الشيخ أحمد الحارون
الشيخ أحمد الحارون
حجّار ينحت القلوب قبل الطوب
بقلم: د.محمد فتحي راشد الحريري
إنه العارف بالله, العالم الرباني والصوفي المولّه أحمد الحارون بن أحمد بن غنيم الدمشقي الصالحاني (نسبة للصالحية) الرفاعي (طريقة) الحجّار مهنة, الشيبي خؤولة.
صاحب الكرامات والأحوال, الداعي إلى الله على بصيرة, الواعظ التي كانت ترق لموعظته أعتى النفوس وأقسى القلوب...
1- النشأة والتربية:
ولد الشيخ أحمد في حي الصالحية بدمشق (قرب جامع الحنابلة) عام خمسة عشر وثلاثمئة وألف للهجرة الموافق 1897م. لأب رفاعي الطريقة وأم شيبية دمشقية, كان أبوه يعمل في تقطير الورد والزهر, وهي مهنة دمشقية عريقة تجرى باستخدام الأنبيق, وقد مات وولده صغير لما يجاوز السابعة, فتعهدت الأم أن تكون أماً وأباً له.
أرسلته أمه للكتّاب فقرأ القرآن الكريم, ثم تعلم مهنة قطع ونحت الحجارة في جبل قاسيون قرب دمشق، لكن لم يتخل عن طلب العلم و التماسه من مظانة, وساعده جو الأسرة والتنشئة الكريمة التي حرصت أمه على تلقينه إياها فنشأ محافظاً على الصلاة والصلاح والبر وكرم الخلق ودماثته, مراقباً لله تعالى في كل حركاته وسكناته, ولذلك نظم نفسه في سلك التصوف.
والتصوف منحى تربوي ذوقي سلوكي يهدف إلى تهذيب النفوس والارتقاء فيها بين مقامي الخوف والرجاء, متخذة من الزهد والتوكل والحياء والصفاء والمحاسبة وسائل للوصول إلى الكمال بقدر الإمكان, والتشبه بمسالك الصالحين والسير على مدارجهم.
وقد انتظم في هذا السلك جل علماء المسلمين, وفي الفترة التي عاشها الشيخ أحمد يندر أن تجد واحداً من شيوخه فضلاً عن أقرانه خارج هذا المنحى...
لقد التزموا التصوّف طريقاً للصفاء والبعد عن وحر الماديات وزخرف الحياة الدنيا, وكان لكل واحد منهجه الخاص به متمثلاً في إلزام نفسه بأوراد خاصة وقسم من القرآن الكريم يتلوه كل يوم وأدعية وأذكار, وحلقة لعالم جليل أو عدة حلق يداوم عليها, دون أن ينسى حظه من الحياة الدنيا أو يشارك في الحياة العامة, فكان منهم الحجار والنحاس والساعاتي والحبّال والعطّار والخوّام والمزارع و... الخ, وكان منهم فوق ذلك المجاهد في سبيل الله الذي سجل أنصع صفحات الجهاد ضد المحتل الغاصب، هكذا كان التصوف، وهكذا فهمه الشيخ حارون جهاداً وتربيةً وتهذيباً وعملاً صالحاً وكسباً لقوته بعرق جبينه وليس كما يفهمه المتشنجون الذين يهرفون بما لا يعرفون, نسأل الله لنا ولهم الصلاح.
2- طلب العلم والعمل:
كان لالتزام الشيخ أحمد الحارون سلك التصوف السني الصافي بعيداً عن الشطحات والبدع والمهاترات أثر في توجيهه إلى طلب العلم, دون أن يقعد عن العمل, فكان حريصاً على كسب قوته والأكل من عمل يده, فعمل في مهنة شريفة هي قطع الحجارة والطوب للبناء ونحت الأجران الحجرية, ومارسها في جبل قاسيون بدمشق رغم خطورتها وقسوتها فهي تحتاج إلى همّة عالية وجد وقوة عضلية وشدة تحمل, وكان يجمع مع هذه المهنة القاسية حرصه على طلب العلم وحفظ القرآن الكريم وتعهده خشية أن يتفلت منه حفظه.
وهكذا تعرف على ثلة طيبة من مشايخ دمشق أمثال: المحدث الحافظ بدر الدين الحسني (ت1354)، والشيخ عبد المحسن الأسطواني(ت1383هـ)،والشيخ أمين تكريتي(ت حوالي1350)،والشيخ عبد المحسن التغلبي(ت1361)، والشيخ أمين كفتارو(ت1357)، والشيخ محمد بن جعفر الكتاني (ت1345)، والشيخ أمين سويد (ت1355)، والشيخ محمود أبو الشامات(ت1341)
وفي مرحلة لاحقة تعرّف على ثلة أخرى ولازمهم ينهل العلم على يديهم ويتحلى بمناقبهم, مضيفاً لذلك العمل بتوجيهاتهم ومطالعة الكتب التي يرشدونه إليها فحفظ كثيراً من المتون, وطالع كتب الفقه والتفسير والحديث والسيرة فضلاً عن تراجم السالكين في طريق الفضيلة نحو مراقي الفلاح.
من شيوخه بعد عام 1348هـ: محمد عطا الكسم(ت1357هـ) وشكري الاسطواني (ت1375هـ)، وعزيز الخاني (ت1369هـ)، وأمين زملكاني (ت1346هـ)، وعبدالله المنجد(ت1357هـ)، وتوفيق الهبري(ت حوالي 1355) وعبد الرحمن الخطيب (حوالي1360)، وهاشم الخطيب(1378).
وقد حبب إليه في جميع مراحل حياته حفظ القرآن والاستمتاع بتجويده وإسماعه لجلسائه, كما كان يحفظ بعض القصائد العرفانية لمحيي الدين بن العربي وأحمد زرُّوق المغربي، وعبد الغني النابلسي، وابن الفارض، ورابعة العدوية وغيرهم.
3-الدعوة وعلاقته بالعلماء:
كان للشيخ الحارون شبكة من العلاقات الاجتماعية مكنته من ممارسة الدعوة إلى الله على طريقته براحة تامة, وكانت تربطه بعلماء دمشق أطيب العلائق، فكان يجلهم وكانوا يحترمونه, ولم يزعم مرة أنه من العلماء، بل كان حريصاً أن يردد بأنه تلميذ سالك أو مريد للشيخ فلان, فكان لا يجد غضاضة في استفتاء من يثق بمشيختهم وينقل هذه الفتاوى لتلاميذه ومريديه.
حضور بديهيته:
مارس الدعوة أثناء عمله في نحت الحجارة فصدقت فيه مقولة الشيخ راشد الحريري(رحمه الله): ( كان ينحت القلوب قبل نحت الطوب).. نعم فقد كانت كلماته شفافة تلامس شفاف القلب وتنفذ إلى منطقة التأثر مباشرة, أوتي حجة بالغة فعلا، و كان حاضر البديهة, فقد حاول أحدهم مرة أن يتهكم الإسلام و المسلمين, فقال متنذرا: أعجب من كثرة سلامكم و صلاتكم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكيف تصله الصلاة و السلام على بعد المسافات و اختلاف النواميس بين الدنيا و الآخرة....؟؟
على الفور دون تلكؤ قال الحارون: ما اسمك يا أخي؟, فقال له اسمه، ثم سأله عن أبيه و جده و سلالته, فقال له: لو لعنت الآن أباك و جدك و جد جدك و سلالتك كلهم أتغضب ؟ فاكفهر وجه الرجل و قال: نعم أغضب ولا أسمح لك بذلك , قال الحارون: كيف ستصل الشتيمة إلى هؤلاء؟
عندها بهت الرجل أمام حجة الشيخ الحارون القاطعة: مثلما تعتقد حضرتك بوصول المسبة نعتقد نحن بوصول الصلاة والسلام إلى نبينا الكريم عليه أفضل الصَّلاة وأتم التسليم.
أسلوبه الدعوي:
أما أسلوبه الدعوي فكان عجيبا: يزور الناس و يستزيرهم، و يدعوهم في السوق و في المسجد و على المقبرة و لم يعقد حلقات ثابتة و إنما كانت حلقاته بحسب الدافع و الظرف الموائم, و في بيوت أحبائه يقرأ عليهم أو يستمع قراءتهم لبعض الكتب مثل (تفسير ابن كثير)، و رياض الصالحين، و الأذكار للنووي, وزاد المعاد لابن قيم الجوزية، و الرسالة للقشيري، ولطائف المنن، و الحلية، و الإحياء للغزالي، و الشفاء للقاضي عياض، و إضرابها.. و كان صاحب دعوة خاصة للأطفال و الشباب يتودد إليهم بالحسنى...
و كان حليما و صاحب دعابة دون استخفاف, محافظا على وقاره, يجذب إليه الخاصة و العامة بحديثه الماتع و ما آتاه الله من حجة فلم يخض نقاشا أو حوارا إلا أظهره الله.
ثقة الناس به:
و كان للناس فيه اعتقاد عظيم يتناقلون قصصه و حججه و كراماته بأسرع مما تتناقله وكالات الأنباء, حتى أنه هو كان ينسى كثيرا من المواقف التي تجري معه بينما لا تزال هذه المواقف عالقة في وجدان الناس و ذاكرتهم و مجالسهم.
4- جهاده:
يصنف الحارون مع المجاهدين في سبيل الله, جاهد بماله و نفسه و فكره و دعوته كما جاهد باعتباره قدوة للسالكين, ولم يكتف بالحث على جهاد الفرنساويين بل حمل السلاح بنفسه، و تشهد له بقاع غوطة دمشق الغناء مقاتلاً عنيداً وبطلاً صنديداً، وشارك في قطع الإمدادات عن الفرنسيين بنسف طريق دمشق بيروت، واستطاع مرة أن ينسف الخط الحديدي بين دمّر والفيجة مع أبناء عكا ش.
وكان يجمع التبرعات للثوار يمدهم ويمد بها عائلاتهم وكم من موقف عظيم له مع عائلات المجاهدين والشهداء يذكرنا بقول المصطفى (صلى الله عليه وسلم): " من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا".
ومن الجدير بالذكر أنه خدم في الجيش العثماني(الجندية الإلزامية) سنة1917 وأحبه الجنود, وكان يعرف بينهم بـ(خجا أفندي) لحرصه على نشر الدعوة في صفوفهم. كما شارك في القتال الفعلي في فلسطين مع العثمانيين، ومع نهاية الحرب عاد لجهاد النفس مع معترك الحياة فتزوج سنة 1346هـ وكون أسرة طيبة, كان حريصاً أن يظهر قدوة لها في كسب القوت وممارسة الدعوة... ولم ينقطع عن مهنة الحجارة إلاّ أواخر عمره.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
التعديل الأخير تم بواسطة عبدالقادر حمود ; 05-28-2012 الساعة 05:41 PM