عرض مشاركة واحدة
قديم 07-09-2011
  #10
عمرالحسني
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرالحسني
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 93
معدل تقييم المستوى: 15
عمرالحسني is on a distinguished road
افتراضي رد: دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص: ( مقدمات)

دراسات إلى التصوف ، في الشأن العام و الخاص : ( الولي و الخليفة)

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله و صحبه و بعد
أ .الله نور السموات و الأرض تتمة)
لاشك أن القارئ لمثل هذه النصوص ، يحتار فيما يجده من الإشارات التي تستنهض الهمم ، وتتحدى العقول ، في الفقه و التدبر.ولعل الإنسان في عرف أهل الله تعالى خزينة الأسرار و قبلة التوجه ، وحضرة أنشائية اسما ئية عرفانية.لكن كما قلنا سابقا فأن المشرب السلفي ينكر في جولات و صولات هذا الفكر.
ولعل العبد العارف الفرد الإنسان حقيقة فيه عوالم و حضرات ، وذات لها حظوظ ، وروح لها معارف و أسرار.لاتنفصل حقيقته المحمدية عن حقيقته الذاتية ، فلم يستحق في المخلوقات هذا اللقب سوى مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو العارف الرسول الولي النبي الكامل صلى الله عليه وسلم ، حاز كل المراتب و الحضرات ، وارتقى بإذن ربه عطاءا و خصوصية في كل المقامات و الحضرات.
صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن عربي قدس الله سره في إقرار و توضيح و شرح : ( ......و أما صفة العارف عندنا من الموطن الإلهي الذي يشهده العارفون من الحق في وجودهم وهو شهود عزيز ، وذلك أن يكون العارف إذا حصلت له المعرفة قائما بالحق في جمعيته نافذ الهمة مؤثرا في الوجود في الإطلاق من غير تقييد ، لكن على ميزان المعلوم عند أهل الله مجهول التعت و الصفة عند الغير من جميع العالم من بشر وجن وملك و حيوان لا يعرف فيحد و لايفارق العادة فيميز حامل الذكر مستور الحال عام الشفقة على عباد الله ، يفرق في رحمته بين أمر برحمته حتى يجعل له خصوص و صف عارف بإرادة الحق من عباده قبل وقوع المراد ، فيريد بإرادة الحق لاينازع و لايقاوم و لايقع في الوجود ما لايريده و إن وقع ما لايرضى وقوعه بل يكرهه شديد في لين ، يعلم مكارم الأخلاق في سفاسفها فينزلها منازلها مع أهلها تنزيل حكيم ، بريء مما تبرأ الله منه محسن إليه مع البراءة منه، مصدق بكل خبر في العالم كما يعلم عند الغير أنه كذب فهو عنده صدق مؤمن عباد الله من غوائله مشاهد تسبيح المخلوقات على تنوعات أذكارها ، لا تظهر إلا لعارف مثله ، إذا تجلى له الحق يقول : أنا هو لقوة التشبه في عموم الصفات الكونية و الإلهية....) كتاب الفتوحات ص 313، م/2.
ماهي قوة التشبه التي يقصدها ابن عربي قدس الله سره ؟ وكما يعلم الجميع فأن الله ليس كمثله شيء.
عندأهل الله تعالى مفهوم خاص لحديث الولي ، الذي رواه أبوهريرة ، و الذي أخرجه البخاري رحمه الله تعالى ، وفي كتاب الإنسان الكامل الذي كتبه الأمام محمد عبد الكريم الجيلي إشارات قوية في هذا الباب ، تتدفق في غموضها من لم يعتد قراءة مثل هذه الكتب الصفراء كما يحب بعض الباحثين تسميتها ، يقول رحمه الله في المقدمة . (....إني لما صعدت جبل الطور و شربت البحر المسجور و قرأت الكتاب المسطور ، فإذا هو رمز تركبت عليه القوانين فما هو لنفسه بل هو لك ، فلا يخرجك عن خبرك ما يصح عندك له من العلامات فتقول هذا و هذا له ، إذ ليس حاله مشابه بحالي ، فإنما جعله الله لك ، فتتخذ حوله حولك ، لسانيا ، لاحقيقة له ذلك كي تعاني فيه ماهو لك ، فتتخذ حوله حولك ، ولهذا لا تراه و لاتدركه و لاتجده و لا تملكه ، لأنه لو كان ثمة شيء لوجدته بالحق سبحانه وتعالى ، فإن العارف إذا تحقق بحقيقة كنت سمعه و بصره لا يخفى عليك شيء بانتفائه تنتفي أنت إذ هو أنموذجك ، و كيف يصح انتفاؤك و أنت موجود وأثر صفاتك غير مفقود ، ولايصح إثباته ، لأنك إن أثبته اتخذته صنما ، فضعفت بذلك مغنما و كيف يصح إثبات المفقود ، أم كيف يتفق عليما قادرا مريدا ، سميعا بصيرا متكلما ، لاتستطيع دفع شيء من هذه الحقائق عنك لكونه خلقك على صورته و حلاك بأوصافه و سماك باسمائه ، فهو الحي و أنت الحي ، وهو العليم و أنت العليم ، وهو المريد وأنت المريد ، وهو القادر و أنت القادر ، وهو السميع و أنت السميع ، وهو البصير و أنت البصير ، وهو المتكلم و أنت المتكلم ، وهو الذات و أنت الذات ، وهو الجامع و أنت الجامع ، وهو الموجودوأنت الموجود، فله الربوبية و لك الربوبية بحكم " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" وله القدم و لك القدم باعتبار أنك موجود في علمه ، ما فارقه مذ كان ، فانضاف إليك جميع ماله و انضاف إليه جميع مالك في هذا المشهد ، ثم تفرد بالكبرياء و العزة و انفردت بالذل و العجز ، وكما صحت النسبة بينك و بينه ) كتاب الإنسان الكامل ص14.
وهذه الحقيقة التي جعلته يسمى إنسانا مفردا هي في كل إنسان ، وتسطع هذه الحقيقة عند الإختبار في مسرح الإبتلاء ،في قدرة الإنسان على تحمل الضدين ، و تدبره في السير ، و اعتلال خطواته عند وقوع ميازيب القدر ، فتندثر إرادته لغلبة إرادة الله ، ففي ربيته تعز اللطيفة الإنسانية و في ضدتها تذل بسبب الهوى و الدنيا الشيطان.
استحقاق الخلافة ليس بالأمر الهين ، والعدل في تقسيم الأرزاق المعنوية و الحسية و تدابيرها ، تجعل الحليم حيرانا. و لغلبة النظر النوراني على أهل الله كان السر و الذوق والنور ، مبدأ الري.
يأتي الكشف من بعده مكلما لما في القلب من اليقين. وإن كان في مراتبه كلها معرفة نسبية ، وحال طارئ بحسب بعض أهل الله ، لكن يظل العلم النور والولاية.
وللارتباط النسبة بين العبد و ربه ، كانت إنسانيته سؤالا كبيرا ، لم كان محور الكون ؟ وهل الدنيا سخرت من أجل الأنموذج الألهي الكامل ، لتفنى بفناء العالم الكبير الإنسان ؟ في هذا تجد عدة إجابات ، منها ماهو سر من أسرار الله ، ومنها ما يبثه أهل الله أمثال ابن عربي رضي الله عنه ، خوفا من هتك أستار الربوبية بحياء و تستر و أيماء.
والغريب في الأمر ، أنك أن قرأت كتاب الفتوحات المكية وجدت الإشارات البليغة كانت سببا في نهي التيار السلفي بل و أحيانا العلمي بعدم قراءة كتب ابن عربي رضي الله عنه للفلسفة المحشوة فيها ، و إن كانت دسا.وممن كتب في ابن عربي رضي الله عنه تجد في خبايا التحليل نوعا من الفوضى ، لا يعرف القارئ كيف يرتب أفكار الولي الكريم ، لكنه سرعان ما يخيب رجاؤه في فهم خبايا الفكر أو المدد الأكبري أن لم يكن ذو تجربة في الذكر و المنازلة.
ويكاد آخرون أن ابن عربي رضي الله عنه لا يفرق بين السكر و الفناء و البقاء و الغيبة لسكره الدائم ، لذلك لغز أحيانا بأبيات من الشعر كانت سببا في تكفيره لما في ألفاظها من الكفر الصريح.ففي معنى الإنسان الفرد المنسوب كرما و لطفا إلى الحضرة الإلهية : ( .....و اعلم أن هذه الحقيقة التي جعلته يسمى إنسانا مفردا هي في كل إنسان ، ولما كانت في آدم أتم لأنه كان و لامثل له ، ثم بعد ذلك انتشأت منه الأمثال فخرجت على صورته ، كما انتشأ هو من العالم ومن الأسماء الإلهية فخرج على صورة العالم وصورة الحق فوقع الأشتراك بين الأناسي في أشياء و انفرد كل شخص بأمر يمتاز به عن غيره كما هو العالم ،فبما ينفرد به الإنسان يسمى الإنسان المفرد ، وبما يشترك به يسمى الإنسان الكبير ، و لما كان آدم أبا البشر كانت منه رقيقة إلى كل إنسان و نسبة ، ولما كا ن هو العالم ومن الحق بمنزلة بنيه منه كانت فيه رقيقة ممن كل صورة في العالم تمتد إليه لتحفظ عليه صورته و رقيقة من كل اسم إلهي تمتد إليه لتحفظ عليه مرتبته و خلافته ، فهو يتنوع في حالاته تنوع الأسماء الإلهية ، ويتقلب في أكوانه تقلب العالم ، وهو صغير الحجم لطيف الجرم سريع الحركة ، فإذا تحرك حرك جميع العالم ، و استدعى بتلك الحركة توجه الأسماء الإلهية عليه لترى ما أراد بتلك الحركة فتفضي في ذلك بحسب حقائقها....) ص 437، 438 من كتاب الفتوحات م/2.
ولضرورة التجديد التربوي في حياة الأمة ، قد لا تثمر مثل هته القراءات في كتب ابن عربي رضي الله عنه ، لكنها قد تجدد مفاهيما خاصة لمن أراد و بأسلوب بسيط و ميسر ، قيمة الإنسان .
يقول الشيخ عبد السلام ياسين في كتابه محنة العقل المسلم ، فقرة ياأيها الأنسان : ( يا أيها الإنسان !
الدين شرعة ومنهاج. الشرعة ما جاء به القرآن، والمنهاج ما جاءت به السنة كما قال حبر الأمة سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. الشرعة خاطبت الإنسان، والمنهاج حقق النموذج الإنساني.
"المنهاج" هو اللفظة القرآنية لا المنهج.
المنهاج التطبيقي العملي المفصل المنظم المتدرج. فما كانت تربية النبي الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمه خبط عشواء.
أول ما بدأ به الوحي وبدأت به التربية ترسيخ وحدانية الخالق جل وعلا وترسيخ حقيقة البعث والنشور والجزاء والجنة والنار.
خاطب القرآن الكريم الأميين المستجيبين للداعي خطابا قويا في هذا الأمر. خاطب الإنسان من حيث إنسانيته، خاطبه من حيث فطرته ومخلوقيته. ولا يزال يخاطبه. الفرق بين الأميين الأولين وبين الناس أجمعين إلى يوم القيامة يتمثل في كون أولئك كانوا عارين أو شبه عارين عن العوائق الخارجية الحضارية التي تشوش على السمع، بينما الإنسان في عصر كعصرنا مكتظ الآفاق الحسية والعقلية بطفيليات صنعه وفلسفته وشغله وثروته وغناه وبؤسه وفاقته التي يلهبها منظر المترفين وآلة ترفهم.
والمنهاج صالح لا يزال متى توفرت في الدعاة مؤهلات التربية والتعليم، يبلغون عن الرسول، ويحذون حذو عمله الشريف.
خاطب القرآن المكي مدى ثلاث عشرة سنة الإنسان خطابا قويا بليغا. قال له من بين ما قال : ﴿يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه، فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا. وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا. إنه كان في أهله مسرورا. إنه ظن أن لن يحور. بلى. إن ربه كان به بصيرا﴾ (سورة الإنشقاق، الآيات : 6-15).
وحذره من الاغترار بالدنيا ونسيان مخلوقيته. فتح له بذلك بابا للاطلاع على سر وجوده ومآله بعد الموت. ﴿يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك، فسواك، فعدلك. في أي صورة ما شاء ركبك. كلا بل تكذبون بالدين. وإن عليكم لحافظين. كراما كاتبين. يعلمون ما تفعلون. إن الأبرار لفي نعيم. وإن الفجار لفي جحيم. يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين. وما أدراك ما يوم الدين. ثم ما أدراك ما يوم الدين. يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله﴾ (سورة الإنفطار، الآيات : 6-19).
وخاطب الإنسان في سربه الإنساني خطابا جماعيا فقال : ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم. إن زلزلة الساعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد﴾ (سورة الحج، الآيتان : 1-2).
وحذر الإنسان المنغمس مع بني جنسه في ملهاة الدنيا ناسيا آخرته : ﴿يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور﴾ (سورة فاطر، الآية : 5).
آيات قوية تحرك الإنسان ليستيقظ من غفلته، ولينزح عن السلوك العبثي اللاهي، وعن التظالم والتقاتل بالباطل، و عن العدوان على حقوق الغير.
﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير﴾ (سورة الحجرات، الآية : 13).
مثل هذه الآية ترسم لذلك الأمي ولهذا الإنسان في كل زمان ومكان المسار الأمثل الذي يخطو به من مخلوقيته ومقهوريته إلى تتويج وجوده باختيار العمل الصالح الذي ينال به الكرامة عند الله في الدار الآخرة.
ذكر وأنثى ما اختار أحد جنسه، ولا استشاره أحد متى وأين وكيف يبرز من العدم إلى الوجود. شعوب وقبائل، ألوان ولغات وتاريخ. وجد الإنسان نفسه مظروفا مذهوبا به.
وله الاختيار في أن يسخر ما منح من قدرات لفعل الخير، والتعارف مع الأقوام والشعوب، وإسداء المعروف. وشكر نعمة الإيمان بتبليغ الشعوب والقبائل رحمة الإسلام وبشارة أن الإنسان ما خلق عبثا. ) كتاب محنة العقل المسلم .
و ينبه رحمه الله في كتاب آخر في الأسلام و القومية العلمانية ، حول حسن الصحبة قائلا إن مما جُبل عليه البشر أن يجدوا هويتهم في البيئة الجغرافية التي فتحوا أعينهم عليها وفي الإلف الأسري، والشمل العشائري، أو القومية التي تقوم مقام العشيرة في المجتمعات المتطورة التي اندمجت وتوارت منها المعالم القبلية. هذا الانتماء الجبلِّي العاطفي العام في البشر قد يبقى عفويا، وقد تلتقطه الحزبية السياسية، فتستثمره وتوجهه وتستنبت منه عصبية خاصة طلائعية، تحافظ على ماض ومجد ضاع، أو تستأنف مطالبة لهدف مرجو، رجعية أو تقدمية، محافظة أو ثورية.
بالانتماء العفوي يتعرف الفرد إلى نفسه، وتتعرف الجماعة إلى نفسها بالتقابل النسبي مع هوية أخرى، مع نفس أخرى، مع قوم آخرين. هذه أسرتي تميزني عن الأسر، هذا وطني بين الأوطان، هذه قوميتي. وبالانتماء الحزبي، ذي التكتل المنظم، والإديولوجية إن كانت، يتعرف الفرد على طموحه المستقبلي، وعلى ماضي مجده، ويتعرف الحزب على ساحة الصراع وما فيها من أضداد. كل ذلك لا يرفع قيمة الإنسان وقيمة المجتمع، عفويا كان أم منظما موجها، أعلى من النسبية بين البشر في التنافس الاقتصادي والسياسي،والوجاهة الاجتماعية والرئاسة والسلطة، وأقصى ما يبلغه هذا الانتماء الطموح إلى الهيمنة على مصير البشرية، والاستعلاء على الجميع. ألمانيا فوق الجميع، هذا كان شعار القومية النازية.
نحن مستقبلا بحول الله بصدد إعادة تنظيم الجماعة نواة الأمة، وإعادة تركيب المجتمع المسلم على قواعد الولاية الجهادية والولاية الإيمانية، والنسبة لله عز وجل . نحن إن شاء الله بصدد إعادة النظم الفتيت لعقد الأمة، ومعنا النموذج الأول، ومعنا كتاب الله عز وجل، وأمامنا القومية الناشئة لا تزال، والناشئ أصلب عودا من الشائخ. أمامنا النداء القومي المتأجج عاطفة وحماسا، حوله يلتم القومي القومي، والقومي الماركسي، والماركسي القومي. والرهان بيننا جبلية الانتماء، والشراكة في نفس الماضي العربي فيما يخص القومية العربية، ذلك الماضي المتألق الذي ننتمي إليه وينتمون، كل من وجهته وحسب تفسيره. والإشكالية التي تنتظر الجواب والحل هي : كيف نجلب جماهير الأمة، المختلفة القوميات، العفوية منها والمنظرة المنظمة، من أحضان الانتماءات النسبية، ليسمعوا نداء الإسلام، ويرتفعوا إلى الانتماء المطلق الذي تدل عليه كلمة : "مسلم" ؟
لقب "مسلم" يضعك مباشرة في مدار آخر غير مدار القومية. أنت مسلم لله. أسلمت له. تنتسب له بالعبودية، وهذا لا يقتلعك طبعا من الانتماءات الأخرى الجبلية والضرورية، إنما يحررك من عبوديتها المعنوية، ويملي إسلامك لله عليها حدودها ووظيفتها .
الجواب على الإشكالية نلتمسه في التربية. لا يطرح في التحزبات السياسية أي مشكل أخلاقي تربوي عقدي كما يطرح في التحزب لله عز وجل. الناس هناك تقتنع بفكر، وتتعهد بانضباط ثوري مهدد، ثم الممارسة وجدليتها .
في التجميع الإسلامي لا تكفي العقيدة والنظرية، لابد من تربية أهم أهدافها وأسبقه رفع همة المؤمن من النسبي إلى المطلق. والأرضية الاجتماعية في غالبية الجماهير طبقات متراكمة على مر التاريخ من عفويات، وفي الطبقة المتعلمة ركام ثقافي فكري العنصر الغالب فيه الوطنية والقومية والأصالة والتحديث والتنمية .
تتضاعف الصعوبة أمامنا من كون التكتلات النسبية ذات الأهداف السياسية والطبقية المحدودة لها فاعلية وتأثير في الواقع، فمن يصحبنا على درب الجهاد لا ينبغي أن تفصله النسبة لله عز وجل المترتبة على التقوى والعمل الصالح عن واجبات الفاعلية والتأثير والصراع اليومي الدائم. وإلا انحذفت الحركة الإسلامية في الأجواء العليا، وفقدت مواقع أقدام على الأرض. كيف الجمع ؟ كيف يكون إسلامنا لله رافعا معنويا ومؤثرا عمليا معا ؟
شبيه موقفنا بموقف البعثة النبوية من كون المجتمع المراد تغييره أرضي الانتماء في الجملة. عبارة "في الجملة" هذه تستثني شرائح اجتماعية واسعة هي على إسلاميها الموروث الفردي غير المؤثر، وعبارة "أرضي الانتماء" نتحاشى بها استعمال كلمة "جاهلي الانتماء" لما في إطلاق اسم الجاهلية على المسلمين، ولو كان الفسق سائدا والردة فاشية والحكم جاهليا، من فتح خطير لذرائع الفتنة .
لهذا الشبه، ولوحدة الهدف، لا يصح أمر التجديد الإسلامي إلا بما صلح به أمر التأسيس الإسلامي. وحسن الصحبة مفتاح الموقف اليوم وغدا كما كان في العهد الأول. حسن الصحبة يعني حسن التربية، يعني أولويتها، يعني أخذ الفرد بالإحسان، واكتنافه بالصحبة، ورفعه مع الجماعة، وصونه في محضنها، وإشراكه في حيويتها الإيمانية، وأخذه عاطفيا وعمليا، وقلبيا وعقليا. في السفر الجماعي من أرضية الانتماء إلى سماويته، من قطرية القومية ومحليتها إلى عالمية الإسلام .
إن القومية، عربية أو عجمية، رباط جديد مصطنع مستورد في بلاد المسلمين. إنه في نظر قادة القومية العلمانيين بديل عن كل دين، بديل عقلاني مصلحي أرضي انفعالي عنيف. تكتسب القومية خصائصها العقلانية المصلحية الأرضية من الإديولوجية القومية المتبناة المستوردة، وتكتسب العضلات والعنف من الانفعالية الموروثة، ومن المواقف السياسية القومية التي سلحت أمس العربي ضد التركي، والبنغالي ضد البنجابي، وتسلح اليوم بشكل أفظع وألعن العربي ضد الإيراني.
أيكفي أن نرفع شعار الإسلام والسلام والأخوة وحسن الصحبة في وجه المارد القومي الفاتك ؟ هل نجد فسحة السنوات الثلاث عشرة التي خصصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتربية أصحابه الكرام لا يحملون طيلتها أعباء المقاومة والقتال ؟ هل تتركنا تهويشات الصراع الداخلي والخارجي وتشويهاته لنتفرغ ريثما نعقد عهد حسن الصحبة ونربط العلاقات الإيمانية الإسلامية ؟
على محك الكيف العملي، على معيار الممارسة، توضع مبادئنا كلها، ومنها حسن الصحبة فيما بين أعضاء الكيان الإسلامي الزاحف. لا يكتمل عملنا إلا إذا أحسنَّا أيضا، وفي نفس الوقت، وعلى مدى مراحل التغيير الإسلامي، صحبة الدعوات المضادة والمنافسة، المسالمة والمقاتلة. نقابل كلا منها بما يليق، بما شرع الله عز وجل لا بما يستفزه من كوامن انفعالاتنا عنف الآخرين. ولسنا بمستطيعين اختيار الظروف التي نواجه فيها الواقع ونقتحم فيها العقبة، ولا بقادرين على إيقاف عجلة الأحداث وتكييف سردها، ولا بناجحين إن ظننا أن الكائن الإسلامي يفيد يوما ويؤثر إن بدأنا برعايته وتأليفه في ظل الخفاء والأمن الكاذب الخطير في أحضان السرية. كل كيان عضوي لا يصبر على شراسة الصراع سيفنى لرخاوته. كلمة حكمة، لا علينا إن استغلها بالباطل أصحاب نظرية "النشوء والارتقاء".
لنترك الآن، إلى رجعات إن شاء الله، شأن التربية وكيف تتزاوج مع المقاومة. إن هذا التزاوج من أهم ما يتوقف عليه الفوز بثمرات النصر في الدنيا والكرامة في الآخرة.
ولنذكر العناصر الاجتماعية الإيمانية الأخلاقية التي يتألف من مجموعها النسيج الإنساني لمحضن التربية، والجو المعنوي الذي يستنشق فيه، والعلاقات الرافعة إلى النسبة العليا منه.
كنت كتبت في "المنهاج النبوي" تصنيف شعب الإيمان البضع والسبعين في فئات عشرة أولها وفاتحتها خصلة"الصحبة والجماعة" أي وجود المحضن التربوي الرافع ووظيفته. وأذكر بالأثر الذي ورد فيه قول الله تعالى : "فاليوم أرفع نسبي وأضَع نسبكم"، ليفهم ما أقصد بعبارات "المحضن التربوي الرافع".
على مدى إحدى عشرة مرحلة يتخلق المؤمن ويتقي ربه ويتكرم ويرتفع إلى النسب الأعلى . يكون حب الله و رسوله أول ما يلوح لبادرته عند لقاء حزب الله، يرى ذلك سلوكا كاملا. إن كانت الجماعة كاملة. وهذا أفق يطمح إليه، ولا كمال إلا لله عز وجل . ثم يتعلم عمليا محبة إخوانه في الله سبحانه وتعالى، يخرج تدريجيا من الانتماء الجبلي الآسر إلى هذا الانتماء الأخوي. ثم يقرن هذه العاطفة الأخوية الوليدة بالصحبة العملية لإخوته، بمعايشتهم وإكرامهم ومشاركاتهم. ثم يرتفع عاطفيا بواسطة محبة الإخوة وصحبتهم وعلى مثالهم إلى التعلق والتأسي بالنموذج الكامل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتخلق بأخلاقه العليا الجامعة بين عظائم الأمور وبين الممارسة اليومية المتواضعة مثل حياة الأسرة. ثم يتعلم المؤمن الأهمية القصوى ويطبق واجب الإحسان إلى الوالدين. وإنها لمن عويصات التربية عندما تتعارض واجبات المؤمن المتحزب لله سبحانه الحركية مع رغبات الوالدين. لا يريد الله عز وجل للمؤمن، مهما كانت الظروف، إلا الإحسان للوالدين والأقربين بالمعروف. لا يريد أن نقطع الانتماء الجبلي، بل نستقيه ونبني عليه ونأمل فيه الخير. ثم يستقر المؤمن في حضن التربية في بيته مع زوجه بآداب فوق آداب الألفية الجبلية، نحافظ على تلك الألفة ونصعدها. ثم يتعلم المؤمن الإحسان إلى الجار، والإحسان باب مفتوح. بل هو فتح ومفتاح للدعوة ولتوسيع دائرة الانتماء، وجذب الأمة إلى النسبة العليا الأقرب فالأقرب. وإكرام الضيف الوارد عليك، والذي ترد أنت عليه للدعوة وسيلة أخرى رافعة. ثم يكتسب المؤمن وسط الجماعة وتكتسب الجماعة بنشاط أفرادها، الفضيلة الخلقية و السياسية بالقدرة على رعاية حقوق المسلمين والدفاع عنها، وبإصلاح ما أفسدته ذات البين الاجتماعي وما أفسده الظلم السياسي. ومن هنا نرى أن التربية تدخل من الأبواب القاعدية لمجال الصراع، ومجال الوقوف مع المستضعفين. وتتم الملامح الخلقية التأهيلية للتربية المجاهدة باكتساب المؤمن صفة البر وحسن الخلق و هي جماع الخير، ومعقد الفاعلية الجهادية،و الوجه الباسم المحبب الجذاب للدعوة. و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين) كتاب الأسلام و القومية العلمانية.
مابين النسبة إلى الله وتعالى ومعرفته ، وبين الثقافة الإنسانية بون شاسع ، لا يعالجها إلا فعل التربية.
نسأل الله التوفيق.
عمرالحسني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس