدر هو الحاكم في نفيي، والقدر عادل، فانا ارجع اليه وافوض امري اليه. اما السبب الظاهر فليس له الاّ حجج ومبررات تافهة. بمعنى ان مراجعة اهل الدنيا لا يعني شيئاً ولا يجدى نفعاً.فلوكانوا يملكون حقاً أو اسباباً قوية فلربما يمكن مراجعتهم.

انني تركت دنياهم تركاً نهائياً - تباً لها - وفي الوقت الذي اعرضت عن سياساتهم كلياً - وتعساً لها - فان كل ما يساورهم من شكوك واوهام لا أصل لها اطلاقاً؛ لذا لا ارغب في ان اضفي صبغة الحقيقة على تلك الريوب والاوهام بمراجعتهم. فلو كان لي اقل رغبة في التدخل بسياستهم الدنيوية – التي طرف حبالها بايدي الاجانب – لكانت تُظهر نفسها في ثماني ساعات وليست في ثماني سنوات. علماً انني لم ارغب في قراءة جريدة واحدة ولم اقرأها طوال ثماني سنوات. فمنذ اربع سنوات وانا هنا تحت المراقبة، لم تبدُ مني ظاهرة من ذلك، بمعنى ان خدمة القرآن لها من السمو والرفعة ما يعلو على جميع السياسات مما يجعلني اترفّع عن التدخل في السياسات الدنيوية التي يغلب عليها الكذب.

والسبب الثاني لعدم مراجعتهم هو: ان ادعاء الحق ازاء من يظنون الباطل حقاً، نوع من الباطل فلا اريد ارتكاب ظلم كهذا.

o سؤالكم الثالث:

لِمَ لا تهتم الى هذا الحد بمجريات السياسية العالمية الحاضرة.. نراك لا تغيّر من طورِكَ اصلاً امام الحوادث الجارية على صفحات العالم. أفترتاح اليها أم انك تخاف خوفاً يدفعك الى السكوت؟

الجواب: ان خدمة القرآن الكريم هي التي منعتني بشدة عن عالم السياسة بل أنستني حتى التفكر فيها. والاّ فان تأريخ حياتي كلها تشهد بأن الخوف لم يكبلني ولا يمنعني في مواصلة سيري فيما اراه حقاً. ثم ممَّ يكون خوفي؟ فليس لي مع الدنيا علاقة غير الأجل، اذ ليس لي اهل واولاد أفكر فيهم، ولا اموال افكر فيها، ولا افكر في شرف الأصالة والحسب والنسب. ورحم الله من اعان على القضاء على السمعة الاجتماعية التي هي الرياء والشهرة الكاذبة، فضلاً عن الحفاظ عليها..

فلم يبق الاّ أجلي، وذلك بيد الخالق الجليل وحده. ومن يجرأ أن يتعرض له قبل اوانه. فنحن نفضل اصلاً موتاً عزيزاً على حياة ذليلة.

ولقد قال احدهم مثل سعيد القديم؛

ونحن أناسٌ لا تَوَسّطَ بَيْننا لنا الصَدْرُ دونَ العالَمينَ أو القبرُ (1)

أنما هي خدمة القرآن تمنعني عن التفكر في الحياة الاجتماعية السياسية وذلك:

ان الحياة البشرية ما هي الاّّ كركب وقافلة تمضي، ولقد رأيت بنور القرآن الكريم في هذا الزمان، ان طريق تلك القافلة الماضية أدت بهم الى مستنقع آسن، فالبشرية تتعثر في سيرها فهي لا تكاد تقوم حتى تقع في اوحال ملوثة منتنة.

ولكن قسماً منها يمضي في طريق آمنة.

وقسم آخر قد وجد بعض الوسائل لتنجيه - قدر المستطاع - من الوحل والمستنقع.

وقسم آخر وهم الأغلبية يمضون وسط ظلام دامس في ذلك المستنقع الموحل المتسخ.

فالعشرون من المائة من هؤلاء يلطخون وجوههم واعينهم بذلك الوحل القذر ظناً منهم انه المسك والعنبر، بسبب سُكرهم. فتارة يقومون واخرى يقعون وهكذا يمضون حتى يغرقون.

أما الثمانون من المائة، فهم يعلمون حقيقة المستنقع ويتحسسون عفونته وقذارته الاّ انهم حائرون، اذ يعجزون عن رؤية الطريق الآمنة.

وهكذا فهناك علاجان اثنان ازاء هؤلاء:

اولهما: ايقاظ العشرين منهم المخمورين بالمطرقة.

وثانيها: اراءة طريق الأمان والخلاص للحائرين باظهار نور لهم (اي بالارشاد).

فالذي اراه أن ثمانين رجلاً يمسكون بالمطرقة بايديهم تجاه العشرين بينما يظل اولئك الثمانون الحائرون البائسون دون أن يُُبصّروا النور الحق، وحتى لو اُبصروا فان هؤلاء لكونهم يحملون في ايديهم عصا ونوراً معاً فلا يوثق بهم. فيحاور الحائر نفسه في قلق واضطراب: تُرى أيريد هذا أن يستدرجني بالنور ليضربني بالمطرقة؟. ثم حينما تتحطم المطرقة بالعوارض احياناً، يذهب ذلك النور ايضاً ادراج الرياح أو ينطفئ.

وهكذا، فذلك المستنقع هو الحياة الاجتماعية البشرية العابثة الملوثة الغفلة الملطخة بالضلالة.

واولئك المخمورون هم المتمردون الذين يتلذذون بالضلالة.

واولئك الحائرون هم الذين يشمئزون من الضلالة ولكنهم لا يستطيعون الخروج منها، فهم يريدون الخلاص ولكنهم لا يهتدون سبيلاً.. فهم حائرون.

أما تلك المطارق فهي التيارات السياسية، واما تلك الانوار فهي حقائق القرآن فالنور لا تثار حياله الضجة ولا يقابل بالعداء قطعاً، ولا ينفر منه الاّ الشيطان الرجيم.

ولذلك، قلت: ((اعوذ بالله من الشيطان والسياسة)) لكي احافظ على نور القرآن. واعتصمت بكلتا يدي بذلك النور، ملقياً مطرقة السياسة جانباً.

ورأيت أن في جميع التيارات السياسية - سواءً الموافقة منها أو المخالفة - عشاقاً لذلك النور.

فالدرس القرآني الذي يُلقى من موضع طاهر زكي مبرأ من موحيات افكار التيارات السياسية والانحيازات المغرضة جميعها، ويُرشد اليه من مقام أرفع واسمى منها جميعاً، ينبغي الاّ تحجم عنه جهة، ولا يكون موضع شبهة فئة، مهما كانت. اللّهم الاّ اولئك الذين يظنون الكفر والزندقة سياسة فينحازون اليها. وهؤلاء هم شياطين في صورة اناسي أو حيوانات في اجساد بشر.

وحمداً لله فانني بسبب تجردي عن التيارات السياسية لم أبخس قيمة حقائق القرآن التي هي اثمن من الالماس ولم اجعلها بتفاهة قطع زجاجية بتهمة الدعاية السياسية. بل تُزيد قيمة تلك الجواهر القرآنية على مرّ الايام وتتألق اكثر امام انظار كل طائفة.



} وقالوا الحمدُ لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي
لولا أنْ هدانا الله لقدْ جاءت رُسُل ربّنا بالحق{



الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

المكتوب الرابع عشر



لم يؤلف
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس