عرض مشاركة واحدة
قديم 12-04-2012
  #89
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: لواقح الأنوار القدسية في العهود المحمدية للشعراني

أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن نسر بصدقاتنا المندوبة دون المفروضة على وزان الصلاة إلا ما استثنى مما تسن الجماعة فيه امتثالا لأمر الله عز وجل، لا لطلب الأجر والثواب، فإن الشارع صلى الله عليه وسلم قد وعد بذلك وهو لا يخلف وعده، ولا يضيع أجر من أحسن عملا، اللهم إلا أن نطلب الأجر من باب الفضل والمنة فلا حرج على العبد في ذلك، إذ لا يستغني عبد عن فضل سيده طوعا أو كرها. واعلم أن الشارع ما أمر العبد بصدقة السر إلا لما يعلم من نفس العبد من محبة المال وإنفاقه ليقال، فلا يكاد يسكت على ما أعطاه لأحد أبدا لعظمته عنده، ولو أنه سلك الطريق لكان إخراج الألف دينار صدقة عنده كحبة عنب على حد سواء، وما رأينا أحدا قط أعطى حبة عنب وصار يذكرها في المجالس ويفتخر بها أبدا لهوانها عنده وكذلك الألف دينار عند الفقير الصادق إذا تصدق بها لا يحتفل بها ولا يذكرها في المجالس أبدا، وما سمي الفقير فقيرا إلا لكونه لا يملك شيئا مع الله تعالى، فكيف يرى نفسه بشيء ليس هو له؟ وفي الحديث: إن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة. فما قدر ما يخص الفقير من ذلك الجناح إذا فرق أجزاء صغارا حتى عم جميع الخلق من الملوك إلى السوقة، فالفقير الصادق يستحي من الله تعالى أن يرى نفسه على الفقراء، ولو تصدق بجميع الدنيا لو تصور أنه ملكها كلها، لأنه يراها كجناح البعوضة، وإنما لم نقل لأنه يراها قدر جناح بعوضة أدبا مع الله تعالى أن يشترك العبد مع ربه في صفة من الصفات، فلذلك قلنا كجناح بكاف التشبيه، فافهم.


فعلم أنه يتعين على كل من يريد العمل بهذا العهد أن يسلك على يد شيخ مرشد يسلك به حتى يخرجه عن الرغبة والمحبة في الدنيا ويدخله حضرة الزهد فيها، وإلا فمن لازمه أنه يكره الإسرار بالصدقة ويحب إظهارها لما عنده من العظمة والمحبة لها ولجهله بالله تعالى، فإنه لا يعامل الله إلا من يعرف عظمة الله تعالى.


وقد صحبني شخص من ذوي الأموال فذكرت له ما ورد في صدقة السر من الأحاديث فقال لي تبت إلى الله تعالى عن إظهار شيء من الصدقات للناس ورؤية المنة على آخذيها، فقلت له: هذا لا يكون إلا بعد سلوك الطريق، فقال لي قد تحققت بحمد الله بذلك فأرسلت له فقيرا سرا وقلت له اسأله في دينار ولا تسأله إلا ليلا أو حيث لا يعلم بذلك أحد، فسأله فأعطاه الدينار فلم يزل به أبو مرة يوسوس له بإظهار ذلك حتى جاءني وصار يذكر شدة احتياج الناس إلى الصدقة في هذا الزمان، إلى أن جاء إلى ذلك الفقير وقال إن فلانا محتاج وقد بلغنا أنه جاء إلى بعض التجار وسأله دينار فأعطاه له، ثم لم يزل له إبليس حتى ذكره لي وقال إنما ذكرته لك يا سيدي لكوني لا أحب أخفي عنك شيئا، فانظر كيف أخرجه إبليس من صدقة السر وأوقعه في تزكية نفسه، ودعوى أنه لا يخفي عني شيئا من أحواله، ولو أني قلت له أعلمني بعدد ما عندك من الدنيا ما سمح بذلك، فوالله لقد صار الصدق أعز من الكبريت الأحمر، ولو أنه كان دخل طريق الفقراء من بابها على يد شيخ لصار دخوله النار أهون عليه من إظهار ما أمره الله بكتمه.


قلت: وقد بلغنا أن شخصا صام أربعين سنة لا يشعر به أحد فلم يزل به إبليس حتى أوقعه في التحدث بها، وذلك أن إبليس جاء إلى القصاب في هيئة فقير وفي عنقه سبحة وعلى كتفه سجادة وصار يقول للجزار أعطني هذه القطعة اللحم المليحة لأن لي ثلاثة أيام صائما، فلم يزل يكرر ذلك حتى تحرك في قلب ذلك العابد داعية إلى إظهار صومه، وقال اكتم صومك أنت أفضل لك فإني صائم أربعين سنة ما شعر بذلك أحد، فقال له إبليس أنا إبليس وما لي حاجة باللحم إلا حتى أوقعتك في إظهار صيامك، ثم قال له إبليس، كيف تقول لي اكتم صومك فإنه أفضل وتقع أنت في إظهاره؟ فندم العابد وفارقه إبليس.


واعلم أني ما رأيت في عمري كله أكثر صدقة سرا من شيخنا شيخ الإسلام زكريا شارح البهجة، والشيخ شهاب الدين ابن الشلبي الحنفي، لا تكاد تجدهما يظهران من صدقتهما شيئا. وقد جاء شخص من الأشراف إلى شيخنا الشيخ زكريا وقال له يا سيدي قد خطفوا عمامتي الليلة فأعطني ثمن عمامة فأعطاه فلسا فرده الشريف فأخذه الشيخ، فقلت له إن الفلس لا يكفي في مثل ذلك، فقال الذنب له الذي جاء بحضرة الناس وقد رغبني الله تعالى في الإسرار بالصدقة فلا أظهر ذلك لأحد من الخلق، ولو أنه جاء من غير أن يكون عندي أحد لأعطيته ثمن العمامة أو أكثر لأجل جده صلى الله عليه وسلم، ثم لقيت الشريف بعد ذلك فأخبرته بما قال الشيخ فقال:إن الشيخ أرسل لي عمامة في الليل وهاهي على رأسي.


وكذلك بلغنا عن سيدي علي النبتيتي بن الجمال أنه كان يرسل كل سنة المائة حمل قمحا وأرزا وغير ذلك إلى مكة في البحر، ويسافر هو في البر مع الحجاج، ثم يجلس يبيعها في المسعى ويخبر بالسعر الغالي زيادة على الناس وينظر، فكل من اشترى منه بالزيادة على السعر يعرف أنه مضطر فيعطيه ما اشتراه بلا ثمن ويأمره بالكتمان، فعلم بذلك غالب أهل مكة فكان يعطيهم كذلك حتى أنه لم يأخذ درهما واحدا في بعض السنين، فقيل له إن كان ولا بد لك من العطاء للناس بلا ثمن فتصدق أنت به، فقال البيع أستر لنا من الصدقة وكذلك كان يفعل في الثياب التي يفرقها يأمرهم بالكتمان فيها، وكل من تكلم بذلك يرسل يأخذ الثوب منه ويقول: يا ولدي غلطنا والثوب لشخص غيرك، حتى لا يصير يتكلم بعد ذلك بشيء.


وكان أخي أفضل الدين رحمه الله يأخذ صدقات أصحابه ويجمعها عنده للفقراء ويقول لهم: إن جماعة من التجار أرسلوا لي على اسمكم شيئا من الفضة والذهب لأفرقه عليكم ثم يخلط على ذلك أضعافه ويفرقه عليهم بحيث لا يعلم أحد من الخلق بذلك، ولولا أني رأيته فعل ذلك وهو لا يشعر بي ما أعلمني به، وكان بعض من لا يعرف مقامه يتهمه بأنه اختلس من مال الفقراء لنفسه ويبلغه ذلك عنه فيتبسم ولا يجب عن نفسه شيئا. فبهدى هذه الأشياخ يا أخي اقتده بمضاعفة الأجور ورضا الرب، والله يتولى هداك وهو يتولى الصالحين}.


روى الإمام أحمد والترمذي واللفظ له وابن حبان في صحيحه مرفوعا: (من منح منحة لبن أو ورق أو أهدى رفاقا كان له مثل عتق رقبة). ومعنى قوله منحة ورق: عني به قرض الدرهم، وقوله أو أهدى رفاقا: عني به هداية الطريق وإرشاد السبيل.


وروى الطبراني إسناد حسن والبيهقي مرفوعا: (كل قرض صدقة) .


وروى الطبراني وابن ماجه والبيهقي مرفوعا: (دخل رجل الجنة فرأى على بابها مكتوبا الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر) . قال بعضهم: وذلك أن الصدقة قد تقع في يد غني في الباطن والقرض لا يأخذه إلا محتاج.


وروى مسلم وابن ماجه والترمذي وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه مرفوعا: (ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرة إلا كان له كصدقتها مرتين) . والله تعالى أعلم." اهـ
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس