عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الخامس عشر


الشعاع الخامس عشر - ص: 636
فان كنت تريد ان تعرف هذا وتراه فانظر الى مخازنك الصغيرة وهي قلبك ودماغك وجسدك ومعدتك. وانظر الى حديقتك والى الربيع الذي هو زهرة الارض والى ازاهيره وثمراته، فانه سبحانه يفتحها بيد غيبية بمفاتيح متباينة متنوعة آتية من مصنع "كن فيكون" يفتحها بكمال النظام والميزان والرحمة والحكمة، فيخرج رطلاً بل مائة رطل من المطعومات احيانا ًمن درهم من عليبات صغيرة، يخرجها بكمال الانتظام والميزان مقيماً بها ضيافة فاخرة لذوي الحياة.
فهل من الممكن ان تتدخل قوة عمياء وطبيعة صماء ومصادفة عشواء واسباب جامدة جاهلة عاجزة في فعل ٍ لانهاية له يؤدّى الى هذه الدرجة من الانتظام والعلم والبصيرة، وفي صنعة دقيقة ذات حكمة تامة لا تدنو منها المصادفة قطعاً، وفي تصرف موزون لاخطأ فيه اطلاقاً، وفي ربوبية جليلة عادلةٍ عدالةً تامة لاظلم فيها اصلا ً ؟
وهل يمكن لمن لايرى الاشياء كافة في آن واحد ولايستطيع ادارتها كلها دفعة واحدة، ولايجعل الذرات والنجوم السيارة معاً تحت أمره ان يتدخل في هذه الادارة وتصريف الامور التي جوانبها كلها ذات حكمة ومعجزة وميزان؟.
وهكذا فمن لايؤمن بمثل هذا المتصرف للامور ، المدبر الرحيم، والرب الحكيم، والذي بيده الخير، وله مقاليد كل شئ، ويضل ضلالا ً بعيدا ً، ليس له الاّ النار التي تستعر وتغضب حتى (تكاد تميز من الغيظ) (الملك: 8) كما قال تعالى. فتقول جهنم بلسان حالها: انه يستحق عذابى الخالد فليس هو اهل للرحمة.

الكلمة العاشرة : وهي "وهو على كل شئ قدير"
ان اشارة مختصرة جدا ً الى ما فيها من حجة هي:
ان كل ذي شعور يأتي الى هذه الدنيا المضيف، ويفتح عينه يرى:
قدرة تمسك الكون كله في قبضتها، وتضم علماً ازلياً مطلقاً لايضل ولاينسى وحكمة سرمدية لاعبث فيها اطلاقاً وتشمل عناية بالغة، بحيث تجعل كل فرد من افراد جيش الذرات منجذباً جذبة مولوية، فتستخدمها في وظائف شتى، وتجرى في
الشعاع الخامس عشر - ص: 637
اللحظة نفسها الكرة الارضية في دائرة واسعة تبلغ مسافتها اربعة وعشرين الف سنة في سنة واحدة وتديرها كالعاشق المولوى المجذوب بالقانون نفسه.
واذ هي تجلب محاصيل المواسم الى الحيوانات والانسان، تجعل بالقانون نفسه في اللحظة نفسها الشمس مكوكاً ودولاباً وتديرها في مركزها دوران منجذب عاشق ايضاً مسخرة النجوم السيارة التي هي افراد جيش المنظومة الشمسية في خدمات ووظائف جليلة بكمال الميزان والانتظام.
وان القدرة نفسها تكتب بقانون الحكمة نفسها في اللحظة نفسها مئات الالوف من الانواع على صحيفة الارض كافة، والتي كل منها بمثابة مئات الالوف من الكتب، تكتبها معاً ومتداخلة، وبلا التباس ولاسهو، مظهرة بها الوف نماذج الحشر الاعظم.
وان القدرة نفسها، في اللحظة نفسها تحول صحيفة الهواء الى لوحة محو وإثبات، جاعلة من ذراتها كلها كأنها نهايات قلم ذلك الكتاب ونقاطه، مستعملة اياها في وظائف كثيرة ضمن ما يعيّنه الامر والارادة الإلهية، حتى انها اعطت قابلية الى كل من تلك الذرات لتتلقى الكلمات والمكالمات كلها كأنها تعلم بها وتنشرها بلاخطأ ولاحيرة كأنها اُذينات صغيرة ولُسينات دقيقة. مما يثبت ان عنصر الهواء عرش للأمر والارادة الإلهية.
وهكذا فقياساً على هذه الاشارة المختصرة:
فالذي جعل هذا الكون في حكم مدينة منسقة، وقصر عامر، ومضيف فاخر وكتاب معجز، وقران مبين، ويمسك في قبضة قدرته بميزان العلم ونظام الحكمة جميع طبقات المخلوقات ودوائرها وطوائفها ابتداءً من ذرة من ذراتها وانتهاء ً الى مجموع الكون كله، ويدبّر شؤونه ويتصرف فيه ويظهر ضمن تلك القدرة الجليلة، حكمته البالغة ورحمته الواسعة ويُُعلم ضمن ربوبيته المطلقة ويعرّف بها وجوده ووحدانيته، تعريفاً ظاهراً كالشمس في رابعة النهار. فيطلب ازاء تعريفه، التعرف اليه بالايمان، وإزاء تودده ودّّه بالعبادة، وازاء آلائه شكره وحمده.
الشعاع الخامس عشر - ص: 638
فالذين لايعرفون هذا الرحمن الرحيم ولايسعون بالعبودية لحبّه، بل يضلون الى الانكار فيضمرون نوعاً من العداء تجاهه.. هؤلاء ليسوا الاّ شياطين في صور أناسي، وفي حكم نماردة صغار وفراعنة صُغر. ولاشك أنهم يستحقون عذاباً خالداً لانهاية له.

الكلمة الحادية عشرة : وهي " واليه المصير "
اي: ان المصير الى دائرة حضوره، والى عالمه الباقي، والى دار آخرته، والى منزل سعادته السرمدية، كما انه مرجع جميع مخلوقات الكون فتستند اليه وترجع الى قدرته جميع سلسلة الاسباب، علماًً ان الاسباب ستائر وضعت امام تصرفات تلك القدرة، لأجل الحفاظ على هيبتها وعزتها المقدسة. فجميع الاسباب الظاهرية ستائر لا تأثير لها في الايجاد قطعاً. فلولا امره جل وعلا وارادته لايقدر شئ - حتى الذرة - من الحركة.
نشير اشارة مختصرة الى ما في هذه الكلمة من حجة فنقول:
اولاً: ان حقيقة الحشر والآخرة والحياة الباقية التي تعبّر عنها هذه الكلمة المقدسة نحيل اثباتها والتصديق بها الى "الكلمة العاشرة" وذيولها والى الكلمة التاسعة والعشرين التي تثبت تحققها القاطع كتحقق الربيع المقبل، والى المسألة السابعة من رسالة الثمرة، والى شعاع المناجاة، والى الاجزاء الايمانية لرسائل النور.
حقاً ان تلك الرسائل قد اثبتت هذا الركن الايماني بحجج لا منتهى لها، بان تحقق الآخرة ثابت بدرجة تحقق وجود الدنيا بحيث تلجئ حتى اعتى المنكرين الى التصديق به.
ثانيا ً: ان ثلث القرآن المبين يبحث في الآخرة والحشر، ويبني كل الدعاوى على تلك الحقيقة. لهذا فكما أن جميع معجزات القران وحججه التي تثبت أحقيته تدل على وجود الآخرة. كذلك جميع معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم الشاهدة على صدق نبوته
الشعاع الخامس عشر - ص: 639
وجميع دلائل نبوته وجميع حجج صدقه تشهد على الآخرة والحشر؛ لان اعظم ما دعا اليه ذلك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم طوال حياته كلها هو الآخرة، كما ان مائة واربعة وعشرين الف من الانبياء الكرام عليهم السلام قد دعوا جميعهم الى الحياة الباقية والسعادة الابدية وبشروا البشرية بها واثبتوا صدق دعواهم بما لايحد من المعجزات والدلائل القاطعة.
فلاشك ان جميع معجزاتهم وحججهم الدالة على نبوتهم وعلى صدقهم في دعواهم تشهد ايضاً على الاخرة والحياة الباقية التي هي اعظم وادوم دعواهم.
فقياساً على هذا فان جميع الادلة التي تثبت سائر الاركان الايمانية تشهد بدورها على حدوث الاخرة وعلى انفتاح ابواب دار السعادة الخالدة.
ثالثا ً: ان خالق هذا الكون الذى خلقه بجميع ذراته وسياراته وأجزائه وطبقاته مقلداً كلاً منها بوظيفة بل وظائف كثيرة بكمال الحكمة ومسخراً لها باستمرار اظهاراً لكماله وقدرته وربوبيته. والذي يرسل طوائف المخلوقات قافلة اثر قافلة بل يرسل دنىً متعاقبة متجدّدة سيالة الى مضيف هذا العالم والى ميدان امتحان هذه الحياة الدنيوية ليظهر تجليات غير محدودة لاسمائه الحسنى السرمدية وليلتقط صور تلك المخلوقات واعمالها واوضاعها بكامرات برزخية وسينمات اخروية منصوبة في عالم المثال. ومن بعد تسريحها يرسل طوائف اخرى قافلة اثر قافلة، بل يرسل نوعا ًمن دنى سيارة وسيالة الى ذلك الميدان، لاجل ان تتسنم وظائف جليلة وتصبح مرايا لتجليات اسمائه الحسنى.
فهل من الممكن لهذا الخالق الجميل، الصانع الجليل،الله ذي الكمال، الاّ يجعل دار ثواب وجزاء؟ والاّ يقيم الحشر والنشور لنوع الانسان الذي يقابل بالشعور والعقل في هذه الدنيا الفانية جميع مقاصد ذلك الخالق الكريم، والذي يحبّ ذلك الخالق ويحببه بجميع استعداداته، والذي يعرفه ويعرّفه، ويتوسل اليه بادعية لاحد لها لبلوغ السعادة الابدية والبقاء الاخروى، والذي يسأل الحياة الباقية التي هي اللذة بعينها يسألها بجميع فطرته وروحه واستعداده لما يتألم آلاماً لاحد لها بالعقل الذي يحمله.
الشعاع الخامس عشر - ص: 640
فهل يمكن الا يكون لهذا الانسان ثواب وعقاب؟ حاش لله والف مرة كلاّ..
ان تفاصيل وايضاح هذه الاشارة المختصرة موجودة باسطع صورها واقوى حججها في رسائل النور؛ لذا نحيل اليها ونختصر هذه المسألة الطويلة جداً .

(سبحانك لا علم لنا الاّ ما علّمتنا انك انت العليم الحكيم)

* * *
الشعاع الخامس عشر - ص: 641
خلاصة مختصرة لسورة "الفاتحة "
القسم الثانى
من درس واحد فقط القي في المدرسة اليوسفية الثالثة في فترة قصيرة جداً اثناء نقلي من التجريد والسجن الانفرادي الى الردهة العامة ومعاشرة الاخرين.

نموذج لدرس قصير جداً القي على طلاب النور في السجن
لقد أمرت "الفاتحة" التي في الصلاة، القلبَ لبيان قطرة من بحرها ولمعة من فيوضات الالوان السبعة لشمسها. ولقد كتبنا نكات لطيفة في غاية الطيب والجمال لهذه الخزينة القرآنية السامية في كل من المكتوب التاسع والعشرين - في قسم منه - وبخاصة في السياحة الخيالية في "ن" نعبد وفي رسالة "الرموز الثمانية" وفي تفسير "اشارات الاعجاز" وفي سائر اجزاء رسائل النور. الاّ اننى اضطررت - من جهة - الى كتابة تفكري في الصلاة لإشارات تلك الخلاصة القرآنية الطيبة الى اركان الايمان وحججه فقط ولخلاصتها التي هي في منتهى الاختصاركالقسم الأول.
أبدأ بـ "الحمدلله" محيلاً "بسم الله الرحمن الرحيم" الى عدد من رسائل النور.

بسم الله الرحمن الرحيم
(الحمدُلله رَبِّ العَالمَينَ _ الرّحمن الرّحيمِ _ مَالكِ يَومِ الدِّينِ _ إياكَ نَعْبُدُ وإياكَ نَسْتَعينُ _ إهدِنا الصِرَاطَ المُسْتَقيمَ _ صِراطَ الذينَ اَنعَمْتَ عليهم غَيرِ المغضُوبِ عَليهم ولاالضّآلين) آمين
الشعاع الخامس عشر - ص: 642
الكلمة الاولى : وهي (الحمدلله)
ان اشارة في منتهى الاختصار الى حجتها الايمانية هي :
ان مبعث الحمد والشكر في الكون؛ هو الآلاء والنعم التي تغدق قصدا ً ولاسيما إرسال اللبن الخالص السائغ للشاربين من بين فرث ودم للصغار والاطفال العاجزين، والاحسانات والهدايا الاختيارية، والاكرامات والضيافات الرحيمة التي غطت سطح الارض برمته، بل غمرت الكون كله، وان ما يقدم لها من اثمان وقدر لقيمتها هي قول: "بسم الله" بدءاً ثم "الحمدلله" ختاماً؛ وبينهما الاحساس بالانعام من خلال النعمة نفسها ثم البلوغ منه الى معرفة الرب الجليل. فانظر الى نفسك بالذات والى معدتك والى حواسك ؛ كم هي محتاجة الى أمور كثيرة ونعم وفيرة! وكم تطلب الارزاق واللذائذ والاذواق بأثمان الحمد والشكر! ابصر هذا وقس على نفسك كل ذي حياة.
وهكذا فإن الحمد غير المتناهي المنطلق بألسنة الاحوال والاقوال؛ إزاء هذه الآلاء الشاملة؛ يبين كالشمس الساطعة ربوبية عامة وموجودية معبود محمود ومنعم رحيم.
الكلمة الثانية : وهي (رب العالمين)
ان اشارة مختصرة جداً الى ما فيها من حجة هي :
إننا نشاهد بأبصارنا ان في هذا الكون الوف العوالم والاكوان الصغيرة، بل ملايين منها، واغلبها متداخل بعضها في البعض؛ وبرغم ان ادارة كل منها؛ وشرائط تدبير شؤونها متباينة، فانها تدار في منتهى التربية والتدبير والادارة، فالكون كله صحيفة مبسوطة امام نظره جل وعلا في كل آن، وجميع العوالم تكتب كسطر بقلم قدرته وقدره، وتُجدد وتُغير.فتنبعث شهادات كلية وجزئية وبعدد الذرات والموجودات الحاصلة من تركبها، وفي كل لحظة وآن، على وجوب وجود ووحدانية رب العالمين الذي يدير هذه الملايين من العوالم والكائنات السيالة بربوبية مطلقة ذات علم وحكمة لانهاية لهما وذات عناية ورحمة وسعتا كل شئ.
الشعاع الخامس عشر - ص: 643
ان من لايصدق بربوبية جليلة تربي وتدبر الامور؛ إبتداءً من مزرعة الذرات الى المنظومة الشمسية والى دائرة درب التبانة؛ ومن حجيرة في الجسم الى مخزن الارض والى الكون كله، تربيها وتدبر شؤونها بالقانون نفسه وبالربوبية نفسها وبالحكمة عينها، ولايستشعر بها ولايدركها ولايشاهدها، يجعل نفسه بلاشك أهلاً لعذاب خالد ويسلب عنه الاشفاق والرحمة عليه.

الكلمة الثالثة: وهي (الرحمن الرحيم)
ان اشارة مختصرة جدا ً الى ما فيها من حجة هي:
انه يشاهد بوضوح ضوء الشمس وجود الرحمة غير المتناهية في الكون وحقيقتها. فهذه الرحمة الواسعة تشهد شهادة قاطعة - كشهادة الضياء على الشمس - على رحمن رحيم محتجب بستار الغيب.
نعم، ان قسماً مهماً من الرحمة هو الرزق، حيث يعطى معنى الرزاق لإسم الله "الرحمن". والرزق نفسه يدل على الرزاق الرحيم دلالة واضحة الى درجة تجعل من له ذرة من شعور مضطرا ً الى التصديق والايمان.
فمثلا ً: أنه سبحانه يهئ ارزاق جميع ذوي الحياة، ولاسيما للعاجزين وبخاصة للصغار، وهم منتشرون على الارض كافة والفضاء كله، يهيؤها لهم بصورة خارقة وهى خارج نطاق اختيارهم واقتدارهم، من غير شئ، من نوى متماثلة، من قطرات ماء، من حبات تراب. حتى انه يسخر للفراخ الضعاف العاجزة عن الطيران والجاثمة في اوكارها على قمم الاشجار، امهاتها وكأنها جندية متأهبة لتلقي الاوامر، فتجول الخضار وتجوب السواقي لجلب الارزاق اليها. بل يسخر اللبوة الجائعة لشبلها، فتطعمه مما حصلت عليه من لحم دون ان تأكل. ويرسل من بين فرث ملوث ودم احمر لبناً سائغاً للشاربين، الى صغار الحيوانات والانسان، يرسله من ينابيع الأثداء، بلا إختلاط ولا إمتزاج ولاتلوث، جاعلاً شفقة والداتهم معينة لهم.
وكما انه يُهرع الارزاق الملائمة الى جميع الاشجار المحتاجة الى نوع من الرزق بصورة خارقة، يُنعم على مشاعر الانسان التي تطلب نوعاًً من ارزاق مادية ومعنوية؛
الشعاع الخامس عشر - ص: 644
ويُحسن الى عقله وقلبه وروحه مائدة واسعة جداً للأرزاق. حتى كأن الكائنات مئات الالوف من موائد النعم المتداخلة ومئات الالوف من سفرات الأطعمة المتباينة، مكتنف بعضها ببعض كأوراق الزهرة وكأغلفة العرانيس، غلافا ً داخل غلاف. فتدل لمن لم يطمس على عينه على الرحمن الرزاق والرحيم الكريم بألسنة بعدد تلك السفرات المبسوطة وبمقدار ما عليها من أطعمة، ألسنة متباينة متغايرة كلية وجز ئية.
واذا قيل: ان ما في هذه الدنيا من المصائب والقبائح والشرور تنافي تلك الرحمة التي وسعت كل شئ ؛ وتعكّّر صفوها!.
الجواب: لقد أوفت جواب هذا السؤال الرهيب أجزاء رسائل النور؛ ولاسيما رسالة القدر. نحيل إليها مشيرين اشارة قصيرة اليه:
ان لكل عنصر ولكل نوع ولكل موجود؛ وظائف متعددة كلية وجزئية ؛ ولكل من تلك الوظائف نتائج كثيرة وثمرات وفيرة. والأكثرية المطلقة منها هي نتائج جميلة ومصالح نافعة وخيرات ورحمات. وقسم قليل منها يصبح شراً وقبحاً جزئياً وظاهرياً وظلما ً إزاء فاقدي القابلية والمباشرين به خطأً، او المستحقين للجزاء والتأديب، او لما يكون وسيلة لإثمار خيرات كثيرة. فلو منعت الرحمة ذلك العنصر وذلك الموجود الكلي عن القيام بتلك الوظيفة للحيلولة دون مجئ ذلك الشر الجزئي، لما حصلت إذاً جميع نتائجها الخيرة الجميلة الاخرى. فتحصل من الشرور والقبائح بعدد تلك النتائج، حيث ان عدم الخيرٍٍشرٌ، وإفساد الجمال قبحٌ. بمعنى ان مئات الشرور والمظالم تقترف للحيلولة دون مجئ شر واحد، وهذا مناف كلياً للحكمة والمصلحة والرحمة التي تتسم بها الربوبية.
مثال ذلك: ان الثلج والبرد والنار والمطر وماشابهها من الانواع ينطوى كل منها على مئات من الحكم والمصالح، فاذا ما قام احد المهملين بسوء اختياره بإرتكاب شر بحق نفسه كأن ادخل يده في النار ثم قال: ليس في خلق النار رحمة. فان فوائدالنار الخيرة الرحيمة النافعة وهي لاتعد ولاتحصى تكذبه في قوله وتصفعه على فمه.
ثم ان اهواء الانسان ومشاعره السفلية التي لا ترى العقبى؛ لا تكون قطعاً مقياساً ومحكاً وميزاناً لقوانين الرحمانية والحاكمية والربوبية الجارية في الكون؛ اذ يرى
الشعاع الخامس عشر - ص: 645
الوجود من خلال تلك المشاعر حسب الوان مرآته. فالقلب المظلم الخالي من الرحمة يرى الكائنات باكية قبيحة تتمزق بين مخالب الظلم وتتقلب في خضم الظلمات. بينما لو ابصرها ببصر الايمان يجدها على صورة انسان كبير متسربل بسبعين الف حلة قشيبة مخيطة بالرحمات والخيرات والحكم، بعضها فوق بعض كأنها حورية من الجنة لبست سبعين حلّة من حللها. ويجدها باسمة دوما بالرحمة ضاحكة مستبشرة. ويشاهد نوع الإنسان الذي فيه كوناً مصغراً، وكل انسان عالماً اصغر، فيقول من اعماق قلبه وروحه: (الحمد لله رب العالمين _ الرحمن الرحيم _ مالك يوم الدين).

الكلمة الرابعة : وهي (مالك يوم الدين)
ان اشارة مختصرة جدا ً الى ما فيها من حجة هي :
اولاً: ان جميع الدلائل المشيرة على الحشر والآخرة والشاهدة على حجة "وإليه المصير" في ختام القسم الاول من هذا الدرس، تشهد كذلك على الحقيقة الايمانية الواسعة التي تشير اليها "مالك يوم الدين".
ثانياً : كما ان ربوبية صانع هذا الكون ورحمته الواسعة وحكمته السرمدية، وكذا جماله وجلاله وكماله الازلي الابدي، وكذا صفاته الجليلة المطلقة ومئات من اسمائه الحسنى، تستدعي كلها الآخرة قطعاً - كما قيل في ختام الكلمة العاشرة - كذلك القرآن الكريم بالوف من آياته وبراهينه.. وكذا الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بمئات من معجزاته وحججه.. وكذا جميع الانبياء والمرسلين عليهم السلام.. وكذا الكتب السماوية والصحف المقدسة بدلائلها غير المحدودة، تشهد جميعاً على الآخرة.
وبعد، فمن لايؤمن بالحياة الباقية في الدار الآخرة انما يقذف نفسه في جهنم معنوية ينشؤها الكفر، فيقاسى العذاب دوماً، ولمّا يزل في الدنيا، حيث تنزل الازمنةُ الماضية جميعُها والمستقبلة والمخلوقات والكائنات بزوالها وفراقها مطر السوء على روحه وقلبه فتذيقه آلاماً لاحد لها واعذبة كعذاب جهنم قبل ان يدخلها في الاخرة. كما وضح ذلك في رسالة "مرشد الشباب".
الشعاع الخامس عشر - ص: 646
ثالثاً : نشير برمز "يوم الدين" الى حجة عظيمة وقوية للحشر. ولكن حالة فجائية معينة سببت في تأخير تلك الحجة الى وقت آخر. وربما لم تبق حاجة اليها بعد؛ لأن رسائل النور قد اثبتت بمئات الحجج القوية القاطعة ان مجئ صبح الحشر وحلول ربيع النشور يقين كمجئ النهار عقب الليل ومجئ الربيع عقب الشتاء.

الكلمة الخامسة: وهي (إياك نعبد وإياك نستعين) .
قبل الاشارة الى ما فيها من حجة ورد الى القلب بيان سياحة خيالية ذات حقيقة بياناً موجزاً بناءً على إيضاح "المكتوب التاسع والعشرين" لها، وهي كالآتي:
بينما كنت أبحث عن معجزات القرآن، كما هو مبين في رسائل النور، ولاسيما في تفسير "إشارات الإعجاز" وفي رسالة "الرموز الثمانية". وحينما وجدت بضع معجزات حول الإخبار الغيبي في آية الختام لسورة الفتح؛ والمعجزة التاريخية في الآية الكريمة (اليوم ننجيك ببدنك) (يونس: 92) بل وجدت لمعات إعجاز متعددة في كثير من كلمات القرآن ونكات إعجازية دقيقة في بعض حروفه.. في هذه الاثناء وانا اقرأ سورة الفاتحة في الصلاة ورد الى قلبي سؤال؛ ليعلمني معجزة من معجزات "ن" التي في "نعبد. ونستعين".
والسؤال هو: لِمَ قال: "نعبد ..نستعين" بنون المتكلم مع الغير، ولم يقل "أعبد.. أستعين"؟
وعلى حين غرة فُتح امام خيالي ميدان سياحة واسعة من باب تلك الـ"ن". فعلمت بدرجة الشهود السر العظيم في صلاة الجماعة، وشاهدت منافعها الجليلة وعلمت يقيناً ان هذا الحرف الواحد معجزة بذاتها، وذلك :
عندما كنت أصلى في ذلك الوقت في جامع "بايزيد" واثناء قولي: "إياك نعبد وإياك نستعين" رأيت ان جماعة ذلك الجامع يؤيدون دعواي هذه بقولهم مثل ما أقول؛ ويشاركونني مشاركة تامة في دعواي هذه وفي دعائي الذي في "إهدنا" مصدّقين إياي.. في هذا الوقت بالذات رفع ستار من امام خيالي فرأيت كأن مساجد استانبول كلها قد تحولت الى مسجد "بايزيد" كبير وجميع المصلين فيها
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس