عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الملاحق - ملحق اميرداغ الاول

الملاحق - ملحق أميرداغ/1، ص: 250
ثانياً:
لقد منعوني لقاء الناس منذ عشرين سنة حتى انهم اوعزوا الى المسؤولين بعدم تقرب احد مني - منذ اربعة اشهر - فضلاً عن اني اعيش منذ خمس و عشرين سنة منزوياً ومعتكفاً. لهذا لا اجد الراحة والطمأنينة في الاماكن المزدحمة، فلا استطيع اداء الصلاة خلف كل إمام حسب مذهبي، إذ لا ألحق بالقراءة خلفه، فهو يسرع للركوع وانا لم اكمل بعدُ نصف الفاتحة، علماً ان قراءة الفاتحة فرض في هذا المذهب.
أما مسألة اطلاق اللحية:
ان اطلاق اللحية سنة نبوية، وليست خاصة بالعلماء. وقد نشأتُ منذ صغري عديم اللحية وعشتُ في وسط اناس تسعين بالمئة منهم لا يطلقون لحاهم.
هذا وأن الاعداء يغيرون علينا دائماً وقد حلقوا لحى بعض احبابي فأدركتُ عندها حكمة عدم اطلاقي اللحية، وانه عناية ربانية، اذ لو كنت مطلقاً اللحية وحلقتْ، لكانت رسائل النور تتضرر ضرراً بالغاً، حيث كنت لا اتحمل ذلك فأموت.
ولقد قال بعض العلماء: لا يجوز حلق اللحية. وهم يقصدون عدم حلقها بعد اطلاقها، لأن حلقها بعد اطلاقها حرام. اما اذا لم يطقلها فيكون تاركاً لسنة نبوية.
ولكن في الوقت الحاضر لأجل اجتناب كبائر عظيمة جداً قضينا طوال عشرين سنة حياة أليمة اشبه بالسجن الانفرادي، نسأله تعالى ان تكون كفارة لترك تلك السنة النبوية.
واعلن هذا ايضاً اعلاناً صريحاً قاطعاً:
ان رسائل النور ملك القرآن العظيم، فانّى لي الجراة ان ادّعي تملكها! لذا لا تسري أخطائي وتقصيراتي فيها قطعاً، فانا لست الاّ خادماً مذنباً لذلك النور الباهر،ودلالاً داعياً في متجر المجوهرات والالماس. فأحوالي المضطربة لا تؤثر فيها ولا تمسها أصلاً.
وفي الحقيقة ان الدرس الذي لقنتنا اياه رسائل النور هو التمسك بحقيقة الاخلاص، وترك الانانية، ومعرفة النفس انها مقصرة دائماً، والحذر الشديد من الاعجاب بالنفس. فنحن لا نظهر انفسنا بل نظهر الشخصية المعنوية لـرسائل النور ونبينها.


الملاحق - ملحق أميرداغ/1، ص: 251
نحن نشكر من يرى نقائصنا ويريها لنا - بشرط ان تكون حقيقية - ونقول له: ليرضَ الله عنك. اذ كما نشكر من اذا وجد عقرباً في عنقنا ويرميها عنا قبل ان تؤذينا ونقدم له اجزل الشكر والامتنان، كذلك نقبل ونرضى بنقائصنا وتقصيراتنا ونظل في شكر وامتنان لمن نبهنا اليها، بشرط عدم تدخل الاغراض الشخصية والعناد وعدم جعله وسيلة لمعاونة اهل الضلالة والبدع..
***

[ ما تتطلبه خدمة الايمان ]
اخوتي الاعزاء الاوفياء والصامدين الثابتين المضحين الذين لايتزعزعون!
انتم تعلمون ان خبراء آنقرة لم يستطيعوا انكار الكرامات التي تخص رسائل النور والاشارات الغيبية اليها. الاّ انهم اعترضوا مخطئين لما ظنوا أن لي حظاً في تلك الكرامات. وقالوا: يجب الاّ تنشر مثل هذه الامور في الكتاب فالكرامات لا يُعلن عنها.
وتجاه هذا الانتقاد العابر قد قلت جواباً لهم في الدفاعات:
ان تلك الكرامات لا تعود لي، وليس من حدّي ان اكون صاحب تلك الكرامات، بل هي لرسائل النور التي هي ترشحات من المعجزة المعنوية للقرآن الكريم ولمعات منها وتفسير حقيقي له، متخذة شكل الكرامات، لأجل تقوية الروح المعنوية لطلاب النور، فهي من نوع الإكرامات الإلهية، واظهار الإكرام الإلهي شكر، وهو جائز ومقبول ايضاً...
والآن اوضح الجواب قليلاً بناء على سبب مهم؛ وقد ورد السؤال الآتي: "لمَ لم اُظهر تلك الإكرامات الإلهية، ولِمَ احشّد الكلام حولها، ولِمَ اُكثر البحث حولها، حتى ان اكثر المكاتيب متوجهة اليها؟".
الجواب : ان الخدمة الايمانية التي تقدمها رسائل النور في هذا الوقت تجابه بالوف المخربين، مما يلزم ان تكون في صفها مئات الالوف من المعمرين.. ويستدعي الامر ان يكون معي في الاقل مئات من المعاونين والكتاب.. وتقضي الضرورة على الامة


الملاحق - ملحق أميرداغ/1، ص: 252
والمسؤولين في البلاد ان يمدّوا يد المساعدة بتقدير واعجاب وحض منهم على الخدمة الايمانية ويثمنوا قيمتها ويوثقوا الصلة بها، وألاٍ يتحرزوا من التماس بها فينسحبوا من الميدان.. بل وتطلب هذه الخدمة من اهل الايمان ان يفضّلوها على مشاغل الحياة الفانية وفوائدها، اذ انها خدمة ايمانية خالصة تبغي النجاة في الآخرة.
فبينما الامور تقتضي هكذا، اجعل من نفسي مثالاً فأقول:
ان منعي عن كل شئ، وحظر الاتصال معي، وقطع طريق العون اليّ، زد على ذلك تهوين قوة زملائي المعنوية ببث الدعايات المغرضة بكل ما اوتوا من قوة واستعمال شتى الوسائل ما استطاعوا اليها سبيلاً لتنفيرهم عنّي وعن رسائل النور. اقول: في مثل هذه الظروف وضمن هذه الشروط فان وضع مهمة ترزخ تحتها الوف الاشخاص، على كاهل شخص عاجز مثلي، وانا الضعيف المريض العجوز الغريب عن بلاده، والمحروم من الاهل والاقارب. فضلاً عن تجنيب الناس عن الاتصال معي وكأنني مصاب بمرض معدٍ، حتى اضطر الى الابتعاد وعدم الاختلاط.. زد على ذلك إلقاء الرعب والاوهام في قلوب الناس واحاطتهم بهالة من الذعر والخوف لإبعادهم عن خدمة الايمان، وذلك للفتّ من القوة المعنوية.. ففي مثل هذه الاحوال وتجاه جميع تلك الموانع فان الامر يقتضي حشد قوى معنوية حول رسائل النور ببيان الاكرامات الإلهية التي هي مدار القوة المعنوية لطلاب النور، وإظهار قوتها بقوة جيش عظيم لاتحتاج الى امداد أحد من الناس، بل هي التي تتحدى الاعداء.. فلأجل هذه الحكم المذكورة آنفاً كُتّبت الإكرامات وامثالها.
والاّ فنحن لانريد مزايدات على أنفسنا، وجلب اعجاب الناس بنا وحضهم على القيام بمدحنا والثناء علينا، وذلك حفاظاً على الاخلاص الذي هو اساس مهم من اسس رسائل النور.
***


الملاحق - ملحق أميرداغ/1، ص: 253
[حسّ مسبَق برسائل النور]
اخوتي الاعزاء!
لقد اقتنعت قناعة جازمة ان رسائل النور - قبل ظهورها بأربعين سنة - قد تظاهرت بحس مسبق احساساً واسعاً وباسلوب عجيب، في نفسي، وفي قريتنا "نورس" وفي ناحيتنا "خيزان". كنت ارغب ان ابوح بهذا السر الى كل من "شفيق" و"عبدالمجيد" من اخوتي وطلابي القدامى، والآن ابينه لكم لما وهب الله سبحانه وتعالى لكم كثيراً من امثال عبدالمجيد وعبدالرحمن..
كنت احمل حالة روحية تتسم بالفخر والاعتزاز، يوم كنت في العاشرة من عمري، بل حتى احياناً بصورة حب للمدح والثناء. فكنت اتقلد طور بطل عظيم ورائد كبير وصاحب عمل عظيم خلاف رغبتي. فكنت اقول لنفسي:
ما هذا الظهور والاختيال ولاسيما في الشجاعة، وانت لا تساوي شروى نقير؟ فكنت حائراً وجاهلاً بالجواب.
ولكن منذ شهرين، اجيبت تلك الحيرة، بأن رسائل النور كانت تُشعر بنفسها بحس مسبَق. اما انت فلست الاّ بذرة صغيرة لا تساوي شيئاً ولكن لإحساسك قبل الوقوع تعدّ تلك العناقيد الفردوسية "رسائل النور" كأنها ملكك، فتزهو وتتباهى.
أما قريتنا "نورس" فان اهلها وطلابي القدامي يعرفون: ان اهالينا كانوا يحبون المدح والثناء عليهم كثيراً لإظهارهم أنهم السابقون في الشجاعة والإقدام. فيرغبون تقلّد طور البطولة وكأنهم قد فتحوا مملكة كبيرة.
فكنت اعجب من نفسي ومن طورها هذا. والآن عرفت السر بإخطار حقيقي:
ان اولئك النورسيين، يتباهون لان قريتهم "نورس" ستكسب فخراً عظيماً بنور رسائل النور. حتى ان الذين لم يسمعوا باسم الولاية والناحية سيعرفون تلك القرية باهتمام بالغ.
فهؤلاء النورسيون يظهرون شكرانهم - بحس مسبق - لتلك النعمة الالهية على صورة زهو وتباهٍ.


الملاحق - ملحق أميرداغ/1، ص: 254
نعم انه عندما كان جميع كردستان يتخذ وضع المفتخر المختال بغزارة الطلاب والائمة والعلماء المتخرجين بهمة وجهود "الشيخ عبدالرحمن طاغي" الشهير والملقب بـ "سيدا" في ناحيتنا "اسباريت" التابعة لقضاء "خيزان" كنت اشعر بينهم ايضاً ضمن تلك المناظرات العالىة والهمة العالىة والدائرة الواسعة العلمية والصوفية، كأن اولئك العلماء سيفتحون الارض كلها. فكنت استمع - وانا لم اتجاوز العاشرة من عمري - مناقب العلماء القدامى المشهورين والاولياء العظام والسادة الاقطاب، ويرد الى قلبي: ان هؤلاء الطلاب العلماء سيفتحون آفاقاً عظيمة في العلم والدين. اذ لو تفوق احدهم بشئ من الذكاء فالاهتمام يوجّه الىه، وان ظهر احدهم في مسألة لدى مناظرة علمية يفتحر ويزهو كثيراً. فكنت اتحير من هذا، اذ كانت عندي تلك المشاعر ايضاً. حتى كان بين شيوخ الطرق الصوفية وضمن دائرتهم في ناحيتنا وقضائنا وولايتنا مسابقة تثير الحيرة لم اقف عليها في مدن اخرى الى هذا الحد.
والآن اقتنعت: ان ارواح اولئك؛ زملائي الطلاب واساتذتي العلماء ومرشديّ الاولياء والشيوخ، قد شعرت - بحس مسبق وبدون معرفة العقل - بأن نوراً ساطعاً سيظهر - في الوقت اللازم - من بين اولئك الطلاب والاساتذة ومريدي المرشدين، بحيث يغيث ذلك النور اهل الايمان. فهذه النعمة الالهية التي ستنعم في المستقبل، ضمن ظروف في منتهى القسوة والغرابة وتجاه معارضين الدّاء لا حدّ لهم ومقابل الضلالة التي تشتد منذ الف سنة وسط اعداء في منتهى الخبث والمكر والخديعة، هي رسائل النور التي تظهر ظهوراً خارقا بعد تدقيقات مستديمة لمحكمتين عدليتين. وتتنور سراً وتكسب الحرية في النشر وانف اعدائها راغم. مما تبين ان هذه الرسائل تستحق ذلك الموقع بحيث احسّ بمجيئها اهالي قريتي وناحيتي وولايتي فسّروا بها وانشرحوا لها. ولقد سردت لكم هذا السر لاني اعدّكم كطلابي السابقين واخواني وكأخي عبدالمجيد وكعبدالرحمن.
نعم انني كما استشعر بالمطر قبل اربع وعشرين ساعة من نزولها لقوة في شعوري وتحسس اعصابي بالرطوبة، كذلك فاني وقريتي وناحيتي قد شعرنا قبل اربع واربعين سنة ما في رسائل النور من شآبيب الرحمة، وذلك بحسّ مسبق.
سلامنا الى جميع اخواننا ومواطنينا وندعو لهم بالخير ونرجو دعواتهم.


الملاحق - ملحق أميرداغ/1، ص: 255
[تتمة الحس المسبق]
اخوتي الاعزاء الاوفياء!
اكتب هذه التتمة لمناسبة الحس المسبق - احساساً كلياً - بظهور رسائل النور، حيث يشاهد في نمط حياة قسم من خواص طلاب رسائل النور واعتراف بعضهم، ان حياتهم جُهّزت وهُيئت لأجل القيام بهذه الخدمة الجليلة، كما هي الحال في تهيئة رسائل النور في اداء هذه الخدمة.
ان الحس المسبق موجود كلياً او جزئياً في كل شخص. بل حتى في الحيوانات. وان قسماً مهماً من الرؤيا الصادقة نوع من هذا الحس المسبق، ويرتقي عند بعضهم - من حيث قوة حساسيته - الى درجة الكرامة. وان احساسي بمجئ المطر قبل اربع وعشرين ساعة بما في اعصابي من احساس بالرطوبة يمكن ان يعدّ من جهة احساساً مسبقاً ومن جهة اخرى لا يعدّ.
ولقد استقصيت نمط حياة اخوتي الذين لهم شأن في خدمة رسائل النور فشاهدت ان سير حياتهم - كما هي عندي - قد جُهّزت وسيقت لأجل انتاج عمل عظيم كالعمل لرسائل النور.
نعم، ان طراز الحياة السابقة من اخوتي "خسرو، فيضي، الحافظ علي، نظـيف" قد اعطيت لها اوضاعاً لتثمر هذه الخدمة النورية. وهم انفسهم يشعرون بها، مثلما ارى واخوتي الخواص جداً - هاهنا - أن حياتهم قد نظمت لتثمر مثل هذه الثمرة النورانية كما هي في طراز حياتي، فالذين لا يشعرون بها. اذا ما انعموا النظر سيشعرون بها.
ولقد كنت اعدّ قسم الخوارق التي ظهرت في عهد حياتي السابق، انها من سلسلة كرامات الشيخ الكيلاني. بينما تبيّن الآن انها كرامة من سلسلة كرامات رسائل النور، فمثلاً:
في اثناء مجيئى الى استانبول قبل عهد الحرية، اقتنيت بضعة كتب قيّمة تخص علم الكلام فقرأتها بدقة. وبعد مجيئى اليها دعوت العلماء ومدرسي المدارس الدينية الى المناقشة باعلاني "اسألوا ما شئتم". الاّ ان الشئ المحير ان المسائل التي طرحها


الملاحق - ملحق أميرداغ/1، ص: 256
القادمون كنت قد قرأت اجوبتها في طريقي الى استانبول او التي ظلت عالقة في ذهني.
وكذا الاسئلة التي طرحها الفلاسفة هي المسائل التي ظلت عالقة في ذهني.
والآن توضح الامر فادرك ان ذلك النجاح الباهر وذلك الاعلان واظهار الاعجاب والفضيلة التي تفوق حدي بكثير، انما كان لتهيئة الوسط الملائم لقبول رسائل النور لدى استانبول وعلمائها ومعرفة اهميتها.
كنت أرفض قبول أموال الناس وهداياهم منذ نعومة أظفاري. فما كنت أتنازل لإظهار حاجتي للآخرين رغم انني كنت فقير الحال وفي حاجة الى المال، وما كنت زاهداً ولا صوفياً ولا صاحب رياضة روحية، فضلاً عن انني ما كنت من ذوي الحسب والنسب والشهرة.
فازاء هذه الحالة كنت أحار من امري كما كان يحار من يعرفني من الأصدقاء. ولقد فهمت من قبل بضع سنين حكمتها، انها كانت لأجل عدم الرضوخ للطمع والمال، ولأجل الحيلولة دون مجئ اعتراض على رسائل النور في مجاهداتها، فقد أنعم عليّ الباري عزوجل تلك الحالة الروحية.. والاّ كان أعدائي الرهيبين ينزلون بي ضربتهم القاضية من تلك الناحية.
ومثلاً: على الرغم من ان سعيداً القديم قد توغل كثيراً في الامور السياسية، وان سعيداً الجديد بحاجة الى من يسنده وينحاز اليه كثيراً، لم تشغله اعاصير السياسة اصلاً وقطعاً ولم تغلبه - بتحريك الفضول لديه - للاهتمام حتى بمعرفة هذا الطوفان البشري الجارف الذي اشغل البشرية قاطبة طوال خمس سنوات واكثر...
فقد كنت احار من هذه الحالة، كما ان الذين يعرفونني يحارون، حتى كنت اقول لنفسي: هل انا الذي جننت بحيث لا انظر ولا اهتم بهذه الحالة التي هزت الدنيا اجمع، ام الناس اصبحوا مجانين؟. كنت اقول هذا وأظل محتاراً ولكن قد تحقق الآن - باخطار معنوي وبالحس المسبق المذكور وبتغلب رسائل النور واطلاق حريتها - ان تلك الحالة الروحية العجيبة، قد منُحت لاجل اثبات ان حقيقة


الملاحق - ملحق أميرداغ/1،ص: 257
الاخلاص التي تتحلى بها رسائل النور لايمكن ان تكون تابعة لأي شئ سوى مرضاة الله سبحانه وتعالى ولا ركيزة لها سوى القرآن الكريم.
سعيد النورسي
***

[ما يستحق الفضول والاهتمام]
اخوتي الاعزاء الاوفياء!
ذكر في المسألة الرابعة من رسالة " الثمرة" ما ملخصه الآتي:
ان سبب عدم تدخلي في الشؤون السياسية الدائرة في الارض، هو ان وظيفة الانسان ومهمته في تلك الدائرة الواسعة قليلة وصغيرة الاّ انها تثير الفضول لدى المهتمين بها والمتلهفين الى تتبع الاحداث. حتى ان الاهتمام بتلك الوظائف الثانوية تنسيهم وظائفهم الحقيقية الجليلة او تدعها ناقصة مبتورة، فضلاً عن انها تورث الانحياز والميل الى احدى الجهات، وعندها لا يجد المرء بأساً من ظلم الظالمين في الجهة التي انحاز اليها بل قد يرتاح اليه. فيكون عندئذٍ مشاركاً لهم في الاثم.
فيا ايها الشقاة الذين يتلذذون من الغفلة المسكرة الناشئة من متابعة الحوادث الخارجية نتيجة الفضول والاهتمام!
لو كان الفضول والاهتمام وحب الاستطلاع المغروز في فطرة الانسان هو الذي يدفعكم - من حيث الانسانية - الى هذا التتبع والاهتمام، وعلى حساب الوظائف الجليلة الضرورية المفروضة. نعم، لو قلتم ان هذه ايضاً حاجة فطرية معنوية. فانا أقول:
فكما ان الانسان يثار لديه الفضول وحب الاستطلاع عندما يشاهد انساناً ذا رأسين او ذا ثلاثة ارجل بينما لا يهتم بخلق الانسان السوي الحافل بالمعجزات ولا ينعم النظر فيه.
كذلك الحوادث الجارية في البشرية تلفت نظر الانسان اليها حيث تغطي مساحة واسعة من الاخبار بينما هي حوادث فانية موقتة بل مدمّرة في هذا العصر. علما ان


الملاحق - ملحق أميرداغ/1، ص: 258
هناك مائة الف امة وامة من امثال نوع البشر تعيش معه على سطح الارض. فلو راقبنا مثلاً امة واحدة منها في فصل الربيع ولتكن النحل او العنب لرأينا انفسنا امام معجزات عظيمة جداً تستحق ان تلفت اليها الانظار اكثر مما تستحقه تلك الحوادث البشرية بأضعاف اضعاف المرات. بل هي تحرك الفضول والاهتمام - لدى انعام النظر فيها - وتورث الانسان لذائذ روحية واذواقاً معنوية.
لذا فليس صحيحاً الاّ يُعبأ بتلك اللذائذ المعنوية الحقيقية وتركها، والالتفات الى حوادث بشرية مضرة شريرة عرضية غير اصيلة، ومن ثم الالتصاق بها عقلاً وروحًا، وبذل الاهتمام البالغ بها.
نعم لا يصح ذلك قطعاً الاّ اذا كانت الدنيا خالدة ابدية، وتلك الحوادث دائمة مستمرة، والضر والنفع يأتيان منها، والقائمون بها لهم القدرة على الايجاد والخلق.. والحال ان تلك الحالات حالات طارئة مضطربة عابرة كهبوب الرياح، وتأثير المسببين فيها تأثير عرضي غير حقيقي فضلاً عن انه جزئي. اما منافعها واضرارها فلا تأتي من الشرق ولا من البحر المحيط، بل ممن هو اقرب اليك من حبل الوريد وممن يحول بين المرء وقلبه، وممن يربيك ويدبر شؤونك.. ذلك الرب الجليل .. أليس من البلاهة ألاّ تهتم بربوبيته وحكمته؟
واذا ما نظرنا الى المسألة من زاوية الايمان والحقيقة رأينا ان اهتمامات من هذا القبيل تولد اضراراً جسيمة، اذ تدفع الانسان الى ميدان فسيح لا ضوابط له حتى تورثه الغفلة فتغرقه في امور الدنيا وتنسيه واجباته الحقيقية نحو الآخرة.
ولا شك ان اوسع دائرة من تلك الدوائر الواسعة هي السياسة واحداثها. ولا سيما الحوادث العامة كالحرب، فانها تغرق القلب في الغفلة بل تخنقه خنقًا، حتى لا يمكن انقاذه الاّ بايمان ساطع كالشمس يقدر على مشاهدة اثر القدر الالهي والقدرة الربانية في كل شئ، في كل حال، في كل حركة وسكون، كي لا يغرق القلب في ظلام دامس من الظلمات ولا ينطفئ نور الايمان الوهاج ولا يزل العقل الى مفهوم الطبيعة والمصادفة.


الملاحق - ملحق أميرداغ/1، ص: 259
ومن هنا نرى ان ارباب الحقيقة يحاولون تناسي دائرة الكثرة بلوغاً الى الحقيقة ووجدان طريق الى معرفة الله. وذلك لئلا يتشتت القلب والاهتمام والذوق والشوق، وليصرفوها جميعاً الى ما يلزم لا الى ما لا يلزم من الفانيات.
ومن هذا السر الدقيق لا يكون قسم من السياسيين - على الاغلب - على تقوى كاملة، ولا يكون الذين هم على تقوى وصلاح تام سياسيين ما خلا الصحابة الكرام وامثالهم من المجاهدين من السلف الصالحين . بمعنى ان الذين اتخذوا السياسة هدفاً لهم يأتي الدين لديهم في المرتبة الثانية ويكون حكمه حكم التابع. اما المتدين حق التدين فيرى العبودية لله تعالى اعظم غايته في الكون، فلا ينظر الى السياسة نظر العاشق الولهان، بل ينظر اليها - حسب مرحلتها - في المرتبة الثانية والثالثة ويستطيع ان يجعلها اداة طيعة للدين والحقيقة. اذ بخلافه يهوّن من قيمة الالماس الثمينة الى قطع زجاجية تافهة.
حاصل الكلام : كما ان السُكر يولّد لذة مشؤومة ، ولفترة قصيرة حيث ينسي السكران الآلام الناشئة من ادائه الوظائف الحقيقية والحاجات الضرورية، كذلك الاهتمام الجاد بهذه المعارك والحروب الطاحنة والحوادث الفانية هو نوع من السُكر بحيث ينسي الانسان حاجته الى المهمات الحقيقية والآلام الناشئة من جراء القيام بها، ينسيه موقتا مانحاً لذة مشؤومة، او يقذف به في يأس مدمّر مخالفًا للامر الالهي في قوله تعالى
(لا تقنطوا من رحمة الله) (الزمر: 53) وعند ذاك يكون ممن يستحق التأديب والعقاب بالزجر الالهي الشديد (ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار) (هود: 113) وذلك لمشاركته طوعاً وضمناً في ظلم الظالمين. فينال جزاءه الذي يستحقه في الدنيا والآخرة.
***

[انقاذ الايمان أعظم احسان في هذا الزمان]
اخوتي الاعزاء الصادقين!
ان اعظم احسان اعدّه في هذا الزمان وأجلّ وظيفة، هو انقاذ الانسان لإيمانه والسعي لإمداد ايمان الآخرين بالقوة. فاحذر يا أخي من الانانية والغرور وتجنب من


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس