الموضوع: المكتوبات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-2011
  #22
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

الاشارة البليغة السابعة

نشير الى بضع امثلة من المعجزات النبوية التي تخص بركة الطعام وثبتت بروايات صحيحة قاطعة وبالتواتر المعنوي. ونرى من الأنسب ان نقدّم بين يديها مقدمة.

المـقدمة

ان الامثلة التي سترد حول معجزة بركة الطعام كل منها قد روي بطرق متعددة، بل ان قسماً منها روي بستة عشر طريقاً، وقد وقع معظم هذه الامثلة امام جماعة غفيرة من الصحابة الكرام المنزّهين عن الكذب والذين لهم المنزلة الرفيعة في الصدق والامانة.

مثال للتوضيح:

يروي احدهم انه: اكل سبعون رجلاً من صاعٍ(1) وشبعوا جميعاً. فالرجال السبعون يسمعون هذه الرواية التي يحكيها احدهم، ثم لا يخالفونه ولا ينكرون عليه، اي أنهم يصدّقونه بسكوتهم.

فالصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم اجمعين كانوا في ذروة الصدق والحق حيث انهم عاشوا في خير القرون وهم محفوظون من الاغضاء على الباطل، فلو كان يرى احدهم شيئاً ولو يسيراً من الكذب في اي كلام كان لما وسعه السكوت عليه قطعاً، بل كان يردّه حتماً.

لذا فالروايات التي نذكرها فضلاً عن انها رويت بطرق متعددة فقد سكت عنها الآخرون تصديقاً بها، اي كأن الجماعة قد رووها فالساكت منهم كالناطق بها فهي اذن تفيد القطعية كالمتواتر المعنوي.

ويشهد التأريخ ـ والسيرة خاصة ـ أن الصحابة الكرام قد وقفوا أنفسهم بعد حفظ القرآن الكريم لحفظ الحديث الشريف، أي حفظ احواله e وافعاله واقواله، سواء منها المتعلقة بالاحكام الشرعية أم بالمعجزات، ولم يهملوا ـ جزاهم الله خيراً ـ اية حركة مهما كانت صغيرة من سيرته المباركة، بل اعتنوا بها وبروايتها، ودوّنوها في مدوّنات لديهم، ولا سيما العبادلة السبعة وبخاصة ترجمـان القرآن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وهكذا حُفظت الاحاديث في عهد الصحابة الكرام حتى جاء كبار التابعين بعد ثلاثين أو أربعين سنة فتسلّموها غضةً طريةً منهم وحفظوها بكل امانة واخلاص، فكتبوها ونقلها عنهم بعد ذلك الائمة المجتهدون وألوف المحققين والمحدّثين وحفظوها بالكتابة والتدوين، ثم تسلّمها ـ بعد مضي مائتي سنة من الهجرة ـ اصحاب الكتب الستة الصحيحة المعروفة وفي مقدمتهم البخاري ومسلم، ثم جاء دور النقّاد واهل الجرح والتعديل، وبرز منهم متشددون ـ امثال ابن الجوزي ـ فميّزوا الاحاديث الموضوعة التي دسّها بعض الملاحدة وجهلة الناس على الاحاديث الصحيحة. ثم اعقبهم علماء أفاضل ذوو تقوى وورع امثال جلال الدين السيوطي وهو العلاّمة الامام الذي تشرف بمحاورة الرسول e فتمثل له في اليقظة سبعين مرة ــ كما يصدّقه أهل الكشف من الاولياء الصالحين ـ فميّزوا جواهر الاحاديث الصحيحة من سائر الكلام والموضوعات.

وهكذا ترى ان الاحاديث ـ والمعجزات التي سنبحث عنها ــ قد انتقلت الينا سليمة صحيحة بعد ان تسلّمها مالا يعد ولا يحصى من الأيدي الأمينة ((فالحمدلله، هذا من فضل ربي)).

وعليه فلا ينبغي أن يخطر بالبال: كيف نعرف أن هذه الحوادث التي حدثت منذ مدة سحيقة قد ظلت مصونة سالمة من يد العبث؟

أمثلة حول معجزات بركة الطعام:

المثال الأول:

T اتفقت الصحاح الستة، وفي مقدمتها البخاري ومسلم في حديث أنس رضي الله عنه ((قال: كان النبي e عروساً بزينب، فعَمِدَتْ أمي أمّ سُلَيم الى تمر وسمن وأقط، فصنعت حيساً فجعلته في تور(1) فقالت: يا أنس! اذهب بهذا الى رسول الله e فقل بعثتْ بهذا اليكَ امي، وهي تقرئك السلام، وتقول: ان هذا لك منّا قليل يا رسول الله! فذهبت فقلت))، فقال: ((ضعْهُ)) ثم قال: ((اذهب فادعُ لي فلاناً)) وفلانا وفلاناً رجالاً سمّاهم ((وادعُ مَن لقيتَ)) فدعوتُ مَن سمّى ومَن لقيتُ فرجعتُ فاذا البيت غاص باهله، قيل لأنس: عددكم كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمئة. فرأيت النبيe وضع يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله ثم جعل يدعو عشرةً عشرةً يأكلون منه، ويقول لهم: ((اذكروا اسم الله، وليأكل كلُّ رجل مما يليه)) قال: فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة، ودخلت طائفة، حتى اكلوا كلهم قال لي: ((يا أنس! ارفع)) فرفعتُ، فما ادرى حين وضعتُ كان اكثر ام حين رفعتُ(1).

المثال الثاني:

T نزل النبي e ضيفاً عند ابي ايوب الانصاري فذات يوم ((صنعَ لرسول الله e ولابي بكر رضي الله عنه من الطعام زُهاء ما يكفيهما. فقال له النبي e : ادعُ ثلاثين من أشرافِ الانصار! فدعاهم فأكلوا حتى تركوا. ثم قال: ادعُ ستين، فكان مثلُ ذلك، ثم قال: ادعُ سبعين فاكلوا حتى تركوه، وما خرج منهم أحدٌ حتى اسلم وبايع، قال ابو ايوب: فأكل من طعامي مئة وثمانون رجلاً))(2).

المثال الثالث:

T ((حديث سلمة بن الاكوع، وابو هريرة، وعمر بن الخطاب (وابو عمرة الانصاري رضي الله عنهم، فذكروا مخمصة أصابت الناس مع النبي e في بعض مغازيه، فدعا ببقية الازواد(3)، فجاء الرجل بالحَثْية من الطعام، وفوق ذلك ، واعلاهم الذي اتي بالصاع من التمر، فَجَمعه على نطْعٍ. قال سلمة: فحرزته، كَربضةِ العنز، ثم دعا الناس باوعيتهم، فما بقي في الجيش وعاء الاّ ملأوه، وبقي منه قدر ما جُعل واكثر، ولو ورده أهلُ الارض لكفاهم))(4).





المثال الرابع:

T ثبت في الصحاح وفي مقدمتها البخاري ومسلم أن عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق قال: ((كنا مع النبي e ثلاثين ومئة)) في سفر ((وذكر في الحديث أنه عُجن صاعٌ من طعام، وصُنعَت شاةٌ فشويَ سواد بطنها قال: وايم الله ما من الثلاثين ومئة الاّ وقد حزَّ لهُ حزّةً من سواد بطنها، ثم جعل منها قصعتين فاكلنا اجمعون، وفضل في القصعتين، فحملته على البعير))(1).

المثال الخامس:

ثبت في الصحاح أيضاً:

T ((حديث جابر في اطعامه e يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير وعناق(2) وقال جابر: فاُقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وان بُرمَتنا لتَغُط كما هي وان عجيننا ليخبز))(3) وكان الرسول الأكرم e قد وضع في ذلك العجين والقدر من ماء فيه المبارك ودعا بالبركة. فيعلن جابر مقسماً بالله معجزة البركة هذه في حضور الف من الصحابة مُظهراً علاقتهم بها.

فهذه الرواية قطعية وكأن الف رجل قد رواها.

المثال السادس:

T وثبت في الصحاح أن ابا طلحة عمَّ خادم النبي e أنس رضي الله عنه يقول:

ان الرسول الاكرم e اطعَمَ مما أتى به أنسُ تحت ابطه من قليل خبز شعير زهاء ثمانين رجلاً حتى شبعوا. وكان e أمر بأن يجعل ذلك الخبز ارباً ارباً، ودعا بالبركة، وان البيت ضاق بهم فكانوا يأكلون عشرة عشرة، ورجعوا كلهم شباعاً(4).

المثال السابع:

T ثبت في صحيح مسلم والشفا وغيرهما ان جابراً الانصاري يقول: ((ان رجلاً اتى النبي e يستطعمه، فاطعَمَه شطر وَسْق شعير، فما زال يأكل منه هو وأمراتُه وضيفه حتى كالَه)) ليعرفوا ما نقصَ منه، فرأوا أنه زالت منه البركة، وصار ينقص شيئاً فشيئاً. فأتى النبي e فأخبره فقال e : ((لو لم تَكِلْهُ لأكلتم منه ولقام بكم))(1).

المثال الثامن:

T تبين الصحاح كالترمذي والنسائي والبيهقي وكتاب الشفاء ((عن سمرة بن جندب: أتى النبي e بقصعةٍ فيها لحم، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل يقوم قوم ويقعد آخرون))(2).

وبناء على ما ذكرناه في المقدمة، هذه الواقعة الواردة في البركة ليست رواية سمرة فقط، بل كأنه ممثلٌ عن تلك الجماعات التي أكلت من ذلك الطعام. فيعلن هذه الرواية بدلاً منهم.

المثال التاسع:

T يروى رجال ثقاة كصاحب الشفاء وابن أبي شيبة والطبراني بسند جيد وعلماء محققون: ((عن ابي هريرة: أمرني النبي e ان ادعوَ له اهلَ الصفة)) وهم فقراء المهاجرين الذين كان ينوف عددهم على مائة. والذين كانوا قد اتخذوا الصفّة في المسجد مأوىً لهم (( فتتبَّعتُهم حتى جمعتُهم. فوُضعَت بين ايدينا صفحةٌ، فأكلنا ما شئنا، وفرغنا، وهي مثلها حين وُضعت، الاَّ أن فيها أثر الاصابع))(3).

فابو هريرة يدلي بهذا الخبر باسم اصحاب الصفة مستنداً الى تصديقهم. فهي رواية قطعية اذاً وكأن جميع أهل الصفة رووها. فهل يمكن ان يكون هذا الخبر خلاف الحق والصواب ثم لا ينكر عليه اولئك الصادقون الكاملون ولا يردّونه؟.

المثال العاشر:

T ثبت برواية صحيحة أن الامام علياً رضي الله عنه قال: ((جمع رسول الله e يوماً بني عبد المطلب وكانوا أربعين، منهم قومٌ يأكلون الجدعة ويشربون الفرق)) اي منهم من يأكل فرع الجمل ويشرب اربع اوقيات من الحليب ((فصنع لهم مُدّاً من طعامٍ فأكلوا حتى شبعوا وبقي كما هو، ثم دعا بعسّ)) اي اناء من خشب حليباً يكفى لثلاثة أو اربعة ((فشربوا حتى رووا. وبقي كأنه لم يشرب))(1).

فهذا مثال واحد لمعجزة بركة الطعام وهو بقطعية شجاعة علي رضي الله عنه وصدقه.

المثال الحادي عشر:

T ثبت برواية صحيحة ((في انكاح النبي e لعلي فاطمة أن النبي e أمر بلالاً بقصعة من اربعة امدادٍ أو خمسة ويذبح جزوراً(2) لوليمتها. قال: فاتيته بذلك فطعن في رأسها، ثم ادخل الناس رُفقة رفقة يأكلون منها، حتى فرغوا، وبقيت منها فضلةٌ، فبرّك فيها وأمر بحملها الى ازواجه، وقال: ((كلن واطعمن مَن غشيكن))(3) حقاً! ان مثل هذا الزواج الميمون لحريٌّ بمثل هذه المعجزة في البركة.

المثال الثاني عشر:

T روى جعفر الصادق عن ابيه محمد الباقر عن ابيه زين العابدين عن علي رضي الله عنه: ((ان فاطمة طبخت قدراً لغذائهما ووجّهت علياً الى النبي e ليتغذى معهما، فأمرها فغرفت منها لجميع نسائه صفحةً صفحة ثم له e ولعلي ثم لها ثم رفعت القدر وانها لتفيض، قالت: فأكلنا منها ما شاء الله))(1).

فعجباً من أمرك ايها الانسان لِمَ لا تصدّق بهذه المعجزة الباهرة تصديق شهود بعد ما سمعت ان رواتها من السلسلة الطاهرة، حتى الشيطان نفسه لا يجد سبيلاً لأنكارها!

المثال الثالث عشر:

T روى الائمة امثال ابي داود وأحمد ابن حنبل والبيهقي عن دُكَين الأحمسي بن سعيد المزين، وعن الصحابي الذي تشرف هو واخوته الستة بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو نعمان بن مقرن الأحمسي المزين، ومن رواية جرير ومن طرق متعددة ان الرسول الأكرم e : ((أمر عمر بن الخطاب ان يزود اربعمائة راكب من أحمس. فقال: يا رسول الله ما هي الاّ أصوع(2) قال: اذهب، فذهب فزوَّدهم منه. وكان قدر الفصيل الرابض من التمر، وبقي بحاله))(3).

هكذا وقعت معجزة البركة هذه، وهي تتعلق باربعمائة رجل، لا سيما بعمر رضي الله عنه. فهؤلاء جميعاً هم الرواة لأن سكوتهم حتماً تصديق للرواية. فلا تقل انها خبر آحاد ثم تمضي الى شأنك فأمثال هذه الحوادث وان كانت خبر آحاد، الاّ انها تورث الطمأنينة في القلب لانها بمثابة التواتر المعنوي.

المثال الرابع عشر:

T ثبت في الصحاح وفي مقدمتها البخاري ومسلم حديث جابر رضي الله عنه ((في دَين أبيه، وقد كان بَذَل لغرماء أبيه أصلَ مالِهِ ليقبلوه ولم يكن في ثمرها سنتين كفافُ دَينهم، فجاءه النبي e بعد أن أمره بجدِّها ــ أي قطعها ــ وجعلها بيادر في أصولها، فمشى فيها ودعا، فأوفي منه جابر غُرماء ابيه وفَضَل مثل ما كانوا يجدُّون كل سنة، وفي رواية مثل ما اعطاهم، قال: وكان الغرماء يهودَ فعجبوا من ذلك))(1).

وهكذا فهذه المعجزة الباهرة في بركة الطعام ليست برواية يرويها جابر واشخاص معدودون فقط وانما هي متواترة من حيث المعنى يرويها جميع هؤلاء الرواة ممثلين لكلّ من تتعلق به هذه الرواية.

المثال الخامس عشر:

T يروى العلماء المحققون رواية صحيحة، وفي مقدمتهم الأمام الترمذي والبيهقي، عن ابي هريرة رضى الله عنه انه قال: أصاب الناس مخمصةٌ في احدى الغزوات ــ وفي رواية في غزوة تبوك ـ ((فقال لي رسول الله e : هل من شئ؟ قلتُ: نعم شئٌ من التمر في المزود(2))) وفي رواية خمس عشرة تمرة ((قال فأتني به، فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها ودعا بالبركة. ثم قال ادعُ عشرة، فأكلوا حتى شبعوا، ثم عشرة كذلك، حتى أطعم الجيش كلهم وشبعوا، قال: خذ ما جئت به وأدخل يدك واقبض منه ولا تكبَّه، فقبضتُ على أكثر مما جئتُ به، فأكلت منه وأطعمت حياة رسول الله e وحياة ابي بكر وعمر الى أن قُتل عثمان فانتهبَ مني فذهب. وفي رواية فقد حملتُ من ذلك التمر كذا وكذا من وسق في سبيل الله))(3).

وهكذا، فان معجزة البركة التي يرويها ابو هريرة، وهو الذي تتلمذ على معلم الكون وسيده محمد e ولازم مدرسة الصفة وبزّ فيها بالحفظ بدعاء النبي له، فهذا الصحابي الجليل يروي هذه الرواية في مجمع من الناس ــ كغزوة تبوك ــ فلا بد ان تكون هذه الرواية متواترة من حيث المعنى، وقوية متينة بقوة الجيش كله اي كما لو كان الجيش كله يرويها.

المثال السادس عشر:

T ثبت في صحيح البخاري والصحاح الاخرى: ان الجوع اصاب ابا هريرة، ((فاستَتَبعَه النبي e ، فوجد لبناً في قدح أهدي اليه، وأمره أن يدعو أهل الصفة. قال: فقلتُ ما هذا اللبن فيهم، كنت أحقَّ أن اصيب منه شربةً أتقوى بها، فدعوتُهم))، وكانوا ينوفون على المائة، فأمر e أن اسقيهم ((فجعلتُ اُعطي الرجل فيشرب حتى يروى. ثم يأخذه الآخر حتى رَوِى جميعهم قال: فأخذ النبي e القدحَ وقال: بقيتُ انا وانت، اقعد فاشرب. فشربت ثم قال: اشرب. وما زال يقولها وأشربُ حتى قُلت: لا، والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً. فأخذ القدح وحمد الله وسمّى وشرب الفضلة))(1). فهنيئاً لك مائة الف مرة يا رسول الله.

فهذه المعجزة السليمة من شوائب الشك والخالصة اللطيفة كاللبن قد روتها كتب الصحاح وفي مقدمتها صحيح الامام البخاري الذي كان حافظاً لخمسمائة الف حديث. فهي اذن رواية لا ريب فيها قط وصادقة وثابتة كأنها مشهودة رأي العين، مثلما رواها تلميذ المدرسة الأحمدية المقدسة، مدرسة الصفّة، ذلك التلميذ الموثوق الحافظ ابو هريرة، رواها باسم اصحاب الصفة جميعهم وأشهدهم عليها.

فالذي لا يتلقى هذا الخبر تلقياً كأنه يشاهده، فهو إما فاسد القلب أو فاقد العقل.

تُرى هل من الممكن أن صحابياً جليلاً مثل ابي هريرة الصادق الذي بذل حياته في حفظ الحديث النبوي، أن يحط من قيمة ما حفظه من الاحاديث النبوية فيورد ما يثير الشك والشبهة ويقول ما يخالف الحق والواقع، وهو الذي سمع قول النبي e : ((مَنْ كَذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) حاشاه عن ذلك.

فيارب بحرمة بركة هذا الرسول الكريم e هب لنا البركة فيما منحتنا من ارزاق مادية ومعنوية.



نكتة مهمة

بديهي انه كلما اجتمعت اشياء واهية ضعيفة تقوّت. واذا اُبرمت خيوط رفيعة واتحدت صارت عروة وثقى لا تنفصم. وقد اوردنا هنا ستة عشر مثالاً لقسمٍ من خمسة عشر قسماً من نوع معجزة البركة التي تمثل نوعاً من خمسة عشر نوعاً من انواع المعجزات، وكل مثال اوردناه قويٌ في حد ذاته وكاف وحده لإثبات النبوة. ولو فرضنا ــ فرضاً محالاً ــ بأن بعضاً منها ضعيف غير قوي في ذاته، فلا يجوز الحكم عليه بأن المثال لا يقوى دليلاً على المعجزة لأنه يتقوى بأتفاقه مع القوي.

ثم ان اجتماع هذه الامثلة الستة عشر التي هي في درجة التواتر المعنوي يدل على معجزة كبرى قوية، ولو مُزجَت هذه المعجزة مع سائر الاقسام الاربعة عشر من معجزاته e حول البركة التي لم تذكر هنا، لغدت معجزة هائلة كالحبال المتحدة التي لا انفصام لها. ثم انك لو اضفت هذه المعجزة الهائلة القوية الى سائر انواع المعجـزات الاربع عشرة لرأيـت برهـاناً قوياً لا يـتزلـزل، برهـاناً باهراً على النـبوة الصادقة.

وهكذا فعماد النبوة الأحمدية عماد كالطود الاشم تتشكل من مجموعة هذه المعجزات.

ولا شك انك ادركت الآن مدى سخافة وبلاهة مَن يرى هذا البناء الشامخ العامر للنبوة ثم يظن أنها تهوى بشبهات واهية ترد الى ظنه من جزئيات الامثلة.

نعم! ان تلك المعجزات التي تخص البركة في الطعام تدل دلالة قاطعة على نبوة محمد e وانه مأمور محبوب لدى ذلك الرحيم الكريم الذي يمنح الرزق ويخلقه. وهو عبد كريم لديه بحيث يبعث له مستضافات مملوءة بانواع من الرزق ـ خلافاً للمعتاد ـ من العدم ومن خزائن الغيب التي لا تنفد.

ومعلوم أن الجزيرة العربية شحيحة بالماء والزراعة بحيث ان اهاليها ـ لا سيما في صدر الاسلام ـ كانوا في ضيق من المعيشة وشدة منها وشحة من الماء والتعرض للعطش. فبناء على هذه الحكمة، فقد ظهرت اهم المعجزات الاحمدية الباهرة ظهوراً في الطعام والماء.

فهذه المعجزات انما هي بمثابة اكرام رباني، واحسان الهي، وضيافة رحمانية للرسول الكريم e ، يكرمه حسب الحاجة، فهي اكرام اكثر من ان تكون دليلاً على النبوة. لأن الذين رأوا هذه المعجزات، كانوا مؤمنين ايماناً قوياً بالنبوة. فالمعجزة كلما ظهرت يتزايد الايمان ويتقوى، وهكذا تزيدهم هذه المعجزات نوراً على نور ايمانهم.

الاشارة البليغة الثامنة

تبين قسماً من المعجزات التي تتعلق بالماء.

المـقــدمة

ان الحوادث التي تقع بين اظهر الناس، اذا ما نُقلت بطريق الآحاد ولم تُكذَّب فهي دلالة على صدق وقوعها، لان فطرة الانسان مجبولة على ان يفضح الكذب ويرفضه. ولا سيما اولئك الذين لا يسكتون على الكذب وهم الصحب الكرام، وبخاصة اذا كانت الاحداث تتعلق بالرسول الاكرم e ، وبالاخص ان الرواة هم من مشاهير الصحابة. فيكون راوي ذلك الخبر الواحد حينذاك كأنه ممثل لتلك الجماعة التي شاهَدَتْه شهود عيان. علماً ان كل مثال من امثلة المعجزات المتعقلة بالماء التي سنبحث عنها قد رُوي بطرق متعددة، عن كثير من الصحابة الكرام وتناوله ائمة التابعين وعلماؤهم بالحفظ وسلّموا كل رواية منها بأمانة بالغة الى الذين يأتون من بعدهم في العصور الاخرى. فتلقاه العصر الذي بعدهم بجدّ وامانة ونقلوه بدورهم الى علماء العصر التالي، وهكذا تعاقبت عليه الوف العلماء الأجلاء في كل عصر وكل طبقة، حتى وصل الى يومنا هذا، فضلاً عن ان كتباً للاحاديث قد دوّنت في عصر النبوة وسُلّمت من يد الى يد حتى وصلت الى ايدي ائمة الحديث من امثال البخاري ومسلم فَوعوها وعياً كاملاً، وميّزوا هذه الروايات حسب مراتبها، وقاموا بجمع كل ما هو صحيح خالٍ من شائبة الشبهة في صحاحهم، فارشدونا الى الصواب.. جزاهم الله خيراً.

مثال: ان فوران الماء من اصابع الرسول e ، وسقيه كثيراً من الناس، حادث متواتر. نقلته جماعة غفيرة لا يمكن تواطؤهم على الكذب بل محال كذبهم. فهذه المعجزة اذاً ثابتة قطعاً، فضلاً عن انها قد تكررت ثلاث مرات امام ثلاث جماعات عظيمة.

فقد روت الحادثة برواية صحيحة جماعة من مشاهير الصحابة، وفي مقدمتهم أنس ((خادم الرسول e )) وجابر وابن مسعود ونقلها الينا ـ بسلسلة من الطرق ـ ائمةُ الحديث امثال البخاري ومسلم والامام مالك وابن شُعيب وقتادة رضوان الله تعالى عليهم اجمعين.

وسنذكر تسعة امثلة فحسب من المعجزات المتعلقة بالماء.

المثال الاول:

T ثبت في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما: ((عن انس بن مالك قال رأيت رسول الله e وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه)). ((قال: اُتي النبيُّ e باناء وهو بالزوراء(1)، فوضع يده في الاناء، فجعل الماء ينبع من بين اصابعه، فتوضأ القوم. قال قتادة، قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة))(2).

فأنت ترى ان انساً رضي الله عنه يخبر عن هذه الحادثة بوصفه ممثلاً عن ثلاثمائة رجل. فهل يمكن الاّ يشترك اولئك الثلاثمائة في هذا الخبر معنىً وهل يمكن ألاّ يكذبوه ـ حاشاه ـ إن لم تكن هذه الحادثة قد حدثت فعلاً؟.

المثال الثاني:

T ثبت في الصحاح وفي مقدمتها البخاري ومسلم: ((عن سالم بن ابي الجعد عن جابر بن عبد الله الانصاري رضي الله عنهما قال: عطش الناس يوم الحديبية والنبي e بين يديه ركوةٌ(3)، فتوضأ، فجهش الناس نحوهُ فقال: مالكم؟ قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب، الاّ ما بين يديك. قال جابر: فوضع النبي e يده في الركوة فجعل الماء يثور من بين اصابعه، كامثال العيون، فشربنا وتوضأنا. قال سالم: قلت لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة الف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة))(4) فترى ان رواة هذه المعجزة يبلغون الفاً وخمسمائة رجل من حيث المعنى لأن الانسان مفطور على ان يفضح الكذب ويقول للكذب هذا كذب، فكيف بهؤلاء الصحابة الكرام الذين ضحوا بارواحهم واموالهم وآبائهم وابنائهم واقوامهم وقبائلهم في سبيل الحق والصدق؟ فضلاً عن انه محال ان يسكتوا على الكذب بعدما سمعوا التهديد المرعب في الحديث الشريف (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار . فماداموا لم يعترضوا على الخبر بل قبلوه ورضوا به، فقد أصبحوا اذاً مشتركين في الرواية ومصدِّقين لها من حيث المعنى.

المثال الثالث:

T تروى الكتب الصحاح ((ومنها البخاري ومسلم))(1) في ذكر غزوة (بُواطٍ)(2) أن جابراً قال: ((قال لي رسولُ الله e : يا جابر نادِ الوضوء)) فقيلَ لا يوجد لدينا الماء. فأراد ماء يسيراً. ((فأُتي به النبي e فغمزه(3)، وتكلّم بشئ لا ادري ما هو. وقال: نادِ بجفنة الركب، فاتيتُ فوضعتها بين يديه، وذكر ان النبيe بَسَط يده في الجفنة وفرّق اصابعه. وصبّ جابرٌ عليه وقال: بسم الله! قال: فرأيت الماء يفور من بين اصابعه، ثم فارت الجفنة واستدارت حتى امتلأت، وأمر الناس بالاستقاء، فاستقوا حتى رووا. فقلت هل بقي احدٌ له حاجة؟ فرفع رسول الله e يده من الجفنة وهي ملأى)).

فهذه المعجزة الباهرة متواترة من حيث المعنى، لأن جابراً كان في مقدمة المشاهدين فمن حقه اذاً ان يتكلم هو فيها، ويعلنها على لسان القوم حيث كان يخدم الرسول e آنذاك.

T وفي رواية ابن مسعود في الصحيح: ((ولقد رأيتُ الماء ينبعُ من بين اصابع رسول الله e ))(4).

يا ترى اذا روى صحابة ثقاة اجلاء من امثال انس وجابر وابن مسعود وقال كل منهم: ((رأيت))، أمن الممكن عدم رؤيتهم؟

وبعد؛ وَحِّد هذه الامثلة معاً، لترى مدى قوة هذه المعجزة الباهرة، لأن الطرق الثلاثة اذا ما توحدت فستثبت الرواية اثباتاً قاطعاً بالتواتر المعنوي، من ان الماء كان يفور من أصابعه e فهذه المعجزة أعظم وأسمى من تفجير موسى عليه السلام الماء من اثنتي عشر عيناً من الحجر لأن انفجار الماء من الحجر شئ ممكن له نظيره حسب العادة، ولكن لا نظير لفوران الماء من اللحم والعظم كالكوثر السلسبيل.

المثال الرابع:

T روى الامام مالك في كتابه القيّم (الموطأ(1)) عن أجلة الصحابة ((عن معاذ بن جبل في قصة غزوة (تبوك) انهم وردوا العين وهي تبض بشئ من ماء(2) مثل الشراك)) فأمر رسول الله e أن : اجمعوا من مائها ((فغرفوا من العين بايديهم حتى اجتمع في شئ. ثم غسل رسول الله e فيه وجهه ويديه واعاده فيها فَجَرت بماء كثير فاستقى الناس)) حتى قال في حديث ابن اسحاق ((فانخرق من الماء مالَه حِسّ كحس الصواعق. ثم قال: يوشِك يا معاذ إن طالت بك حياةٌ ان ترى ما هاهنا قد ملئ جناناً)) وكذلك كان.

المثال الخامس:

T روى البخاري عن البراء، ومسلم عن سلمة بن الاكوع، وعن طرق اخرى في كتب الصحاح الاخرى ((كنا يوم الحديبية اربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها، حتى لم نترك فيها قطرة فجلس النبي e على شفير البئر فدعا بماء فمضمض ومجّ في البئر فمكثنا غير بعيد ثم استسقينا حتى روينا ورَوَت أو صَدَرَت ركائبنا))(3) قال البراء: فأمر e بدلو من مائها، فأتينا بها، فألقى ريقه من فمه المبارك ودعا، ثم بعد ذلك أفرغ الدلو في البئر ففارت وارتفعت ملء فمها فأرووا انفسهم وركابهم.

المثال السادس

T روى ائمة الحديث، امثال مسلم وابن جرير الطبري وغيرهما عن ابي قتادة انه قال: ((ان النبي e خرج بهم ممدّاً لأهل مؤتة عندما بلغه قَتْل الامراء))(4) وكانت لديّ مِيضأة. فقال الرسول e : ((احفظ على مِيضأتك فانه سيكون لها نبأ)) وبعد ذلك أخذ العطش يشتد بنا وكنا اثنين وسبعين ـ وفي رواية الطبري كنا زهاء ثلاثمائة ـ فقال الرسول الكريم e : ((ائت ميضأتك. فأتيتُها فأخَذَها ووضع فمه في فمها ولم ادر أتنفسَ فيها أم لا؟ ثم بعد ذلك جاء أثنان وسبعون رجلاً فشربوا منها وملأوا اوعيتهم ثم بعد ذلك أخذتها ـ أي الميضأة(1) ـ فبقيت مثل ما كان))(2) فتأمل في هذه المعجزة الباهرة وقل:

اللّهم صلّ وسلم عليه وعلى آله بعدد قطرات الماء.

المثال السابع:

T روى البخاري ومسلم عن عمران بن حُصين حين اصاب النبي e وأصحابه عطشٌ في بعض اسفارهم ((كنا في سفر مع النبي e ... فاشتكى اليه الناس من العطش فنزل... ودعا عليا فقال: اذهبا فابتغيا الماء، فانطلقا فتلقيا أمرأة بين مُزادتين... فجاءا بها الى النبي e ... ودعا النبي e باناء ففرّغ فيه من افواه المزادتين، ونودي في الناس اسقوا فاستقوا... وانه ليُخيّل الينا انها اشدّ ملأة منها حين ابتدأ فيها)).

وقال النبي e : ((اجمعوا لها فجمعوا لها... حتى جمعوا لها طعاماً فجعلوه في ثوب وحملوها على بعيرها... قال لها: تعلمين ما رُزئنا من مائكِ شيئاً ولكن الله هو الذي أسقانا... الى اخر الحديث))(3).

المثال الثامن:

T روى ابن خزيمة حديث ((عمر رضي الله عنه في جيش العسرة، وذكر ما اصابهم من العطش حتى ان الرجل لينحُر بعيرَه فيـعـصر فَرْثَه فيشـرَبُه، فرغـب ابو بكر رضي الله عنه الى النبي e في الدعاء. فرفع يديه فلم يُرجعهما حتى قالت(4) السماء فانسكبت فملأوا ما معهم من آنية ولم تجاوز العسكر))(5).

فهذه معجزة احمدية محضة لا دخل للمصادفة فيها قط.

المثال التاسع:

T عن عمرو بن شعيب (حفيد عبد الله بن عمرو بن العاص ) الذي وثّقه الائمة الاربعة من اصحاب السنن في تخريجه الاحاديث: ((أن ابا طالب قال للنبيe وهو رَديفُه بذي المجاز: عطشتُ وليس عندي ماء. فنزل النبي e وضرب بقدمه الارض فخرج الماء، فقال اشرب))(1).

قال احد العلماء المحققين: هذه الحادثة كانـت قبـل النبوة لذا فهي من الارهاصات. وتفجر عينُ عرَفَه بعد مضي الف سنة يُعدّ من الاكرامات الإلـهية للرسول الكريم e .

وهكذا فالمعجزات المتعلقة بالماء، وان لم تبلغ تسعين مثالاً من امثال هذه التسعة الاّ انها رويت بتسعين وجهاً.

والامثلة السبعة الاولى قوية، وقطعية، كالتواتر المعنوي. اما المثالان الاخيران ــ وان لم تكن طرقهما قوية ومتعددة ورواتهما كثيرة الاّ ان اصحاب الحديث كالامام البيهقي والحاكم رووا عن عمر رضي الله عنه معجزة ثانية حول السحاب تأييداً للمعجزة في المثال الثامن التي رواها سيدنا عمر. والرواية هي أنه: ((اصاب الناس في بعض مغازيه e عطش فسأله عمر الدعاء، فدعا، فجاءت سحابة فسقتهم حاجتهم ثم اقلعت))(2) وكأن السحاب كان مأموراً لأن يروى الجيش وحده ـ حيث امطر حسب الحاجة ــ فكما تؤيد هذه الحادثة المثال الثامن وتقويّه، وتبينه رواية ثابتة قاطعة. فان ابن الجوزي ــ الذي يتشدد ويرّد حتى بعض الاحاديث الصحيحة ويجعلها في عداد الموضوعات ــ يقول: ان هذه الحادثة وقعت في غزوة بدر ونزلت في حقها الآية الكريمة: } ويُنزِّلُ عَليكُم مِن السّماء ماء لِيُطَهّركُم بِه{ (الانفال: 11).

فما دامت هذه الآية قد نزلت في حقها وبيَّنتها بوضوح، فلاشك اذاً في وقوعها.

وقد تكرر كثيراً نزول المطر بدعاء النبي e قبل ان تنزل يداه المرفوعتان وهي معجزة مستقلة بحد ذاتها. وقد استسقى النبي e احياناً وهو على المنبر، ونزلت الامطار قبل ان يخفض يده. وقد ثبت هذا عن طريق متواتر.

الاشارة البليغة التاسعة

ان أحد أنواع معجزات الرسول الاكرم e هو امتثال الأشجار لأوامره كامتثال البشر، وانخلاعها من اماكنها ومجيئها اليه. فهذه المعجزة المتعلقة بالاشجار هي متواترةٌ من حيث المعنى كفوران الماء من اصابعه المباركة ولها صور متعددة وقد رُويت بطرق كثيرة.

نعم! يصح ان يقال ان خبر انخلاع الشجرة من موضعها ومجيئها ممتثلة لأمر الرسول الاكرم e متواتر تواتراً صريحاً(1)، حيث قد رويت هذه الرواية من قبل صحابة كرام صادقين معروفين، امثال: علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر ويعلى بن مرة وجابر وانس بن مالك، وبُريدة واسامة بن زيد وغيلان بن سلمة، وغيرهم فأخبر كلٌ منهم عن هذه المعجزة المتعلقة بالاشجار إخباراً ثابتاً قاطعاً. ونقلها عنهم مئات من ائمة التابعين بطرق مختلفة، في بداية كل طريق صحابي جليل، اي كأنها نقلت الينا نقلاً متواتراً مضاعفاً؛ لذا فلا يداخل هذه المعجزة ريبٌ ولا شبهة قط، فهي في حكم المتواتر المعنوي المقطوع به.

فهذه المعجزة وإن تكررت مرات عدة، الاّ اننا سنبين عدداً من صورها الصحيحة الكثيرة، ونوردها في بضعة امثلة:

المثال الاول:

T روى ابن ماجة والدارمي والبيهقي عن انس بن مالك وعلي، وروى البزار والبيهقي عن عمر، ان ثلاثة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين قالوا: كان الرسول الاكرم e قد حزن حزناً شديداً من تكذيب الكفار له ((قال: اللّهم! أرني آية لا أبالي من كذّبني بعدها)). وفي رواية أنس ((ان جبريل عليه السلام قال للنبي e ورآه حزيناً: أتحب ان أريك آية. قال: نعم! فنظر رسول الله e الى شجرةٍ من وراء الوادي، فقال: أدعُ تلك الشجرة، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، قال: مُرها فلترجع، فعادت الى مكانها))(2).

المثال الثاني:

T روى القاضي عياض ـ علاّمة المغرب ـ في كتابه (الشفاء) بسند عال صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال:

((كنا مع رسول الله e في سفر، فدنا منه اعرابي، فقال: يا اعرابي: اين تريد؟ قال: الى اهلي. قال: هل لك الى خير؟ قال: وما هو؟ قال: تشهد ان لا إله الاّ الله وحده لا شريك له وان محمداً عبدهُ ورسوله. قال: مَن يشهد لك على ما تقول؟ قال: هذه الشجرةُ السَّمُرة(1)، وهي بشاطيء الوادي، فاقبلت تخدّ الارض، حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثاً فَشهِدت أنه كما قال. ثم رجعت الى مكانها))(2).

وعن بُريْدَة عن طريق ابن صاحب الاسلمي بنقل صحيح: ((سأل اعرابي النبي e آية، فقال له: قل لتلك الشجرة، رسول الله يدعوك. قال: فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها، فتقطعت عروقُها، ثم جاءت تَخدّ الارض تَجرُّ عروقها(3) مُغيّرة حتى وقفت بين يدي رسول الله e . فقالت: السلام عليك يا رسول الله قال الاعرابي: مُرها فلترجع الى منبتها، فَرَجَعَت فدلّت عروقها فاستوت. فقال الاعرابي: ائذن لي أسجُد لك. قال: لو امرتُ احداً أن يسجُدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجها، قال: فأذنْ لي أن أقبِّلَ يديك ورجليك، فأذن له))(4).

المثال الثالث:

T روى مسلم واصحاب الكتب الصحاح الاخرى عن جابر رضي الله عنه: أنه قال: كنا في سفر مع رسول الله e ، ((ذهب رسول الله يقضي حاجته، فلم يَرَ شيئاً يستتر به، فاذا بشجرتين بشاطئ الوادي، فانطلق رسولُ الله e الى احداهما، فأخذ بغصنٍ من اغصانها، فقال: انقادي عليّ بأذن الله فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، وذكر انه فعل بالاخرى مثل ذلك حتى اذا كان بالمنصف(1) بينهما، قال: التئما عليّ باذن الله. فالتأمتا))(2) فجلس خلفها، وبعد ان قضى حاجته، أمر أن يعود كل منهما الى مكانها.

T ((وفي رواية أخرى، فقال: يا جابر! قل لهذه الشجرة: يقول لك رسول الله إلحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما. فزحفت حتى لحقت بصاحبتها. فجلس خلفهما، فخرجتُ أحضر، وجلستُ احدّث نفسي، فالتفتُّ فإذا رسول الله e مقبلاً، والشجرتان قد أفترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، فوقف رسول الله e وقفةً فقال برأسه هكذا يميناً وشمالاً))(3).

المثال الرابع:

T روى اسامة بن زيد ـ احد قواد رسول الله e وخادمه الايمن ـ : كنا في سفر مع رسول الله e ، ولم يكن لقضاء الحاجة مكان خالٍ يستر عن أعين الناس، فقال: ((هل ترى من نخلٍ أو حجارة؟ قلت: أرى نخلات متقاربات، قال: انطلق وقل لهُن إن رسول الله e يأمركن أن تأتين لمخرج(4) رسول الله e وقل للحجارة مثل ذلك. فقلت ذلك لهن، فوالذي بعثُه بالحق لقد رأيتُ النخلات يتقاربن حتى اجتمعن والحجارة يتعاقدن حتى صرن ركاماً خلفهن، فلما قضى حاجته، قال لي: قل لهن يفترقن، فوالذي نفسي بيده لرأيتهن والحجارةُ يفترقن حتى عُدن الى مواضعهن))(5).

وقد روى هاتين الحادثتين اللتين رواهما جابر واسامة كل من يعلى بن مرة، وغيلان بن سلمة الثقفي، وابن مسعود في غزوة حنين.

المثال الخامس:

T ذكر علامة عصره الامام ابن فورك ـ الذي كان يسمى بالشافعي الثاني كناية عن اجتهاده الكامل وفضله ـ: ((انه e سار في غزوة الطائف ليلاً وهو وَسِنٌ، فاعتَرضهُ سدرةٌ(1)، فانفرجت له نصفين حتى جاز بينهما، وبقيت على ساقين الى وقتنا))(2).

المثال السادس:

T ذكر يعلى بن سيابه(3): (( أن طلحة أو سَمُرة جاءت فاطافت به ثم رجعت الى منبتها فقال رسول الله e : انها استأذنت ان تسلّم عليّ)). اي استأذنت من رب العالمين.

المثال السابع:

T روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: ((آذنَت(4) النبي e بالجن ليلة استمعوا له شجرةٌ)) وذلك حينما جاء جن نصيبين في بطن النخل الى النبي e للاسلام، فأعلَمَت شجرةٌ خبر مجيئهم النبي.

((وعن مجاهد عن ابن مسعود في هذا الحديث: ان الجن قالوا مَن يَشهَدُ لك؟ قال: هذه الشجرة)) فأمر الشجرَة ((تعالى يا شجرة! فجاءت تجرُّ عروقَها لها قعاقع))(5).

وهكذا، فقد كفت معجزة واحدة طائفة الجن. أفلا يكون مَن يسمع الف معجزة ومعجزة من امثالها ثم يكابر ولا يؤمن اضلَّ من ذلك الشيطان الذي حدّث القرآن عنه بقول الجن: } يقولُ سَفيهُنا على الله شططاً{ ) (الجن: 4) ؟

المثال الثامن:

T روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه ((انه e قال لاعرابي: أرأيتَ إن دعوتُ هذا العِذق من هذه النخلة أتشهد اني رسول الله؟ قال: نعم! فدعاه فجعل ينقز حتى أتاه. فقال: ارجع، فعاد الى مكانه))(1).



T T T



وهكذا، فهناك امثلة غزيرة كالتي ذكرناها روُيت كلها بطرق عديدة، ومن المعلوم انه اذا اتحدت بضعة خيوط رفيعة صارت حبلاً قوياً.. فمثل هذه المعجزة المتعلقة بالشجرة وقد رويت بطرق متعددة، وعن مشاهير الصحابة الكرام لابد انها في قوة التواتر المعنوي، بل انها متواترة تواتراً حقيقياً. ولا ريب أنها حينما انتقلت الى التابعين اخذت طابع التواتر، لا سيما الطرق التي سلكها اصحاب الصحاح كالبخاري ومسلم وابن حبان والترمذي وغيرهم، انما هي طريق صحيحة لا شائبة فيها. بل أن رؤية اي حديث كان في البخاري انما هو كاستماعه من الصحابة الكرام بعينهم.

تُرى اذا عَرفت الاشجار رسول الله e وعرَّفَته وصدَّقَتْ رسالته وسلّمت عليه، وزارته، وامتثلت أمره ـ كما رأينا في الامثلة المذكورة آنفاً ـ فكيف لا يَعرف ولا يؤمن به ذلك البليد الجماد الذي يسمي نفسَه إنساناً؟ أليس هو عارٍ عن العقل والقلب؟ أفلا يكون أدنى من الشجر اليابس وأتفه من الحطب الذي لا يستحق الاّ إلقاءه في النار؟.

الاشارة البليغة العاشرة

ان الذي يؤيد هذه المعجزات المتعلقة بالشجرة هو معجزة حنين الجذع المنقولة نقلاً متواتراً.

نعم! ان حنين الجذع اليابس الموجود في المسجد النبوي الى رسول الله e لفراقه عنه - راقاً مؤقتاً - أنينَه امام جماعة غفيرة من الصحب الكرام يؤيد الأمثلة التي اوردناها في المعجزات المتعقلة بالاشجار ويقوّيها. لأن الجذع من جنس الاشجار، فالجنس واحد، الاّ ان هذه المعجزة متواترة بالذات، بينما الاقسام الاخرى متواترة نوعاً، اذ ان اكثر جزئياتها وامثلتها لا يرقى الى مستوى التواتر الصريح.

كان المسجد النبوي مسقوفاً على جذوع نخل فكان النبي e اذا خطب يقوم الى جذع منها، فلما صُنِع له المنبر، وكان عليه، سمع لذلك الجذع صوت كصوت العشار(1) وهو يئن ويبكي، حتى جاءه النبي e ووضع يده عليه، وتكلم معه وعزّاه وسلاّه، فسكت الجذع.

نُقلت هذه المعجزة بطرق كثيرة جداً نقلاً متواتراً.

نعم! ان معجزة حنين الجذع مشهورة ومنتشرة، والخبر بها من المتواتر الصريح(2) فقد رواها مئات من ائمة التابعين بخمسة عشر طريقاً عن جماعة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وهكذا نقلوها الى مَن خلفهم. وممن رواها من علماء الصحابة: انس بن مالك ـ خادم النبي ـ وجابر بن عبد الله الانصاري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وسهل بن سعد، وابو سعيد الخدري، وابي بن كعب، وبُريدة، وام المؤمنين أم سلمة رضوان الله عليهم وكلٌ من هؤلاء على رأس طريق من طرق رواة الحديث.

فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما من اصحاب الصحاح هذه المعجزة الكبرى المتواترة ونقلوها الينا.

عن جابر رضي الله عنه، يقول: ((كان المسجد مسقوفاً على جذوع من نخلٍ فكان النبي e اذا خطب يقوم الى جذع منها، فلما صُنع له المنبر وكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار حتى جاء النبي e فوضع يده عليها فسكت))(1) لم يتحمل الجذع فراقه e .

وعن انس:(2) ((حتى ارتجّ المسجد لخواره)).

وعن سهل بن سعد:(3) ((وكَثُر بكاء الناس لما رأوا به من بكاء وحنين)).

وعن اُبَي بن كعب:(4) ((حتى تصدّع وانشق)) لشدة بكائه.

زاد غيره: فقال النبي e : ((ان هذا بكى لما فقد من الذكر))(5) وزاد غيره: ((والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا الى يوم القيامة)) تحزناً على رسول الله e (6) وفي حديث بُريدة: لما بكى الجذع وضع الرسول يده الشريفة عليه وقال: ((ان شئت اردَّك الى الحائط(7) الذي كنت فيه، ينبت لك عروقك ويكمل خلقُك ويجدّد لك خوص وثمرةٌ. وان شئت اغرسك في الجنة فيأكل اولياء الله من ثمرك. ثم اصغى له النبي e يستمع ما يقول، فقال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني اولياء الله واكون في مكان لا ابلى فيه، فسمعه من يليه، فقال النبي e : قد فعلتُ. ثم قال: اختار دار البقاء على دار الفناء))(1).

قال الامام ابو اسحاق الاسفرائني ـ وهو من ائمة علماء الكلام ـ ان الرسول الاكرم e لم يذهب الى الجذع بل ((دعاه الى نفسه فجاءه يخرق الارض فالتزم. ثم امره فعاد الى مكانه))(2).

يقول اُبَي بن كعب: وبعد ظهور هذه المعجزة: ((أمر النبي e به فدفن تحت المنبر))، ((فكان اذا صلى النبي e صلى اليه. فلما هدم المسجد لتجديده اخذه اُبَى فكان عنده الى ان اكلته الأرض وعاد رفاتاً))(3).

وحينما كان الحسن البصري يحدّث بهذا الى طلابه يبكي ويقول:

((يا عباد الله! الخشبةُ تحنّ الى رسول الله e شوقاً اليه لمكانه فانتم أحق ان تشتاقوا الى لقائه))(4).

ونحن نقول: نعم! ان الاشتياق اليه ومحبته انما هو باتباع سنته السنية وشريعته الغراء.



o نكتة مهمة:

فان قيل: لِمَ لم تشتهر تلك المعجزات التي تخص البركة في الطعام والتي اشبعت الفاً من الناس في غزوة الخندق بصاع من طعام، ولا تلك المعجزات التي تخص الماء التي اروت الفاً من الناس بما فار من الماء من اصابع الرسول المباركة e . لِمَ لم تنقلا بطرق كثيرة مثلما اشتهرت معجزة حنين الجذع ونقلت. مع ان كلاً من تلك الجماعتين - لتي وقعت المعجزة امامهما - كثر من جماعة معجزة حنين الجذع؟

الجواب:

ان المعجزات التي ظهرت قسمان:

احدهما: ما يظهر على يد النبي e لتصديق دعوى النبوة، ويكون حجة لها، فيزيد ايمان المؤمنين ويسوق اهل النفاق الى الاخلاص والايمان، ويدعو اهل الكفر الى حظيرة الايمان. ومعجزة حنين الجذع من هذا القبيل، لذلك رآها العوام والخواص واعتُني بنشرها اكثر من غيرها.

اما معجزة الطعام ومعجزة الماء، فهي كرامة اكثر من كونها معجزة، بل اكرام إلهي اكثر من الكرامة، بل ضيافة رحمانية ـ حسب ما دعت اليه الحاجة ـ اكثر من إكرام إلهي. فهما وان كانتا دليلين على دعوى النبوة، ومعجزتين لها، الاّ ان الغاية الاساس هي:

ان الجيش الذي يبلغ قوامه زهاء الف رجل، كان في حاجة ماسة الى الطعام والشراب فأمدّهم الله سبحانه وتعالى من خزائن الغيب بأن اشبع من صاع من طعام ألفَ رجلٍ كما يخلق سبحانه من نواةٍ واحدة ألف رطل من التمر، كذلك أروى زهاء الف من المجاهدين في سبيل الله ، حينما اصابهم العطش، ارواهم بماء مبارك كالكوثر، اذ اجراه سبحانه من اصابع قائدهم الاعظم صلوات الله وسلامه عليه. لذلك لم تصل درجة معجزة الطعام والماء الى درجة حنين الجذع. الاّ ان جنس تينك المعجزتين ونوعهما بحسب الكلية متواتر كتواتر حنين الجذع.

ثم ان كل فرد قد لا يرى بركة الطعام وفوران الماء من الاصابع بالذات بل يرى أثره، ولكن كل من كان في المسجد النبوي قد سمع بكاء الجذع، لذا ذاع اكثر..



فان قيل:

ان الصحابة الكرام رضي الله عنهم اهتموا اهتماماً بالغاً بملاحظة جميع احوالهe وحركاته ونقلوها بأمانة واعتناء، فلِمَ رُويت امثال هذه المعجزة العظيمة بعشرين طريقاً فقط ولم ترو ــ في الاقل ــ بمائة طريق؟ ولِمَ تأتي اكثر الروايات عن أنس وجابر وابي هريرة، ولم يأتِ عن طريق ابي بكر وعمر الاّ القليل منها.

الجواب: الشق الاول من السؤال مضى جوابه في الاساس الثالث من الاشارة الرابعة.

أما جواب الشق الثاني فهو: ان الانسان اذا احتاج الى الدواء يراجع الطبيب، واذا احتاج الى بناء يراجع المهندس واذا احتاج الى تعلم الشريعة يأتي المفتى ويستفتيه.. وهكذا فقد كانت مهمة بعض علماء الصحابة منحصرة في حمل الحديث ونشره ونقله الى العصور الأخرى. فكانوا يسعون بكل ما آتاهم الله من قوة في هذه الغاية. فابو هريرة رضي الله عنه كرّس جميع حياته لحفظ الحديث النبوي في الوقت الذي كان عمر رضي الله عنه منهمكاً في حمل اعباء الخلافة وسياسة الدولة. لذا اعتمد على هؤلاء الصحابة: ابي هريرة وانس وجابر وامثالهم في نقل الحديث الشريف الى الامة، فندرت الرواية عنه. ثم ان الراوي الصادق المصدَّق من قبل الجميع يُكتفى بروايته ولا داعي الى رواية غيره، ولذلك ينقل بعض الحوادث المهمة بطريقين او ثلاث.

الاشارة الحادي عشرة

تبين هذه الاشارة المعجزة النبوية في الاحجار والجبال من الجمادات كما اشارت ((الاشارة العاشرة)) الى المعجزة النبوية في الاشجار، نذكر من بين امثلتها الكثيرة ثمانية امثلة:

المثال الاول:

T روى البخاري وعلاّمة المغرب القاضي عياض عن ابن مسعود - خادم e - انه قال: ((لقد كُنّا نَسْمعُ تَسبيحَ الطعامِ وهو يُؤكَل))(1).

المثال الثاني:

T وثبت كذلك عن انس وابي ذر رضي الله عنهما، قال أنس(2) ((أخذ النبيe كفاً من حصىً فسبّحن في يد رسول الله e حتى سمعنا التسبيحَ، ثم صبَّهن في يد ابي بكر رضي الله عنه فسبّحن، ثم في ايدينا فما سبّحن)).

T وروى مثله ابو ذر رضي الله عنه(3) وذكر انهن سبّحن في كف عمر رضي الله عنه ثم وضعهن على الارض فخرسن، ثم اخذهن ووضعهن في كف عثمان، فسبّحن ثم وضعهن في ايدينا فخرسن.

المثال الثالث:

T ثبت بنقل صحيح عن علي وجابر وعائشة رضي الله عنهم انه ما كان يمر النبي e بجبل ولا حجر الاّ وقال:السلام عليك يا رسول الله، ففي رواية علي رضي الله عنه قال: ((كنا بمكة مع رسول الله e فخرج الى بعض نواحيها، فما استَقبلَهُ شجرةٌ ولا جبلٌ الاّ قال له: السلام عليك يا رسول الله))(1).

T وفي رواية جابر رضي الله عنه قال: ((لم يكن النبي e يمرّ بحجر ولا شجرٍ الاّ سجد له))(2) اي: كل منهما ينقاد له ويقول: السلام عليك يا رسول الله.

T وفي رواية أخرى ((عن جابر بن سمرة رضي الله عنه(3): عنه e : اني لأعرف حجراً بمكة كان يسلّم عليّ)) اي قبل ان ابعث ((قيل: انه اشارة الى الحجر الاسود)).

T ((وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي e : لما استقبلني جبريل بالرسالة جعلتُ لا امرُّ بحجرٍ ولا شجرٍ الا قال: السلام عليك يا رسول الله))(4).

المثال الرابع:

T ((وفي حديث العباس رضي الله عنه(5) اذ اشتمل عليه النبي e وعلى بنيه)) وهم عبدالله وعبيد الله والفضل وقثم ((بملاءة(6) ودعا لهم السّتر من النار)) اذ قال: يا رب هذا عمي صنو ابي وهؤلاء بنوه فاسترهم من النار كستري اياهم بملاءتي. ((فأمّنت أسكُفَة الباب وحوائط البيت: آمين آمين)) واشتركن في الدعاء.

المثال الخامس:

T روت الكتب الصحاح متفقة وفي المقدمة البخاري وابن حبان وابو داود والترمذي عن أنس(1) وابي هريرة(2) وعن عثمان ذي النورين(3) وسعيد بن زيد(4) احد العشرة المبشرين بالجنة انه: ((صعد النبي e وابو بكر وعمر وعثمان اُحُداً، فرجف بهم)) من مهابتهم أو من سروره وفرحه، ((فقال: أثبت اُحُد فانما عليك نبي وصدّيق وشهيدان)).

فبهذا الحديث ينبئ e عن شهادة عمر وعثمان إخباراً غيبياً.

T وقد نقل - تتمة لهذا المثال - انه لما هاجر الرسول e من مكة وطلبته كفار قريش صعد على جبل ثُبير، ((قال له ثبير(5): اهبط يا رسول الله فانّى اخاف ان يقتلوك على ظهري فيعذّبني الله. فقال له حراء: اليّ يا رسول الله)).

من هذا يستشعر أهلُ القلب والصلاح الخوف في ثبير والأمن والاطمئنان في حراء.

يفهم من مجموع هذه الامثلة ان الجبال العظيمة مأمورة ومنقادة كأي فرد من الافراد وهي كأي عبدٍ مخلوق يسبّح الله تعالى وله وظيفة خاصة به، وانه يعرف النبي e ويحبّه.. فما خُلقت الجبال باطلاً.





المثال السادس:

T ((وروى ابن عمر رضي الله عنهما(1) ان النبي e قرأ على المنبر: } وما قَدَروا الله حق قدره{ (الانعام:91) ثم قال: يمجِّد الجبارُ نفسه يقول: انا الجبار انا الجبار انا الكبير المتعال. فَرجَف المنبرُ حتى قلنا ليخرنَّ عنه)).

المثال السابع:

T عن حبر الامة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنه، وعن ابن مسعود(2) - من علماء الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين، انه قال: ((كان حول البيت ستون وثلاثمائة صنم مثبتة الأرجل بالرصاص في الحجارة فلما دخل رسولُ الله e المسجدَ عام الفتح جعل يشير بقضيب في يده اليها ولا يمسّها. ويقول: } جَاء الحقُّ وزَهَقَ الباطلُ إنَّ الباطلَ كانَ زَهُوقاً{ (3) (الاسراء:81) فما اشار الى وجه صنمٍ الاّ وقع لقفاه ولا لقفاه الاّ وقع لوجهه حتى ما بقي منها صنم))(4).

المثال الثامن:

T هو قصة بحيراء الراهب المشهورة(5) وهي: ان النبي e خرج قبل البعثة مع عمه ابي طالب وجماعة من قريش الى نواحي الشام. ولما وصلوا الى جوار كنيسة الراهب جلسوا هناك ((وكان الراهب لا يخرج الى أحَد فخرج وجعل يتخللهم حتى اخذ بيد رسول الله e فقال: (هذا سيد العالمين يبعثه الله رحمةً للعالمين) فقال له أشياخ من قريش: ما عِلمُك؟ فقال: انه لم يبق شجر ولا حجر الاّ خرّ ساجداً له ولا يسجد الاّ لنبي)). ((ثم قال واقبل e وعليه غمامةٌ تظلّه فلما دنا من القوم وجدهم سبقوه الى فئ الشجرة فلما جلس مالَ الفئ اليه))(1).



T T T



وهكذا فهناك ثمانون مثالاً كهذه الامثلة الثمانية.

فاذا وحَّدْتَ هذه الامثلة الثمانية لأصبحت قوية لا يمكن ان تنال منها شبهة مهما كانت.

فهذا النوع من المعجزات (اي تكلم الجمادات) يشكّل دليلاً جازماً على اثبات دعوى النبوة، وهو في حكم التواتر من حيث المعنى. فكل مثال يستمد قوة اخرى من قوة الجميع تفوق قوته الفردية. مَثَله في هذا، مثل رجل ضعيف انخرط في سلك الجيش، فيتقوى حتى يستطيع ان يتحدى الفاً من الرجال، او كعمود ضعيف لو ضم مع اعمدة قوية يتقوى.

فكيف اذا كانت الروايات كلها صحيحة ورصينة؟.

الاشارة الثاني عشرة

أمثلة ثلاثة مهمة ترتبط بالاشارة الحادية عشرة.

المثال الاول:

T تصرّح الآية الكريمة } وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولكنّ الله رمى{ (الانفال:17) بنصها القاطع وبتحقيق عموم المفسرين العلماء وائمة الحديث: ان الرسول e أخذ في غزوة بدر قبضة من تراب وحصيات ورماها في وجوه جيش الكفار وقال: ((شاهت الوجوه))(1). فدخلت تلك القبضة من التراب الى اعين كل المشركين، مثلما وصلت كلمة ((شاهت الوجوه)) الى آذان كلٍ منهم فصاروا يعالجون عيونهم من التراب، ففرّوا بعدما كانوا في حالة كرٍّ على المسلمين.

T ويروي الامام مسلم(2): ان الكفار في غزوة حنين عندما كانوا يصولون على المسلمين، أخذ النبي e قبضة من تراب ورمى بها في وجوه المشركين وقال: ((شاهت الوجوه)) فما من أحدٍ منهم الاّ ملأ عينيه - باذن الله - تراباً كما سمعت اذنُه هذه الكلمة فولّوا مدبرين.

فهذه الحادثة الخارقة للعادة قد وقعت في بدر وحنين، فهي حادثة تفوق طاقة البشر، كما انها لا يمكن اسنادها الى الاسباب العادية، لذا قال تعالى } وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولكنّ الله رمى{ اي انها حادثة نابعة من قدرة الهية محضة.

المثال الثاني:

T تذكر كتب ائمة الحديث وفي مقدمتها البخاري ومسلم ((ان يهودية - واسمها زينب بنت الحرث - اهدت للنبي e بخيبر شاة مصليّة(3) سمَّتْها، فأكل رسول اللهe منها ، وأكل القوم، فقال: ارفعوا ايديكم، فانها اخبرتني انها مسمومة، فرفع الجميع ايديهم، إلاّ ان بشر بن البراء مات من اثر السم، فدعا e اليهودية وقال لها: ما حَمَلكِ على ما صنعتِ؟ قالت: إن كنت نبياً لم يضرّك الذي صنعتُ، وان كنتَ مَلِكاً أرَحْتُ الناسَ منك. فأمر بها فقُتلت))(1)، وفي بعض الروايات انه لم يأمر بقتلها. قال العلماء المحققون: لم يأمر بقتلها بل دفعها لأولياء بشر بن البراء، فقتلوها(2).

فاستمع الآن الى هذه النقاط الثلاثة لبيان اعجاز هذه الحادثة.

النقطة الاولى: جاء في احدى الروايات: ان عدداً من الصحابة سمعوا قولَها حينما أخبرتْ الشاة عن انها مسمومة(3).

النقطة الثانية: وفي رواية اخرى انه بعدما أخبر الرسول e عن القضية قال: قولوا بسم الله ثم كلوا، فانه لا يضر السم بعدَه. هذه الرواية وان لم يقبلها ابن حجر العسقلاني الاّ ان علماء آخرين قبلوها.

النقطة الثالثة: لقد اطمأن كلُ من سمع كلامه e : ((انها اخبرتني بأني مسمومة)) وكأنه سمعه بنفسه، اذ لم يُسْمَع منه e قولٌ مخالف للواقع قط، وهذه واحدة منه، فبينما يبيّت اليهود الكيد لينزلوا ضربتهم القاضية بالرسول الكريم e وصحبه الكرام رضوان الله عليهم اذا بالمؤامرة تنكشف على اثر خبرٍِ من الغيب وتبطل الدسيسة والمكر السئ، ويقع الخبر كما أخبر عنه e .

المثال الثالث:

هو معجزة الرسول e في ثلاث حوادث تشبه معجزة سيدنا موسى عليه السلام، في معجزة يده البيضاء وعصاه.

الحادثة الاولى:

T اخرج الامام احمد الحديث الصحيح، عن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه(1):

ان الرسول e ((اعطى قتادة بن نعمان - وصلى معه العشاء - في ليلةٍ مظلمة مطِرة عُرجوناً. وقال: انطلق به فانه سيضئ لك من بين يديك عشراً ومن خلفك عشراً. فاذا دخلتَ بيتك فسترى سواداً فاضربه حتى يخرج فانه الشيطان، فانطلق، فاضاء له العرجون(2)، حتى دخل بيته ووجد السواد فضربه حتى خرج)).

الحادثة الثانية:

T انقطع سيف عكاشة بن محصن الاسدي وهو يقاتل به في غزوة بدر الكبرى - تلك المعركة التي هي منبع الغرائب - فاعطاه رسول الله e جذلاً من حطب ـ أي عوداً غليظاً – ((وقال: اضرب به فعاد في يده سيفاً صارماً طويل القامة ابيض شديد المتن، فقاتل به، ثم لم يزل عنده يشهد به المواقف الى ان استشهد في قتال اهل الردة))(3) في اليمامة.

هذه الحادثة ثابتة قطعاً، وكان عكاشة يفتخر بذلك السيف طوال حياته، وكان السيف يسمى بــ ((العَوْن))، فاشتهار السيف بـ ((العون)) وافتخار عكاشة به حجتان ايضاً على ثبوت الحادثة.

الحادثة الثالثة:

T روى ابن عبد البر(4) وهو من اعلام عصره من بين العلماء المحققين: ان عبد الله بن جحش - ابن عمة رسول الله e - ((وقد ذهب سيفُه)) في غزوة أحد وهو يحارب، فاعطاه رسول الله e ((عسيب(5) نخل فرجع في يده سيفاً)).

يقول ابن سيد الناس في ((سيره)): فبقي هذا السيف مدّة ولم يزل يتناقل حتى بيع الى شخص يُدعى بغاء التركي بمائتي دينار(1).

فهذان السيفان معجزتان كمعجزة عصا موسى، الاّ انه لم يبق وجه الاعجاز لعصا موسى بعد وفاته عليه السلام، وبقي هذان السيفان معجزتان بعد وفاته e .

الاشارة الثالثة عشرة

ومن معجزاته e : شفاء المرضى والجرحى بنفثه المبارك. وهذ النوع من المعجزات متواتر معنوي - من حيث النوع - أما جزئياتها فقسم منها بحكم المتواتر المعنوي وقسم آخر آحادي، الاّ انه يورث القناعة العلمية والاطمئنان وذلك لتوثيق العلماء له وتصحيح ائمة الحديث.

سنذكر من امثلة هذا النوع من المعجزات بضعة امثلة فقط من بين امثلتها الغزيرة.

المثال الاول:

T يروي القاضي عياض(1) عن سعد بن ابي وقاص وهو من العشرة المبشرين بالجنة وتولى خدمة النبي e واصبح أحد قواده، وقاد جيش الاسلام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، انه قال: ((ان رسول الله e لَيُناوِلني السهمَ لا نَصْلَ لَهُ، فيقول: إرمِ به، وقد رمى رسول الله e يومئذٍ عن قوسه حتى اندقّت)) كان ذلك في غزوة اُحد، وكانت السهام التي لا نصلَ لها تَمرقُ كالمرّيشة وتثبت في جسد الكفار.

T وقال ايضاً(2): ((واصيب يومئذٍ عين قتادة (بن النعمان) حتى وقعت على وجنته، فرّدها رسول الله e )) بيده المباركة الشافية ((فكانت أحسنَ عَينيه)) واشتهرت هذه الحادثة حتى ان أحد احفاد قتادة حينما جاء الى عمر بن عبد العزيز عرّف نفسَه بانشاده الابيات الآتية:ـ



انا ابن الذي سالَت على الخدِّ عينُه

فرُدَّتْ بكفِّ المصطفى أحسنَ الردّ

فعــادت كمـا كانت لأول أمرهـا

فيا حُسنَ ما عـينٍ ويا حُســنَ ما ردّ

T وثبت ايضاً: انه جعل ريقَه على جراحة: ((أثر سهمٍ في وجه ابي قتادة في يوم ذي قرد(1) قال: فما ضرب عليّ ولا قاح))(2) اذ مسحه رسول الله e بيده المباركة.

المثال الثاني:

T روى البخاري ومسلم وغيرهما: أن الرسول e اعطى الراية علياً يوم خيبر، وكان رمداً، فلما تفل في عينه اصبح ترياقاً لعينه فبرئت بأذن الله(3).

ولما جاء الغد أخذ علي باب القلعة وهو من حديد وكأنه ترس في يده، وفتح القلعة.

T ((ونفث على ضربةٍ بساق سلمة بن الاكوع يوم خيبر فبرئت))(4).

المثال الثالث:

T ((روى النسائي(5) عن عثمان بن حُنَيف: ان اعمى اتى الى رسول الله e ، فقال: يا رسول الله ادعُ الله ان يكشف لي عن بصري. قال: أوَ أدعك؟ قال: يا رسول الله انه قد شقّ عليّ ذهاب بصري. قال: فانطلق فتوضأ ثم صلِّ ركعتين ثم قل: اللهم اني اسألك واتوجه اليك بنبيي محمد نبيّ الرحمة، يا محمد إني اتوجه الى ربك بك، ان يكشف لي عن بصري، اللّهم شفّعه فيّ، وشفّعني في نفسي. فرجع وقد كشف الله عن بصره)).

المثال الرابع:

T ((قطع ابوجهل يوم بدر يد معوَّذ بن عفراء)) أحد الاربعة عشر الذين استشهدوا في بدر ((فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله e والصقها فلصقت، رواه ابن وهب))(1)- وهو من ائمة الحديث - ثم عاد الى القتال فقاتل حتى استشهد.

T ((ومن روايته ايضاً: أن خُبيب بن يساف أصيب يوم بدر مع رسول الله e ، بضربةٍ على عاتقه حتى مال شقه، فردّه رسول الله e ، ونفث عليه حتى صحّ))(2).

فهاتان الحادثتان وان كانتا آحادية الاّ ان تصحيح الامام الجليل ابن وهب لهما، وكون وقوعهما في منبع المعجزات، بدر، ولوجود شواهد كثيرة من امثالهما يجعلهما لا يشك أحدٌ في وقوعهما.

وهكذا هناك الف مثال ومثال قد ثبت بالاحاديث الصحيحة، من ان يد الرسول الاعظم e اصبحت شفاء ودواء لذوي العاهات والمرضى.

لو سطرت هذه القطعة بماء الذهب

ورصّعت بالالماس لكانت جديرة

حقاً! وكما مرّ سابقاً:

ان تسبيح الحصى وخشوعه في كفه e ..

وتحول التراب والحصيات فيها كقذائف في وجوه الاعداء حتى ولّوا مدبرين بقوله تعالى: } وما رَميْتَ اذ رَميْتَ ولكن الله رمى{ .

وانفلاق القمر فلقتين بأصبع من الكف نفسها كما هو نص القرآن الكريم:} وانشقّ القَمَر{ ..

وفوران الماء كعينٍ جارية من بين الاصابع العشرة وارتواء الجيش منه...

وكون تلك اليد بلسماً للجرحى وشفاء للمرضى..

ليبيّن بجلاء:

مدى بركة تلك اليد الشريفة..

ومدى كونها معجزة قدرة إلهية عظيمة.

لكأن كف تلك اليد:

زاوية ذكر سبحانية صغيرة بين الأحباب، لو دخلها الحصى لسبّح وذكر..

وترسانة ربانية صغيرة تجاه الاعداء، لو دخلها التراب لتطاير تطاير القنابل..

وتعود صيدلية رحمانية صغيرة للمرضى والجرحى، لو لامست داء لغدت له شفاء..

وحينما تنهض تلك اليد تنهض بجلال فتشق القمر شقين باصبع منها.

واذا التفتت التفاتة جمال فجّرت ينبوع رحمة يَدفُق من عشر عيون تجري كالكوثر السلسبيل

فلئن كانت يد هذا النبي الكريم e موضع معجزات باهرة الى هذا الحد.. ألا يدرك بداهةً:

مدى حظوته عند ربه

مبلغ صدقه في دعوته

ومدى سعادة اولئك الذين بايعوا تلك اليد المباركة ؟.

سؤال: انك تقول في كثير من الروايات انها متواترة، بينما لم نسمع بها الاّ الآن فهل يُجهل التواتر الى هذا الحد؟.

الجواب: هناك امور كثيرة متواترة لدى علماء الشرع بينما هي مجهولة لدى غيرهم فلدى علماء الحديث من الاحاديث المتواترة ما لا يعرف الاّ بالاحاد لدى سواهم.. وهكذا، فبديهيات ونظريات كل علم انما تُبيَّن حسب ما تواضع عليه اهل اختصاص ذلك العلم، أما بقية الناس فهم يعتمدون عليهم في ذلك العلم. فإما أنهم يستسلمون لقولهم، أو يعكفون على دراسة ذلك العلم فيجدون ما وجدوه.

فما أخبرنا عنه من المتواتر الحقيقي أو المعنوي، أو ما هو بحكم المتواتر من الحوادث، قد بيّن حكمَها رجالُ الحديث، وعلماء الشريعة وعلماء الاصول، واغلب العلماء الاخرين. فاذا جَهِلَه العوام الغافلون، أو مَن يغمض عينه عن العلم من الجهال، فلا يقع اللومُ الاّ عليهم.

المثال الخامس:

T أخرج الامام البغوي:(1) اصابت ((ساق علي بن الحكم يوم الخندق اذ انكسرت)) فمسحها رسول الله e (( فبرىء مكانه، وما نزل عن فرسه)).

المثال السادس:

T روى البيهقي وغيره ((اشتكى علي بن ابي طالب، فجعل يدعو، فقال النبي e : اللّهم اشفه أو عافه ثم ضربه برجله، فما اشتكى ذلك الوجع بعدُ))(2).





المثال السابع:

T ((كانت في كف شرحبيل الجعفي سلعةٌ (1) تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة فشكاها للنبي e ، فما زال يطحنها(2) بكفه حتى رفعها ولم يبق لها أثرٌ))(3).

المثال الثامن:

ستة من الاطـفال نالوا – كلٌ على حـدة - معــجزة مـن معــجزات الرسول الأكرم e .

الأول:

T روى ابن ابي شيبة - وهو من ائمة الحديث - أنه: ((اتَتْه e أمرأةٌ من خثعم معها صبي به بلاء لا يتكلم، فأتي بماء، فمضمض فاهُ وغسل يديه، ثم اعطاها إياه، وأمرها بسقيه ومسّه به، فبرأ الغلام وعقل عقلاً يفضُلُ عقول الناس))(4).

الثاني:

T ((وعن ابن عباس: جاءت امرأة بابن لها به جنون، فمسح e صدرَه فثعَّ ثعَّة فخرج من جوفه مثل الجرو الاسود))(5)- شئ اسود كالخيار الصغير - فشفي.

الثالث:

T روى الامام البيهقي والنسائي(6): ((انكفأت(7) القدر على ذراع محمد بن حاطب، وهو طفل فمسح عليه e ودعا له)) ونفخ نفخاً فيه ريقه الشريف فبرأ لحينه.

الرابع:

T ((ان النبي e اُتي بصبّي قد شبّ)) أي كَبُر ((لم يتكلم قط، فقال: من أنا؟ فقال: رسول الله))(1) فانطقه الله.

الخامس:

T اخرج امام العصر جلال الدين السيوطي - الذي تشرّف في اليقظة برؤية النبي e مراراً - أنه: جاء رسول الله e رجلٌ من أهل اليمامة بغلام يوم ولد، فقال له رسول الله e : يا غلام من أنا؟. فقال: انت رسول الله. قال: صدقت بارك الله فيك. ثم ان الغلام لم يتكلم حتى شبّ فكان يسمى بمبارك اليمامة لدعاء النبي e له بالبركة(2).

السادس:

T ((ودعا على صبي)) خشن الطبع ((قطع عليه الصلاة ان يقطع الله أثره فاُقْعِد))(3) ونال جزاء فظاظته.

السابع:

T ((سألتْه جارية طعاماً وهو يأكل، فناولها من بين يديه، وكانت قليلة الحياء، فقالت: انما أريد من الذي في فيك، فناولها ما في فيه، ولم يكن يُسأل شيئاً فيمنعه. فلما استقرّ في جوفها اُلقي عليها من الحياء ما لم تكن أمرأةٌ بالمدينة أشدّ حياء منها))(4).



T T T



وهكذا هناك امثلة غزيرة تربو على الثمانمائة مثال كالتي ذكرناها، وقد بيّنت كتب الاحاديث والسير معظمها.

نعم، لما كانت اليد المباركة للرسول الكريم e كصيدلية لقمان الحكيم، وبصاقه كماء عين الحياة لخضر عليه السلام، ونفثه كنفث عيسى عليه السلام في الشفاء، وان بني البشر يتعرضون للمصائب والبلايا، فلا ريب انه قد أتى اليه مالا يحد من المرضى والصبيان والمجانين ولا شك انهم قد شفوا جميعاً من امراضهم وعاهاتهم. حتى ان طاووساً اليماني وهو من ائمة التابعين المشهور بزهده وتقواه إذ حج اربعين مرة وصلى صلاة الصبح بوضوء العشاء اربعين سنة، ولقي كثيراً من الصحابة الكرام، هذا العالم الجليل يخبر جازماً فيقول: ما من مجنون جاء الى النبيe ووضع يده الشريفة على صدره الاّ شفي من جنونه.

فإذا اخبر امام كالطاووس اليماني - الذي ادرك الصحابة الكرام - هذا الخبر الجازم فلا ريب أنه قد جاء الى النبي e كثير جداً من المرضى، ربما يبلغ الالوف وكلهم شفوا من امراضهم.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس