عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #6
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الحادي عشر


الشعاع الحادي عشر - ص: 290
قسم من اولئك المحققين واهل الشهود والكشف، ويرى آخرون ألسنة لهيبها وظلمة سوادها، ويسمع بعضهم أزيز تضرمها وفورانها فيصرخون من هولها "اجرنا من النار".
نعم ! ان تقابل الخير والشر في هذا الكون، واللذة والألم، والنور والظلام، والحرارة والبرودة، والجمال والقبح، والهداية والضلالة، وتداخل بعضها ببعض، انما هي لحكمة كبرى، لأنه ما لم يكن هناك الشر فلا يفهم الخير، وما لم يكن هناك الالم فلا تُعرف اللذة، والضياء من دون ظلام ازاءه لايبين جماله، ودرجات الحرارة تتحقق بوجود البرودة، وتصبح حقيقة واحدة من الجمال ألفاً من الحقائق بوجود القبح، بل يكتسب آلافا من انواع الجمال ومراتب الحسن. ويختفي الكثير من لذائذ الجنة بعدم وجود جهنم. فقياسا على هذا يمكن ان يعرف كل شئ من جهة بضده، وبوجود الضد يمكن ان تثمر حقيقة واحدة حقائق عدة.
فما دامت هذه الموجودات المختلطة تسيل سيلا من دار الفناء الى دار البقاء. فلابد ان الخير واللذة والنور والجمال والايمان وامثالها تسيل الى الجنة، ويتساقط الشر والالم والظلام والقبح والكفر وامثالها من الامور المضرة الى جهنم. فتسيل سيول هذه الكائنات المتلاطمة دائما الى ذينك الحوضين وتهدأ ساكنة عندهما نهاية المطاف.
نكتفي بهذا القدر ونحيل الى ما جاء في نهاية (الكلمة التاسعة والعشرين) من نكات رمزية.
* * *
يازملاء الدراسة في هذه المدرسة اليوسفية!
ان السبيل اليسيرة للنجاة من السجن الابدي المرعب (جهنم) انما هي في اغتنامنا فرصة بقائنا في السجن الدنيوي، هذا الذي قصّر أيدينا عن كثير من الآثام فأنقذنا منها. فما علينا اذن الا الاستغفار والتوبة عما اقترفناه من ذنوب سابقة، مع أداء للفرائض، كي نحول كل ساعة من ساعات هذا السجن بحكم يوم من العبادة فهي اذن أفضل فرصة لنا للنجاة من السجن الابدي ولدخولنا الجنة النورانية. فلئن فاتتنا هذه الفرصة فسنغرق آخرتنا بالعبرات كما هي حال دنيانا، ويحق علينا قوله تعالى: (خَسرَ الدنيا والآخرة) (الحج :11).
الشعاع الحادي عشر - ص: 291
كانت اصوات تكبيرة عيد الاضحى المبارك تتعالى حينما كان هذا البحث يُكتب، فذهب بي الخيال الى أن خُمس البشرية يرددون (الله اكبر)، وأن أكثر من ثلاثمائة مليون مسلم يرددونه معا، فكأن صوت (الله اكبر) يتعالى بكبر كرة الارض وبسعتها فتُسمع الارضُ أخواتها الكواكب السيارة هذه الكلمة المقدسة في ارجاء السماوات. وهناك اكثر من عشرين ألفا من الحجاج في عرفة والعيد يرددون معا صدى ما قاله الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم قبل الف وثلاثمائة سنة مع الآل والاصحاب الكرام وأمر به. فأحسست إحساسا كاملا، بل اقتنعت قناعة تامة أن تلك الاصداء والاصوات والترديدات انما هي عبودية واسعة كلية تقابل تجلي الربوبية الإلهية الكلية بعظمة "رب الارض" "رب العالمين".
ثم سألت نفسي: تُرى ما وجه العلاقة بين الآخرة وهذه الكلمة المقدسة (الله اكبر)؟ فتذكرت فوراً أن هذه الكلمة مع الكلمات الطيبات الباقيات الصالحات (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله) وأمثالها من كلمات شعائر الاسلام تذكّر - بلا شك - بالآخرة سواء بصورة جزئية او كلية وتشير الى تحققها.
ان أحد اوجه معاني (الله اكبر) هو: ان قدرة الله وعلمه هي فوق كل شئ واكبر واعظم من كل شئ، فلن يخرج اي شئ كان من دائرة علمه، ولن يهرب من تصرفه وقدرته، ولن يفلت منها قطعا، فهو سبحانه اكبر من كل كبير نخافه ونستعظمه. أي اكبر من ايجاد الحشر - الذي نستهوله - واكبر من انقاذنا من العدم، واكبر من منحنا السعادة الابدية. فهو اكبر من اي شئ نعجب به ومن اي شئ خارج نطاق عقلنا اذ يقول سبحانه: (ما خَلقُكم ولا بعثُكم إلاّ كَنَفسٍ واحدة) (لقمان: 28). فصراحة هذه الآية الكريمة تبين ان حشر البشرية ونشرهم جميعا سهل وهيّن على القدرة الإلهية كايجاد نفس واحدة، فلاعجب ان يجري مجرى الامثال قول الانسان: (الله اكبر، الله اكبر) كلما رأى شيئا عظيما، او مصيبة كبرى، او غاية عظمى، مسلياً بها نفسه جاعلاً من هذه الكلمة العظيمة قوة عظيمة يستند اليها. نعم! ان هذه الكلمة مع قرينتها (سبحان الله والحمد لله) فهرس جميع العبادات وبذور الصلاة وخلاصتها (كما جاءت في الكلمة التاسعة) فتكرار هذه الكلمات وهي حقائق عظمى ثلاث في الصلاة وفي أذكارها انما هو لتقوية معنى الصلاة وتعميقه وترسيخه. وهي اجابة قاطعة للاسئلة التي تنشأ من التعجب واللذة والهيبة التي تأخذ بأقطار نفس الانسان
الشعاع الحادي عشر - ص: 292
حينما يشاهد الكون ويرى مايثيره ويحيره ومايسوقه الى الشكران وما هو مدار العظمة والكبرياء من أمور عجيبة وجميلة وعظيمة ووفيرة وما هو فوق ما اعتاده.
نعم! ان الجندي يدخل الى حضرة السلطان وديوانه في العيد بمثل دخول القائد العام اليه، بينما في سائر الايام يعرف سلطانه من رتبة الضابط ومن مقامه - كما جاء في ختام الكلمة السادسة والعشرون - فكل شخص في الحج كذلك يبدأ بمعرفة مولاه الحق سبحانه وتعالى باسم ( رب الارض ورب العالمين ) معرفة أشبه مايكون بمعرفة الاولياء الصالحين. فكلما تفتحت مراتب الكبرياء والعظمة الإلهية في حنايا قلبه اجاب بـ(الله اكبر) لما تستولي على روحه من اسئلة مكررة ملحة محيرة، فـ(الله اكبر) هو الجواب القاطع لدابر أهم دسائس الشيطان، كما جاء في اللمعة الثالثة عشرة.
نعم ! فكما ان هذه الكلمة (الله اكبر) تجيب عن سؤالنا حول الاخرة اجابة قصيرة وقوية في ذات الوقت، فان جملة (الحمد لله) هي الاخرى تذكّر بالحشر وتستدعيه. اذ تقول لنا: "لايتم معناي دون الآخرة" لان معناي يفيد: (كل حمد او شكر يصدر من اي حامد ويقع على اي محمود كان، ابتداءً من الازل الى الابد، هو خاص به سبحانه) ولان السعادة الابدية هي اصل جميع النعم وذروتها، وهي التي تحيل النعم نعماً حقيقية لاتزول ولاتحول، وهي التي تنقذ جميع ذوي الشعور من مصائب العدم وتخلصهم منها، لذا فهي وحدها يمكن ان تقابل معناي الكلي.
نعم ان ترديد كل مؤمن يوميا عقب الصلاة بما يأمر به الشرع بأكثر من مائة وخمسين مرة (الحمد لله) في الاقل، والتي تفيد حمداً وثناء وشكراً واسعاً جداً ممتداً من الازل الى الابد انما هو ثمن يدفعه مقدماً لنيل السعادة الابدية في الجنة، اذ لايمكن ان يحصر معنى الحمد على نِعم الدنيا القصيرة الفانية المنغصة بالآلام ولايمكن ان يكون مقتصراً عليها. بل حتى لو تأملت في تلك النعم نفسها تراها ماهي إلاّ وسائل لنعم أبدية خالدة تستحق الشكر عليها.
اما كلمة (سبحان الله) فانها تعني: تنزيه الله سبحانه وتقديسه من كل شريك
الشعاع الحادي عشر - ص: 293
وتقصير ونقص وظلم وعجز وقسوة وحاجة وحيلة، وكل مايخالف كماله وجماله وجلاله. وهذا المعنى يذكّر بالسعادة الابدية ويدل على الآخرة التي هي محور عظمته سبحانه وجلاله وكماله. ويشير ايضاً الى ما في تلك الدار من جنة نعيم ويدل عليها. والا فلو لم تكن هناك سعادة ابدية فان اصابع الاتهام تتوجه الى عظمته سبحانه وكماله وجلاله وجماله ورحمته فتشوبها بالتقصير والنقصان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
اي ان الآخرة لاريب فيها، اذ هي مقتضى سلطان الله وكماله وجلاله وجماله ورحمته سبحانه.
وهكذا فان هذه الكلمات المقدسة الثلاث مع (بسم الله) و (لا اله الاّ الله) وسائر الكلمات المباركة، كل منها بذرة من بذور الاركان الايمانية، وكل منها خلاصة لحقائق الاركان الايمانية والحقائق القرآنية.
وكما ان هذه الكلمات الثلاث هي نوى الصلاة وبذورها فهي نوى القرآن الكريم ايضا، كما تشاهد في بدء بعض السور الباهرة حيث تستفتح وكأنها جوهرة لامعة في مستهلها، وهي كنوز حقيقية واسس متينة لأجزاء من رسائل النور التي تستهل بسوانح التسبيحات، وهي ايضا اوراد الطريقة المحمدية تُذكر عقب الصلاة ضمن دائرة واسعة جدا للولاية الاحمدية والعبودية المحمدية، بحيث ان هناك عند كل صلاة اكثر من مائة مليون مؤمن في تلك الحلقة الكبرى للذكر يرددون معا ثلاثاً وثلاثين مرة "سبحان الله" و ثلاثاً وثلاثين مرة "الحمد لله" و ثلاثاً وثلاثين مرة "الله اكبر". فلابد أنك تدرك مدى اهمية قراءة تلك الكلمات المباركات الثلاث التي هي بذور القرآن والايمان والصلاة وخلاصتها، ومدى ثواب ترديدها بـثلاثٍ وثلاثين مرة عقب الصلاة ضمن تلك الحلقة الواسعة.
وهكذا فكما ان المسألة الاولى من هذه الرسالة كانت درسا قيما في الصلاة، فان اخر الرسالة هذه اصبح - دون اختياري - درساً مهماً حول اذكار الصلاة! والحمد لله على نعمائه.
(سُبحَانَكَ لا عِلمَ لَنا إلاّ ما عَلّمتَنا إنكَ اَنتَ العَليمُ الحَكيمُ).
* * *
الشعاع الحادي عشر - ص: 294
المسـألة التاسـعة
بسم الله الرحمن الرحيم
(آمَنَ الرَسولُ بمَا اُنزِلَ إليه من رَبّه والمؤمنون كلٌ آمنَ بالله ومَلائكتِهِ وكُتُبِه ورُسُلهِ لانُفَرّقُ بَينَ أحدٍ من رُسُلهِ...) (البقرة: 285)
ان السبب الذي ادى الى ايضاح هذه الآية الجامعة السامية العظيمة ودعا الى بيانها؛ هو حالة خاصة معينة نتجت عن سؤال معنوي مثير. وعن انكشاف نعمة آلهية عظيمة، كالآتي:
فقد ورد الى الروح هذا السؤال: لِمَ يُعتبر كافراً من يُنكرُ جزءاً من حقيقة ايمانية، ولايُعد مسلما مَن لم يقبلها، مع ان نور الايمان بالله واليوم الآخر كالشمس يبدد كل ظلام ؟
ثم، لِمَ يصبح مرتدا مَن ينكر حقيقة او ركناً ايمانياً ويرديه الى الكفر المطلق، ومَن لم يقبلها يخرج من دائرة الاسلام. بينما ينبغي أن ينقذه ايمانه بالاركان الاخرى - ان وجد - من ذلك الكفر المطلق ؟
الجواب:
ان الايمان حقيقة واحدة نابعة من ستة اركان متحدة وموحدة لاتقبل التفريق، وهو كليّ لايتحمل التجزأة، وهو كلٌ لاتقبل اركانه الانقسام، ذلك لان كل ركن من تلك الاركان الايمانية - مع حججها التي تثبته - يثبت بقية الاركان، فيصبح كل ركن حجة قاطعة عظمى لكل من الاركان الاخرى. لذا فالذي لايتمكن من جرح جميع الاركان مع جميع أدلتها يعجز كليا - من وجهة الحقيقة - نفي ركن واحد منها؛ وتفنيد حقيقة واحدة من حقائقها، الا ان يغمض المنكر عينيه ويتشبث بعدم القبول او الرفض، فيدخل عندئذ الكفر العنادي، ويسوقه ذلك بمرور الزمن الى الكفر المطلق، فتنعدم انسانيته ويولى الى جحيم مادي فضلا عمّا هو فيه من جحيم معنوي.
الشعاع الحادي عشر - ص: 295
وكما قد بينا باقتضاب في مسائل "الثمرة" دلالة الاركان الايمانية على الحشر كذلك سنبين هنا باشارات مختصرة جدا ومجملة المغزى العميق العظيم لهذه الاية معتمدين على عنايته سبحانه. وذلك في ست نقاط:
النقطة الاولى:
ان (الايمان بالله) بحججه القاطعة يثبت (الايمان بالآخرة) مع اثباته سائر الاركان الايمانية الاخرى. كما وضح في "المسألة السابعة".
نعم؛ ان سلطنة الربوبية وقدرتها الازلية وقوتها الباقية وغناها المطلق وحاكمية الالوهية الابدية الدائمة التي تدير هذا الكون غير المحدود - مع جميع لوازمه وضرورياته - كادارة قصر او مدينة.. والتي تصرف جميع شؤونه ضمن نظام وميزان، وتغيره على وفق حكم كثيرة.. والتي تدير الذرات والكواكب،وتجهز الذباب والنجوم معا كالجنود المطيعين للجيش المنسق.. والتي تسوق الجميع - ضمن ارادتها وأمرها - الى استعراض هائل عام للعبودية الخالصة، من خلال مناورة سامية وابتلاء واختبار وتدريب على الوظائف وتعليم لها، بفعالية ونشاط دائم وسير وجولان مستمر.. هل يمكن، ام هل يعقل، لا بل هل هناك اي احتمال قط في الاّ يكون هناك مقر باق، ومملكة دائمة، وظهور خالد وتجل سرمدي في دار أبدية لمثل هذه السلطنة الابدية ولمثل هذه الحاكمية الباقية الدائمة؟ حاشا وكلا.. والف مرة كلا.
فسلطنة ربوبية الله جل وعلا وعظمتها اذاً، واغلب اسماء الله الحسنى -كما جاء في المسألة السابعة - وجميع دلائل وحجج وجوب وجوده سبحانه وتعالى، تشهد جميعا وتدل على (الآخرة) وتقتضيها.
فما اعظم مرتكز هذا الركن الايماني العظيم، وما أمتن نقطة استناده ! ألا فادرك ذلك، وصدق به كأنك تراه.
* * *
ثم ان (الايمان بالله) كما لايمكن ان يكون دون (الايمان بالآخرة) كذلك لايمكن ولايعقل، ان يكون (الايمان بالله) دون (الايمان بالرسل) - مثلما ذكر ملخصاً في رسالة الحشر - وذلك:
الشعاع الحادي عشر - ص: 296
ان الله تعالى الذي خلق هذا الكون اظهاراً لالوهيته ومعبوديته، على هيئة كتاب صمداني مجسم بحيث تعبّر كل صحيفة من صحائفه عن معاني كتاب، ويُظهر كل سطر من اسطره معنى صحيفة.. وخَلقه على شكل قرآن سبحاني مجسم بحيث ان كل آية من آياته التكوينية، وكل كلمة من كلماته، بل حتى كل حرف منه وكل نقطة بمثابة معجزة تقدسه وتسبحه.. وخلقه على صورة مسجد رحماني مهيب وزيّنه بما لايحد من الآيات والنقوش الحكيمة، بحيث أن في كل زاوية من زواياه طائفة منهمكة بنوع من العبادة الفطرية لخالقهم الرحمن..
فهل يمكن الاّ يرسل هذا الخالق المعبود الحق اساتذة ليدرسّوا معاني مافي ذلك الكتاب الكبير ويعلموا مافيه؟.. أم هل يمكن الاّ يبعث مفسرين ليفسروا آيات ذلك القرآن المجسم الصمداني؟.. أم هل يمكن الاّ يعيّن ائمة لذلك المسجد الاكبر ليؤموا الذين يعبدونه بانماط واشكال مختلفة من العبادات؟.. أم هل يمكن الاّ يزود اولئك الاساتذة والمفسرين والائمة بالاوامر السلطانية؟ حاش لله وكلا.. وألف مرة كلا.!
ثم ان الخالق الرحيم الكريم الذي خلق هذا الكون اظهاراً لجمال رحمته على ذوي الشعور وحسن رأفته بهم وكمال ربوبيته لهم وليحثهم على الشكر والحمد، قد خلقه على هيئة دار ضيافة فخمة، ومعرض رائع واسع، ومتنزه جميل بديع. وأعد فيه ما لا يحد من النعم اللذيذة المتنوعة المختلفة، ونظم فيه ما لايعد من خوارق الصنعة وبدائعها الرائعة..
فهل يمكن الاّ يتكلم هذا الخالق الرحيم الكريم - بواسطة رسله - مع ذوي الشعور من مخلوقاته في دار ضيافته الفاخرة هذه.. أم هل يعقل الاّ يعلمهم وظائف شكرهم وكيفية امتنانهم تجاه تلك النعم الجسيمة، ومهام عبوديتهم تجاه رحمته السابغة وتودده الظاهر؟! كلا.. ثم ألف ألف مرة كلا.!
ثم ان الخالق الذي يحب خلقه وصنعته، ويريد جلب الاعجاب والتقدير اليه، بل يطلب استحسانه وإكباره، بدلالة ايداعه الإحساس بآلاف الانواع من الاذواق في الافواه، فيعرّف نفسه سبحانه بكل مخلوق من مخلوقاته ويظهر به نوعاً من جماله المعنوي ويجعله موضع حب مخلوقاته، فزيّن هذا الكون ببدائع صنائعه ومخلوقاته.
الشعاع الحادي عشر - ص: 297
فهل يعقل الاّ يتكلم هذا الخالق البديع مع أفاضل الانسان الذي هو سيد المخلوقات؟.. وهل يمكن ألاّ يبعث من اولئك الافاضل رسلا، فتظل تلك الصنائع الجميلة دون تقدير، ويظل جمال تلك الاسماء الحسنى الخارقة دون استحسان ولا اعجاب، ويظل تعريفه وتحبيبه دون مقابل ؟! حاش لله وكلا.. ثم ألف مرة كلا.!
ثم ان المتكلم العليم الذي يستجيب - في الوقت المناسب - لدعوات جميع ذوي الحياة، ملبيا حاجاتها الفطرية، ومغيثا تضرعاتها ورغباتها المرفوعة اليه بلسان الحال، فيتكلم صراحة فعلاً وحالاً بإحساناته غير النهائية لهم وانعاماته غير المحدودة عليهم، مُظهراً القصد والاختيار والارادة. فهل يمكن وهل يعقل ان يتكلم هذا المتكلم العليم مع أصغر كائن حي فعلاً وحالاً ويسعف داءه، ويغيثه باحسانه، ويسد حاجاته، ثم لايقابل الرؤساء المعنويين للانسان الذي هو سيد اغلب المخلوقات الارضية، وهو خليفة الله في ارضه، وهو النتيجة المستخلصة من الكائنات؟.. ام هل يعقل ألاّ يتكلم معهم قولا وكلاما مثلما يتكلم مع كل ذي حياة فعلا وحالا؟.. ام هل يمكن الاّ يرسل معهم اوامره، وصحفه وكتبه المقدسة؟ حاشا لله.. ثم ألف مرة كلا.!
وهكذا يثبت "الايمان بالله" مع حججه القاطعة الثابتة الايمان (بكتبه) المقدسة (وبرسله) الكرام عليهم السلام.
* * *
ثم ان الذي جعل الكون يدوي بحقيقة القرآن ويترنم بها، والذي عرف وعرّف باكمل وجه ذلك الخالق البديع فأحبه وحببه، وأدى شكره له ودلّ الآخرين على القيام بشكره، بل جعل الارض تردد "سبحان الله والحمد لله والله اكبر" حتى اسمعت السموات العلى.. والذي قابل الربوبية الظاهرة للخالق بعبودية واسعة كلية، فقاد خمس البشرية كمية ونصفها نوعية خلال ألف وثلاثمائة سنة قيادة اهاج بها البر والبحر وملأهما شوقا ووجدا.. والذي هتف بالقرآن الكريم في اذن الكون وعلى مدى جميع العصور ازاء المقاصد الالهية، فألقى درسا عظيما، ودعاً بدعوة كريمة، مظهراً وظيفة الانسان وقيمته، ومبيناً مرتبته ومنزلته.. ذلك هو محمد الامين صلى الله عليه وسلم الصادق المصدق بألف معجزة ومعجزة.
الشعاع الحادي عشر - ص: 298
فهل يمكن ألا يكون هذا العبد العزيز المصطفى المختار اكرم رسول لذلك المعبود الحق؟.. وهل يمكن الاّ يكون أعظم نبي له ؟ حاشا وكلا.. ألف ألف مرة كلا.!
فحقيقة (اشهد ان لا إله إلا الله) مع حججها اذاً تثبت حقيقة (اشهد أن محمداً رسول الله).
* * *
ثم ان الخالق الذي جعل مخلوقاته يتبادلون الكلام بمئات الآلاف من الالسنة واللغات وهو الذي يسمع كلام الجميع ويعرفه، فهل يمكن ألاّ يتكلم هو ؟.. كلا ثم كلا ! ثم هل يعقل الاّ يعلّم مقاصده الإلهية بكتاب عظيم كالقرآن الكريم الذي يجيب عن ثلاثة اسئلة تحار العقول امامها: من اين تأتي هذه المخلوقات ؟ والى اين المصير ؟ ولماذا تتعاقب ثم لاتلبث أن تغيب ؟... كلا.
فالقرآن الكريم الذي نوّر ثلاثة عشر قرنا واضاءها..والذي يتناقله في كل ساعة مائة مليون لسان بكل اجلال وتوقير.. والذي سُطر في صدور ملايين الحفاظ بكل سمو وقداسة.. والذي أدار بقوانينه القسم الاعظم من البشرية، وربّى نفوسهم وزكّى ارواحهم، وصفى قلوبهم وأرشد عقولهم.. والذي هو معجزة خالدة كما اثبتنا اعجازه بأربعين وجها في رسائل النور، فوضح ان له اعجازاً لكل طبقة من الطبقات الاربعين للناس (كما جاء في المكتوب التاسع عشر ذات الكرامة الخارقة).. هذا القرآن العظيم استحق بحق ان يطلق عليه "كلام الله" فاصبح محمد صلى الله عليه وسلم مع آلاف من معجزاته معجزة باهرة له.
فهل يمكن ألاّ يكون هذا القرآن الكريم كلام ذلك المتكلم الازلي سبحانه ؟ وهل يمكن ألاّ يكون اوامر ذلك الخالق السرمدي جل وعلا ؟ حاش لله وكلا ألف ألف مرة كلا !
فـ"الايمان بالله" مع جميع حججه اذاً يثبت ان القرآن الكريم كلام الله عز وجل.
* * *
الشعاع الحادي عشر - ص: 299
ثم ان السلطان ذا الجلال الذي يملأ سطح الارض بذوي الحياة باستمرار ويفرغه، معمراً دنيانا بذوي الشعور لاجل معرفته سبحانه وعبادته وتسبيحه.
هل يمكن لهذا السلطان ذي الجلال ان يترك السموات والنجوم خالية فارغة، ولايعمر تلك القصور السماوية بأهالي وسكنة تناسبها؟..
وهل يمكن ان يترك (هذا السلطان العظيم) سلطنة ربوبيته في اوسع ممالكه بلا هيبة وعظمة، وبلا موظفين مأمورين، وبلا سفراء رسل، وبلا ناظرين مشرفين، وبلا مشاهدين معجبين، وبلا عباد مكرمين، وبلا رعايا مطيعين ؟ حاش لله وكلا.. بعدد الملائكة.
ثم ان الحاكم الحكيم والعليم الرحيم الذي كتب هذا الكون بشكل كتاب، حتى سجل تاريخ حياة كل شجرة في كل بذر من بذورها، ودوّن وظائف حياة كل عشب ومهام كل زهر في جميع نواها. وكتّب جميع حوادث الحياة لكل ذي شعور في قواه الحافظة الصغيرة كحبة الخردل. واحتفظ بكل عمل في ملكه كافة وبكل حادثة في دوائر سلطنته بالتقاط صورها المتعددة، والذي خلق الجنة والنار والصراط والميزان الاكبر لاجل تجليات وتحقق العدالة والحكمة والرحمة التي هي اهم اساس للربوبية..
فهل يمكن لهذا الحاكم الحكيم ولهذا العليم الرحيم الاّ يسجل اعمال الانسان التي تتعلق بالكائنات؟..
وهل يمكن الاّ يدون افعاله للثواب والعقاب ولايكتب سيئاته وحسناته في الواح القدر ؟! حاش لله وكلا بعدد حروف ما كتب في اللوح المحفوظ للقدر.
اي ان حقيقة "الايمان بالله" مع حججها تثبت حقيقة "الايمان بالملائكة" كما تثبت حقيقة "الايمان بالقدر" ايضا اثباتا قاطعا. كالشمس التي تظهر النهار والنهار الذي يدل على الشمس.
وهكذا فالاركان الايمانية يثبت بعضها البعض الآخر.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس