الموضوع: اللمعات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-01-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللـمعة الثانية

بسم الله الرحـمن الرحيـم

} وأيوبَ إذْ نادى ربّه أنّي مَسّني الضُرُّ وأنتَ أرحـم الراحـمين{ (الانبياء:83)

هذه الـمناجاة اللطيفة التي نادى بها رائد الصابرين سيدنا أيوب عليه السلام مـجرّبة، وذات مفعول مؤثر، فينبغي أن نقتبس من نور هذه الآية الكريـمة ونقول في مناجاتنا: رب أني مسني الضر وانت أرحـم الراحـمين.

وقصة سيدنا أيوب عليه السلام الـمشهور، نلـخصها بـما يأتي:

أنه عليه السلام ظل صابراً ردحاً من الزمن يكابد ألـم الـمرض العضال، حتى سرت القروح والـجروح الى جسمه كلـه، ومع ذلك كان صابراً جلداً يرجو ثوابه العظيـم من العلي القدير. وحينـما أصابت الديدان الناشئة من جروحه قلبه ولسانه اللذين هما مـحل ذكر الله وموضع معرفته، تضرع الى ربه الكريـم بهذه الـمناجاة الرقيقة: } أنّي مَسّني الضُرُّ وأنتَ أرحـم الراحـمين{ خشية أن يصيب عبادته خلل، ولـم يتضرع اليه طلباً للراحة قط، فاستـجاب الله العلي القدير تلك الـمناجاة الـخالصة الزكية استـجابة خارقة بـما هو فوق الـمعتاد، وكشف عنه ضرّه واحسن اليه العافية التامة واسبغ عليه ألطاف رحـمته العميـمة.

في هذه اللـمعة خـمس نكات.

النكتة الاولى:

انه إزاء تلك الـجروح الظاهرة التي أصابت سيدنا أيوب عليه السلام، توجد فينا أمراض باطنية وعلل روحية وأسقام قلبية، فنـحن مصابون بكل هذا. فلو انقلبنا ظاهراً بباطن وباطناً بظاهر، لظهرنا مُثقلين بـجروح وقروح بليغة، ولبدت فينا أمراضٌ وعلل اكثر بكثير مـما عند سيدنا أيوب عليه السلام، ذلك لأن:

كل ما تكسبه ايدينا من إثم، وكل ما يلـج الى أذهاننا من شبهة، يشق جروحاً غائرة في قلوبنا، ويفجر قروحاً دامية في أرواحنا.. ثم إن جروح سيدنا أيوب عليه السلام كانت تهدد حياته الدنيا القصيرة بـخطر، أما جروحنا الـمعنوية نـحن فهي تهدد حياتنا الاخروية الـمديدة بـخطر.. فنـحن اذن مـحتاجون أشد الـحاجة الى تلك الـمناجاة الايوبية الكريـمة بأضعاف أضعاف حاجته عليه السلام اليها. وبـخاصة أن الديدان الـمتولدة من جروحه عليه السلام مثلـما أصابت قلبه ولسانه، فان الوساوس والشكوك – نعوذ بالله – الـمتولدة عندنا من جروحنا الناشئة من الآثام والذنوب تصيب باطن القلب الذي هو مستقر الايـمان فتزعزع الايـمان فيه، وتـمس اللسان الذي هو مترجـم الايـمان فتسلبه لذة الذكر ومتعته الروحية، ولاتزال تنفره من ذكر الله حتى تسكته كلياً.

نعم، الاثم يتوغل في القلب ويـمد جذوره في أعماقه، وما ينفك ينكت فيه نكتاً سوداء حتى يتـمكن من اخراج نور الايـمان منه، فيبقى مظلـماً مقفراً، فيغلظ ويقسو.

نعم، ان في كل إثم وخطيئة طريقاً مؤدياً الى الكفر، فإن لـم يـمـح ذلك الاثم فوراً بالاستغفار يتـحول الى دودة معنوية، بل الى حية معنوية تعض القلب وتؤذيه.

ولنوضح ذلك بـما يأتي:

مثلاً: إن الذي يرتكب سراً إثماً يـخـجلَ منه، وعندما يستـحي كثيراً من اطلاع الاخرين عليه، يثقل عليه وجود الـملائكة والروحانيات، ويرغب في انكارهم بأمارة تافهة.

ومثلاً: ان الذي يقترف كبيرة تفضي الى عذاب جهنـم. ان لـم يتـحصن تـجاهها بالاستغفار، فما أن يسمع نذير جهنـم وأهوالـها يرغب من أعماقه في عدم وجودها، فيتولد لديه جرأة لإنكار جهنـم من أمارة بسيطة أو شبهة تافهة.

ومثلاً: إن الذي لايقيـم الفرائض ولا يؤدي وظيفة العبودية حق الاداء وهو يتألـم من توبيـخ آمره البسيط لتقاعسه عن واجب بسيط، فان تكاسلـه عن أداء الفرائض أزاء الاوامر الـمكررة الصادرة من الله العظيـم، يورثه ضيقاً شديداً وظلـمة قاتـمة في روحه، ويسوقه هذا الضيق الى الرغبة في ان يتفوه ويقول ضمناً: ((ليته لـم يأمر بتلك العبادة!)) وتثير هذه الرغبة فيه الانكار، الذي يشم منه عداءً معنوباً تـجاه الوهيته سبـحانه، فاذا ما وردت شبهةٌ تافهة الى القلب حول وجوده سبـحانه، فانه يـميل اليها كأنها دليل قاطع. فينفتـح أمامه باب عظيـم للـهلاك والـخسران الـمبين، ولكن لايدرك هذا الشقي أنه قد جعل نفسه – بهذا الانكار – هدفاً لضيق معنوي ارهب وأفظع بـملايين الـمرات من ذلك الضيق الـجزئي الذي كان يشعر به من تكاسلـه في العبادة، كمن يفرّ من لسع البعوض الى عض الـحية!!

فليُفهم في ضوء هذه الامثلة الثلاثة سرّ الآية الكريـمة: } كلاّ بل رانَ على قلوبهم ما كانوا يَكسبون{ (الـمطففين:14)

النكتة الثانية:

مثلـما وضّح في ((الكلـمة السادسة والعشرين)) الـخاصة بالقدر: أن الانسان ليس لـه حق الشكوى من البلاء والـمرض بثلاثة وجوه:

u الوجه الاول:

ان الله سبـحانه يـجعل ما ألبسه الانسان من لباس الوجود دليلا على صنعته الـمبدعة، حيث خلقه على صورة نـموذج ((موديل)) يفصّل عليه لباس الوجود، يبدلـه ويقصه ويغيره مبيناً بهذا التصرف تـجليات مـختلفة لاسمائه الـحسنى. فمثلـما يستدعي اسم ((الشافي)) الـمرض، فان اسم ((الرزاق)) ايضاً يقتضي الـجوع. وهكذا فهو سبـحانه مالك الـملك يتصرف في ملكه كيف يشاء.

u الوجه الثاني:

أن الـحياة تتصفى بالـمصائب والبلايا، وتتزكى بالامراض والنوائب، وتـجد بها الكمال وتتقوى وتترقى وتسمو وتثمر وتنتـج وتتكامل وتبلغ هدفها الـمراد لـها، فتؤدي مهمتها الـحياتية. أما الـحياة الرتيبة التي تـمضى على نسق واحد وتـمر على فراش الراحة، فهي أقرب الى العدم الذي هو شر مـحض منه الى الوجود الذي هو خير مـحض. بل هي تفضي الى العدم.

u الوجه الثالث:

إن دار الدنيا هذه ما هي إلاّ ميدان اختبار وابتلاء، وهي دار عمل ومـحل عبادة، وليست مـحل تـمتع وتلذذ ولا مكان تسلـم الاجرة ونيل الثواب.

فما دامت الدنيا دار عمل ومـحل عبادة، فالامراض والـمصائب عدا الدينية منها وبشرط الصبر عليها تكون ملائمة جدا مع ذلك العمل، بل منسجـمة تـماماً مع تلك العبادة، حيث أنها تـمد العمل بقوة وتشد من أزر العبادة، فلا يـجوز التشكي منها، بل يـجب التـحلي بالشكر للـه بها، حيث أن تلك الامراض والنوائب تـحوّل كل ساعة من حياة الـمصاب عبادة ليوم كامل.

نعم، ان العبادة قسمان:

قسم ايـجابي وقسم سلبي..

فالقسم الاول معلوم لدى الـجـميع، أما القسم الاخر فان البلايا والضر والامراض تـجعل صاحبها يشعر بعجزه وضعفه، فيلتـجىء الى ربه الرحيـم، ويتوجه اليه ويلوذ به، فيؤدي بهذا عبادة خالصة. هذه العبادة خالصة زكية لا يدخل فيها الرياء قط. فإذا ما تـجـمل الـمصاب بالصبر وفكّر في ثواب ضره عند الله وجـميل أجره عنده، وشكر ربه عليها، تـحولت عندئذ كل ساعة من ساعات عمره كأنها يوم من العبادة، فيغدو عمره القصير جداً مديداً طويلاً، بل تتـحول – عند بعضهم – كل دقيقة من دقائق عمره بـمثابة يوم من العبادة.. ولقد كنت أقلق كثيراً على ما أصاب أحد اخوتي في الاخرة وهو ((الـحافظ احـمد الـمهاجر))(1) بـمرض خطير، فخطر الى القلب ما يأتي:

((بشّره، هنّئه، فان كل دقيقة من دقائق عمره تـمضي كأنها يوم من العبادة)) حقاً انه كان يشكر ربه الرحيـم من ثنايا الصبر الـجـميل.

النكتة الثالثة:

مثلـما بينّا في ((الكلـمات)) السابقة أنه: اذا ما فكر كل انسان فيـما مضى من حياته فسيرد الى قلبه ولسانه: واأسفاه، أو الـحـمد للـه، أي إما أنه يتأسف ويتـحسر، أو يـحـمد ربه ويشكره. فالذي يقطـّر الاسف والاسى انـما يكون بسبب الآلام الـمعنوية الناشئة من زوال اللذائذ السابقة وفراقها، ذلك لأن زوال اللذة ألـم، بل قد تورث لذةٌ زائلة طارئة آلاماً دائمة مستـمرة، فالتفكر فيها يعصر ذلك الالـم ويقطـّر منه الاسف والاسى، بينـما اللذة الـمعنوية والدائمة الناشئة من زوال الآلام الـمؤقتة التي قضاها الـمرء في حياته الفائتة، تـجعل لسانه ذاكراً بالـحـمد والثناء للـه تعالى.. هذه حالة فطرية يشعر بها كل انسان، فاذا ما فكر الـمصاب – علاوة على هذا – بـما أدّخر لـه ربه الكريـم من ثواب جـميل وجزاء حسن في الآخرة وتأمل في تـحول عمره القصير بالـمصائب الى عمر مديد فانه لايصبر على ما انتابه من ضُر وحده، بل يرقى ايضاً الى مرتبة الشكر للـه والرضا بقَدَره، فينطلق لسانه حامداً ربه وقائلاً: الـحـمد للـه على كل حال سوى الكفر والضلال.

ولقد سار مثلا عند الناس: ((ما اطول زمن النوائب!)). نعم، هو كذلك ولكن ليس بالـمعنى الذي في عرف الناس وظنهم من أنه طويل بـما فيه من ضيق وألـم، بل هو طويل مديد كالعمر الطويل بـما يثمر من نتائج حياتية عظيـمة.

النكتة الرابعة:

لقد بينّا في الـمقام الاول للكلـمة الـحادية والعشرين:

ان الانسان إن لـم يشتت ما وهبه الباري سبـحانه من قوة الصبر، ولـم يبعثرها في شعاب الاوهام والـمـخاوف، فان تلك القوة يـمكن ان تكون كافية للثبات حيال كل مصيبة وبلاء، ولكن هيـمنة الوهم وسيطرة الغفلة عليه والاغترار بالـحياة الفانية كأنها دائمة.. يؤدي الى الفتّ من قوة صبره وتفريقها الى آلام الـماضي ومـخاوف الـمستقبل، فلا يكفيه ما أودعه الله من الصبر على تـحـمل البلاء النازل به والثبات دونه، فيبدأ ببث الشكوى حتى كأنه يشكو الله للناس، مبدياً من قلة الصبر ونفاده ما يشبه الـجنون فضلاً عن أنه لا يـحق لـه أنه يـجزع هذا ابداً؛ ذلك لان كل يوم من أيام الـماضي – ان كان قد مضى بالبلاء – فقد ذهب عسره ومشقته وترك راحته، وقد زال تعبه وألـمه وترك لذته، وقد ذهب ضنكه وضيقه وثبت أجره، فلا يـجوز اذن الشكوى منه، بل ينبغي الشكر للـه تعالى عليه بشوق ولـهفة. ولا يـجوز كذلك الامتعاض من الـمصيبة والسخط عليها بل ينبغي ربط أواصر الـحب بها، لأن عمر الانسان الفاني الذي قد مضى يتـحول عمراً سعيداً باقياً مديداً بـما يعاني فيه من البلاء، فمن البلاهة والـجنون أن يبدد الانسان قسماً من صبره ويهدره بالاوهام والتفكر في البلايا التي مضت والآلام التي ولـّت. أما الايام الـمقبلة، فحيث أنها لـم تأت بعد ومـجهولة مبهمة، فمن الـحـماقة التفكر فيها من الآن والـجزع عمـّا يـمكن أن يصيب الانسان فيها من مرض وبلاء. فكما أنه حـماقة أن يأكل الانسان اليوم كثيراً من الـخبز ويشرب كثيراً من الـماء لـما يـمكن أن يصيبه من الـجوع والعطش في الغد أو بعد غد، كذلك التألـم والتضجر من الآن لـما يـمكن أن يبتلى به في الـمستقبل من امراض ومصائب هي الآن في حكم العدم، واظهار الـجزع نـحوها دون أن يكون هناك مبرر واضطرار، هو بلاهة وحـماقة الى حد تسلب العطف على صاحبها والاشفاق عليه. فوق أنه قد ظلـم نفسه بنفسه.

الـخلاصة:

ان الشكر مثلـما يزيد النعمة، فالشكوى تزيد الـمصيبة وتسلب الترحـم والاشفاق على صاحبها.

لقد ابتلى رجل صالـح من مدينة ((أرضروم)) بـمرض خطير وبيل، وذلك في السنة الاولى من الـحرب العالـمية الاولى، فذهبت الى عيادته وبثّ لي شكواه:

- ((لـم أذق طعم النوم منذ مائة يوم..)). تألـمت لشكواه الاليـمة هذه، ولكن تذكرت حينها مباشرة وقلت:

- أخي! ان الايام الـمائة الـماضية لكونها قد ولـّت ومضت فهي الآن بـمثابة مائة يوم مسرّة مفرحة لك، فلا تفكر فيها ولا تشكُ منها، بل انظر اليها من زاوية زوالـها وذهابها، واشكر ربك عليها. أما الايام الـمقبلة فلأنها لـم تأت بعد، فتوكل على رحـمة ربك الرحـمن الرحيـم واطمئن اليها. فلا تبك قبل أن تضرب، ولا تـخف من غير شىء، ولا تـمنـح العدم صبغة الوجود. اصرف تفكيرك في هذه الساعة بالذات، فان ما تـملكه من قوة الصبر تكفي للثبات لـهذه الساعة. ولاتكن مثل ذلك القائد الاحـمق الذي شتت قوته في الـمركز يـميناً وشمالاً في الوقت الذي التـحقت ميسرة العدو الى صفوف ميـمنة جيشه فأمدتها، وفي الوقت الذي لـم تكُ ميـمنة العدو متهيأة للـحرب بعد.. فما أن علـم العدو منه هذا حتى سدد قوة ضئيلة في الـمركز وقضى على جيشه.

فيا أخي ! لا تكن كهذا، بل حشّد كل قواك لـهذه الساعة فقط، وترقـَّب رحـمة الله الواسعة، وتأمل في ثواب الاخرة، وتدبّر في تـحويل الـمرض لعمرك الفاني القصير الى عمر مديد باق، فقدّم الشكر الوافر الـمسر الى العلي القدير بدلا من هذه الشكوى الـمريرة.

انشرح ذلك الشخص الـمبارك من هذا الكلام وانبسطت أساريره حتى شرع بالقول: الـحـمد للـه. لقد تضاءل ألـمي كثيراً.

النكتة الـخامسة:

وهي ثلاث مسائل:

الـمسألة الاولى:

إن الـمصيبة التي تعدّ مصيبة حقاً والتي هي مضرة فعلاً، هي التي تصيب الدين فلابد من الالتـجاء الى الله سبـحانه والانطراح بين يديه والتضرع اليه دون انقطاع. أما الـمصائب التي لاتـمس الدين فهي في حقيقة الامر ليست بـمصائب، لأن قسماً منها:

تنبيه رحـماني! يبعثه الله سبـحانه الى عبده ليوقظه من غفلته، بـمثل تنبيه الراعي لشياهه عندما تتـجاوز مرعاها، فيرميها بـحـجر، والشياه بدورها تشعر أن راعيها ينبهها بذلك الـحـجر ويـحذرها من أمر خطير مضر، فتعود الى مرعاها برضى واطمئنان. وهكذا النوائب الظاهرة فان الكثير منها تنبيه الـهي، وايقاظ رحـماني للانسان.

أما القسم الآخر من الـمصائب فهو كفارة للذنوب.

وقسم آخر أيضاً من الـمصائب هو منـحة إلـهية لتطمين القلب وافراغ السكينة فيه، وذلك بدفع الغفلة التي تصيب الانسان، واشعاره بعجزه وفقره الكامنين في جبلته.

أما الـمصيبة التي تنتاب الانسان عند الـمرض – فكما ذكرنا آنفا – فهي ليست بـمصيبة حقيقية، بل هي لطف رباني لانه تطهير للانسان من الذنوب وغسل لـه من أدران الـخطايا، كما ورد في الـحديث الصحيـح:

((ما من مسلـم يصيبه أذى الاّ حاتّ الله عنه خطاياه كما يـحاتّ ورق الشجر))(1) وهكذا فان سيدنا ايوب عليه السلام لـم يدعُ في مناجاته لاجل نفسه وتطميناً لراحته، وانـما طلب كشف الضر من ربه عندما أصبـح الـمرض مانعاً لذكر الله لسانا، وحائلاً للتفكر في ملكوت الله قلباً، فطلب الشفاء لأجل القيام بوظائف العبودية خالصة كاملة. فيـجب علينا نـحن ايضاً أن نقصد – بتلك الـمناجاة – أول ما نقصد: شفاء جروحنا الـمعنوية وشروخنا الروحية القادمة من ارتكاب الآثام واقتراف الذنوب ولنا الالتـجاء الى الله القدير عندما تـحول الامراضُ الـمادية قيامنا بالعبادة كاملة، فنتضرع اليه عندئذ بكل ذل وخضوع ونستغيثه دون أن يبدر منا أي اعتراض أو شكوى، اذ مادمنا راضين كل الرضا بربوبيته الشاملة فعلينا الرضا والتسليـم الـمطلق بـما يـمنـحه سبـحانه لنا بربوبيته.. أما الشكوى التي تومىء الى الاعتراض على قضائه وقدره، واظهار التأفف والتـحسر، فهي أشبه ما يكون بنقد للقدر الإلـهي العادل واتهام لرحـمته الواسعة.. فمن ينقد القدر يصرعه ومن يتهم الرحـمة يـحرم منها. اذ كما ان استعمال اليد الـمكسورة للثأر يزيدها كسراً، فان مقابلة الـمبتلي مصيبته بالشكوى والتضجر والاعتراض والقلق تضاعف البلاء.

الـمسألة الثانية:

كلـما استعظمت الـمصائب الـمادية عظُمت، وكلـما استصغرتَها صغرت. فمثلاً:

كلـما اهتـم الانسان بـما يتراءى لـه من وهم ليلاً يضخـم ذلك في نظره، بينـما اذا أهملـه يتلاشى. وكلـما تعرض الانسان لوكر الزنابير ازداد هجومها واذا أهملـها تفرقت.

فالـمصائب الـمادية كذلك كلـما تعاظمها الانسان واهتـم بها وقلق عليها تسربت من الـجسد نافذة في القلب ومستقرة فيه، وعندها تتنامى مصيبة معنوية في القلب وتكون ركيزة للـمادية منها فتستـمر الاخيرة وتطول. ولكن متى ما أزال الانسان القلق والوهم من جذوره بالرضا بقضاء الله، وبالتوكل على رحـمته تضمـحل الـمصيبة الـمادية تدريـجياً وتذهب، كالشجرة التي تـموت وتـجف أوراقها بانقطاع جذورها.

ولقد عبـّرتُ عن هذه الـحقيقة يوماً بـما يأتي:(1)

ومن الشكوى بلاءٌ.

أنت يا مسكينُ دعها وتوكلْ.

أنت ان تسلـم الى الوهاب نـجواك وجدتْ.

فاذا الكلُّ عطاء.

واذا الكلُّ صفاء.

فبغير الله: دنياك متاهات وخوف!

أفيشكو مَن على كاهلة يـحـمل كلّ الراسيات

حبةَ الرمل الضئيلة؟

انـما الشكوى بلاءٌ في بلاء.

وأثام في أثام وعناء!

أنت ان تَبْسَم وفي وجه البلاء.

عادت الأرزاء تذوي وتذوب.

تـحت شمس الـحق حباتِ بَرَد!

فاذا دنياك بَسمة،

بسمةٌ من ثغرها ينسابُ ينبوعُ اليقين.

بسمةٌ نشوى باشراق اليقين.

بسمةٌ حيرى باسرار اليقين.

نعم..! ان الانسان مثلـما يـخفف حدَّة خصمه باستقبالـه بالبشر والابتسامة، فتتضاءل سَورة العداوة وتنطفىء نار الـخصومة، بل قد تنقلب صداقةً ومصالـحة، كذلك الامر في استقبال البلاء بالتوكل على القدير يذهبُ أثره.

الـمسألة الثالثة:

أن لكل زمان حُكمه، وقد غيّر البلاء شكلـه في زمن الغفلة هذا، فلا يكون البلاء بلاء عند البعض دوماً، بل إحساناً إلـهياً ولطفاً منه سبـحانه. وارى الـمبتلين بالضر في هذا الوقت مـحظوظين سعداء بشرط ألا يـمس دينهم، فلا يولد الـمرض والبلاء عندي ما يـجعلـهما مضرين في نظري حتى أعاديهما، ولا يورثانني الاشفاق والتألـم على صاحبهما، ذلك ما أتاني شاب مريض الاّ وأراه أكثر ارتباطاً من أمثالـه بالدين، وأكثر تعلقاً منهم بالآخرة.. فأفهم من هذا أن الـمرض بـحق هؤلاء ليس بلاء، بل هو نعمة من نعمه سبـحانه التي لاتعد ولاتـحصى، حيث أن ذلك الـمرض يـمد صاحبه بـمنافع غزيرة من حيث حياته الاُخروية ويكون لـه ضرباً من العبادة، مع أنه يـمس حياته الدنيا الفانية الزائلة بشيء من الـمشقة.

نعم قد لا يستطيع هذا الشاب أن يـحافظ على ما كان عليه في مرضه من الالتزام بالاوامر الإلـهية فيـما اذا وجد العافية، بل قد ينـجرف الى السفاهة بطيش الشباب ونزواته وبالسفاهة الـمستشرية في هذا الزمان.

خاتـمة

ان الله سبـحانه قد ادرج في الانسان عجزاً لا حد لـه، وفقراً لانهاية لـه، اظهاراً لقدرته الـمطلقة وابرازاً لرحـمته الواسعة. وقد خلقه على صورة معينة بـحيث يتألـم بـما لا يـحصى من الـجهات، كما أنه يتلذذ بـما لا يعد من الـجهات، اظهاراً للنقوش الكثيرة لاسمائه الـحسنى. فابدعه سبـحانه على صورة ماكنة عجيبة تـحوي مئات الالات والدواليب، لكل منها آلامها ولذائذها ومهمتها وثوابها وجزاؤها، فكأن الاسماء الإلـهية الـمتـجلية في العالـم الذي هو انسان كبير تتـجلى اكثرها ايضاً في هذا الانسان الذي هو عالـم أصغر، وكما أن ما فيه من أمور نافعة – كالصحة والعافية واللذائذ وغيرها – تدفعه الى الشكر وتسوق تلك الـماكنة الى القيام بوظائفها من عدة جهات، حتى يغدو الانسان كأنه ماكنة شكر. كذلك الامر في الـمصائب والامراض والالام وسائر الـمؤثرات الـمهيـجة والـمـحركة، تسوق الدواليب الاخرى لتلك الـماكنة الى العمل والـحركة وتثيرها من مكمنها فتفجّر كنوز العجز والضعف والفقر الـمندرجة في الـماهية الانسانية. فلا تـمنـح الـمصائبُ الانسانَ الالتـجاء الى البارىء بلسان واحد، بل تـجعلـه يلتـجىء اليه ويستغيثه بلسان كل عضو من أعضائه. وكأن الانسان بتلك الـمؤثرات والعلل والعقبات والعوارض يغدو قلـماً يتضمن آلاف الاقلام، فيكتب مقدّرات حياته في صحيفة حياته أو في اللوح الـمثالي، وينسج لوحة رائعة للاسماء الإلـهية الـحسنى، ويصبـح بـمثابة قصيدة عصماء ولوحة اعلان.. فيؤدي وظيفة فطرته.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس