عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الثاني


الشعاع الثاني - ص: 25
وعدالة مطلقة ولم توقفها عن حدّها لكان كل من تلك القوى يستولى على الموجودات قاطبة. فالقوة التي تخلق شجرة الحَوَر في الارض عموماً وتدبّر امورها، لاتدع قطعاً هذه القوة الكلية افراداً جزئية لأشجار الجوز والتفاح والمشمش المنتشرة بين اشجار الحَوَر والملاصقة لها، الى قوى اخرى غيرها. ولايمكن الاّ وتستولي عليها ايضاً وتضمها بين تدبيرها للامور.
نعم؛ إن مثل هذه القوة والقدرة المصرّفة للأمور تُستشعر في كل نوع من المخلوقات، بل في كل فرد من الافراد، وتشاهد أنها تتمكن من ان تستولي على الكائنات كلها وعلى الاشياء كلها، وتهيمن على الموجودات قاطبة.
فلاشك ان قوة كهذه لاتقبل الاشتراك قطعاً ولاتسمح بالشرك في اية جهة كانت.
وكذا ان اكثر ما يوليه صاحب شجرة مثمرة من اهتمام واكثر ما يظهره من علاقة بها هو ثمراتها المتدلية في نهايات اغصانها، ونواها الغائرة في قلب تلك الثمرات بل هي قلوبها بالذات. ولاشك انه لايخل بمالكيته عبثاً - ان كان راشداً - بتمليك تلك الثمرات المتدلية من الاغصان الى الآخرين تمليكاً دائمياً.
كذلك الامر في الشجرة المسماة بالكون، التي تمثل العناصر اغصانها، ومافي نهايات تلك العناصر من اوراق وازاهير تمثل النباتات والحيوانات، وما في قمم تلك الاغصان وفي ذروة تلك الاوراق والازاهير من ثمرات تمثل الانسان. فان اجلّ نتائج سعي تلك الثمرات البديعة ونتيجة خلقته هي العبودية لله وتقديم الشكر والحمد له وحده ولاسيما ماينطلق من النوى الجامعة لتلك الثمرات، تلك هي قلوب البشر وقواهم الحافظة المسماة بظهر القلب.. لايمكن باي حال من الاحوال ان يدعها سبحانه لأغتصاب الأغيار فيهوّن من شأن عظمة ربوبيته وعزتها مخلاً به معبوديته. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وكذا، لما كانت مقاصد الربوبية قد تمركزت في الجزئيات التي هي في منتهى دائرة الممكنات والكثرة، بل تمركزت حتى في جزئيات احوال تلك الجزئيات، وفي جزئيات اطوارها التي تمتد الى المعبودية وتتوجه الى المعبود سبحانه.. ولما كان جميع انواع الامتنان والحمد والثناء وجميع اضراب الشكران والعبادات ناشئة من تلك الجزئيات،
الشعاع الثاني - ص: 26
فلا شك انه سبحانه لا يسلّمها الى الأغيار، فلا يفسد حكمته الجليلة بهذا التسليم، ولايسقط ألوهيته المهيبة بهذا الافساد. لان اهم المقاصد الربانية في خلق الموجودات، هو تعريف وتحبيب نفسه سبحانه الى ذوي الشعور، ودفعهم الى تقديم حمدهم وشكرهم وثنائهم له وحده.
ولاجل هذا السر الدقيق فان الافعال والآلاء، الجزئية منها والكلية، المتمركزة في منتهى دائرة الكثرة، كالرزق والشفاء ولاسيما الاهتداء والايمان وامثالها من الافعال والآلاء التى تنتج الشكر وتبعث على العبادة والحمد والمحبة والعبودية والثناء؛ انما هي احسان مباشر لرب العالمين وانعام مباشر لسلطان الموجودات وأثر مباشر لهدايته وفعله. ومن اجل إراءة ذلك يُسند القرآن الكريم مكرراً الرزق والهداية والشفاء الى الواجب الوجود. ويبين ان احسان كل منها انما هو خاص به وحده ومنحصر به وحده، وفي الوقت نفسه يردّ رداً قوياً تدخل الاغيار في تلك الافعال الجليلة 1.
نعم ان نعمة الايمان التي تُكسب دار سعادة ابدية لاتكون الاّ نعمة مَن خلق تلك الدار ومن جعل الايمان مفتاحاً لها، وهو الله ذو الجلال والاكرام، وليس غيره اطلاقا؛ اذ لايمكن ان يكون غيره تعالى مُنعم مثل هذه النعمة العظمى، فيسد اعظم نافذة مطلة على المعبودية ويغصب اجلّ وسيلة اليها.
حاصل الكلام:
ان ادق الاحوال الجزئية والثمرات التي هي في اقصى نهايات شجرة الخلق تشهد وتشير الى التوحيد والوحدانية بجهتين:
اولاها:
لأن مقاصد الربوبية في الكون تتجمع في الاحوال الجزئية، وغاياتها تتمركز فيها، وتجليات اكثر الاسماء الحسنى وظهورها وتعيناتها تجتمع فيها، ونتائج خلق الموجودات وفوائدها تبرز فيها؛ لذا فان كلاً منها تقول انطلاقاً من نقطة التمركز والتجمع هذه: انا ملك مَن خلق الكون بأسره، انا فعله واثره.

_____________________
1 كقوله تعالى: (ان الله هو الرزاق ذو القوة المتين) - المؤلف.

الشعاع الثاني - ص: 27
اما الجهة الثانية:
فان قلب تلك الثمرة الجزئية، وذهن الانسان المسمى حسب الحديث الشريف بظهر القلب 1، فهرسٌ مختصر لأكثر الانواع. ونموذج مصغر لخريطتها. وبذرة معنوية لشجرة الكون. ومرآة رقيقة لاكثر الاسماء الإلهية. فانتشار تلك القلوب والاذهان وامثالها التي هي على نمط واحد انتشاراً مستولياً ومهيمناً على وجه الكائنات كلها، يرنو بلا شك الى مَن بيده مقاليد السموات والارض. فيقول كل منها: انا اثره وحده، انا اتقانه وحده.
زبدة الكلام:
مثلما تتوجه الثمرة الى مالك شجرتها من حيث كونها مفيدة، وترنو الى جميع اجهزة تلك الشجرة واغصانها وماهيتها من حيث نواها. وتنظر الى جميع ثمار تلك الشــجرة من حيث سكتها المضروبة على وجهها والموجودة في مثيلاتها. فتقول جميعاً: "نحن على نمط واحد، صدرنا من يد واحدة. ونحن ملك لمالك واحد، فالذي خلق واحدة منا هو خالق جميعنا بلاشك".
كذلك الامر في الكائن الحي الذي هو في نهايات دائرة الكثرة. ولاسيما الانسان، وبخاصة من حيث العلامات الفارقة الموجودة على وجهه ومن حيث ما في قلبه من فهرس ومن حيث ما في ماهيته من نتائج، تتوجه كلها الى الذي يمسك السموات والارض بربوبيته الجليلة وتشهد على وحدانيته جل وعلا.

_____________________
1 عن سهل بن سعد رضي الله عنه : (ان امراة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يارسول الله جئت لأهب لك نفسي، فنظر اليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النظر اليها وصوَّبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً جلست فقام رجل من أصحابه فقال: يارسول الله اِن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها. فقال: هل عندك من شيء، فقال: لا والله يارسول الله، قال اذهب الى أهلك فانظر هل تجد شيئاً، فذهب ثم رجع فقال: لا والله يارسول الله ما وجدت شيئاً قال: انظر ولو خاتماً من حديد، فذهب ثم رجع فقال لا والله يارسول الله ولا خاتماً من حديد ولكن إزاري قال سهل مالَه رداءٌ فلها نصفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تصنع بازارك اِن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وان لبسته لم يكن عليك شيءٌ فجلس الرجل حتى طال مجلسه ثم قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً فأمر به فدُعي فلما جاء قال ماذا معك من القرآن؟ قال معي سورة كذا وكذا وسورة كذا عدّها، قال أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن). البخاري في المعسر (5/237) وظهر القلب ( 7/8) في كتاب النكاح - باب تزويج المعسر وفي كتاب فضائل القرآن - باب القراءة عن ظهر القلب والنسائي في كتاب النكاح.

الشعاع الثاني - ص: 28
المقتضى الثاني للوحدانية
هو ان في الوحدانية سهولة ويسراً بدرجة الوجوب، وفي الشرك صعوبة ومشكلات بدرجة الامتناع.
وقد اُثبتت هذه الحقيقة اثباتاً قاطعاً واُظهرت ببراهين دامغة في رسائل عديدة من مجموعة "سراج النور" ولاسيما في المكتوب العشرين، حيث وضّحت مفصلاً، وفي النكتة الرابعة من اللمعة الثلاثين، حيث وضّحت مجملاً، وعلى النحو الآتي:
اذا فوّض أمر جميع الاشياء الى ذات الواحد الأحد فان خلق الكون كله وتدبير أمره يكون سهلاً كسهولة خلق شجرة، ويكون خلق الشجرة وانشاؤها سهلاً كسهولة خلق ثمرة واحدة، ويكون إبداع ربيع كامل وادارته سهلاً كسهولة ادارة زهرة واحدة، وتكون تربية نوعٍ يضم ما لا يحد من الافراد وتدبير امرها سهلاً وبلا مشكلات كسهولة ادارة فرد واحد.
بينما اذا فوّض في طريق الشرك خلق فرد واحد الى الاسباب والطبيعة فانه يكون صعباً كصعوبة خلق النوع، بل الانواع، ويكون ايجاد بذرة واحدة عسيراً كخلق الشجرة، بل مائة شجرة. ويكون ايجاد شجرة وانشاؤها واحياؤها وادارتها ورعايتها وتدبير امورها ذات مشكلات عويصة كادارة الكون كله بل اكثر منها.
وحيث ان هذا الامر قد اثبت في "سراج النور" على هذه الصورة، ونحن نشاهد وفرة في المخلوقات مع منتهى الاتقان والجودة، حتى أن كل ذي حياة وهي كماكنة خارقة تضم اجهزة كثيرة يُخلق بوفرة مطلقة وبسهولة متناهية بلا معالجة ولاتكلّف وفي لمح البصر. مما يبين لنا بالضرورة وبالبداهة؛ أن تلك الوفرة وتلك السهولة ناشئتان من الوحدانية، ومن كونهما افعال واحد أحد. اذ خلاف ذلك لاينعدم الرخص والوفرة والسرعة والسهولة والاتقان وحدها بل لايمكن ايضاً شراء ثمرة قيمتها خمس بارات 1 فقط بخمسمائة ليرة 2، بل تكون نادرة جداً الى حد العدم.

_____________________
1 بارة: كلمة معربة من الفارسية، وهي قطعة من النقد تساوي ربع من القرش، وهي نقد صغير من النحاس. (المعجم الاقتصادي الاسلامي) - المترجم.
2 ليرة: عملة ذهبية مقسمة الى مائة قرش (المعجم الاقتصادي) - المترجم.

الشعاع الثاني - ص: 29
وان السهولة المشاهدة في ايجاد الاحياء واليسر في ايجادها المنظم كيسر وانتظام عمل الساعة او المكائن الكهربائية التي تعمل بمجرد مس مفتاحها.. اقول هذه السهولة المشاهدة في ايجاد الاحياء ويسر ايجادها تصبح - في طريق الشرك - من الصعوبة والمشكلات بدرجة الامتناع.
وان الاحياء التي تُولد في يوم او في ساعة بل في دقيقة واحدة وتأتي الى الحياة والدنيا مع كامل اجهزتها وشرائط حياتها، لاتأتي الى الوجود - في طريق الشرك - في سنة بل ولا في عصر بل ولاتأتي اليه اصلاً.
وقد اثبت في "سراج النور" في اكثر من مائة موضع اثباتاً جازماً، يلزم حتى اعتى معاند مكابر، أنه: اذا اسندت جميع الاشياء الى ذات الواحد الاحد جل وعلا، فان الخلق والايجاد يكون كخلق شئ واحد ويتم في سرعة فائقة، وفي رخص وموفورية.
بينما اذا اسندت واعطيت حصة الى الاسباب والطبيعة، فان ايجاد شئ واحد يكون صعباً معضلاً وبطيئاً وتافهاً لا أهمية له، باهظاً غالياً، كجميع الاشياء.
وان شئت ان ترى براهين هذه الحقيقة فانظر الى المكتوب العشرين والمكتوب الثالث والثلاثين. وانظر الى الكلمة الثانية والعشرين، والكلمة الثانية والثلاثين. وانظر الى اللمعة الثالثة والعشرين الخاصة بالطبيعة واللمعة الثلاثين الخاصة بتجليات الاسم الاعظم، ولاسيما النكتة الرابعة والسادسة منها الباحثة عن اسم الفرد واسم القيوم. فترى ان هذه الحقيقة قد اثبتت في تلك الرسائل اثباتاً يقيناً كضرب الاثنين في اثنين يساوي اربعاً.
اما هنا فسنشير الى برهان واحد من تلك المئات من البراهين. وعلى النحو الآتي:
إن ايجاد الاشياء، إما من العدم، أو بالانشاء اي بالتركيب، حيث تجمع من العناصر وتجمع من الموجودات.
فاذا اسند الايجاد والخلق الى الواحد الأحد، فلابد أن يكون للذات الجليلة علم محيط بكل شئ، وقدرة مهيمنة على كل شئ.
الشعاع الثاني - ص: 30
لذا فان اعطاء وجود خارجي للاشياء التي صورتها ووجودها العلمي في علمه سبحانه، واخراجها من عدم ظاهري، امر سهل جداً، لاأسهل منه، كسهولة امرار مادة كيمياوية على كتابة مخفية، لأجل اظهارها، او نقل الصورة من عدسة الكاميرا الى الورق الحساس. وهكذا الاشياء التي تصاميمها وبرامجها ومقاديرها المعنوية موجودة في علم الصانع الجليل يخرجها جلّ وعلا بأمر كن فيكون من عدم ظاهري الى وجود خارجي.
أما إن كان الخلق انشاءً وتركيباً، وليس من العدم، فان جمعه من العناصر والموجودات هو الآخر سهل جداً، إذ كما ان اجتماع الجنود المتفرقين المنتمين لطابور معين، بصوت من بوق، وأخذ كل منهم وضعاً منتظماً، أمر سهل، وان الجنود كلهم يكونون بمثابة قوة ساندة لقائدهم وقانونه النافذ وعينه الباصرة لأجل تسهيل عملية السوق العسكري والحفاظ على وضع معين.
كذلك تساق الذرات المنضوية تحت قيادة رب العالمين بدساتير قدره وعلمه وبقوانين قدرته المهيمنة وتصبح الموجودات التي لها مساس مع تلك الذرات بمثابة قوة ذلك السلطان وقانونه وموظفيه وسائل تسهيل وتيسير. فتأتي تلك الذرات لتشكيل وجود كائن حي، فتدخل ضمن مقدار معين كقالب معنوي علمي وقدري، وتقف هناك.
ولكن اذا اُسند خلق الاشياء الى أيدٍ متفرقة عديدة، والى امثال الاسباب والطبيعة. فان اي سبب كان لايقدر على ايجاد شئ من العدم ومن اية جهة كانت، وهذا مايتفق عليه جميع اهل العقل. لأن ذلك السبب لايملك علماً محيطاً بكل شئ ولاقدرة مهيمنة على كل شئ؛ لذا لايكون ذلك العدم عدماً ظاهرياً وخارجياً وحده بل يكون ايضاً عدماً مطلقاً. والعدم المطلق لايكون قطعاً منشأً لوجود، لذا لابد أن يُركّب.
والحال ان تركيب وانشاء جسم ذبابة واحدة او زهرة واحدة يقتضي جمع جميع ذراته من سطح الارض كافة بعد تصفيتها وتنقيتها بمصاف معينة دقيقة، ولايمكن ذلك الاّ بعد مشكلات عديدة، وحتى بعد مجيئها فإن المحافظة عليها في وضع
الشعاع الثاني - ص: 31
منتظم دون ان تتبعثر وتتشتت داخل ذلك الجسم امر عسير آخر لعدم وجود قوالب معنوية علمية، اذ يلزم وجود قوالب مادية وطبيعية بعدد اعضاء ذلك الكائن، كي يتشكل ذلك الجسم للكائن..
وهكذا فان اسناد خلق جميع الاشياء الى واحد أحد، يولد سهولة متناهية بدرجة الوجوب واللزوم، بعكس اسناده الى الاسباب العديدة الذي يولد مشكلات وصعوبات بدرجة المحال. فلو فوّض امر كل شئ الى الواحد الاحد جل وعلا لأصبح الموجود في غاية النفاسة مع الوفرة المطلقة، وفي غاية الاتقان مع منتهى الحكمة والقوة، بينما لو اسند في طريق الشرك الى الاسباب المتعددة والطبيعة يكون الموجود في منتهى الغلاء مع انه في منتهى التفاهة والتشوه والضعف. لأنه كما ان أحداً بصفة الجندية يحمل قوة معنوية بانتسابه الى قائد عظيم واستناده اليه، اذ يمكن أن يُحشّد له جيشاً عظيماً اذا لزم الامر. فضلاً عن ان قوة ذلك القائد والجيش تكون قوة احتياطية له، فتتضاعف قوته الشخصية الى الوف الاضعاف فيكسب قدرة مادية علاوة على عدم اضطراره الى حمل منابع تلك القوة التي انتسب اليها ولا الى حمل مخازن عتاده حيث الجيش ينقلها، لذا يستطيع ذلك الجندي على أسر مشير لدى العدو، وعلى تهجير مدينة كاملة، وتسخير قلعة عظيمة، فيكون أثره خارقاً وذا قيمة واعتبار. ولكن اذا ماترك ذلك الشخص الجندية واصبح سائباً، فانه يفقد كلياً تلك القوة المعنوية الخارقة وتلك القدرة الخارقة والاقتدار الخارق، ويصبح انساناً اعتيادياً لايقدر على شئ الاّ بقدر قوته الشخصية من امور بسيطة جزئية لا أهمية لها، فيصغر تأثيره بتلك النسبة.
وعلى غرار هذا تماماً، ففي طريق التوحيد يستند كل شئ وينتسب الى القدير الجليل، لذا فكما تغلب نملة فرعوناً وبعوضة نمروداً وجرثومة جباراً عنيداً وكما تحمل بذيرة صغيرة على كتفها شجرة ضخمة كالجبل، فضلاً عن كونها منشأ ومخزن جميع آلات تلك الشجرة واجهزتها، فان كل ذرة ايضاً يمكن ان تؤدي وظائف لاتحد بذلك الاستناد والانتساب كتشكيل الصور والاجسام التي تحمل مئات الالوف من الاتقان والانواع والانماط والاشكال. وتصبح الاثار التي تؤديها تلك المأمورات اللطيفات وهذه المجندات الصغيرات في منتهى الكمال والاتقان والنفاسة والجودة؛ لأن الذي
الشعاع الثاني - ص: 32
يصنع تلك الآثار هو القدير ذو الجلال قد وضع في يد تلك الموظفات هذه الآثار وجعلهن ستاراً لقدرته.
ولكن اذا ما اسند الامر الى الاسباب، كما هو في طريق الشرك، فان تأثير النملة يصبح تافهاً ضئيلاً كالنملة نفسها واتقان الذرة لايعّد شيئاً كالذرة نفسها، بمعنى ان كل شئ يسقط معنىً كما يسقط مادة ايضاً بحيث لاتُشـــترى الدنيا عندئذٍ بشروى نقير.
فما دامت الحقيقة هي هذه، وان كل شئ في غاية النفاسة والابداع والقوة والمغزى العميق كما هو مشاهد، فلاريب انه لاطريق غير طريق التوحيد، واذا ماوجد طريق غيره فيلزم تبديل الموجودات وافراغ الدنيا في العدم واملاؤها مجدداً بامور تافهة بدلاً منها، ليفتح طريقاً أمام الشرك ليسلكه!!
وها قد سمعت مجمل برهان واحد يخص التوحيد من مئات البراهين الموضحة في رسائل النور.

المقتضى الثالث للتوحيد
ان الخلق في كل شئ، ولاسيما في الاحياء، هو في منتهى الابداع وغاية الاتقان. زد على ذلك، فالنوية الصغيرة نموذج الثمرة، والثمرة نموذج الشجرة، والشجرة نموذج النوع، والنوع نموذج الكون ومثاله المصغر، وفهرسه المختصر، وخريطته المجملة، وبذرته المعنوية، ونقطة جامعة مترشحة من الكون وقطرة خميرة جمعت منه محلوبة بدساتير علمية وبموازين حكيمة.
لذا فالذي يخلق واحداً مما ذكر، لاشك انه وحده خالق جميع الكون. نعم ان الذي يخلق نواة البطيخ هو خالق البطيخ بالبداهة، ولايمكن ان يكون غيره، بل محال قطعاً.
نعم، اننا نشاهد ان كل ذرة في الدم منتظمةٌ الى حدّ بعيد، وتؤدي من الوظائف الجليلة مالايقل في الاهمية عن اداء النجوم لوظائفها، وكذا كل كرية حمراء وبيضاء
الشعاع الثاني - ص: 33
في الدم تقوم بوظائفها تجاه الجسم بشعور تام من حيث اعاشته والحفاظ عليه وصيانته بحيث تسبق في الكمال اعظم مأموري توزيع الارزاق واخلص جنود المحافظة.
وان حجيرات الجسم نفسها تنال كل منها من الواردات والمصاريف المستهلكة وتجري من المعاملات المنتظمة والفعالية الدائمة في الجسم بحيث تسبق ادارة أكمل جسد وابدع قصر. وكل فرد من افراد الحيوانات والنباتات يحمل من العلامات الفارقة في وجهه والاجهزة في صدره بحيث لايمكن ان يضع تلك العلامات الاّ الذي خلق الحيوانات والنباتات جميعها.
وكل نوع من انواع الاحياء منتشرٌ في وجه الارض انتشاراً منظماً، ومختلط مع سائر الانواع اختلاطاً ملائماً، بحيث لايمكن ان يخلق ذلك النوع ويدير شؤونه الاّ من خلق جميع تلك الانواع ويديرها ويدبر شؤنها ويرعاها دفعة واحدة حتى جعل تلك الانواع الملونة كزرابي حيوية منسوجة من اربعمائة نوع من انواع الحيوانات والنبات مبثوثة على سطح الارض كافة.
فاذا ما قيست امور اخرى على ماذكرنا، يُفهم ان الكون برمته من حيث الخلق والايجاد كلٌ لايقبل التجزئة، ومن حيث الربوبية وتدبير الشؤون كليّ لايمكن ان ينقسم قطعاً.
هذا المقتضى الثالث قد بحث في كثير من اجزاء "سراج النور" ولاسيما في الموقف الاول من الكلمة الثانية والثلاثين. اذ قد وضح هناك وضوحاً رائعاً واثبت اثباتاً دامغاً بحيث ينعكس من كل شئ برهان وحدانية وحجة توحيد، كما ينعكس ضوء الشمس في مرآة كل شئ. لذا نختصر هنا مكتفين بذلك الايضاح
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس