عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - زهرة


المثنوي العربي النوري - ص: 268
غايات وجودك ونتائجه العائدة الى مالكه وصاحبه الحقيقي الذي له الاسماء الحسنى. وكذا يغالطك الموسوس مستمداً من انانيتك ومستنداً بفرعونية النفس باراءة صغار الحيوانات وخساس الحشرات، ويضعها نصب عينك ويقول لك: ما الفائدة في خلقتها السريعة الزوال؟ فيلقنك العبثية - بعد تلقين ان غاية الحياة هي الحياة، وان قيمة الحياة بالبقاء - ليسقِطَ في عينك اهمية الرحمة والنعمة واتقان الصنعة فيما تشاهد هذه الثلاثة فيه، ليُنسيكَ الصانع بالتعطيل. فقابل انت باراءة السموات بنجومها والارض بحيواناتها. هذا اذا نظرت اليها وانت انت.. واما اذا نظرت الى ماهو اصغر منك، فانظر ايتها الحجيرة الكبرى الى غرائب حياة حجيرات جسدك ووظائف الكريوات الحمراء والبيضاء في دمك الدائر مادمتَ في هذه الدار، والى رقائق لطائفك الطائفة بقلبك.
اعلم! يا ايها الاوروبا!. 1 انك اخذت بيمينك الفلسفة المضلة السقيمة، وبيسارك المدنية المضرة السفيهة، تدعي ان سعادة البشر بهما. شلّت يداك وبئست هديتاك.
ألا يا ناشر الكفر والكفران! هل يمكن لمن اصيب في قلبه وعقله ووجدانه وروحه بمصائب هائلة، السعادة بكونه في ذروة الرفاه والزينة بجسمه؟ ألا ترى ان من انكسر خياله او خاب من امل وهمي او انقطع رجاؤه من امر جزئي كيف يَمر 2 له الحلو ويعذّبه العَذبُ اللذيذ وتضيق عليه الدنيا؟ فكيف بمن اُصيب بشؤمك في اعماق قلبه وروحه باليُتم الروحي والضلالة التي فيها انقطاع كل الآمال وانشقاق كل الآلام؟ فهل يقال لمن روحُه مع قلبه في جهنم، وجسمُه في جنةٍ كاذبة زائلة: انه مسعود؟
فاستمع ايها الروح المفسد لما يتلى عليك، اذكر لك واحداً فقط، من الوفِ المهالك التي اوقعت البشر فيها، واقدّم لايضاحه مثالاً.
مثلا: ههنا طريقان؛ فذهبنا في هذه، فنرى في سيرنا بمد النظر في مدة السفر عند كل خطوة رجلاً عاجزاً يتهاجم عليه رجالٌ غُلَّب يغتصبون ماله ودوابَه ويخرّبون
_____________________
1 ان اوروبا اثنان: احدهما: نافع للبشر باستفادته من الدين العيسوي والمدنية الاسلامية. اظهر باحسان الله ما يستريح به البشر في هذه الحياة.. واوروبا الثاني: خالف الاديان السماوية واستند بالفسلفة الطبيعية المادية وغلبت سيئات المدنية حسناتها، وصار سبباً لمشقة اكثر البشر وشقاوتهم. فاني اخاطب هذا القسم الثاني - المؤلف. والمذكرة الخامسة توضح المسألة اكثر.
2 من المرارة التي هي ضد الحلو.



المثنوي العربي النوري - ص: 269
بيتَه، وقد يجرحونه بحيث تبكي عليه السماء، فاينما نظرنا نرى الحال على هذا المنوال بحيث لاتسمع الاّ صيحات الظالمين ونياحات المظلومين، فطمّ عليهم المأتم العمومي. فبسر:" ان الانسان يتألم بألم الغير" والحال ان الوجدان لايتحمل التألم بهذه الدرجة، يضطر الناظرُ للتجرد عن الانسانية والتزام نهاية الوحشة بتبطّن قلبٍ لايبالي بهلاك الناس عند سلامته.
فيا اوروبا اهديت بدهائك الاعور لروح البشر هذه الحالة الجهنّمية، ثم تفطنت لهذا الداء العضال دواءً لإبطال الحسّ في الجملة، وهو الملاهي الجذابة والهَوسات الجلابة. فتعساً لك ولدوائك..
ثم ذهبنا في الطريق الاخرى؛ فترى في كل منزل وفي كل مكان وفي كل بلاد عساكر موظفين منتشرين في الآفاق والطرق، فيجيئ بعض المأمورين فيرخّصون 1 بعضهم من الوظيفة ويأخذون سلاحهم ودوابهم ولوازماتهم الميرية ويعطون لهم تذكرة الاذن، فيفرحون بالترخيص وبالرجوع الى المَلِك وزيارته باطناً، وان حزنوا بترك المألوف ظاهراً. ونرى انه قد يصادف المأمورون نفراً عجمياً لايعرفهم فيقول لهم: انا عسكر السلطان وفي خدمته، واليه ارجع، فان جئتم باذنه ورضائه فعلى الرأس والعين، والاّ تَنَحوا عني لأقاتلنكم وحدي ولو كنتم اُلوفاً، لا لنفسي بل لحفظ امانة مالكي، وحماية حيثية سلطاني وعزته. وهكذا نرى في مد طريقنا ومدة سفرنا تحشيدات بتهليل وسرور تسمى "تولدات" و"ترخيصات" بتكبير وحبور تسمى"وفيات". فالقرآن الحكيم أهدى للبشر هديةً لو اهتدوا بها لسلكوا بها في مثل هذا الطريق..
(لاخوفٌ عَليهم ولاَهُم يحزنونَ) 2.
فيا أوروبا تزعم ان كل ذي حياة من اصغر السمك الى اكبر المَلَك مالك لنفسه ويعمل لذاته وانما يسعى للذته، له حق حياة وغايةُ همته حفظ البقاء. وما ترى فيما بينها من "التعاون" المأمور به من جانب خالقها: كامداد النباتات للحيوانات والحيوانات للانسان، تظنه "جدالاً".. حتى حكمتَ بان "الحياة جدال". 3 فيا سبحان الله كيف يكون امداد ذرات الطعام بكمال الشوق لتغذية حجيرات البدن
_____________________
1 اي يسرحونهم من الوظيفة.
2 يونس : 62
3 اي: ان الحياة صراع دائم والبقاء فيها للأقوى!



المثنوي العربي النوري - ص: 270
جدالاً وخصاماً؟ بل انما الامداد تعاون بامر رب كريم. والدليل على ان ذا الحياة ليس مالكاً لنفسه، هو:
ان اشرف الاسباب واوسعها "اختياراً" الانسانُ. والحال انه ليس في يد اختياره ودائرة اقتداره من اظهر افعاله الاختيارية - كالاكل والكلام والتفكر - من المائة الاّ جزء واحد منهم. فاذا كان الاشرف الواسع الاختيار هكذا مغلول الايدي عن التملك والتصرف الحقيقي، فكيف بسائر البهيمات والجمادات؟
وما ورّطك في هذا الخطأ الاّ دهاؤك الاعور؛ اذ نسيَ ربّه الذي هو خالق كل شئٍ، واستند بالطبيعة الموهومة واسند الآثار الى الاسباب، وقسم مال الله على الطواغيت. فعنده يضطر الانسان وكل ذي حياة ان يصارع مع ما لايعد من الاعداء لتحصيل ما لايحد من الحاجات، باقتدارٍ كذرة، واختيار كشعرة، وشعور كلمعة تزول، وحياة كشعلة تنطفئ، وعمر كدقيقة تنقضي؛ مع أنه لايكفي كل ما في يده لواحد من مطالبه. فاذا اُصيب بمصيبة لايستمد الا من اسباب صمّ وعمي:
(ومَا دُعاءُ الكافرينَ الاّ في ضَلالٍ) 1 فقَلب دهاؤك المظلم نهارَ البشر ليلاً متنوراً بانوار كاذبة مستهزية. وصَيّر كل ذي حياة في نظر تلاميذه كالرجل المسكين المبتلى بهجوم الظلمة كما رأينا في الطريق الاولى.. ويرى في الدنيا مأتماً عمومياً، ويرى الاصوات نعيات الموت ونياحات اليتامى.
وصير تلميذه الخاص: "فرعونا" لكن يعبد اخس الاشياء. ويرى كل سبب نافع أنه ربَّه.. "متمرداً" لكن يتمسكن بنهاية الذلة للذَّته. ويقبّل رِجلَ الشيطان لمنفعة خسيسة.. و"جباراً" لكن لعدم نقطة الاستناد عاجزٌ في ذاته بغاية العجز.
وان غاية همة تلميذك: بطنهَ وفرجه او منفعة قومه، لا لقومه بل لاجل منفعة نفسه او تطمين رقة الجنسية، 2 او تسكين حرصه وغروره. ولايحب الاّ نفسه، ويفدي لها كل شئ..
واما خالص تلميذ القرآن فـ"عبد" لكن لا يتنزل للعبودية لأعظم المخلوقات ولا لأعظم المنفعة ولو كانت جنة.. و"ليّن هيّن" لكن لايتذلّل لغير فاطره الاّ باذنه..
_____________________
1 الرعد : 14
2 تطمين ما يشعر به من رقةٍ نحو بني جنسه.




المثنوي العربي النوري - ص: 271
و"فقير" لكن يستغنى بما ادخر له مالكه الكريم.. و"ضعيف" لكن يستند بقوة سيده الذي لانهاية لقدرته. ولايرضى تلميذهُ الحقيقي حتى بالجنة الابدية مقصداً وغايةً، فضلاً عن هذه الدنيا الزائلة. فانظر الى درجة تفاوت همة التلميذين.
وكذا، مايرى اعظم الاشياء كالعرش والشمس الا مخلوقاً عاجزاً مسخّراً مأموراً، ويرى في روحه علاقة شديدة مع كل الصالحين من اهل السموات والارض، فيدعو لهم من صميم قلبه، كما يدعو المرء لأهل بيته..
فانظر التفاوت بين مروءة التلميذين؛ ذاك يفر من اخيه لنفسه، وهذا يرى كل العباد اخوانه. والقرآن يعطي ليد تلاميذه بدل هذا التسبيح العادى 1 اعداد ذرات الكائنات فيسبّحوا الله، وفي ايديهم بدل التسبيح الذي عدده تسعة وتسعون "سلسلة جميع ذرات الكائنات" فيقرأون اورادهم بذلك التسبيح العجيب، ويذكرون ربهم باعداد ذلك، بل يزيدون.. فانظر الى تلاميذ التنزيل من الاولياء امثال الكيلاني، والرفاعي، 2 والشاذلي كيف اخذوا في اياديهم سلاسل الذرات والقطرات وانفاس المخلوقات وغيرها كالتسبيح يذكرون الله بها، بل يستقلّونها فيمدون ايديهم الى مالايتناهى من عدد معلومات "علام الغيوب"!.. انظر الى هذا الانسان الذي يصارعه اصغر مكروب ويصرعه ادنى كرب، كيف ترفَّع وانبسط لطائفه بفيض ارشاد القرآن، حتى استصغر الدنيا ان تكون تسبيحاً لوِرده، واستقل الجنة ان تكون غايةً لذكره!.. ومع ذلك لايرى لنفسه فضلاً على ادنى شئ من خلقه سبحانه.
واما هدى القرآن فيقول: يا ايها الانسان ان ما في يدك امانة، وملكاً لمالك قدير على كل شئ وعليم بكل شئ، رحيم بك، كريم يشتري منك مُلكه الذي عندك ليحفظه لك، لئلا يضيع في يدك، واجَّل لك ثمناً عظيماً وانت مأمور وموظف كالعسكر فاعمل بحسابه وباسمه، وهو الذي يرزقك ما تحتاج اليه، ويحفظك مما لاتقتدر عليه.
_____________________
1 المراد: المسبحة.
2 الرفاعي: (512 - 578هـ) احمد بن علي بن يحيى الرفاعي، ابو العباس، الامام الزاهد مؤسس الطريقة الرفاعية. ولد في قرية حسن في واسط بالعراق سنة 512هـ وتفقه وتأدب في واسط. وكان يسكن قرية ام عبيدة بالبطائح (بين واسط والبصرة) وتوفي بها سنة 578هـ. وفيات الاعيان 55/1 الطبقات الكبرى 140/1 نور الابصار 220 الاعلام 174/1 جامع كرامات الاولياء 490/1



المثنوي العربي النوري - ص: 272
وغاية حياتك: مظهريتك لتجليات اسمائه وشؤونه. فاذا اصابتك مصيبة فقل: "إنّا لله" وفي خدمته، فان جئت ايتها المصيبة باذنه ورضاه فمرحباً بك: "إنّا اليه راجعون" والى رؤيته مشتاقون. وسيعتقنا من تكاليف الحياة يوماً ما، فليكن على يدك وان جئت بارادته وأمره فقط ابتلاءً دون إذنه ورضاه فلا اسلّم امانته لغير الامين ما استطعت.
فحقيقة الحال في الطرفين على هذا المنوال. لكن درجات الناس متفاوتة في الهداية والضلالة. ومراتب الغفلة مختلفة. لكن الغفلة ابطلت الحس بدرجة لايحس المدنيّون بايلام هذا الالم الاليم، ولكن بتزايد الحساسية العلمية وايقاظات الموت تتشقق الغفلة. فويل ثم ويل لمن ضل بطواغيت الاجانب.
فيا شبان الترك! فهل بعد كل مارأيتم من ظلم اوروبا معكم وعداوتهم لكم تتبعونهم في سفاهاتهم وافكارهم بل تلتحقون بصفهم بلا شعور؟.. ألا انكم تكذبون في دعوى الحمية، اذ هذا الاتباع استخفاف بالملية واستهزاء بالملة. "هدانا الله واياكم الى الصراط المستقيم".
اعلم! 1 يامن يستكثر عدد الكفار ويتزلزل باتفاقهم على انكار بعض حقائق الايمان!
اما اولاً: ان القيمة ليست في الكمية، اذ الانسان اذا لم يصر انساناً انقلب حيواناً شيطاناً، لان الانسان اذا ترقى في الاحتراصات 2 الحيوانية كالمنكرين للاديان، فهو اشد حيوانية. وانت ترى كثرة كميات الحيوانات بلا حد وقلة الانسان مع انه هو الخليفة.
وثانياً: ان الانكار نفي، والفُ نافٍ لايرجّحون على اثنين من اهل الاثبات.
فان قلت: كافرٌ ما هو؟ قيل لك: فالكفار الذين لا دين لهم نوعٌ خبيث من حيوانات الله، خَلَقهم لعمارة الدنيا، وللنار.. وليكون 3 واحداً قياسياً لدرجات نِعَمه تعالى على عباده المؤمنين.
_____________________
1 تراجع المذكرة السادسة.
2 اي: اوغل في الحرص على الحياة الدنيوية المادية.
3 ليكون كل كافر واحداً قياسياً.




المثنوي العربي النوري - ص: 273
واما اتفاقهم على انكار حق ونفيه فلا قوة في اتفاقهم بسر النفي. اذ الكفر نفيٌ وانكارٌ وجهلٌ وعدمٌ، ولو كان في صورة الاثبات. مثلا: لو نفى كلُّ أهل استانبول رؤية الهلال؛ واثبت رؤيته شاهدان، ترجّحا على اجماعهم بسر تساند الاثبات، ونظر الاثبات الى نفس الامر، ونظر النفي الى نفس النافي وعنده. مثلا: لو طبق الغيم في وجه السماء فرفعنا رؤسنا، فما رأى الشمس من جميع اهل المملكة الا حزب قليل. فهل يقبل منك ان تقول: ان النافين متواترون، والرائون اقلّ قليل فاتباع الاكثر أولى؟ كلا.. اذ لمن لم ير ان يقول: لا شمس عندي، وفي رؤيتي،دون لا شمسَ في نفس الامر وفي وجه السماء. وهكذا فلتعدد المدعى بهذا الاعتبار بين النافين لا يقوى حكم بعض ببعض. فاجماعُهم في قيمة الفرد كالاجتماع لحل مسألة، او المرور في ثقبة ضيقة. خلافاً للمثبتين الناظرين الى نفس الامر لاتحاد المدعى وتعاون القوى، كالتساند على رفع صخرة عظيمة.
اعلم! 1 يامن يشوّق المسلمين على الدنيا ويدعوهم الى صنائعها وترقياتها ويضربهم بعصا التشويق، تمهّل وتأمل في رقة بعض حبالهم المربوطين بها بالدين، واحذر ان ينقطع قسمٌ من حبالهم فيصيرون ضرراً محضاً في الحياة الاجتماعية، بسر: ان المرتد لاحقّ له في الحياة لانفساده بالكلية، خلافاً للكافر، فالشريعة تعطي له حق حياة، وان الفاسق خائن ومردودُ الشهادة، لانفساد وجدانه خلافاً للذمي في مذهب الحنفية. فاعتبر! ولا تغتَر بكثرة الفساق؛ فان الفاسق لايرضى بالفسق، وما طَلبه بالذات بل وقع فيه.. وما من فاسق الاّ ويتمنى ان يكون متقياً وان يكون آمرهُ متديناً صالحاً، الا ان ارتدّ، العياذ بالله! اتظن ان المسلمين لايحبون الدنيا ويحتاجون لان يُنبَّهوا ولاينسَوا نصيبهم من الدنيا؟ كلا! بل اشتد الحرصُ.. والحرص في المؤمن سببُ الخيبة؛ اذ الدعاة الى الدنيا في كل شخص بكثرة؛ كنفسه واحتياجه وحواسه وهواه وشيطانه، وامثالكم من رفقاء السوء، وحلاوة العاجلة وغيرها، مع ان الداعي الى الآخرة الباقية بقلّة. فمن الحَمية والهمة امداد القليل. ام تحسب ان فقرنا من زهدنا؟ كلا.. الا ترى المجوس والبراهمة وسائر مَن تسلط عليهم الأوروبائيون افقرَ منا؟ ام انت اعمى لاترى ان ما زاد على القوت الضروري لا يبقى في يد المسلمين في الاكثر، بل يغتصبه او يختلسه الكفار بدسائسهم؟ وان اردتَ من تمدنِهم، تسهيل
_____________________
1 تراجع المذكرة السابعة.



المثنوي العربي النوري - ص: 274
ادارتهم وحصول الامن في المملكة؛ فقد اخطأت الطريق. لان ادارة مائةٍ من الفاسقين الذين فسدت اخلاقهم وتزلزل اعتقادهم اصعب من ادارة الوف من المتدينين. فاهل الاسلام لايحتاجون الى التشويق على الحرص على الدنيا، بل يحتاجون الى تنظيم مساعيهم، والتعاون، والامنية بينهم، 1 وما هي الاّ بالتقوى..
اعلم!2 ان الحق سبحانه بكمال كرمه ادمج قسماً من مكافاة الخدمة في نفس الخدمة، وادرج اجرة العمل في نفس العمل. حتى ان الموجودات ولو الجمادات تمتثل اوامره التكوينية بكمال الشوق والتلذذ، وبالامتثال تصير معاكسَ تجليات اسماء نور الانوار. كالحباب الحقير المظلم الذي يتوجه بقلبه الصافي الى الشمس، فيتنور مبتسماً في وجهك، بجعل قلبه سرير الشمس. وكيف لاتلتذ الذراتُ ومركباتها - بفرض شعورٍ فيها - بمظهريتها لتجليات اسماء ذي الجلال والجمال والكمال المطلق مع ارتقائها بالامتثال، مثل الحباب من نهاية الخمود والظلمة الى نهاية الظهور والنور!
انظر الىحواسك واعضائك وخدَمتها التي تخدم لبقاء الشخص او النوع كيف تتلذذ بنفس خدمتها حتى يكون التَركُ عذاباً لها.
ثم انظر الى الحيوانات كيف تلتذ بوظائفها، ألا ترى الديك مثلا: كيف يوُثر الدجاجات على نفسه في دعوتها الى اكل مارآه من الغذاء ولا يأكل هو؟ ويرى من طوره انه يفعل هذا بالشوق والتلذذ والافتخار. وهكذا الدجاجة الراعيةُ لأفراخها وهي صغيرة، التاركةُ لها اذا كَبُرت كسائر الوالدات النباتية والامهات الحيوانية غير الانسان!.. فيظهر من هذه الحال انها لاتعمل بحساب نفسها ولا لكمالها، بل بحساب من وظَّفها مُنعِماً عليها برحمته بإلقاء لذةٍ في وظيفتها.
ثم انظر الى النباتات والاشجار كيف تمتثل اوامر فاطرها بطورٍ يرمز بشوقٍ ولذة؛ اذ تزّيناتها ونشر روائحها تُظهِر شوقَها، وفداؤها نفسها لسنبلتها ولثمراتها تُعلن ان لذتها في امتثال الامر. اذ تُعد وتُحضر وهي سائلة من باب الرحمة اطيَب الغذاء، فتطعِم ثمرتَها باذن ربّها. ألا ترى شجرة التين كيف تُطعم التين لبناً خالصاً تأخذه من خزينة الرحمة وهي لاتُطعم نفسها الا الطين!.. وشجرة الرمان تسقي الرمان شراباً صافياً مما اعطاها ربُّها وهي لاتشرب الاّ الماء!.. وهكذا.
_____________________
1 اشاعة الثقة، فيأمن بعضهم بعضا.
2 تراجع المذكرة الثامنة.



المثنوي العربي النوري - ص: 275
ثم انظر الى الحبوبات تَرَ فيها اشتياقاً ظاهراً للتسنبل كمثل المحبوس في اضيق المكان كيف يشتاق للخروج الى البستان. ومن هذا السر الجاري في الكون بسنةِ الله يكون العاطلُ المستريح اشقى من الساعي المجدّ، اذ ذاك شاكٍ من عمره، وهذا شاكرٌ. واندمجت الراحةُ في الزحمة، والزحمة في الراحة.. 1
ثم انظر الى الجامدات ترى فيها ان ما "بالقوة" يجتهد لأن يصير "بالفعل" ويسعى بسنة الله بطور يرمز الى ان في المسألة شوقاً ولذة. ألا ترى قطرة الماء كيف يشتمل قلبُها على شوق لامتثال امر بارئها، بحيث اقتدر الماءُ بشدّة ذلك الشوق مع لطافة الماء وضعفه على شق الحديد مع قوة مقاومته عند سماع امر: "توسَّع ايها الماء باذن ربك" بواسطة لسان البرودة! وهكذا.
حتى ان جميع ما في الكون من السعي والحركة: من اهتزاز الذرات، الى دوران الشمس انما يجري على قانون القَدر، وانما يصدر من يد القُدرة، وانما يظهر بالامر التكويني المتضمن للعلم والامر والارادة، بل يتضمن القُدرة ايضاً. حتى ان كل ذرة وكل مركب وكل ذي حياة كنفرٍ من العسكر له نَسَب في دوائر المركبات. وله وظائف لفوائد، بعدد نَسَبه فيها كذرة عينك في حجيرة عينك، وفي عينك، وفي اعصاب وجهك، وفي شرايين بدنك.. لها في كل نسبةٍ وظيفةٌ لفائدة وهكذا.. فكل شئ يشهدُ على وجوب وجود القدير الازلي بلسان عجزه عن تحمل ما لاطاقة له به، من وظائفه المحمولة عليه في نظام الكون وحفظ موازنة قوانينه؛ اذ "النظام والموازنة" بابان مهمان دقيقان من "الكتاب المبين". فاين الذرة والنحلة - مثلا - واين قراءة ذلك الكتاب الذي هو في يد مَن يطوي السماء كطي السجلّ للكتب!.. وكذا يشهد كلُّ شئ على وحدة واجب الوجود الحق سبحانه بعلاقته وهو فرد بالمركبات المتداخلة المتصاعدة ووظائفه في مقاماتها ونَظَر نِسَبِه ووضعيته الى نقوشها!.. ثم ان الفاطر الحكيم أجمل لكل شئ دساتير بابي الكتاب المبين في لذة خاصة واحتياج مخصوص بذلك الشئ، اذا عمل الشئ عليها صار ممتثلاً من حيث لايشعر لأحكام ذلك الكتاب. مثلا: ان البعوض في حين ما يجئ الى الدنيا يخرج من بيته بلا توقف، فيهجم على وجه الانسان فيضربه بعصاه فينفجر منه له ماءُ
_____________________
1 اي الراحة في التعب والنصب، والضيق والتعب في الراحة.



المثنوي العربي النوري - ص: 276
الحياة، فمَن علّمه بهذه الصنعة كرّا وفراً؟. واعترف أني لو كنتُ في موقعه لما تعلّمتها الا بتدرّس مديد وتدرب عديد. فقس على البعوضة والنحلة والعنكبوت الملهمين كل الحيوانات والنباتات، قد اعطى الجواد المطلق سبحانه ليدِ كل فرد منها "تذكرة مكتوبة بمداد اللذة والاحتياج". فسبحانه سبحانه! كيف ادرج سرائر ما في سطور بابَي الكتاب المبين في تذكرة مسطورة في رأس النحلة مثلا، مفتاحُها لذة خاصة بالنحلة المأمورة؟
وهكــذا فيظهر ممـا سمــعــت مما مـر بالحـدس الايمــاني ســـرٌ من اســرار:
(وَرحمتى َوسِعَت كُلَّ شئ) 1 وسرٌ من أسرار: (وإنْ مِنْ شَئٍ الاّ يُسَبِّحُ بحَمدهِ ولَكِن لاتفقهونَ تَسبيحهُم) 2 وسرٌ من اسرار: (انما امرُهُ اذا اَرادَ شَيئاً أنْ يقولَ لهُ كُنْ فَيكونُ_ فَسُبحَانَ الذَّي بيده مَلَكوتُ كُلِّ شَئٍ واليهِ تُرجَعونَ) 3.
اعلم! يامن يدعو المسلمين الى الدنيا، اخطأت!.. اتحسب ايها الغافل ان المطلوب بالذات من الانسان عمارةَ الدنيا، واختراع الصنايع، وتحصيل الرزق وغير ذلك مما يعود الى الدنيا؟ والحال ان صاحب الملك الذي أمرهُ بين الكاف والنون يقول بقول يصدقّه الوجود والكون والواقع وتجهيزات الفطرة الانسانية:
(وَما خَلقتُ الجنَّ والانسَ إلاّ لِيَعْبـُدونَ) 4 (وَكأيّن مِن دآبَةٍ لاتَحمِلُ رِزقها الله يَرْزُقُهَا وإيَاكُم) 5 ام تزعم ان مَن صنعك ويصنعك دائماً بتجديدِ وجودكَ في كل زمان يحتاجُ لما تصنعُ في نظام ملكه والى توسيطك في تصرفاته؟.. اترى كل مصنوعات البشر تساوي خلقة نخلة او نحلة او صنعة عين او لسان؟
اعلم! يا ايها الغافل! ان من ابعد المحالات ان لايعلم مَن خلقك ما يتوارد عليك وانت تتقلب فيه من الاحوال الاجتماعية والاطوار الدنيوية. فكن من شئت اعتقاداً وفكراً ولو معطِلاً وماديوناً، 6 فبالضرورة والمشاهدة ترى في النطفة والبيضة والحبة
_____________________
1 الاعراف : 156
2 الاسراء : 44
3 يس : 82 -83
4 الذاريات : 56
5 العنكبوت : 60
6 اي: ولو منكرا لوجود الله وممن يحصرون الوجود فيما يرونه من مادة فقط.



المثنوي العربي النوري - ص: 277
والنواة فعالية وخلاقية وصنعة وتصرفاً. أيمكن في عقلك ان يكون المتصرف في النواة - هذا التصرف البصير الحكيم الناظر الى مناسبات تلك النواة لعالم نوعها ولمن يستفيد منها - غير عالمٍ بعالم الاشجار واحوالها وارتباطها بسائر العوالم؟ وان لايرى ولايشاهد "فالق الحبة ومُسَنبلها" مَن يزرعها ولِمَ يزرعها وما يحصل منها وما يحصد منها وجهة ارتباطها بعالم الحيوانات ومحيطها وما يجري فيه؟ ان يُحتمل عندك ان يكون مَن يصوّر البيضة - فرخاً مجهزاً بالآلات اللائقة بعالم الطير - غير بصيرٍ باحوال عالم الطيور واطوار جيران الطيور من سائر الأنواع؟ ام يجوز في زعمك ان لايرى خالقُ النطفة علقةً، والعلقةَ مضغةً، والمضغةَ عظاماً وكاسِ العظامَ لحماً ومنشئه خلقاً آخر ذا حياة؛ ومصوره بصورة تتلمع منها اثر صنعة عليمٍ، بصير حكيم، بما لا غاية فوق علمه ورؤيته وحكمته؛ ومجهزه بجهازات يتصرف بها ذلك الانسان المخرَج من النطفة في كثير من الانواع والعوالم. وان لايشاهد ذلك الخلاق عالم الانسان واحواله وشؤونه وما يجري على رأس نوع الانسان. وان لايعلم ادوار الانسان والعوالم التي يجول الانسانُ فيها بجسمه وحواسه وروحه وعقله وخياله، وغير ذلك مما اودع في جوهر الانسان من نظارات العوالم ومراصد الحقائق؟
ايها الغافل! اتظن انك حرّ ومأمون من مداخلةِ مَن يمد الى يدك بعصا الغصن رمانةً مصنوعةً لك وبخيط الشار 1 بطيخة مطبوخةً لاجلك؟ فمن غفلتك تظن صانعَ البطيخ غافلاً عن آكله، ومِن عُميكَ تتوهم صانعَ الرمانة قوةً عمياء لاتعلمُ ما تعمله للمتفكهين بالرمانة وطراوتها والمتحيرين في صنعتها القائلة:"سبحان من صوّرني فاحسن صورتي". والمتفكرين في لطافتها الناطقة بـ:
(فتَباركَ الله أحسنُ الخالقينَ) 2. والمتــأملين في انتظامها المتقن المنضّد المنــــادي باعلى صــوتـــــه: (ألاَ يعلَمُ مَن خَلَقَ وهوَ اللطيفُ الخبيرُ) 3. ام تحسب ايها الجاهل ان لايرانا ولا يعرفنا مَن يرسل الينا لحاجاتنا الخصوصية هذه الثمرات؟ او لايشاهدنا مَن يبث في ما بين ايدينا وفي خلال ديارنا ولمنافعنا بهيمات الانعام وسائر الحيوانات؟
_____________________
1 شار العسل: اجتناه.
2 المؤمنون : 14
3 الملك : 14


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس