الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #50
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الثالثة والثلاثون

((وهي عبارة عن ثلاثٍ وثلاثين نافذة))

هذه الكلمة هي ((الكلمة الثالثة والثلاثون)) من جهة وهي ((المكتوب الثالث والثلاثون)) من جهة اخرى.

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] سَنُريهِمْ آيَاتِنَا فىِ الافَاقِ وَفى اَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ اَنَّهُ الْحَقُّ اَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ اَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهيدٌ[ (فصلت:53)

سؤال: نرجو أن توضح لنا توضيحاً مجملاً ومختصراً، ما في هذه الآية الكريمة الجامعة من دلائل على وجوب وجود الله سبحانه، وعلى وحدانيته وأوصافه الجليلة وشؤونه الربانية، سواءً أكان وجه الدلائل في العالم الأصغر او الأكبر، أي في الانسان أو الكون. فلقد أفرط الملحدون وتمادوا في غيّهم حتى بدأوا يجاهرون بقولهم: الى متى نرفع اكفّنا وندعو: ((وهو على كل شيء قدير))؟.

الجواب: ان ما كُتِبَ في كتاب (الكلمات) من ثلاث وثلاثين (كلمة)، ما هي الاّ ثلاث وثلاثون قطرة تقطّرت من فيض هذه الآية الكريمة. يمكنكم ان تجدوا ما يقنعكم بمراجعتها. أما هنا فسنشير مجرد اشارة الى رشحاتِ قطرةٍ من ذلك البحر العظيم. فنمهد لها بمثال:

ان الذي يملك قدرة معجزة ومهارة فائقة اذا ما أراد ان يبني قصراً عظيماً فلا شك أنه قبل كل شئ يرسي اسسه بنظام متقن، ويضع قواعده بحكمة كاملة، وينسّقه تنسيقاً يلائم لما يُبنى لأجـلـه مـن غـايـات ومـا يرجـى منه من نتائج. ثم يبدأ بتقسيمه وتفصيله بما لديه من مهارة وابداع الى أقسام ودوائر وحجرات، ثم نراه ينظم تلك الحجرات ويزيّنها بروائع النقوش الجميلة، ثم ينوّر كل ركن من أركان القصر بمصابيح كهربائية عظيمة، ثم لأجل تجديد إحسانه واظهار مهارته نراه يجدد ما فيه من الاشياء ويبدّلها ويحوّلها. ثم يربط بكل حجرة من الحجرات هاتفاً خاصاً يتصل بمقامه، ويفتح من كلٍ منها نافذةً يُرى منها مقامه الرفيع.

وعلى غرار هذا المثال (ولله المثل الأعلى) فالصانع الجليل - الذي له ألف اسم واسم من الأسماء الحسنى - أمثال: الحاكم الحكيم، والعدل الحَكَم، والفاطر الجليل، الذي ليس كمثله شئ. أراد - وإرادته نافذة - خلقَ شجرة الكائنات العظيمة، وايجاد قصر الكون البديع.. هذا العالم الأكبر.. فوضع أسس ذلك القصر وأصول تلك الشجرة في ستة أيام بدساتير حكمته المحيطة وقوانين علمه الأزلي. ثم صوّره وأحسن صوره بدساتير القضاء والقدر وفصّله تفصيلاً دقيقاً الى طبقات وفروع علوية وسفلية. ثم نظّم كل طائفة من المخلوقات وكل طبقة منها بدساتير العناية والإحسان. ثم زيّن كل شئٍ وكل عالم، بما يليق به من جمال - فزيّن السماء مثلاً بالنجوم وجمّل الأرض بالأزاهير ـ ثم نوّر ميادين تلك القوانين الكلية وآفاق تلك الدساتير العامة بتجليات أسمائه الحسنى، ثم أمدّ الذين يستغيثون به مما يلاقونه من مضايقات تلك القوانين الكلية فتَوجَّه اليهم باسم (الرحمن الرحيم)، أي أنه وضع في ثنايا قوانينه الكلية ودساتيره العامة من الاحسانات الخاصة والاغاثات الخاصة والتجليات الخاصة ما يمكّن كل شئ أن يتوجَّه اليه سبحانه في كل حين ويسأله كل ما يحتاجه. وفَتَح من كل منزل، ومن كل طبقة، ومن كل عالم، ومن كل طائفة، ومن كل فرد، ومن كل شئ نوافذ تتطلع اليه وتظهره، أي تُبين وجوده الحق ووحدانيته، فأودع في كل قلب هاتفاً يتصل به.

وبعد؛

فسوف لا نقحم أنفسنا فيما لا طاقة لنا به من بحث هذه النوافذ التي لا تعد ولا تحصى، بل نحيلها الى علم الله المحيط بكل شئ، الاّ ما نشير من اشارات مجملة فقط الى ثلاث وثلاثين نافذة منها، تألّقت من لمعات آيات القرآن الكريم فاصبحت (الكلمة الثالثة والثلاثين) أو (المكتوب الثالث والثلاثين) وقد حصرناها في ثلاثٍ وثلاثين نافذة تبركاً بالأذكار التي تأتي عقب الصلوات الخمس. وندع ايضاحاتها المفصّلة الى الرسائل الاخرى.



النافذة الاولى

نشاهد في الموجودات جميعها ولا سيما الأحياء منها إفتقاراً الى حاجات مختلفة ومطاليب متنوعة لا تحصى.. وان تلك الحاجات تُساقُ اليها من حيث لا تحتسب، وتلك المطاليب تترى عليها كُلٌ في وقته المناسب.. علماً بأنَّ أيدي ذوي الحاجة تقصر عن بلوغ أدنى حاجاتها فضلاً عن أوسع غاياتها ومقاصدها.. فإن شئتَ فتأمل في نفسك تجدها مغلولة الأيدي إزاء كثير مما يلزم حواسك الظاهرة، أو يشبع رغباتك الباطنة.. فقس على نفسك نفوس جميع الأحياء، وتأمل فيها تجد أن كل كائن منها يشهد بفَقره وحاجاته المقضيّة من غير حول منه ولا قوة على الواجب الوجود، ويشير بهما الى وحدانيته سبحانه وتعالى، كما يدل عليه بمجموعه كدلالة ضوء الشمس على الشمس نفسها ويبين للعقل المنصف أنه سبحانه في منتهى الكرم والرحمة والربوبية والتدبير.

فما أبغض جهلك.. وألعنَ غفلتك.. أيها الجاهل الغافل المكابر.. كيف تفسر هذه الفعالية الحكيمة والبصيرة والرحيمة؟!

أبالطبيعة الصماء؟ أم بالقوة العمياء؟ أم بالمصادفة العشواء؟ أم بالأسباب الجامدة العاجزة؟

النافذة الثانية

بينما تتردد الأشياء بين الوجود والتشخص وتحار بين طرق الإمكانات والاحتمالات غير المتناهية، اذا بها تُمنح صورة مميزة لها، غايةً في الإنتظام والحكمة..

تأمل في العلامات الفارقة الموجودة في وجه كُلِّ إنسان، تلك العلامات التي تميّزه عن كل واحد من أبناء جنسه، وأمعن النظر فيما أودع فيه بحكمة بديعة من حَوَاسَّ ظاهرةٍ ومشاعر باطنة.. ألا يثبت ذلك أن هذا الوجه الصغير آية ساطعة للأحدية؟

فكما أن كل وجه يدل - بمئات الدلائل - على وجود صانعٍ حكيم، ويشهد على وحدانيته، فمجموع الأوجه ايضاً، وفي الأحياء كافة تبيّن للبصيرة النافذة أنها آية كبرى جليلة للخالق الواحد الأحد.

فيا أيها المنكر.. أتقدر أن تحيل هذه العلامات والاختام التي لا تقلد، أو أن تسند الآية الكبرى للاحد الصمد الساطعة في مجموعها.. الى غير بارئها المصور؟

النافذة الثالثة

إنَّ أنواع النبات، وطوائف الحيوان، المنتشرة على الارض هي أكثر من اربعمائة ألف نوع وطائفة(1)، وكأنها جيش هائل عظيم، فنرى ان كل نوع من هذا الجيش له رزقه المختلف عن الآخر وصورته المتباينة، وأسلحته المتنوعة وملابسه المتميزة، وتدريبه الخاص وتسريحه المتفاوت من الخدمة.. وتجري هذه كلها في نظام متقن، ووفق تقدير دقيق.

فإدارة هذا الجيش العظيم، وتربية افراده، دونما نسيان لأحد ولا التباس، لهي آية ساطعة كالشمس للواحد الأحد.

فمن ذا يستطيع أنْ يمدَّ يد المداخلة في هذه الادارة المعجزة من دون مالكها القدير الذي لا حدّ لقدرته، ولا حدود لعلمه، ولا نهاية لحكمته! ذلك لأن الذي يعجز عن إدارة وتربية هذ الأنواع المتداخلة ببعضها والأمم المكتنفة بعضها في بعض، دفعةً واحدة وفي آن واحد، يعجز كلياً عن مباشرة خلق واحد منها، اذ لو حصلت مداخلته في أي منها لظَهَر أثرُه، وبان النقصُ والقصور] فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُور[ (الملك:3).

فلا فطور ولا نقص، اذن فلا شريك.

النافذة الرابعة

هي أستجابة الخالق لجميع الأدعية المنطلقة بلسان استعدادات البذور، وبلسان احتياجات الحيوانات، وبلسان اضطرار المستغيثين من بني الانسان..

نعم، انَّ الاستجابة لجميع هذه الادعية غير المحدودة استجابة فعليةً، باديةٌ أمامنا، نشاهدها رأي العين.

فكما يشير كُلّ منها الى (الواجب الوجود) والى الوحدانية، فان مجموع تلك الاستجابات تدل بالبداهة - وبمقياس أوسع وأعظم على خالق رحيم كريم مجيب، وتوجِّه الأنظار اليه سبحانه.

النافذة الخامسة

اذا أمعنا النظر في الأشياء، ولا سيما الأحياء، نشاهدها وكأنها قد خرجت من يد الخلق لتوها، وبرزت الى الوجود بروزاً فجائياً... فبينما ينبغي ان تكون الاشياء المركبة آنياً وعلى عجل بسيطةَ التركيب ومشوهة الشكل، ومن دون إتقان، نراها تُخلَقُ في أتقن صنعة وأبدعها؛ هذا الإتقان والإبداع الذي يتطلب مهارة فائقةً..

ونراها في أروع نقش وأدق صورة؛ هذه الروعة والدقة التي تحتاج الى صبر عظيم وزمن مديد..

ونراها في زينة فاخرة وجمال أخاذ؛ هذه الزينة وهذا الجمال اللذان يستدعيان آلات تجميل متنوعة، ووسائل زينة كثيرة...

فهذا الإتقان المعجِز، والصورة البديعة، والهيأة المنسقة، والابداع الآني، كلٌ منه يشهد على وجود الصانع الحكيم، ويشير الى وحدانية ربوبيته. كما أن مجموعه يبيّن بوضوح (الواجب الوجود) القدير الحكيم، ويبين وحدانيته سبحانه.

فيا أيها الغافل عن ربه، الحائر في أمر الموجودات..هيَّا.. بماذا توضح هذا الأمر وتفسره؟ أفتفسره بالطبيعة العاجزة البليدة الجاهلة؟ أم تريد أن تقترف بجهلك خطأ لا حدود له، فتقلد الطبيعة صفات الألوهية، وتنسب اليها بهذه الحجة معجزات قدرة ذلك الصانع الجليل المنزّه عن كل نقص وعيب، فترتكب ألف محال ومحال.

النافذة السادسة

] اِنّ في خَلْقِ السَّمواتِ والاْرضِ وَاخْتِلافِ الَّيْل وَالنَّهارِ وَالفُلْكِ الّتى تَجْرى في البَحرِ بمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمآ اَنَزَلَ الله مِنَ السَّمآءِ مِنْ مآءٍ فَاحيا بِهِ الارضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فيها من كُلِّ دَآبةٍ وَتَصْريفِ الرِّياحِ وَالسّحَابِ الـمُسخَّرِ بَيْنَ السَمَآءِ والارضِ لاياتٍ لِقَوْمٍ يَعقِلوُنَ[ (البقرة: 164).

هذه الآية الكريمة كما أنها تبين وجود الله سبحانه وتعالى وتدل على وحدانيته، فهي في الحقيقة نافذة عظيمة جداً تطل على الاسم الأعظم من الأسماء الحسنى. وزبدة خلاصتها:

ان جميع عوالم الكون علوّيها وسفليّها، تدل بألسنة مختلفة على نتيجة واحدة، أي على ربوبية صانعٍ حكيمٍ واحد، وكما يأتي:

ان جريان الأجرام في (السماوات) بمنتهى النظام لبلوغ غايات جليلة، ونتائج سامية - بتقرير علم الفلك نفسه - إنما يدل على وجود الهٍ قدير ذي جلال ويشهد على وحدانيته وربوبيته الكاملة.

كما ان التحولات المنتظمة في (الأرض) والمشاهَدة في المواسم لحصول منافع عظيمة ومصالح شتى - بتقرير الجغرافية - إنما تدل دلالة واضحة على ذلكم القدير ذي الجلال، وتشهد على وحدانيته وربوبيته الكاملة.

ثم ان جميع (الحيوانات) التي تملأ البر والبحر والتي يُرْسَلُ رزقُ كُلٍّ منها برحمة واسعة، وتُكسى بأثواب متنوعة، بحكمة تامة، وتجهّز بحواس مختلفة،بربوبية كاملة.. يشير كل منها الى ذلك القدير ذي الجلال، ويشهد على وحدانيته، كما أن مجموعها ككل يدل معاً وبمقياس واسع جداً على عظمة الألوهية وكمال الربوبية.

وكذا الحال في (النباتات) الموزونة المنتظمة التي تفرش الأرض والبساتين والزروع، كل منها يدل على ذلك الصانع الحكيم، ويشير الى وحدانيته بما تحمل من أزاهير جميلة، وما تنتج هذه الازاهير من ثمار موزونة، وما على هذه الثمار من نقوش رائعة، فكما ان كلاً منها على حدة يدل عل الصانع فإن مجموعَها يظهر جمال رحمته سبحانه، وكمال ربوبيته.

ثم ان (القطرات) المسخرة لحِكَمٍ غزيرة، ولغايات سامية، ومنافعَ جليلة، وفوائد جمّةً، والتي تُرسل من السحب الثقال المعلقة بين السماء والأرض، تدل بعدد القطرات على ذلك الصانع الحكيم، وتشهد على وحدانيته وكمال ربوبيته.

كما أن (الجبال) الراسيات، وما في أجوافها من معادن، وما لكلٍ منها من خواص، وما أدّخر فيها من غايات شتى، والمعدّة لمصالح عدة، كل منها على حدة وبمجموعها معاً، تدل دلالة أقوى من الشمّ الرواسي على ذلك الصانع الحكيم وعلى وحدانيته وكمال ربوبيته.

ثم ان أنواع (الازاهير) الجميلة اللطيفة المنثورة عل التلال والروابي والصحارى، وقد أضفى عليها البهاء والجمال، كُلُّ منها يدل على ذلك الصانع الحكيم ويشهد على وحدانيته، مثلما أن مجموعها العام يدل على عظيم سلطانه وكمال ربوبيته.

ثم ان أنواع (الاوراق) وأشكالها المنسقة، واهتزازاتها اللطيفة الجذابة في النباتات والاشجار والأعشاب كافة تشهد بعدد الأوراق على ذلك الصانع الحكيم، وعلى وحدانيته وكمال ربوبيته.

ثم ان (نمو الاجسام) بخطوات هادفة مطردة، وتجهيز كل منها بأنواع من الاجهزة المتوجهة معاً الى تكوين الثمار، وكأنه توجُّهٌ شعوري، يجعل كل جسم نامٍ بأجزائه ومجموعه، يشهد لذلك الصانع الحكيم ويشير الى وحدانيته، ويدل دلالة أعظم على قدرته المحيطة، وحكمته الشاملة، وصنعته الجميلة، وربوبيته الكاملة.

ثم ان إيداع (النفس) في الجسد، وتمكين (الروح) من كل كائن حيواني بحكمة تامة، وتسليحه بأسلحة متنوعة، وتزويده بأعتدة مختلفة بنظام كامل، وتوجيهه الى مهمات جليلة، واستخدامه في وظائف متنوعة بحكمة تامة، يشير إشارات بعدد الحيوانات بل بعدد أجهزتها وأعضائها الى وجود ذلك الصانع الحكيم، ويشهد على وحدانيته، مثلما أن مجموعها الكلي يدل دلالة ساطعة على جمال رحمته وكمال ربوبيته.

ثم أن جميع (الإلهامات) الغيبية التي ترشد قلوب الناس وتُفقِّهها بالعلوم والحقائق، وتُعلّم الحيوان الاهتداء الى توفير ما يحتاجه من حاجات... هذه الإلهامات الغيبية بأنواعها المختلفة تُشعِرُ كُلَّ ذي بصيرة بوجود رب رحيم وتشير الى ربوبيته.

ثم ان جميع (المشاعر) المتنوعة والحواس المختلفة - الظاهرة منها والباطنة - والتي تجني الازاهير المعنوية من بستان الكون، وكون كل حاسة منها مفتاحاً لعالم من العوالم المختلفة في الكون الواسع، تدل كالشمس على وجود صانع حكيم عليم، وخالق رحيم، ورزاق كريم، وتشهد على واحديته وأحديته وكمال ربوبيته.

فهذه النوافذ الأثنتا عشرة، كلٌ منها تمثل وجهاً لنافذة واسعة، فتدل بأثني عشر لوناً من ألوان الحقيقة على أحدية الله سبحانه، ووحدانيته وكمال ربوبيته.

فيا أيها المكذّب الشقي!.. كيف تستطيع أن تسدَّ هذه النافذة الواسعة سَعَةَ الأرض.. بل الواسعة سعة مدارها السنوي.؟! وبأي شئ يمكنك ان تطفئ منبع هذا النور الساطع كالشمس؟. وبأي ستار من ستائر الغفلة يمكنك أن تخفيه..؟!

النافذة السابعة

ان ما يبدو عياناً في جميع المصنوعات المبثوثة على صفحات الكون من مظاهر النظام والموازنة التامة، وما تتشكل فيه من صور الزينة والجمال، وما يشاهد من سهولة متناهية في انبعاثها الى الوجود وتملكها للحياة، وما هي عليه من تشابه بعضها للبعض الآخر في المظاهر أو الماهيات فضلاً عن استجاباتها الفطرية الواحدة للأحداث الكونية.. كل من هذه المظاهر والخصائص دليل واسع سعة الكون على الخالق القدير، وشهادة صادقة قاطعة على وحدانيته سبحانه وقدرته المطلقة.

وكذا ان (ايجاد مركبات) منتظمة لا تعد ولا تحصى من عناصر جامدة بسيطة التركيب، يشهد شهادة قاطعة بعدد المركبات على ذلك الخالق القدير الواجب الوجود سبحانه، ويشير إشارة صريحة الى وحدانيتة، فضلاً عن أن مجموعها العام يبين بياناً باهراً كمال قدرته ووحدانيته.

وكذا ان ما يشاهد من (تمايز) واضح و (افتراق) كامل أثناء تجدد الموجودات - بالتحليل والتركيب - رغم كونها في منتهى الإختلاط والامتزاج يدل دلالة واضحة على ذلك الحكيم المطلق الحكمة، والعليم المطلق العلم، والقدير المطلق القدرة، ويشير الى وجوب وجوده سبحانه وكمال قدرته.

فخذ مثلاً: تسنبل الحبوب المدفونة في جوف الأرض، ونمو أصول الأشجار الى نباتات مختلفة وأشجار متباينة، رغم الاختلاط والتشابك، وكذلك تميُّز المواد المختلفة الداخلة في النباتات والاشجار المتنوعة الى اوراق زاهية وألوان جميلة، وثمار لطيفة رغم الامتزاج الشديد. بل حتى تمايز وتجزءُ المواد الغذائية الدقيقة الداخلة في حجيرات الجسم بحكمة كاملة وبميزان دقيق رغم الامتزاج والاختلاط.

وكذا ان تسخير (ذرات) جامدة عاجزة جاهلة للقيام بمهام في غاية الانتظام والشعور والقدرة والحكمة، وجعل (عالم الذرات) ما يشبه مزرعة عظيمة هائلة تزرع فيها كل حين عوالم، وتحصد اخرى بحكمة تامة.. كلها دلائل واضحة على وجوب وجود ذلكم القدير ذي الجلال، وذلكم الخالق ذي الكمال، وتشهد شهادة قوية على كمال قدرته، وعظيم ربوبيته، وعلى وحدانيته وكمال ربوبيته.

وهكذا تؤدي بنا هذه الطرق الأربع الواسعة الى نافذة عظيمة جداً تنفتح على المعرفة الإلهية، حيث يطل منها نظر العقل الحاد على وجود الخالق الحكيم.

فيا أيها الغافل الشقي بغفلته! إن لم تُرِد بعد هذا كله رؤيته ومعرفته عدّ نفسك من الانعام!

النافذة الثامنة

ان جميع الأنبياء عليهم السلام الذين هم أصحاب الارواح النيّرة في النوع الإنساني مستندين الى معجزاتهم الظاهرة الباهرة، وجميع الأولياء الذين يمثلون أقطاب القلوب المنورة معتمدين على كشفياتهم وكراماتهم، وجميع الأصفياء العلماء الذين يمثلون أرباب العقول النورانية مستندين الى تحقيقاتهم العلمية.. يشهدون جميعاً على وجوب وجود الواحد الأحد الخالق لكل شئ، ويدلون على كمال ربوبيته ووحدانيته.

هذه النافذة واسعة جداً ومنورة مضيئة ساطعة، وهي مفتوحة أبداً لإظهار ذلك المقام الرفيع للربوبية.

فيا أيها المنكر الحيران!.. بِمَ تَعْتَدّ وتفتخر، حتى لا تلقي لهذه الحقائق سمعاً؟! لعلّك تظن أنك بإطباق جفنيك تستطيع أن تجعل نهار الدنيا ليلاً.. ألا هيهات..!

النافذة التاسعة

ان (العبادات) التي تؤديها الكائنات بأسرها تدل بالبداهة على معبود مطلق..

نعم!.. ان العبودية الخالصة التي يؤديها الملائكة والروحانيات عموماً، والثابتة بشهادة الذين عَبَروا الى عالم الارواح من البشر، واستبطنوا بواطن الوجود. والتقوا هناك الملائكة والروحانيات، وشاهدوهم في عباداتهم وتسابيحهم..

وقيام جميع ذوي الحياة - مهما كانوا - بمهامهم التي خلقوا لها على أتم نظام، وامتثالهم للأوامر الإلهية امتثال عبد مأمور..

وأداء جميع الجمادات خدماتها المتسمة بعبودية كاملة على أتم طاعة..

ان جميع هذه العبادات المشاهدة تشير الى المعبود الحق الواجب الوجود والى وحدانيته.

وان جميع (المعارف) الحقة التي يحملها جميع العارفين نتيجة اخلاصهم في عبوديتهم للّه.. والشكر المثمر النابع من صميم قلوب الشاكرين.. والاذكار المنورة التي ترطب ألسنة الذاكرين.. والحمد المزيد للنعمة الذي يلهج به الحامدون.. والتوحيد الحقيقي المصدَّق بآيات جميع الموجودات الذي يبثه الموحدون.. والحب الإلهي وعشقه الصادق الذي يشيعه المحبون والواجدون.. ورغبات المريدين الخالصة في الله، وحزم ارادتهم في السير اليه.. والإنابة الصادقة، والتوسل الحزين لدى المنيبين..

كل هذه الظواهر المنبعثة من جميع هؤلاء الذين يحمل كل منهم قوة التواتر والاجماع، تدل دلالة قوية على وجوب وجود ذلكم المعبود الأزلي؛ المعروف، المذكور، المشكور، المحمود، الواحد، المحبوب، المرغوب، المقصود، وتدل على كمال ربوبيته ووحدانيته.

ثم إنّ جميع العبادات المقبولة التي يتعبد بها الكاملون من الناس، وما ينبعث من تلك العبادات المُرضية من فيوضات ومناجاة ومشاهدات وكشفيات، جميعها تدل دلالة قوية جداً على ذلك الموجود الباقي، وذلك المعبود الأبدي وعلى أحديته وكمال ربوبيته.

فهذه النافذة المضيئة والواسعة جداً، تنفتح من ثلاث جهات انفتاحاً على الوحدانية.

النافذة العاشرة

] وَاَنْزَلَ مِنَ السَّمآءِ مَآءً فَاَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ في الْبَحْرِ بِاَمْرِهِ وَسَخَّر لَكُمُ الاَنْهَارَ^ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمسَ وَالقَمَرَ دآئِبَيْنِ وَسَخّرَ لَكُمُ الّيلَ والنَّهارَ^ وَآتيكمُ مِنْ كُلِّ مَا سَألتُمُوهُ وَاِنْ تَعدّوا نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا[ (ابراهيم: 32ـ 34).

إن معاونة الموجودات بعضها للبعض الآخر وتجاوبها فيما بينها، وتساندها في الوظائف والواجبات.. يدل على أن كل المخلوقات تحت تربية ورعاية مُربٍّ واحد أحد. وأن الكل تحت أمر مدبر واحد أحد.. وان الكل تحت تصرف واحد أحد.. ذلك لأن (دستور التعاون) بين الموجودات، يجري ابتداءً من الشمس، التي تهئ بأمر الله لوازم الحياة للأحياء، ومن القمر الذي يعلمنا المواقيـت، وانتهاءً الى امداد الضوء والهواء والماء والغذاء لذوي الحياة، وامداد النباتات للحيوانات، وامـداد الحيوانات للانسان، بل حتى امداد كل عضو من اعـضاء الجسم للآخر، وامداد ذرات الغذاء لحجيرات الجسم.. فخضوع هذه الموجودات الجامدة الفاقدة للشعور وانقيادها لدستور التعاون وارتباطها معاً ارتباط تفاهم وتجاوب في منتهى الحكمة، وفي منتهى الايثار والكرم، وجعل كل منها يسـعى لاغاثة الآخر وإمداده بلوازم حياته، ويهرع لقضاء حاجياته واسعافه، تحت ظل قانون الكرم وناموس الرأفة، ودستور الرحمة.. كل ذلك يدل بداهة على أن جميعها مخلوقات مأمورات ومسخرات عاملات للواحد الأحد، الفرد الصمد، القدير المطلق القدرة، والعليم المطلق العلم، والكريم المطلق الكرم.

فيا أيها المتفلسف المفلس! ما تقول في هذه النافذة العظيمة؟ أيمكن للمصادفة التي تعتقد بها أن تتدخل في هذه الأمور..؟

النافذة الحادية عشرة

] اَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُ الْقُلُوبُ[ (الرعد: 28).

انه لا خلاص للقلوب والارواح من قبضة القلق الرهيب، ومن دوامات الإضطراب والخوف، ومن ظمأ الضلالة وحرقة نار البعد عن الله الاّ بمعرفة خالق واحد أحد.. اذ ما ان يُسلَّم أمر القلوب والارواح، وأمر كل الموجودات الى خالق واحد احد حتى تجد راحتها، وتحظى بخلاصها من عناء تلك الزلازل النفسية المدمّرة وتسكن من ذلك القلق وتستقر وتطمئن..

لأنه ان لم يُسنَد أمر الموجودات كافة الى واحد أحد، فسَيُحالُ خلق كل شئ اذن الى ما لا يُحدُّ من الأسباب.. وعندها يكون ايجاد شئ واحدٍ مشكلاً وعويصاً كخلق الموجودات كلها، ولقد أثبتنا في الكلمة الثانية والعشرين انه:

إن فُوِّض أمرُ الخلق الى الله، فقد فوّض اذن ما لا يحدُّ من الاشياء الى الواحد الأحد، والاّ فسيكون أمر كل شئ بيد ما لا يحدُّ من الاسباب، وفي هذه الحالة يكون خلق ثمرة واحدة مثلاً فيه من المشكلات والصعوبات بقدر الكون كله، بل أكثر. ولنوضح ذلك بمثال:

فكما ان تفويض ادارة جندي واحد الى أمراء عديدين فيه مشاكل عديدة جداً، بينما تفويض ادارة مائة جندي الى ضابط واحد فيه سهولة بالغة كأدارة جندي واحد، كذلك اتفاق ما لا يحد من الأسباب في ايجاد شئ واحد فيه مئات الاضعاف من الاشكالات. بينما في ايجاد الواحد الأحد للأشياء العديدة، فيه مئات الأضعاف من السهولة.

وهكذا فما يستشعره الانسان من لهفة الى الحقيقة وتَوقٍ اليها، يجعله دائم القلق والإضطراب ما لم يبلغها. فلا يجد الاطمئنان والسكون الاّ بتوحيد الخالق ومعرفة الله سبحانه ذلك لأن سلوك سبيل الكفر الذي فيه ما لا يحد من الاضطرابات والمشاكل محال، ولا حقيقة له اصلاً. بينما التوحيد فيه من السهولة المطلقة في خلق الموجودات بهذه الكثرة والابداع بحيث لا يدع للانسان مجالاً الاّ سلوكه، ولا غرو لأنه أصيل وحقيقي.

فيا مَن يتبع الضلالة.. ويا أيها الشقي المسكين!.. تأمل طريق الضلالة ما أظلمه وما أشده ايلاماً لوجدان الانسان، فلا تحاول قط ان تقحمه.. ثم تأمل في طريق التوحيد فما أصفاه وما أبسمه فاسلكه وانجُ بنفسك!

النافذة الثانية عشرة

] سَبِّحْ اِسْمَ رَبِّكَ الاَعلى^ اَلذَّى خَلَقَ فَسَوّى^ وَالّذىِ قَدَّرَ فَهَدى[ (الأعلى:1-3) .

هذه الآيات الكريمة ترشدنا الى أن جميع الأشياء ولا سيما الأحياء تظهر الى الوجود وكأنها خرجت من قالب مصمَّم تصميماً حكيماً يَهَبُ لكلّ شئٍ مقداراً منتظماً وصورةً بديعة يشفّان عن حكمة واضحة. فنرى في الجسم خطوطاً متعرجة، وانحناءات وانعطافات تنشأ عنها فوائد شتى للجسم، ومنافع عديدة تسهل له أمر أداء وظيفته التي خلق من أجلها على أتم وجه.

فالموجود له صورة معنوية في علم الله تمثل مقدراته الحياتية، وهي تلازم الصورة المادية وتنتقل معها في مراحل نموها، ثم تتبدل تلك الصورة والمقادير في مسيرة حياته تبدلاً يلائم الحكمة في خلقه وينسجم كلياً مع المصالح المركبة عليه، مما يدل بالبداهة على ان صور تلك الاجسام ومقاديرها تُفصَّل وتُقدَّر تقديراً معيناً في دائرة القدر الإلهي، الجليل الحكيم ذي الكمال، وتُنظَّم تلك الصور وتُنسَّق بيد القدرة الإلهية وتمنحها الوجود المعيّن المقدّر.

فتلك الموجودات غير المحدودة تدل على الواجب الوجود، وتشهد بألسنةٍ لا تحد على وحدانيته وكمال قدرته.

تأمّل فيما يحويه جسمك واعضاؤك أيها الانسان من حدود متعرجة والتواءات دقيقة.. وتأمل في فوائدها ونتائج خدماتها وشاهد كمال القدرة في كمال الحكمة.

النافذة الثالثة عشرة

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه[

ان كل شئ يذكر خالقه ويسبّحه بلسانه الخاص، كما هو المفهوم من هذه الآية الكريمة.

نعم، ان التسبيحات المرفوعة من قبل الموجودات سواء بلسان الحال أو المقال، تدل دلالة واضحة على وجود ذات مقدسة لواحد أحد..

نعم، ان دلالة الفطرة صادقة، وشهادتها لا ترّد. ولا سيما اذا كانت الشهادة صادرة عن دلالة الحال، وبخاصة اذا توافرت الدلالات من جهات عدة، فهي شهادة صادقة لا تقبل الشك قطعاً.

فتأمل الآن في صور الموجودات المتناسقة، تَرَها قد اتفقت كما تتفق الدوائر المتداخلة في توجهها نحو نقطة المركز؛ لذا فهي تنطوي على دلالات بلسان الحال وبأنماط لا حدَّ لها وعلى شهادات الفطرة بانواع لا حدّ لها، اذ كل صورة منها لسان شاهد بحد ذاته. وهيئتها المتناسقة هي الأخرى لسان شاهد صادق، بل حياة الموجود كلها لسان ذاكر بالتسبيح.

ولقد اثبتنا في الكلمة الرابعة والعشرين؛ ان جميع هذه التسبيحات البادية للمتأمل، والمنبعثة بألسنة الحال أو المقال من جميع الموجودات وتحياتها وشهاداتها الدالة على ذات مقدسة مباينة، تُظهر بوضوح ذلك الواحد الأحد الواجب الوجود، وتدل على كمال ألوهيته سبحانه.

النافذة الرابعة عشرة

] قُلْ مَنْ بيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيءٍ[ (المؤمنون:88)

] وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلاَ عِنْدَنَا خَزَآئِنُهُ[ (الحجر:21)

] مَا مِنْ دَآبَّةٍ اِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِها[ (هود:56)

] ان ربي على كل شيء حَفيظ[ (هود:57)

يفهم من هذه الآيات الكريمة أن كل شئ، في كل شأنٍ من شؤونه، مفتقرٌ الى الخالق الواحد الأحد ذي الجلال. فإلقاء نظرة فاحصة على ما هو منبسط بين أيدينا من موجودات الكون، نشاهد مظاهرَ قوةٍ مطلقة تنضح من خلال ضعفٍ مطلقٍ مشاهَدٍ..

ونشاهد آثارَ قدرة مطلقة تَبين من بين ثنايا عجز مطلقٍ ملموس. كالحالات الخارقة التي تظهرها بذور النباتات وأصولها أثناء نموها وانتباه العقد الحياتية فيها.

ونرى ايضاً مظاهر غنى مطلق تتظاهر ضمن فقر مطلق وجدب تامّ. كما في الثروة الطافحة، وأوضاع الخصب الغامر للأرض والنباتات في الربيع بعد أن كانت في يبوسة وجدب في الشتاء.

ونرى ترشحات حياة مطلقة في بواطن جمود مطلق، وخمود تام، كما هو في انقلاب العناصر الجامدة - كالتراب والماء - الى مواد تنبض بالحياة في الكائنات الحية.

ونرى مظاهر شعور كامل طَي جهل مطبق، كما هو في حركات كل شئ وجريانه - ابتداءً من الذرات الى المجرات - تلك الحركات المتسمة بالشعور الكامل والانسجام التام مع نظام الكون كله، والملائمة ملائمة تامة مع مقتضيات الحياة ومطاليب الحكمة المقصودة من الوجود.

فالقدرة الكامنة في الضعف والعجز..

والقوة التي تتراءى ضمن معدن الضعف..

والثروة والغنى الموجودان في ذات الفقر..

وأنوار الحياة والشعور المحيط المشعَّان من خلال الجمود والجهل..

فكل مظهر من هذه المظاهر يفتح من جانبه نوافذ تظهر بالبداهة والضرورة وجوب وجود ووحدانية ذات مقدسة لقدير مطلق القدرة. وغني مطلق الغنى، لقوي مطلق القوة وعليم مطلق العلم. وحي قيوم...

فضلاً عن أن مجموعها يشهد على وحدته، ويبين الصراط السوي بياناً واضحاً وبمقياس أعظم.

فيا أيها الغافل المتردي في مستنقع الطبيعة!

إن لم تعرف عظمة القدرة الربانية، ولم تنبذ مفوم خلاقية الطبيعة، فما عليك الاّ ان تسند الى كل شئ في الوجود، بل حتى الى ذرة، قوة هائلة لا حدود لها، وقدرة عظيمة لا منتهى لها، وحكمة بالغة لا حد لحدودها، ومهارة فائقة بلا نهاية. بل عليك ان تسند الى كل شئ بصراً نافذاً الى كل شئ، وإدارة حازمة تحيط بكل شئ!!.

النافذة الخامسة عشرة

] اَلذَّي اَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ[ (السجدة:7)

إن كُلَّ شئ قد فصّل على قدِّ قامة ماهيته، تفصيلاً متقناً، ووُزنَ بميزان دقيق كامل الوزن عليها، ونُظم تنظيماً تاماً فيها، ونُسق تنسيقاً بارعاً، وصُنع بمهارة، واُلبس أجمل صورة، وألطف ثوب، وأبهى طراز، من أقرب طريق اليه، وأسهل شكل يُعينه على أداء مهمته، ووُهب له وجود ينضح حكمةً، لا عبث فيه ولا اسراف.

فخذ مثلاً، الطيور؛ لباسها الريش الناعم اللطيف. فهل يمكن أن تلبس ثوباً أنسب لها ولحكمة خلقها منه..

أيّ لطف وجمال حين تنظّفه! وأي يسر وسهولة حين تحركه وتستخدمه في شتى أمورها الحياتية والمعاشية!.

وهكذا، كل ما في الوجود شاهد ناطق - كهذا المثال - على الخالق الحكيم. وكل منه اشارة واضحة الى قدير عليم مطلق القدرة والعلم.

النافذة السادسة عشرة

ان ما يشاهد على سطح الأرض من انتظام واطراد في خلق المخلوقات، وتدبير أمورها، وتجديدها باستمرار في كل موسم، يدل بالبداهة على حكمة عامة تغمر الموجودات. هذه الحكمة العامة تدل بالضرورة على حكيم مطلق الحكمة، اذ لا صفة دون موصوف.

ثم إن أنواع الزينة البديعة التي تؤطر ستار الحكمة العامة الذي يتلفع الوجود به، تدل بالبداهة على عناية فائقة عامة، وهذه العناية تدل بالضرورة على خالق كريم.

ان أنواع اللطف والكرم، وألوان الرفق والإحسان المرسومة على ستار العناية الذي يغطي الوجود كله، تدل بالبداهة على رحمة واسعة، وهذه الرحمة الواسعة تدل بالضرورة على (الرحمن الرحيم).

ثم ان أنواع الرزق، وانماط الإعاشة، المزهرة على أغصــان الرحمـة التي تظلل بافنانها كُلَّ شئ، والمعدّة للأحياء المحتاجة الى الرزق، وإعاشتها إعاشة تلائمها تماماً، يدل بالبداهة على رزاقية ذات تربية ورعاية.. وربوبية ذات رأفة ورحمة..

وهذه التربية والإدارة تدلان بالضرورة على رزاّق كريم.

نعم، ما على الأرض من مخلوقات تُربّى بحكمة كاملة، وتُزيَّن بعناية كاملة، وتُسبغ عليها النعم برحمة كاملة، وتُمدُّ بوسائل عيشها برأفة كاملة، فكُلٌّ منها لسان ناطق ومشير الى الله الحكيم، الكريم، الرحيم، الرزّاق.

وكُلٌ منها ايضاً يشير الى وحدانيته.

كما أنَّ ما على الأرض من حكمة ظاهرة يُستَشَف منها القصد والارادة..

وما عليها من عناية عامة التي تتضمن تلك الحكمة..

وما عليها من رحمة تسع الوجود والتي تتضمن العناية والحكمة..

وما عليها من رزق شامل عام للأحياء واعاشة كريمة لطيفة، والتي تتضمن الرحمة والعناية والحكمة...

فكل من هذه المظاهر وبمجموعها تدل دلالة عظيمة جداً على الحكيم، الكريم، الرحيم، الرزاق، وتدل على وجوب وجوده سبحانه وعلى وحدانيته وكمال ربوبيته.اذ إن ما في الحكمة من عناية، وما في العناية من رحمة، وما في الرحمة من إعاشة وإرزاق دلالات قاطعة وبمقياس واسع جداً على الواجب الوجود بمثل دلالة الألوان السبعة على ضوء الشمس الذي يملأ النهار نوراً.

فيا أيها الغافل الحائر الجاحد!

كيف تفسر هذه التربية المكللة بالحكمة البالغة، والكرم الشامل، والرحمة الواسعة، والرزق الوفير، وبِمَ توضح هذه المظاهر المعجزة؟

أفيمكن تفسيرها بالمصادفة العشواء؟ أم يمكن توضيحها بالقوة الميتة موات قلبك؟ أم يمكن ذلك بالطبيعة الصمَّاء صمَم عقلك؟ أم بالأسباب العاجزة الجامدة الجاهلة مثلك؟ أم تريد ان ترتكب خطأً جسيماً - ما بعده خطأ - وهو اطلاقك صفات البارئ الجليل المنزّه المتعال والقدير العليم السميع البصير، على (الطبيعة) العاجزة الجاهلة الصمَّاء العمياء؟

فبأي قوة يمكنك أن تطفئ سراج هذه الحقيقة الساطعة سطوع الشمس؟ وتحت أي ستار من أستار الغفلة يمكنك أن تسترها؟

النافذة السابعة عشرة

] إنَّ في السّمواتِ والاَرْضِ لايَاتٍ لِلْمؤمِنينَ[ (الجاثية:3)

اذا تأملنا وجه الارض المبسوط أمامنا نَرى:

ان سخاءً مطلقاً يتجلى في إيجاد الأشياء. فبينما يقتضي السخاء ان تكون الأشياء في فوضى وعدم انتظام، اذا بنا نشاهدها في غاية الانسجام ومنتهى الانتظام. شاهدْ جميع النباتات التي تزيّن وجه الأرض تَرَ هذه الحقيقة.

ونرى أيضاً سرعة مطلقة تتبين في إيجاد الأشياء. فبينما تقتضي السرعة ان تكون الأشياء مشوهة الصورة، مختلة المادة، ومضطربة الميزان، وينقصها الإتقان، إذا بنا نشاهدها في غاية التقدير والضبط والسبك، ومنتهى الدقة والموازنة. لاحظ جميع الأثمار التي تجمل وجه الأرض حيث تبدو هذه الحقيقة فيها على احسن وجه.

ونرى ايضاً وفرةً وغزارةً مطلقة في ايجاد الأشياء، فبينما تقتضي الكثرة ان تكون الأشياء تافهة ومبتذلة وربما قبيحة، اذا بنا نشاهدها في اتقان رائع، وصنعة بديعة وجمال أخَّاذ. أنظر وتأمل في جميع الأزهار التي ترصّع وجه الأرض. ألا يبدو ذلك فيها تماماً!.

ونرى ايضاً سهولة مطلقة تبدو في إيجاد الأشياء. فبينما تقتضي السهولة ان تكون الأشياء بسيطة ومفتقرة الى الإتقان والمهارة. اذا بنا نشاهدها في كمال الإبداع وروعة المهارة. شاهد البذور وأمعن النظر في النوى، تلك العلب الدقيقة الحاملة في مادّة تركيبها فهارس أجهزة الشجر وخرائط أجسام النبات.

ونرى ايضاً بُعداً مطلقاً يفصُل بين أزمنة وأمكنة إيجاد الأشياء، فبينما تقتضي هذه الأبعاد المهولة أن تأتي الأشياء مختلفة ومتباينة، اذا بنا نشاهدها في اتفاق تام في الصفات والخواص. شاهد أنواع الحبوب المزروعة في أقطار الأرض كافة رغم البعد الزماني والمكاني الذي يفصل بينها.

ونرى ايضاً اختلاطاً مطلقاً، وتشابكاً متيناً في إيجاد الأشياء. فبينما يقتضي هذا الأختلاط تداخل المواد بعضها في البعض الآخر وتشابكها، اذا بنا نشاهدها في تمايز كامل، وتخصص منتظم. شاهد البذور المنثورة المدفونة تحت التراب، وأمعن النظر في تمايزها أثناء نموها وتسنبلها، رغم تشابه تراكيبها. وتأمل في المواد المختلفة الداخلة في بنية الأشجار، وتحوّلها الى مختلف الأشكال من الأوراق الرقيقة، والأزهار الزاهية، والثمار اللطيفة. وتأمل في انواع الطعام والأغذية المختلفة الداخلة في المعدة، وتمايز بعضها عن البعض، ودخول كل منها الى العضو الذي يناسبها بل الى الحجيرة التي تلائمها بتمايز واضح.. شاهد آثار القدرة المطلقة، من خلال الحكمة المطلقة.

ونرى ايضاً وفرة متناهية في الأشياء، وكثرة كاثرة من أنواعها وأشكالها. فبينما تقتضي هذه الوفرة أن تكون الأشياء رخيصة بسيطة، اذا بنا نشاهدها في غاية النفاسة ومنتهى الجودة. شاهد الأثار البديعة المعدَّة لمائدة الأرض، وأمعن النظر في ثمرة واحدة، ولتكن ثمرة التوت مثلاً. ألا تمثل هذه الثمرة نموذجاً رائعاً لحلوى مصنوعة بيد القدرة الإلهية؟ شاهد كمال الرحمة، من ثنايا كمال الأبداع.

وهكذا نشاهد على وجه الأرض جميعه؛ جودة ونفاسة في المصنوعات رغم وفرتها غير المتناهية.. ونرى ضمن هذه الوفرة تميزاً للموجودات رغم اختلاطها وتشابكها.. ونجد في هذا الإختلاط والتشابك اتفاقاً وتشابهاً في الموجودات رغم البعد فيما بينها.. ونبصر من ثنايا هذا التوافق جمالاً رائعاً في الموجودات ورعاية بالغة بها رغم السهولة المتناهية في ايجادها. ونلمح ضمن هذه الرعاية التامة تقديراً دقيقاً بلا اسراف وموازنة حسَّاسة رغم السرعة في ايجادها.. ونلاحظ ضمن هذا التقدير والموازنة وعدم الإسراف ابداعاً في الصنعة وروعة فيها رغم كثرتها المتناهية. ونشاهد ضمن هذه الروعة في الصنعة انتظاماً بديعاً رغم السخاء المطلق في إيجادها..

فإذا تأملنا في هذه الامور كلها، نراها تدل دلالة واضحة أوضح من دلالة النهار على الضياء، واسطع من دلالة الضياء على الشمس؛ على وجوب وجود قدير ذي جلال، وحكيم ذي كمال، ورحيم ذي جمال، وتشهد على وحدانيته، وأحديته وكمال قدرته وجمال ربوبيته، وتبين بجلاء سراً من اسرار الآية الكريمة: ] لَهُ الاَسْمَآءُ الْحُسْنى[ .

وبعد؛ فيا أيها الغافل العنيد، ويا أيها الجاهل المسكين!

بماذا تفسر هذه الحقيقة العظمى التي تراها رأي العين؟ وبماذا توضح هذه الأوضاع الخارقة المعروضة أمامك؟ والى مَن تسند أمر هذه المصنوعات البديعة العجيبة؟ وبأي ستار من ستائر الغفلة يمكنك أن تستر هذه النافذة الواسعة سعة الأرض نفسها؟

أين المصادفة التي تعتقد بها والطبيعة التي تعتمد عليها وهي بلا شعور؟ بل أين أوهام الضلالة التي تستند اليها، وتلازمها وترافقها وتصادقها؟! أين جميعها أمام هذه الحقائق المحيرة والأحوال البديعة المذهلة؟

أليس محالاً في مائة محال أن تدخل المصادفة في أمثال هذه الأمور؟ أوَليس محالاً في ألف محال أن يسند واحد من هذه الأمور الى الطبيعة ناهيك عن جميعها؟!

أم انك تعتقد في الطبيعة الجامدة العاجزة امكان امتلاكها لمكائن معنوية في كل شئ؟ وبعدد الأشياء كلها؟ فيا للضلالة!

النافذة الثامنة عشرة

] اَوَلَم يَنْظُروُا في مَلكُوتِ السَّموَاتِ وَالاَرْضِ[ (الاعراف: 185)

تأمل في هذا المثال الذي سبق وأن ذكرناه في الكلمة الثانية والعشرين:

إنَّ أثراً رائعاً كالقصر الفخم، كامل الاجزاء، منتظم الاركان، متقن البناء، يدل بالبداهة على فعلٍ مُتقَنٍ.أي أن البِنَاءَ يدُلُّ على صنعة البنَّاء وفِعله. والفعل الكامل المتقن يدل بالضرورة على فاعلٍ حاذقٍ، ومعماري ماهر. وهذه العناوين؛ فاعل حاذق معماري ماهر بَنَّاء مُتْقِنٌ، تدل بالبداهة على صفات كاملة لا نقص فيها يتصف بها ذلك الفاعل، أي تدل، على مَلَكة الإبداع عنده. وان الصفات الكاملة ومَلَكة الابداع الكاملة، تدل بالبداهة على وجود استعداد كامل وقابلية تامة، والاستعداد الكامل هذا يدل على ذات رفيعة، وروح عالية.

(ولله المثل الأعلى) فهذه الآثار المتجددة البادية للعيان والتي تملأ الأرض بل الكون، تدل بالبداهة على أفعال في منتهى الكمال. وان عنــاوين هـذه الافعال الظاهرة من خلال منتهى الإتقــان وغاية الحكــمة تــدل بالبداهــة على فاعل كــاملٍ منزّهٍ عن النقص في عنـاوينه وأسمائه. لأنَّ الأفعال المتقــنة والحكيـمة مـعـلومٌ بـداهةً أنهـا لا تحصل دونما فاعل. وان العناوين التي هي في منتهى الكمال تدل على صفات هي في منتهى الكمال لذلك الفاعل لأنه كما يُشتق اسم الفاعل من المصدر حسب علم الصرف، فان منشأ العناوين ومصادر الأسماء هي الصفات. والصفات التي هي في منتهى الكمال، لا شك أنها تدل على شؤون ذاتية هي في منتهى الكمال. والقابلية الذاتية او تلك الشؤون الذاتية التي نعجز عن التعبير عنها، تدل بحق اليقين على ذات منزهة في كمال مطلق.

وحيث ان كل أثر من الآثار البديعة الماثلة أمامنا في الكون وفي جميع المخلوقات هو كاملٌ بديع بحد ذاته.. وان هذا الاثر البديع يشهد على فعل.. والفعل يشهد على اسم. والاسم يشهد على صفة.. والصفة تشهد على شأن.. والشأن يشهد على ذات. لذا فانَّ كلاً منها مثلما يشهد شهادة صادقة على صانع جليل واحد أحد واجب الوجود، ويشير الى احديته.. أي مثلما أن هناك شهادات واشارات بعدد المخلوقات الى التوحيد، فإن كلاً منها ايضاً مع مجموع الآثار والمخلوقات في الكون إنما هو معراج عظيم لمعرفة الله سبحانه، له من القوة ما للمخلوقات جميعاً.. فضلاً عن أنه برهان دامغ على الحقيقة، لا يمكن ان تدنو منه أية شبهة مهما كانت..

والآن أيها الغافل الجاحد! بماذا تستطيع أن تجرح هذا البرهان القوي قوة الكون؟ وبماذا تستر هذه النافذة الواسعة التي تبين شعاعات الحقيقة من ألف نافذة ونافذة، بل من نوافذ بعدد المخلوقات؛ وبأي غطاء الغفلة يمكنك ان تسترها؟!

النافذة التاسعة عشرة

] تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَواتُ السَّبْعُ وَالارضُ وَمَنْ فيهِنَّ وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه[ (الاسراء:44)

نعم، مثلما أودع الصانع الجليل حكماً لا تُعَدُّ، ومعاني ساميةً لا تحصى في الأجرام السماوية، فزيَّن تلك السماوات بكلمات الشموس والأقمار والنجوم لتعبّر عن جلاله وجماله سبحانه.. كذلك ركّب جلَّ وعلا في موجودات جو السماء حِكَماً عالية، وعلّق عليها معاني سامية، ومقاصد عظمى، وأنطق جو السماء بكلمات الرعود والبروق وقطرات الأمطار ليُعْلَمَ بها، ويُعَرّفَ عن طريقها كمال حكمته، وجمال رحمته.

ومثلما جعل سبحانه وتعالى كرة الأرض تتكلم بكلماتٍ ذات مغزى، وأنطَقَها بما بثَّ فيها من الحيوانات والنباتات التي هي كلمات بليغة، مبيّناً بذلك كمال صنعته للوجود.. كذلك جعل النباتات والأشجار نفسها تنطق بلسان أوراقها وأزهارها وثمارها، معلنةً كمال صنعته سبحانه، وجمال رحمته جلَّ جلاله.. وجعل الزهرة ايضاً، والثمرة كذلك وهي كلمة واحدة من تلك الكلمات.. جعلها البارئ المصور تتكلم بلسان بُذيراتها الدقيقة فأشار بها سبحانه الى دقائق صنعته، وكمال ربوبيته، لمن يُحسن الرؤية من ذوي الاحساس والشعور.

فدونك إنْ شئتَ الاستماع الى ما لا يحد من كلمات التسبيح والأذكار في الكون.

وسنستمع الآن الى ذلك النمط من الكلام متمثلاً في كلام زهرة واحدة من بين أزهار العالم، وسنصغي الى أفادة سنبلة واحدة من بين سنابل الأرض، لنزداد يقيناً كيف أن هذا كله يشهد شهادة صادقة على مصداقية التوحيد.

نعم، ان كل نبات وكل شجر، دليل واضح على صانعه، وشاهد صدق على وحدانية خالقه بمختلف الألسنة، بحيث أن تلك الشهادة تجعل المدقق المتمعن فيها في حيرة وذهول، فيقول: يا سبحان الله.. ما أجمل شهادة هذا على أحقية التوحيد!

نعم، انه واضح جلي كوضوح النبات نفسه، وجميل كذلك كجمال النبات نفسه، تلك التسبيحات التي يهمس بها كل نبات في إشراق تبسمه، عند تفتح زهره، ونضج ثمره، وتسنبل سنبله، لأنه بالثغر الباسم لكل زهرة، وباللسان الدقيق للسنبل المنتظم، وبكلمات البذور الموزونة، والحبوب المنسقة، يظهر (النظام) الذي يدل على (الحكمة)..

وهذا النظام كما هو مشاهد، في ثنايا (ميزان) دقيق حسّاس، يدل على (العِلم) ويبينه ويبرزه، وذلك (الميزان) هو ضمن (الصنعة الدقيقة) التي تدل على (المهارة الفائقة). وتلك الصنعة الدقيقة والنقوش البديعة هي الأخرى ضمن الزينة الرائعة التي تبين (اللطف والكرم). وتلك الزينة البهيجة هي بدورها معبّقة بالروائح الطيبة الفواحة، والعطور الزكية اللطيفة التي تظهر (الرحمة والاحسان).

فتلك الأوضاع والحالات، التي لها معانٍ عميقة متداخلة، ومكتنفة بعضها ببعض، لسان شهادة عظمى للتوحيد، بحيث تعرِّف الصانع ذا الجلال بأسمائه المقدسة الحسنى، وتصفه باوصافه الجليلة السامية، وتشرح وتفسر انوار تجليات أسمائه الحسنى، وتعبّر عن تودّده وتحبّبه سبحانه وتعالى.

فلئن استمعتَ الى شهادة كهذه من زهرة واحدة فقط، وتمكنت من الأصغاء الى الشهادة العظمى الصادرة من جميع الأزهار في جميع البساتين الربانية على سطح الأرض، واستمعت الى ذلك الاعلان المدوي الهائل الذي تعلنه تلك الازهار في وجوب وجوده سبحانه ووحدانيته، فهل تبقى لديك ثمة غفلة! أو أية شبهة؟ وإنْ بقيتْ لديك غفلة، فهل يمكن أن يطلق عليك بأنك إنسان ذو شعور سامٍ متجاوب مع مشاعر الكون وأحاسيسه؟!.

فتعالَ لنتأمل شجرة.. نحن أمام نشوء الاوراق ونموها في الربيع بانتظام ودقة متناهية، وأمام تفتح الأزهار وخروجها من اكمامها بشكل موزون، وأمام نمو الثمار بحكمة ورحمة..

فهلاَّ أمعنت النظر في منظر ملاعبة النسيم للأوراق برقة وبراءة كبراءة الطفولة النقية الرقيقة.

وشاهد من فم الشجرة، كيف تنطق هذه الألسن وتفصح عن حالها؛لسان الأوراق المخضرة بيد الكرم.. ولسان الأزهار المبتسمة بنشوة اللطف.. ولسان الثمار الفرحة بتجلي الرحمة.. كُلٌ منها يعبّر عن ذلك (الميزان) الدقيق العادل الذي هو ضمن (النظام) البديع المحكم، وفي هذا الميزان الدقيق الذي يدل على (العدل) نقوشُ صنعةٍ دقيقة بديعة، وزينة فائقة تضم مذاقات متنوعة، وروائح مختلفة طيبة لطيفة، تدل على الرحمة والاحسان، وفي تلك المذاقات اللطيفة بذور ونوى هي بحد ذاتها معجزة من معجزات القدرة الإلهية، ألا يدل ذلك بوضوح، ويظهر بجلاء وجوب وجود خالق كريم ورحيم، محسن، منعم، مُجمِّل، مُفضِّلٍ، واحد، أحد، ويشهد كذلك على جمال رحمته سبحانه وكمال ربوبيته؟

فان استطعت ان تسمع هذا من لسان حال جميع الأشجار على سطح الأرض معاً، فستفهم، بل سترى؛ كم من الجواهر الجميلة النفيسة الرائعة في خزينة الآية الكريمة: ] يُسَبِّحُ لله مَا فىِ السّمواتِ وَالاَرضِ[ (الحشر:24).

فيا أيها الغافل المسكين، ويا مَنْ يظن نفسَه هملاً دون حساب، ويا مَنْ يغرق في نكران الجميل والكفران!.

ان الكريم ذا الجمال يعرّف نفسه ويحبّبُها اليك بهذا الحشد من الألسنة التي لا تعد ولا تحصى، وإن اردت أن تصرف نفسك عن ذلك التعريف، فما عليك الاّ ان تكمم جميع هذه الأفواه، وتسكت تلك الألسنة كافة.

وأنّى لك هذا!!

فما دام اسكات تلك الألسنة الناطقة بالتوحيد غير ممكن، فما عليك إلاّ الاصغاء والانصات اليها. والاّ فلن تنجو بمجرد سد الأذن بأصابع الغفلة، لأن عملك هذا لا يسكت الكون. فالكون جميعاً، والموجودات كافة ناطقة بالتوحيد. فدلائل التوحيد وأصداؤه شواهد عدل لا تنقطع ولا تنتهي أبداً. فلا بد أنها ستُدينك.

النافذة العشرون (1)

] فَسُبْحَانَ الّذى بِيَدهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ[ (يس:83)

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ عِنْدَنا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إلاّ بَقَدرٍ مَعْلُومٍ^ وَاَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَاَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ ماءً فَاَسْقَيْنَاكُمُوُهُ وَمَآ اَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنينَ[ (الحجر:21ـ22)

كما يُشاهَدُ كمال الحكمة، وجمال الاتقان في الجزئيات والفرعيات، وفي النتائج والفوائد، فان العناصر الكلية، والمخلوقات العظيمة التي تبدو مختلطة ومتشابكة، وتوهِمُ أنها لعبة المصادفة، تتخذ أيضاً أوضاعاً تتسم بالحكمة والاتقان، رغم الاختلاط الظاهر عليها، فمثلاً:

النور أو الضوء، بدلالة وظائفه الحكيمة الأخرى إنما هو للأعلان عن مصنوعات الله سبحانه، وعرضها بإذنه أمام الأنظار، أي أن الضوء مسخّر من لدن خالق حكيم، ليُظِهر به سبحانه عجائبَ مخلوقاته، ويُعرض تحت شعاعه بدائعَ مصنوعاته، في معارض سوق العالم.

وانظر الآن الى الرياح؛ تَرَ أنها تجري لإنجاز وظائف مهمة وخدمات جليلة، يشهد بهذا ما يُحَمَّلُ على وظائفها الحكيمة من منافع كريمة.

فموجات الأعاصير إذن، هي تصريفٌ وتسخيرٌ من لدن الخالق الحكيم. وما يُشَاهَدُ من عصفها وشدّةِ هبوبها، فلأسراعها في تنفيذ الأوامر الربانية وامتثالها لِحُكمها.

وانظر الآن الى الينابيع والجداول والأنهار، وتأمل في تفجرها من الأرض أو الجبال، تجد أنه لا مصادفة فيها ولا عبث قط. اذ تترتب عليها الفوائد والمصالح التي هي آثار رحمة إلهية واضحة، اما النتائج الحاصلة منها فهي موزونة محسوبة، وكذلك إدخارها وخزنها في الجبال إنما يجري ضمن حساب دقيق، ووفق حاجات الأحياء، ومن بعد ذلك تفجيرها وإرسالها بميزان هو الغاية في الحكمة.. كل ذلك دلالات وشواهد ناطقة ان ذلك التسخير والادخار إنما يتم من لدن ربّ حكيم.. وما نراه من شدة فورانها وتفجرها من الأرض إنما هو تَوقُها العظيم لأمتثال الأوامر الربانية حال صدورها.

وأنظر الآن الى أنواع الأحجار، وأشكال الصخور، ودقائق الجواهر، وصفات المعادن، تأمل في تزييناتها ومزاياها التي تترتب عليها منافع شتَّى، تجد أن ما يتعلق بها من فوائد حكيمة، ومن انسجام تام بين نتائجها التي تصير اليها، ومقتضيات الحياة، ومن ثمة ملاءمتها لمتطلبات الانسان، وقضاؤها لحاجاته وحاجات اخرى للأحياء.. كل ذلك دلالات على أن ذلك التزيين والتنظيم والتدبير والتصوير، إنما هو من لدن رب حكيم.

وأنظر الآن الى الأزهار والأثمار، تجد أن بِشْرَ وجوهها، وحلاوة مطعوماتها، وجمالها الأخاذ، ونقوشها البديعة، وشذى عطرها الطيب، كلها بمثابة دعاة وأدلاّء الى ضيافة الرب الكريم، والمنعم الرحيم. وهي رسائل تعريف به بين يدي موائده المنصوبة على الأرض كافَّة، فكل لون من الألوان المختلفة، وكل رائحة من الروائح المتنوعة، وكل طعم من الطعوم المتباينة، يدل على ذلك الخالق الكريم، ويعرّف ذلك المنعم الرحيم بلسانه الخاص.

وانظر الآن الى الطيور.. تجد أن هديلها وتغريدها وزقزقتها، ليس الاّ من إنطاق خالقٍ حكيم.. فمناجاة بعضها بعضاً، وما تسكبه في لحونها من أشجان لمِمّا يأخذ بالألباب.

وأنظر الآن الى السحب الثقال، تجد أن صوت أهازيج الأمطار المنسكبة منها، وجلجلة رعود السماء ليس عبثاً قط، اذ إن إحداث تلك الأصوات العجيبة في فضاء واسع، وإنزال قطرات باعثة على الحياة، وعصرها من السحب الثقال، وارضاع الأحياء بها، وإغاثة المتلهفين عليها، تبين بوضوح أن تلك الأهازيج والجلجلة تحمل من الحِكَم البليغة و المغزى العميق، حتى لكأنّ تلك القطرات تهتف بأمر الرب الكريم بأولئك العطاش المستغيثين قائلة: (بشراكم... ها نحن مقبلون اليكم من رب رحيم).

وانظر الآن الى السماء، وتمعن في القمر وحده - من بين أجرام السماء التي لا حصر لها - تجد ان حركاتـها جميعاً ومن ضمنها القمر منسقة أجمل تنسيق وأحكمه، ومقدّرة أعظـم تقدير بيد قدير حكيم، إذ تتعلق عليها حِكمٌ غزيرة، وثيقة الصلة بالأرض. وحيث أننا قـد فصلنا هذا في موضع آخر، نكتفي هنا بهذا القدر.

وهكذا يفتح كُلٌ ممـا ذكرناه من العناصر الكلية - ابتداءً من الضوء وانتهاءً بالقمر - نافذة واسعة جداً تبين وجود الله سبحانه، وتظهر وحدانيته، وتعلن عـن كمال قدرته وعظمة سلطنته، بمقياس أعظم وأكبر وبألوان شتى، وأنواع مختلفة.

فيا أيها الغافل!

إن كنت تقدر على إسكات هذه الأصوات المدوية كرعود السماء، وان كنت تستطيع ان تطفئ هذه الأضواء الساطعة. فيمكنك عندئذ ان تنسى الخالق الكريم. وإلاّ عُد الى رشدك، وتوجَّه الى شطر عقلك وقل: سبحان من ] تُسَبِّحُ لَهُ السَّمواتُ السَّبْعُ وَالاَرضُ وَمَنْ فيهِنَّ[ (الاسراء:44).



النافذة الحادية والعشرون

] وَالشّمْسُ تَجْرى لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذلِكَ تَقْديرُ الْعَزيزِ الْعَليم[ (يس:38)

إنَّ الشمس التي هي سراج هذه الكائنات، إنَّما هي نافذة مضيئة ساطعة كنورها تتطلع منها المخلوقات الى وجود خالق الكون ووحدانيته.

فالسيارات الأثنتا عشرة - مع كرتنا الأرضية - والتي يطلق عليها اسم (المنظومة الشمسية) تجري بنظام متقن، وِفْقَ حكمة تامَّة، وحسبَ ميزان دقيق، رغم الاختلاف الشديد فيما بينها، من حيث كتلها وجرمها ومن حيث صغرها وكبرها، ورغم التفاوت الواسع فيما بينها من حيث قربها وبعدها من الشمس، ورغم التنوع الهائل في حركاتها وسرعاتها.

نعم، فرغم هذا كله تجري السيارات في أفلاكها سابحة مشدودة الوثاق بالشمس، مرتبطة معها بقانون إلهي، هذا القانون هو الذي يطلق عليه علماء الفلك اسم (الجاذبية).. فهي تجري بنظام دقيق دون خطأ - ولو بمقدار ثانية واحدة - وتنقاد انقياداً تاماً، وبطاعة مطلقة لهذا القانون، كانقياد المصلين المأمومين لإمامهم.. وهذا دليل وأيّ دليل - بأوسع مقياس وأعظمه - على عظمة القدرة الربانية ووحدانية الربوبية.. فان استطعت أن تقدّر عظمة هذا الأمر بنفسك فافعل، لترى مدى العظمة والحكمة في جعل تلك الاجرام الجامدة، وتلك الكتل الهائلة وهي بلا شعور تجري في منتهى النظام وكمال الميزان، وفي غاية الحكمة، وعلى صور متباينة، وضمن مسافات مختلفة، وبحركات متنوعة، ومن بعد ذلك تسخيرها جميعاً وِفْقَ نظام بديع رائع!

فلو كانت للمصادفة أي تدخل - مهما كان ضيئلاً - في مثل هذه الأمور الجسام، لتوقعنا حدوث أخطاء تنجم عنها انفلاقات كونية عظيمة، واصطدامات هائلة، تدمر الكون وتجعله هباءً منثوراً.

لأنه لو سُمِحَ للمصادفة أن تلعب لعبتها، فلربما تُوقِفُ أحدَ هذه الأجرام الهائلة - بلا سبب - وتخرجه عن محوره، وبذلك تمهد السبيل لاصطدامات لا حدَّ لها بين أجرام لا يحصرها العدّ. فقدّر اذن مدى الهول المريع الناجم من اصطدام أجرام اضخم من كرتنا الأرضية بآلاف الأضعاف.

سنفوّض عجائب أمور المنظومة الشمسية وغرائبها الى العلم الإلهي، المحيط بكل شئ، ونحصر ذهننا في تأمل كرتنا الأرضية، التي هي مأمورة واحدة من تلك السيارات الاثنتي عشرة، وثمرة من الثمار اليانعة لشجرة المنظومة الشمسية، فنرى:

ان سيارتنا هذه تُسخَّر بأمر ربَّاني - كما بيناه في المكتوب الثالث - لأجل ان تنهض بخدمات جليلة، ومهامّ جسيمة خلال سيرٍ وتجوال طويل، فتدور حول الشمس لتظهر بجريها ودورانها هذا عظمة الربوبية وكبرياء الألوهية، وكمال الرحمة والحكمة. فكأن الأرض سفينة عظيمة لرب العالمين مشحونة بعجائب مخلوقاته سبحانه، او هي كمسكن متجول لذوي الحياة والشعور من عباده، أسكنهم فيها، ويجريهم بها للنزهة والتفرج في أرجاء الفضاء هذا.

والقمر ايضاً كأنه عقارب ساعة، مشدودة بالأرض تدلنا على الزمن والأوقات،و قد اُعطيتْ له مهام أخرى - عدا مهمة كونه ساعة للأرض - في منازل أخرى من هذا الفضاء.

وهكذا يتبين أن سيارتنا المباركة هذه، قد أعطي لها من الحِكَم الدقيقة، والوظائف الجليلة في سياحتها هذه، مما يثبت ويدل باوضاعها، ويشهد شهادة قوية كقوة الأرض وعظمتها على القدير المطلق القدرة، وعلى وحدانيته سبحانه. وقس البقية على ارضنا.

ثم ان جعل السيارات تدور دوراناً حكيماً حول محور الشمس، وشدّها بعرى معنوية - يطلق عليها اسم الجاذبية - بالشمس، ومن بعد ذلك تنظيم إدارتها، وتنسيق أمرها جميعاً، لا يتم الاّ بتقدير القدير الحكيم، فضلاً عن ان سَوق الشمس لتجري بسرعة مذهلة - فتقطع مسافة خمس ساعات في ثانية واحدة الى برج (هرقل أو نحو) شمس الشموس حسب تقدير العلماء ليس الاّ بأمر سلطان الأزل والأبد، وبقدرته المطلقة، وكأنه سبحانه يستعرض بجيش المنظومة الشمسية وجنودها المنقادين لأمره مناورةً عسكرية إظهاراً لعظمة ربوبيته للعالمين أجمع.

فيامَنْ يرى نفسه أنه قد تعلَّم شيئاً من الفلك! قل لي بربك أيمكن لمصادفة ان يكون لها شأن في أمور عظيمة كهذه؟

أم يمكن لسبب من الأسباب التي تراها ذا تأثير في حوادث الأكوان أن يصل بيده اليها؟! أو لقوةٍ أياً كانت أن تدنو منها؟

هل تعتقد أن سلطاناً ذا عزّةٍ وجلال يسمح لشريك أياً كان أن يتدخل في أمر ملكه العظيم، مظهراً بذلك عجزه وقصوره؟! حاش لله وكلاّ.

أو هل يمكن ان يسلم سبحانه أمور ذوي الحياة الذين هم ثمرة الكون ونتيجته وغايته وخلاصته الى الأغيار؟! أو يسمح ولو بمقدار ضئيل بمداخلة هذه الأغيار في شؤونه الحكيمة؟

وهل يرضى العقل أن تُترك سدىً خلاصة تلك الثمرات، وأكمل نتائجها وخليفة الأرض، والضيف المكرم للسلطان.. أن يسلّم أمره الى الطبيعة والمصادفة فيهوي بذلك بعظمة السلطنة، وكمال الحكمة؟! حاشَ لله وكلاّ... وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

النافذة الثانية والعشرون

] اَلَمْ نَجْعَلِ الاَرْضَ مِهَاداً^ وَالْجِبَالَ اَوْتَاداً^ وَخَلَقْنَاكُمْ اَزْوَاجاً..[ (النبأ:6-8)

] فَاْنْظُرْ اِلى آثارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحىْىِ الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذَلِكَ لَمُحيىِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ..[ (الروم:50)

لو تصورنا أن الكرة الأرضية رأس مخلوق عظيم، فاننا نجد في هذا الرأس الهائل في الكبر مائة ألف فم وكل فم له مائة ألف لسان، وكل لسان يبين بمائة ألف برهان (الواجب الوجود) الواحد الأحد، القدير على كل شئ، والعليم بكل شئ. وكل لسان ينطق بمائة ألف شهادة صادقة على وحدانيته سبحانه، وأوصافه المقدسة وأسمائه الحسنى.

فها ننظر الى الأرض في بداية خلقها فهي في حالة من السيولة والميوعة، فخُلقَت منها الصخور الصماء، وخُلق منها التراب.. فلو كانت الأرض باقية على حالتها الأولى من الميوعة لتعذرت الحياة عليها، ولتعذر إتخاذها مسكناً صالحاً لأي نوع من أنواع السكنى. ولو كانت تلك الصخرة المهولة الصلدة - المتحولة من الميوعة - باقية على صلابتها لتعسرت الاستفادة منها. إذن فالذي منح الأرض وضعاً ملائماً للعيش لابد أن يكون ذلك الخالق الحكيم الذي يرى بحكمته المطلقة مَنْ في الأرض جميعاً، ويهئ لهم حاجاتهم كافةً.

ثم نتأمل الجبال الشامخات التي تسند الأرض وتمسكها وتشدُّ كيانها أثناء دورانها... فنرى ان انقلابات هائلة تحدث في جوف الارض وهذه الانقلابات يتولد عنها الكثير من الغازات والأبخرة فتنفثها وتزفرها من خلال الجبال على صورة زلازل وبراكين، كيلا يصرفها عن القيام بحركتها المنتظمة وأداء مهماتها الأساسية ما يحدث في جوفها من أحداث، كما أنها تشكل بارتفاعات سفوحها سدوداً أمام طغيان البحار على ترابها، ولتصبح خزائن المياه الاحتياطية لحاجات الأحياء ولتمشيط الهواء وتصفيته من الغازات المضرة ليصبح صالحاً للتنفس ولتجمع شتات الماء من كل مكان وتدخره للأحياء ولتكون كنوزاً لمعادن متنوعة تتوقف عليها إدامة حياة الكائنات.

فهذه الأوضاع وكثير غيرها، تشهد شهادة ناطقة على القدير المطلق والحكيم والرحيم وعلى وحدانيته سبحانه.

فيا أيها المتباهي بعلم الجغرافية! قل لي كيف تفسر هذه الأمور؟ اية مصادفة يمكنها ان تمسك بزمام الأرض المشحونة بالمصنوعات العجيبة، وتجعلها تسبح في فضاء تقطع فيه مسافة أربع وعشرين سنة في سنة واحدة، دون أن يتبعثر ما عليها من معارض العجائب...؟!

ثم أمعن النظر فيما على الأرض من بديع الصنائع. وكيف ان العناصر كلها قد سُخِّرت لمهام حكيمةٍ، حتى تراها كأنها تنظر نظرةَ إجلال واحترام الى ضيوف القدير الحكيم، الجالسين حول مائدة الأرض، فتهرع الى خدمتهم جميعاً.

ثم أمعن النظر في ملامح الأرض وسيمائها، وفي مطرزات تعاريجها، ونقوش انحناءات سطحها، والتواءات جسمها، ولاحظ شكلها وألوانها الزاهية المتنوعة بتنوع تربتها، والتي تتسم بالحكمة والإبداع، وتثير الحيرة والإعجاب.. فدونك الأنهار والسواقي والبحار والجداول وسفوح الجبال، فانها كلها قد هُيئت ومُهدت لتكون سكناً للمخلوقات ووسائط نقلهم من مكان الى آخر.

ثم ألا ترى ان ملأها - يعني الأرض - بكمال الحكمة والنظام البديع بمئات الألوف من أجناس النباتات وأنواع الحيوانات وبعث الحياة البهيجة فيها. ثُمَّ إعفاءَها بالمـوت مـن وظـائـفها التـي كانت تـقوم بهـا.. هذه الـظـاهـرة تـتـوالى وتـترى

بانتظام دقيق. حتَّى إذا اُفرِغَتِ الأرض منها بوشر مجدداً بملئها.. ألا يعني هذا ان (البعث بعد الموت) حق لا ريب فيه.

أوَ ليست كل هذه الظواهر شهادات صادقة ناطقة بمئات الآلاف من الألسنة على القدير ذي الجلال، الحكيم ذي الكمال، وعلى وحدانيته سبحانه؟!

والخلاصة: ان الأرض التي هي بمثابة قلب الكون، قد اصبحت مَشْهَرَاً لعجائب مصنوعات الله البديعة، ومحشراً لغرائب مخلوقاته الجميلة، وممراً لقافلة موجوداته الوفيرة، ومسجداً لعباده المتراصين صفوفاً عليها، ومقراً لأداء عباداتهم.. هذه الأرض تظهر من شعاع التوحيد ما يملأ الكون نوراً وضياءً.

فيا أيها المعتدّ بعلم الجغرافية! إذا كان رأس الأرض هذه يعرّف ربَّ العالمين بمائة ألف فم، وفي كل فم مائة ألف لسان، وأنت تعرض عن هذا التعريف، وتغمس رأسك في مستنقع الطبيعة، ففكر إذن في مصير جريمتك. الى اي عقاب يسوقك هذا الإعراض والإنكار؟. أحذر وأنتبه وأرفع رأسك من المستنقع الآسن وقل: آمنت بالله الذي بيده ملكوت كل شئ.

النافذة الثالثة والعشرون

] اَلّذى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيوة[ (الملك:2).

ان الحياة هي أسطع معجزة من معجزات القدرة الربانية وأجملها، وأقوى برهان من براهين الوحدانية وأبهرها، وأجمع مرآة من مرايا تجليات الصمدانية وألمعها.

نعم! ان الحياة وحدها تبيّن الحي القيوم باسمائه الحسنى وصفاته الجليلة وشؤونه الحكيمة.

فالحياة كالنور.. فكما ان نور الشمس يحصل من امتزاج الالوان السبعة لطَيف الشمس، كذلك (الحياة) تحصل من امتزاج صفات كثيرة امتزاجاً دقيقاً.. وهي - أي الحياة - كدواء ناتج من امتزاج موادَّ كثيرة متنوعة إمتزاجاً مقدراً تقديراً محكماً.

فالحياة إذن حقيقة مركبة من صفات كثيرة جداً. فصفات منها تنبسط وتنكشف ويظهر تمايزها واختلافها بعضها عن البعض الآخر، من خلال مسيلها في قنوات الحواس، التي تأخذ كُل حاسة منها لوناً من الوان هذه الصفات والاسماء.

أما القسم الأعظم منها فانه يعلن عن نفسه من خلال الأحاسيس المفعمة (بالحياة).

ثم ان (بالحياة) تتضمن الرزق والرحمة والعناية والحكمة، التي كُلُّ منها سارية في الكائنات ومهيمنة على أمرها وخلقها وتدبيرها، فكأنَّ الحياة تقود أولئك جميعاً معها أينما حلَّت. اذ حالما تحل (بالحياة) في أيما جسم، اذا باسم (الحكيم) يتجلى فيه ايضاً حيث يشرع ببناء عشه بناءً متقناً وينظمه تنظيماً حكيماً. وفي الوقت نفسه يتجلّى اسم (الكريم) أيضاً حيث يرتّب مسكنه وينسقه ويزيّنه وفق حاجاته ويظهر آنئذٍ اسم (الرحيم) متجلياً ايضاً فيسبغ أفضاله وألطاف إنعامه لأدامة الحياة وبلوغ كمالها، وفي الوقت نفسه يتجلى اسم (الرزاق) بادياً للعيان حيث يهئ المقومات الغذائية - المادية والمعنوية - لبقاء تلك الحياة وانبساطها، بل يدخر قسماً منها في الجسم..

أي ان الحياة كالبؤرة التي تتجمع فيها الأشعة الضوئية المختلفة، فتتداخل الصفات المتنوعة في الحياة بعضها في بعض تداخلاً يجعل كل صفة منها عين الأخرى، فكأن الحياة - بكاملها – (علمٌ) كما أنها (قدرة) في الوقت نفسه، وهي (حكمة) و (رحمة) سواء بسواء..

وهكذا أصبحت (الحياة) بناءً على ماهياتها الجامعة هذه، مرآة تعكس (الصمدانية) التي تتمثل فيها شؤون الذات الربانية. ومن هذا السر أيضاً نجد أن (الحي القيّوم) جلَّ وعلا، قد خلق الحياة بكثرة هائلة، ووفرة شاملة، وبثها في أرجاء الوجود كافة، جاعلاً كل شئ يحوم حول الحياة، ويُسخَّر لأجلها، فلا غرو أن وظيفة الحياة جليلة.

نعم، ان القيام بأداء مهمة (المرآة العاكسة) لتجليات (الصمدانية) ليس أمراً سهلاً ولا وظيفة هينة، اذ نرى أمامنا ماثلةً للعيان انواعاً لاتعد ولا تحصى من (الحياة) تُخلق كل حين، وإن أرواحها - التي هي أصولها وذواتها - تُخلق دفعةً واحدةً من العدم، وترسل انواعاً غفيرة من الأحياء الى ميدان الحياة مباشرةً..

ألا يدل كل هذا على وجوب وجود ذات الجليل الأقدس و (الحي القيوم) الذي له الصفات القدسية والأسماء الحسنى أوضح من دلالة لمعان أشياء الأرض على الشمس؟ فكما أن الذي لا يعتقد بوجود الشمس، ويتجاهل صفاتها المشاهدة على الاشياء، لا شك مضطر الى إنكار النهار الملئ بنور الشمس، كذلك الذي لا يعتقد بوجود ذلكم (الحي القيوم، المحيي والمميت) الذي يتجلى نورُهُ بشمس الأحدية على الوجود كله، فهو مضطر ايضاً الى إنكار وجود الأحياء التي تملأ الأرض، بل تملأ الماضي والمستقبل معاً.. وعندها لا يرى لنفسه موقعاً إلاّ بين الأنعام أو أضل منها، فيكون بمستوى الجمادات.

النافذة الرابعة والعشرون

] لا اِلهَ اِلاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلاَ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَالَيْهِ تُرْجَعُونَ[ (القصص:88)

ان الموت كالحياة برهان ساطع للربوبية، وهو حجة في غاية القوة على الوحدانية، مثل الحياة، اذ بدلالة الآية الكريمة:

] اَلّذى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ[

ان الموت ليس عدماً، ولا اِعداماً، ولا فناءً، ولا لعبة العبث، ولا إنقراضاً بالذات من غير فاعل، بل هو: تسريح من العمل، من لدن فاعل حكيم، وهو استبدال مكان بمكان، وتبديل جسم بجسم، وانتهاءٌ من وظيفة، وانطلاق من سجن الجسم، وخلق منتظم جديد وِفقَ الحكمة الإلهية. كما بينا في المكتوب الاول.

نعم، كما ان الموجودات الحية المبثوثة في الأرض كافة، تشير بحياتها الى الخالق الحكيم والى وحدانيته. فتلك الأحياء تشهد بموتها أيضاً على سرمدية ذلك الحي الباقي، وتشير الى وحدانيته جلَّ شأنه. وحيث أننا بحثنا في (الكلمة الثانية والعشرين) ان الموت برهان قاطع على الوحدانية، وحجة دامغة على السرمدية، لذا نحيل البحث اليها. الاّ أننا نبين هنا نكتة مهمة فقط وهي:

ان الأحياء مثلما تدل بوجودها على الخالق الحي فأنها تشهد بموتها على سرمدية الحي الباقي وعلى وحدانيته. ولنأخذ شاهداً على ذلك سطح الأرض، فأن النظام الرائع الباسط هيمنته على الأرض بأسرها والذي يبدو لنا من خلال مظاهره عياناً يشهد شهادة صادقة على الصانع القدير.

فعندما يسدل الشتاء كفنه الثلجي الأبيض على وجه الأرض الربيعي، وتموت الأحياء التي كانت تزخر بالحياة فوقها؛ فأن منظر هذا الموت ينقل نظر الإنسان الى أبعد من اللحظة الراهنة، فيركب متنَ الخيال ليذهب بعيداً الى الماضي الذي درجت اليه جنائز كل ربيع راحل، فتتفتح عندئذ أمام النظر مشاهد من الموت والحياة أوسع من هذا المنظر المحصور في الحاضر الراهن.

لأن كل ربيع راحل مما لا يُحصى من الاربِعَةِ، كان مشحوناً ملء الأرض بمعجزات القدرة الإلهية، وهو يُشعِرُ الانسان بمجئ موجودات تتدفق بالحياة وتملأ الأرض كلها في ربيع مقبل.

فنجد بهذا أن موت الربيع يشهد شهادة بمقياس عظيم جداً، وبصورة رائعة جداً وبدرجة من القوة أكثر على الخالق ذي الجلال، والقدير ذي الكمال، والحي القيوم، والنور السرمدي، ويشير الى وحدانيته، وسرمديته تبارك وتعالى. فيبين - هذا الموت - دلائل باهرة الى حدّ يرغمك معه على القول بداهةً [ آمنت بالله الواحد الأحد].

الخلاصة: انه حسب الحكمة التي تتضمنها الآية الكريمة:] وَيُحْيْىِ الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا[ فان الأرض الحية هذه كـما أنها تشهد على الخالق الحكيم سبحانه بحياتها، فانها بموتها تلفت النظر الى التأمل في معجزات القدرة الإلهية التي تطرز جناحي الزمن؛ الماضي والمستقبل، فيعرض الله سبحانه بهذا الموت أمام نظر الانسان ألوفاً من الاربِعَةِ بدلاً من ربيع واحد، فبدلاً من أن تشهد على قدرته سبحانه معجزةٌ واحدة وهي هنا الربيع الحاضر تشهد عليها بهذا الموت الذي حلَّ في الربيع الحاضر ألوفُ المعجزات.

فكل ربيع من تلك الألوف من الأربِعَةِ، يشهد شهادة أقوى على الوحدانية من الربيع الحاضر، لأنَّ الذي أرتحل الى جهة الماضي قد أرتحل اليه بأسباب قدومه الظاهرة التي ليس لها صفة البقاء، فالأسباب التي تذهب وتأتي ليست لها إذن تأثير قط في إحلال ربيع جديد عقب الربيع الراحل، بل القدير ذو الجلال الذي لا يحول ولا يزول هو الذي خلقه من جديد وربطه بحكمته بالأسباب الظاهرة، وأرسله على الصورة الرائعة الى ميدان الشهود.

أما وجوه الأرض التي ســتأتي في المستقبل، والمــزهــرة بالربيــع النابـض بالحياة، فهي تشهد شهادةً أقوى من شهادتها على الربيع الحاضر، لأن كل ربيع يأتي في المستقبل إنما يأتي اليها من العدم، ومن غير شئ، ويبعث الى المكان المعين، ومن ثمة تُحمَّلُ عليه وظيفة خاصة.

فيا أيها الغافل المطموس في أوحال الطبيعة، والغارق فيها!

إنَّ مَنْ لا تظهر يدُ حكمته وقدرته في المستقبل الآتي كله، ومَنْ لا يترك بصمات هذه اليد على الماضي الذاهب كله، كيف يستطيع - وأنَّى له ذلك - أن يتدخل في حياة هذه الأرض؟ فهل يمكن للمصادفة والطبيعة اللتين هما من غير شئ أن يتدخلا في أمر الحياة على الأرض؟

إن كنت صادقاً وراغباً في نجاة نفسك من هذه الورطة، فادنُ من الحقيقة وقل:

ان الطبيعة إن كانت شيئاً موجوداً فهي كُرَّاس القدرة الإلهية ليس الاّ. أما المصادفة فهي ليست الاّ ستار الحكمة الإلهية الخفية الذي يسترُ جهلَنا.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس