الموضوع: صيقل الإسلام
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-02-2011
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صقيل الإسلام


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 40
المقدمة الخامسة

اذا وقع المجاز من يد العلم الى يد الجهل ينقلب الى حقيقة، ويفتح الباب للخرافات1 اذ المجازات والتشبيهات اذا ما اقتطفتهما يسار الجهل المظلم من يمين العلم المنور، او استمرتا وطال عمرهما، انقلبتا الى "حقيقة" مستفرغة من الطراوة والنداوة، فتصير سراباً خادعاً بعدما كانت شراباً زلالاً، وتصبح عجوزاً شمطاء بعدما كانت فاتنة حسناء.
نعم! ان شعلة الحقيقة انما تتلمع من المجاز بشفافيته. ولكن بتحوله الى حقيقة يصبح كثيفاً قاتماً يحجب الحقيقة الاصلية. فهذا التحول قانون فطري، فان اردت شاهداً عليه راجع اسرار تجدد اللغات وتغيراتها، والاشتراك والترادف في الامور. انصت اليها جيداً تسمع حتماً:
ان كثيراً من الكلمات او الحكايات او الخيالات او المعاني التي كان السلف يتذوقونها، لم توافق الرغبات الشابة لى الخلف، لانها غدت عجوزاً لا زينة لها. لذا اصبحت سبباً لدفعهم الى ميل التجدد والرغبة في الايجاد، والجرأة على التغيير. هذه القاعدة جارية في اللغات مثلما هي جارية في الخيالات والمعاني والحكايات. ولهذا لاينبغي الحكم على اي شئ بظاهره؛ اذ من شأن المحقق:
سبر غور الموضوع.. والتجرد من المؤثرات الزمانية.. والغوص في اعماق الماضي.. ووزن الامور بموازين المنطق.. ووجدان منبع كل شئ ومصدره.
ومما اطلعني على هذه الحقيقة ودلّني عليها هو حدوث خسوف القمر زمن صباي، اذ سألت والدتي عنه، فاجابت : لقد ابتلع الثعبان القمر. فقلت: فَلِمَ يشاهد القمر؟ قالت: ان ثعابين السماء شبه شفافة.
فانظر كيف تحول التشبيه الى حقيقة! فحجبت حقيقة الحال، اذ شبّه أهل الفلك تقاطع مائل القمر بمنطقة البروج في الرأس والذنب، بثعبانين او تنينين؛ حيث ان
_____________________
1 فصلت هذه المسألة في اللمعة الرابعة عشرة من مجموعة اللمعات. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 41
القمر او الشمس اذا اتى احدهما الى الراس والاخر الى الذنب وتوسطتهما الارض، يخسف القمر.
يا من لايسأم من كلامي المختلط هذا! انعم النظر ايضاً في هذه المقدمة وانظر اليها بدقة متناهية، فكثيرجداً من الخرافات، والخلافات، انما تنشأ من هذا الاصل. فينبغي الاسترشاد بالمنطق والبلاغة.
خاتمة:
يجب ان يكون للمعنى الحقيقي ختم خاص وعلامة واضحة متميزة. والمشخّص لتلك العلامة هو الحُسن المجرد الناشئ من موازنة مقاصد الشريعة.
أما جواز المجاز فيجب ان يكون على وفق شروط البلاغة وقواعدها، والاّ فرؤية المجاز حقيقة والحقيقة مجازاً، او اراءتهما هكذا، امدادٌ لسيطرة الجهل ليس الاّ.
ان ميل التفريط من شأنه حمل كل شئ على الظاهر.. حتى لينتهي الامر تدريجياً الى نشوء مذهب الظاهرية مع الاسف. وان حب الافراط من شأنه النظر الى كل شئ بنظر المجاز، حتى لينتهي الامر تدريجياً الى نشوء مذهب الباطنية الباطل. فكما ان الاول مضر فالثاني اكثر ضرراً منه بدرجات.
والذي يبين الحد الاوسط ويحد من الافراط والتفريط انما هو فلسفة الشريعة مع البلاغة، والحكمة مع المنطق.
نعم! أقول: الحكمة (الفلسفة) لانها خير كثير مع تضمنها الشر، الاّ انه شرٌ جزئي. ومن الاصول المسلمة انه يلزم اختيار أهون الشرين، اذ ترك ما فيه خير كثير لاجل شر جزئي فيه، يعني القيام بشر كثير.
نعم! ان الحكمة القديمة (الفلسفة القديمة) خيرها قليل، خرافاتها كثيرة، حتى نهى السلف - الى حد ما - عنها، حيث الاذهان كانت غير مستعدة، والافكار مقيدة بالتقليد، والجهل مستول على العوام. بينما الفلسفة الحاضرة فخيرها كثير - من جهة المادة - بالنسبة للقديمة، وكذبها وباطلها قليل. والافكار حرة في الوقت الحاضر، والمعرفة مسيطرة على الجميع. وفي الحقيقة، لا بد ان يكون لكل زمان حكمه.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 42
المقدمة السادسة

فمثلاً: ان كل مايرد في التفسير لا يلزم ان يكون منه، اذ العلم يمدّ بعضه بعضاً.
فما ينبغي التحكم (في الرأي). اذ من المسلّمات: ان الماهر في مهنة الهندسة، ربما يكون عامياً وطفيلياً في مهنة اخرى كالطب، ودخيلاً فيها.
ومن القواعد الاصولية: انه لا يعدّ من الفقهاء مَن لم يكن فقيهاً، وان كان مجتهداً في أصول الفقه، لانه عامي بالنسبة اليهم.
وكذلك من الحقائق التاريخية: ان الشخص الواحد لايستطيع ان يتخصص في علوم كثيرة؛ الاّ من كان فذاً، فيستطيع ان يتخصص في اربعة او خمسة من العلوم، ويكون صاحب ملكة فيها.
فمن ادّعى الكل فاته الكل. لان لكل علم صورة حقيقية، وبالتخصص تتمثل صورته الحقيقية. اذ المتخصص في علم ان لم يجعل سائر معلوماته متممة وممدةً له، تمثلت من معلوماته الهزيلة صورة عجيبة.
لطيفة افتراضية للتوضيح: لو افترض مجئ مصوّر الى هذه الارض من عالم اخر لم يكن قد شاهد صورة كاملة للانسان ولا غير انسان من الاحياء. وربما رأى عضواً من اعضاء كل منها. فاذا أراد هذا المصور تصوير انسان، مما شاهد منه من يد ورجل وعين واذن ونصف الوجه وأنف وعمامة وامثالها. أو اراد تصوير حيوان مما صادف نظره من ذيل حصان وعنق جمل ورأس أسد. فالمشاهدون يتهمون المصور في عمله لان عدم وجود تناسق وانسجام وامتزاج بين الاعضاء يحول دون وجود كائن حي كهذا وسيقولون: ان شروط الحياة لا تسمح لمثل هذه الاعاجيب.
فهذه القاعدة نفسها تجري في العلوم.. والعلاج هو: اتخاذ المرء احد العلوم اساساً وأصلاً، وجعل سائر معلوماته حوضاً تخزن فيه.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 43
ومن العادات المستمرة: ان علوماً كثيرة تتزاحم في كتاب واحد، فبسبب تعانقها وتجاوبها بامداد بعضها بعضاً وانتاج بعضها بعضاً، يحصل تشابك الى حد كبير، بحيث لا تكون نسبة مسائل العلم الذي الّف الكتاب فيه الاّ زكاة محتواه. فالغفلة عن هذا السرّ تؤدي بالظاهري او الغوغائي المغالط الى ان يقول محتجاً به: "الشريعة هي هذه، وهذا هو التفسير!" اذا ما يرى مسألة ذكرت استطراداً في تفسير او كتاب فقه. وان كان صديقاً يقول: "مَن لم يقبل بهذا فليس بمسلم!!" وان كان عدواً يقول محتجاً به: "الشريعة أو التفسير خطأ" حاشَ لله.
ايها المفرطون والمفرّطون! ان التفسير والشريعة شئ وما الّف فيهما من كتب شئ اخر، فالكتاب يسع الكثير. ففي حانوت الكتاب اشياء تافهة غير الجواهر النادرة.
فان استطعت ان تفهم هذا، تنجو من التردد. فانتبه! فكما لا تشترى لوازم البيت المتنوعة من صناع واحد فقط، بل يجب مراجعة المختص في صنعة كل حاجة من الحاجات؛ كذلك لابد من توفيق الاعمال والحركات مع ذلك القانون الشامخ بالكمالات (قانون الفطرة). ألا يشاهد ان من انكسرت ساعته، اذا راجع خياطاً لخياطتها فلا يقابَل الاّ بالهزء والاستخفاف؟
اشارة: إن اساس هذه المقدمة هو: ان الامتثال والطاعة لقانون التكامل والرقي للصانع الجليل - الجاري في الكون على وفق تقسيم الاعمال - فرض وواجب، الاّ ان الطاعة لاشارته ورضاه سبحانه الكامنين في ذلك القانون لم يوف حقها. علماً ان يد عناية الحكمة الالهية - التي تقتضي قاعدة تقسيم الاعمال - قد أودعت في ماهية البشر استعدادات وميولاً، لاداء العلوم والصناعات التي هي في حكم فرض الكفاية لشريعة الخلقة (السنن الكونية) .
فمع وجود هذا الامر المعنوي لادائهما، اضعنا بسوء تصرفنا الشوق - الممد للميل، المنبعث من ذلك الاستعداد - واطفأنا جذوته بهذا الحرص الكاذب، وبهذه الرغبة في التفوق التي هي رأس الرياء! فلا شك ان جزاء العاصي جهنم. فعُذّبنا بجهنم الجهل. لاننا لم نتمثل اوامر الشريعة الفطرية التي هي قانون الخلقة.. وما ينجينا من هذا العذاب الاّ العمل على وفق قانون (تقسيم الاعمال). فقد دخل اسلافنا جنان العلوم بالعمل على وفق تقسيم الاعمال.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 44
خاتمة:
كما لا يكفي مجرد دخول غير المسلم المسجدَ لاعتناقه الاسلام، كذلك دخول مسألة من مسائل الفلسفة او الجغرافية اوالتاريخ وامثالها، في كتب التفسير او الفقه، لا يجعل تلك المسألة من التفسير او الشريعة قطعاً.
ثم ان حكم مفسّر او فقيه - بشرط التخصص - يعدّ حجة في التفسير فقط او في الفقه فحسب. والاّ فهو ليس بحجة في الامور التي دخلت خلسة في كتب التفسير او الفقه. لانه يمكن ان يكون دخيلاً في تلك الامور. ولا عتاب على الناقل. ومن كان حجة في علم وناقلاً في علوم اخرى، فاتخاذ قوله فيها حجة او التمسك بقوله فيها من قبيل الدعوى ما هو الاّ إعراض عن القانون الالهي المستند الى تقسيم المحاسن وتوزيع المساعي. ثم انه مسلّم منطقياً: ان الحكم يقتضي تصور "الموضوع" و "المحمول"_ بوجه ما فقط، اما سائر التفاصيل والشروح ليس من ذلك العلم، وانما من مسائل علم آخر.
ومن المقرر انه: لا يدل العام على الخاص بايٍ من الدلالات الثلاث الخاصة1. فمثلاً: ان اعظم مجافاة للمنطق النظرُ الى تأويل الاية الكريمة
(بين الصدفين) (الكهف: 96) في تفسير البيضاوي، نظرة جازمة انه: بين جبال أرمينيا واذربيجان. اذ هو اساساً ناقل. فضلاً عن ان تعيينه ليس مدلول القرآن، فلا يعدّ من التفسير. لان ذلك التأويل تشريحٌ مستند الى علم آخر لقيد واحد من قيود الاية الكريمة.
وكذلك ظلم واجحاف بحق ذلك المفسر الجليل وبرسوخ قدمه في العلم في تفسيره المذكور اتخاذ امثال هذه النقاط الضعيفة فيه ذريعة لبث الشبهات حوله. فحقائق التفسير الاصلية والشريعة واضحة جلية، وهي تتلألأ كالنجوم. فما الذي يدفع عاجزاً مثلي على الجرأة غير ما في تلك الحقائق من وضوح وقوة. فادّعي واقول:
_____________________
1 وهي دلالة المطابقة والتضمن والالتزام، لأن اللفظ الدال بالوضع يدل على تمام ما وضع له بالمطابقة، وعلى جزئه بالتضمن ، وعلى ما يلزمه في الذهن بالالتزام؛ كالانسان، فانه يدل على تمام الحيوان الناطق بالمطابقة، وعلى جزئه بالتضمن، وعلى قابل العلم بالالتزام (التعريفات) - المترجم



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 45
اذا دقق النظر في كل حقيقة من الحقائق الاساسية في التفسير والفقه، يشاهد: انها نابعة من الحقيقة، موزونة بميزان الحكمة، وتمضى الى الحق وهي حقٌ. فالشبهات الواردة - مهما كانت - ناشئة من اذهان مهذار ثم اختلطت بتلك الحقائق. فمن كانت لديه شبهة حول حقائق التفسير الاصلية، فهذا ميدان التحدي، فليبرز الى الميدان.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 46
المقدمة السابعة

المبالغة تشوش الامور وتبلبلها، لان من سجايا البشر: مزج الخيال بالحقيقة، بميل الى الاستزادة في الكلام فيما إلتذ به، والرغبة في اطلاق الكلام جزافاً فيما يصف، والانجذاب الى المبالغة فيما يحكى. وبهذه السجية السيئة يكون الاحسان كالافساد، ومن حيث لا يعلم يتولد النقصان من حيث يزيد، وينجم الفساد من حيث يصلح، وينشأ الذم من حيث يمدح، ويتولد القبح من حيث يُحسن.. وذلك لإخلاله - من حيث لا يشعر - بالحسن الناشئ من الانسجام والموازنة (في المقاصد).
فكما ان الاستزادة من دواء شاف قلبٌ له الى داء، كذلك المبالغون في الترغيب والترهيب، المستغني عنهما الحق، كجعل الغيبة كالقتل او اظهار التبول وقوفاً بدرجة الزنا او التصدق بدرهم مكافئ لحجّة... وامثالها من الكلمات غير الموزونة التي يطلقها المبالغون انما يستخفون بالزنا والقتل ويهوّنون شأن الحج.
فبناءً على هذا: لا بد ان يكون الواعظ حكيماً، وذا دراية بالمحاكمات العقلية.
نعم! ان الوعاظ الذين لا يملكون موازين، ويطلقون كلامهم جزافاً، قد سببوا حجب كثير من حقائق الدين النيّرة. فمثلاً: الزيادة التي زيدت في معجزة انشقاق القمر الباهرة بالمبالغة في الكلام، وهي ان القمر قد نزل من السماء ودخل تحت أبط الرسول صلى الله عليه وسلم ثم رجع الى السماء. هذه الزيادة، جعلت تلك المعجزة الباهرة كالشمس، مخفيةً كنجم السهى، وجعلت ذلك البرهان للنبوة الذي هو كالقمر، مخسوفاً، وفتحت ابواب حجج تافهة للمنكرين.
حاصل الكلام:
يجب على كل محبّ للدين وعاشق للحقيقة: الاطمئنان بقيمة كل شئ وعدم اطلاق الكلام جزافاً وعدم التجاوز. اذ المبالغة افتراء على القدرة الالهية. وهي فقدان


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 47
الثقة بالكمال والحسن في العالم واستخفاف بهما واللذين ألجآ الامام الغزالي الى القول: "ليس في الامكان أبدع مما كان".
أيها السيد المخاطب! قد يؤدي التمثيل أيضاً ما يؤديه البرهان من عمل. فكما ان لكل من الالماس والذهب والفضة والرصاص والحديد قيمتها الخاصة، وخاصيتها الخاصة بها، وهذه الخواص تختلف، والقيم تتفاوت. كذلك مقاصد الدين تتفاوت من حيث القيمة والادلة. فان كان وضع أحدها الخيال، فموضع الآخر الوجدان والآخر في سر الاسرار. ان من أعطى جوهرة أو ليرة ذهبية في موضع فلس او عشر بارات، يحجر عليه لسفهه، ويمنع من التصرف في أمواله. واذا انعكست القضية فلا يسمع الاّ كلمات الاستهزاء والاستخفاف، اذ بدلاً من ان يكون تاجراً صار محتالاً يسخر منه. كذلك الامر في من لا يميز الحقائق الدينية ولايعطي لكل منها ما يستحقه من حق واعتبار، ولا يعرف سكة الشريعة وعلامتها في كل حكم. كل حكم شبيه بجزء ترس يدور على محوره لمعمل عظيم. فالذين لا يميزون يعرقلون تلك الحركة. مثلهم في هذا كمثل جاهل شاهد ترساً صغيراً لطيفاً في ماكنة جسيمة، وحاول الاصلاح وتغيير ذلك الوضع المتناسق. ولكن لعدم رؤيته الانسجام الحاصل بين حركة الترس الصغير والماكنة الكبيرة وجهله بعلم المكائن، فضلاً عن غرور النفس الذي يغريه ويخدعه بنظره السطحي؛ تراه يخلّ بنظام المعمل من حيث لا يشعر ويكون وبالاً على نفسه.
زبدة الكلام:
ان الشارع سبحانه وتعالى قد وضع سكته وختمه المعتمد على كل حكم من احكام الشرع. ولابد من قراءة تلك السكة والختم. فذلك الحكم مستغن عن كل شئ سوى قيمته وسكته. فهو في غنىً عن تزيين وتصرف الذين يلهثون وراء المبالغين والمغالين والمنمقين للّفظ. وليعلم هؤلاء الذين يطلقون الكلام جزافاً، كم يكونون ممقوتين في نظر الحقيقة في نصحهم الآخرين. فمثلاً: لم يكتف احدهم بالزجر الشرعي لتنفير الناس عن المسكرات فقال كلاماً امام جمع غفير من الناس اخجل من كتابته، وقد شطبته بعد كتابته.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 48
فيا هذا! انك بكلامك هذا تعادي الشريعة! وحتى ان كنت صديقاً فلا تكون الاّ صديقاً أحمق، واضرّ على الدين من عدوه.
خاتمة:
ايها الظالمون الذين يحاولون جرح الاسلام ونقده من بعيد، من الخارج. زنوا الامور بالمحاكمة العقلية. ولاتنخدعوا ولاتكتفوا بالنظر السطحي. فهؤلاء الذين أصبحوا سبباً لاعذاركم الواهية - في نقد الاسلام - يسمّون بلسان الشريعة "علماء السوء". فانظروا الى ما وراء الحجاب الذي ولّده عدم موازنتهم الامور، وتعلقهم الشديد بالظاهر، سترون: ان كل حقيقة من حقائق الاسلام برهان نيّر كالنجم الساطع، يتلألأ عليه نقش الازل والابد.
نعم، ان الذي نزل من الكلام الازلي يمضي الى الابد والخلود. ولكن - يا للاسف - يلقي احدهم ذنوبه على الاخرين ليبرئ نفسه، وما ذلك الاّ من حبه لها وانحيازه اليها ومن عجزه وانانيته وغروره. وهكذا يسند كلامه الذي يحتمل الخطأ او فعله القابل للخطأ الى شخص معروف، او الى كتاب موثوق، بل حتى احياناً الى الدين، وغالباً الى الحديث الشريف، وفي نهاية المطاف الى القدر الالهي. وما يريد بهذا الا تبرئة نفسه.
حاشلله ثم حاشَ لله. فلا يرد الظلامُ من النور. وحتى لو ستر النجوم المشاهدة في مرآته لا يستطيع ستر نجوم السماء. بل هو العاجز عن الرؤية والابصار.
أيها السيد المعترض! انه ظلم فاضح جعل الشبهات الناشئة من سوء فهم الاسلام والاحوال المضطربة الناشئة من مخالفة الشريعة، ذريعة لتلويث الاسلام. وما هذا الاّ كالعدو الذي يتذرع لأي سبب كان للانتقام والثأر. او مثل الطفل الذي يروم البكاء لأتفه سبب. اذ ان كل صفة من صفات المسلم لا يلزم ان تكون ناشئة من الاسلام.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 49
المقدمة الثامنة
تمهيد:
لا تمل من هذه المقدمة الطويلة الآتية، لأن ختامها في منتهى الاهمية، فضلاً عن انها تزيل اليأس المبيد لكل كمال. وتبعث الحياة في الامل، الذي هو جوهر كل سعادة وخميرتها.. وتبشر بان المستقبل سيكون لنا والماضي لغيرنا.. رضينا بالقسمة وها هو ذا موضوعها:
عقد موازنة بين ابناء الماضي والمستقبل، فالمدارس العليا لا تقرأ فيها الألفباء، ومهما عظمت ماهية العلم فان صورة تدريسها غير ماهيتها 1.
نعم! ان الماضي مدرسة الاحاسيس والمشاعر المادية، بينما المستقبل هو مدرسة الافكار. فهما ليسا على طراز واحد.
واقصد من ابناء الماضي اولاً : القرون الاولى والوسطى لما قبل القرن العاشر لغير المسلمين. اما الامة الاسلامية فهي خير امة في القرون الثلاث الاولى، وامة فاضلة عامة الى القرن الخامس، وما بعده حتى القرن الثاني عشر اعبّر عنه بالماضي. اما المستقبل فاعدّه مابعد القرن الثاني عشر.
وبعد هذا فمن المعلوم ان الغالب على تدبير شؤون الانسان. إما العقل او البصر، وبتعبير اخر: إما الافكار او الاحاسيس المادية. او: إما الحق او القوة. أو: إما الحكمة أو الحكومة. أو: إما الميول القلبية أو التمايلات العقلية. او: اما الهوى او الهدى.
وعلى هذا نشاهد ان: اخلاق ابناء الماضي الحاملة شيئاً من الصفاء، واحاسيسهم الخالصة الى درجة، قد استخدمت افكارهم غير المنورة وسيطرت عليها، فبرزت الشخصيات وسادت الاختلافات. بينما افكار ابناء المستقبل المنورة - الى حد - قد تغلبت على احاسيسهم المظلمة بالهوى والشهوة وسخرتها لأمرها، فتحققت: ان السيادة تكون للحقوق العامة. فتجلت الانسانية الى حد ما. وهذا يبشر بان الاسلام
_____________________
1 لعل المقصود ان طريقة تقديم العلم تختلف بأختلاف الازمان، فما يتعلمه المبتدئون غير ما يتعلمه الواصلون الى المراحل العليا، وما عرفه ابناء الماضي غير ما ينبغي ان يعرفه ابناء الحاضر والمستقبل. المترجم.



عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس