الموضوع: اللمعات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-01-2011
  #7
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللـمعة العاشرة

رسالة

((لطمات الرأفة وصفعات الرحـمة))

بسم الله الرحـمن الرحيـم

} يومَ تـجدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْر مـحضَراً ومَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَو أَنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أمَداً بَعيداً ويـحذِّرُكـُمُ الله نَفْسَه والله رَؤوفٌ بالعِبادِ{ (آل عمران:30)

هذه اللـمعة تفسّر سراً من أسرار هذه الآية الكريـمة، وذلك بذكر لطمات تأديب رحيـمة وصفعات عتاب رؤوفة تلقاها اخوتي الاحبة العاملون في خدمة القرآن الكريـم، وذلك من جراء أخطاء ونسيان وغفلة وقعوا فيها بـمقتضى جبلتهم البشرية.

وستبين سلسلة من كرامات يـجريها الله سبـحانه في خدمة قرآنه العظيـم.. مع بيان نوع من كرامة الشيـخ الكيلاني الذي يـمدّ هذه الـخدمة الـمقدسة بدعائه وهمته ويراقبها بإذن إلـهي.

نبين هذه الكرامات لعل العاملين في سبيل القرآن يزدادون ثباتاً واقداماً وجدية واخلاصاً.

نعم، ان كرامة العمل للقرآن الكريـم، هذه الـخدمة الـمقدسة، ثلاثة أنواع:

النوع الاول: تهيئة وسائل العمل والـخدمة، وسوق العاملين فيها الى الـخدمة.

النوع الثاني: رد الـموانع من حولـها، ودفع الاضرار عنها، وتأديب من يعيق سيرها، بانزال عقوبات بهم.. هناك حوادث كثيرة جداً حول هذين القسمين، ويطول الـحديث عنهما(1) لذا نؤجل الكلام فيهما الى وقت آخر خشية السأم. ونشرع في البـحث عن النوع الثالث الذي هو أخفها تناولا وابسطها فهماً.

النوع الثالث: هو أن العاملين الـمـخلصين في هذه الـخدمة القرآنية لـما يعتريهم الفتور والاهمال في العمل يأتيهم التـحذير والتنبيه فيتلقون لطمة ذات رأفة وعطف، وينتبهون من غفلتهم، ويسرعون بـجد للـخدمة مرة أخرى. ان حوادث هذا القسم تربو على الـمائة، إلا أننا نسوق هنا ما يقرب من عشرين حادثة جرت على اخواننا، عشرٌ ونيف منهم تلقوا لطمة حنان رؤوفة، بينـما تلقى حوالي سبعة منهم لطمة زجر عنيفة.

فالاول منهم هو هذا الـمسكين.. سعيد، فكلـما انشغلت بـما يعود خاصة نفسي بـما يفتر عملي للقرآن، أو انهمكت في اموري الـخاصة، وقلت: مالي وللآخرين! أتاني التـحذير وجاءتني اللطمة؛ لذا بت على يقين من أن هذه العقوبة لـم تنزل الاّ نتيـجة اهمالي وفتوري في خدمة القرآن؛ لأنني كنت أتلقى اللطمة بـخلاف الـمقصد الذي ساقني الى الغفلة.. ثم بدأنا مع الاخوة الـمـخلصين نتابع الـحوادث ونلاحظ التنبيهات الربانية والصفعات التي نزلت باخوتي الآخرين.. فأمعنا النظر فيها، وتقصّينا كلاً منها، فوجدنا أن اللطمة قد أتتهم مثلي حيثما أهملوا العمل للقرآن وتلقوها بضد ما كانوا يقصدونه، لذا حصلتْ لدينا القناعة التامة بأن تلك الـحوادث والعقوبات انـما هي كرامة من كرامات خدمة القرآن. فمثلا هذا السعيد الفقير الى الله تعالى.. فعندما كنت منشغلا بالقاء دروس في حقائق القرآن على طلابي في مدينة ((وان)) كانت حوادث ((الشيـخ سعيد))(2) تقلق بال الـمسؤولين في الدولة. وعلى الرغم من ارتيابهم من كل شخص، لـم يـمسوني بسوء، ولـم يـجدوا عليَّ حجة مادمت مستـمراً في خدمة القرآن. ولكن ما أن قلت في نفسي: مالي وللآخرين! وفكرت في نفسي فحسب، وانسحبت الى جبل ((أرك)) لأنزوي في مغاراته الـخربة، وأنـجو بنفسي في الآخرة، اذا بهم يأخذوني من تلك الـمغارة وينفوني من ولاية شرقية الى أخرى غربية، الى ((بوردور)).

كان الـمسؤولون في هذه الـمدينة يراقبون الـمنفيين مراقبة شديدة، وكان على الـمنفيين اثبات وجودهم بـحضورهم مساء كل يوم لدى الشرطة الا أنني وطلابي الـمـخلصين أُستثنينا من هذا الامر ما دمت قائماً بـخدمة القرآن، فلـم أذهب لاثبات الـحضور ولـم أعرف أحداً من الـمسؤولين هناك. حتى أن الوالي شكا من عملنا هذا لدى ((فوزي باشا))(1) عند قدومه الى الـمدينة، فأوصاه: ((احترموه! لا تتعرضوا لـه!)). ان الذي أنطقه بهذا الكلام هو كرامة العمل القرآني ليس الا، اذ حينـما استولت عليَّ الرغبة في انقاذ نفسي واصلاح آخرتي، وفترت عن العمل للقرآن – مؤقتاً – جاءتني العقوبة بـخلاف ما كنت أقصده وأتوقعه، أي نُفيتُ من ((بوردور)) الى منفي آخر.. الى ((اسبارطة)).

توليت هناك العمل للقرآن العظيـم كذلك.. ولكن بعد مرور عشرين يوماً على الـخدمة القرآنية كثرت عليَّ التنبيهات من بعض الـمتـخوفين، حيث قالوا: ربـما لا يـحبذ مسؤولو هذه البلدة عملك هذا! فهلاَّ أخذت الامر بالتأني والتريث؟!.. سيطر عليَّ الاهتـمام بـخاصة نفسي وبـمصيري فحسب، فأوصيت الاصدقاء بترك مقابلتي وانسحبت من ميدان العمل.. وجاء النفي مرة أخرى.. فنفيت الى منفى ثالث.. الى ((بارلا)).

وكنت فيها كلـما اصابني الفتور في العمل للقرآن واستولى عليَّ التفكير بـخاصة نفسي واصلاح آخرتي، كان أحد ثعابين أهل الدنيا يتسلط عليَّ، وأحد الـمنافقين يتعرض لي. وأنا على استعداد الآن أن أسرد على مسامعكم ثمانين حادثة من هذا النوع خلال ثماني سنوات قضيتُها في ((بارلا)) ولكن خشية الـملل أقتصر على ما ذكرت.

فيا اخوتي! لقد ذكرت لكم ما أصابتني من لطمات الرأفة وصفعات الشفقة والـحنان، فاذا سمـحتـم بأن أسرد ما تلقيتـموه أنتـم من لطمات رؤوفة أيضاً فسأذكرها، وأرجو ألا تستاءوا، وان كان فيكم من لا يرغب في ذكرها فلن أصرح باسمه.

الـمثال الثاني: هو أخي ((عبدالـمـجيد)) وهو من طلابي العاملين الـمـخلصين الـمضحين.. كان يـملك داراً أنيقة جـميلة في ((وان)) وحالته الـمعاشية على مايرام، فضلاً عن أنه كان يزاول مهنة التدريس.. فعندما استوجبت خدمة القرآن ذهابي الى مكان بعيد عن الـمدينة، على الـحدود، أردت استصحابه، الا أنه لـم يوافق وكأنه رأى أنه من الافضل عدم ذهابي أنا كذلك، حيث قد يشوب العمل للقرآن شيء من السياسة وقد يعـّرضه للنفي، وفضّل الـمكوث حيث هو ولـم يشترك معنا. ولكن جاءته اللطمة الرحـمانية بـما هو ضد مقصوده، وعلى غير توقع منه، اذ أُخرج من الـمدينة وأُبعد عن منزلـه الـجـميل وأُرغم على الذهاب الى ((أركاني))(1).

الثالث: وهو ((خلوصي)) وهو من البارزين في خدمة القرآن، فعندما سافر من قضاء ((أطريدر)) الى بلدته، تيسرت لـه اسباب التـمتع بـمباهج الدنيا وسعادتها، مـما دفعه الى شيء من الفتور عن خدمة القرآن الـخالصة لله. حيث التقى والديه اللذين كان قد فارقهما منذ مدة مديدة، وحل في مدينته وهو بكامل بزّته العسكرية ورتبته العالية، فبدت الدنيا لـه حلوة خضرة.

نعم! ان العاملين في خدمة القرآن إما أن يُعرضوا عن الدنيا أو الدنيا تعرض عنهم، كي ينهضوا بالعمل بـجد ونشاط واخلاص.. وهكذا فعلى الرغم من أن قلب ((خلوصي)) ثابت لا يتزعزع، وهو رابط الـجأش، فقد ساقه هذا الوضع الـجـميل الذي ابتسم لـه، الى الفتور.. فجاءته لطمة ذات رأفة، اذ تعرض لـه عدد من الـمنافقين طوال سنتين متواليتين، فسلبوه لذة الدنيا وأفقدوه طعمها، حتى جعلوه يـمتعض منها ويعزف عنها، والدنيا تـمتعض منه وتعزف عنه، وعندها التف حول راية العمل القرآني واستـمسك بها بـجد ونشاط.

الرابع: هو ((الـحافظ أحـمد الـمهاجر)) وسيقص عليكم ما وقع لـه بنفسه.

نعم! لقد أخطأتُ في اجتهادي في خدمة القرآن، حيث فكرت لانقاذ آخرتي وحدي، فما أن بدا فيّ هذا النوع من الرغبة فترت عن العمل للقرآن. فأتتني لطمة رؤوفة، رغم ما فيها من قوة وشدة، بل كانت في الـحقيقة صفعة شديدة وزجراً عنيفاً، أرجو الله تعالى أن تكون كفارة عما بدر مني من غفلة عن العمل لقرآنه العظيـم. والـحادثة كانت كالآتي:

كان الاستاذ لا يوافق على مـحدثات الامور(1) وحيث ان الـجامع الذي أؤدي فيه الصلاة جـماعة يقع بـجوار مسكن الاستاذ، والشهور الـمباركة – رجب شعبان رمضان – مقبلة علينا، فقد حدثتني نفسي بالآتي:

ان لـم أؤد الصلاة على الوجه البدعي، أُمنع من عملي، وان تركتُ الـجامع ولـم أصلِّ فيه اماماً للـجـماعة، يضيع مني ثواب عظيـم ولاسيـما في هذه الشهور الثلاثة فضلاً عن أن أهل الـمـحلة سيعتادون على ترك الـجـماعة.. فرغبت في نفسي أن لو يغادر الاستاذ – وهو أحب اليَّ من روحي – القرية ((بارلا)) يغادرها مؤقتاً الى قرية اخرى كي أؤدي الصلاة وفق الامور الـمـحدثة. ولكن فاتني شيء هو أن لو غادر الاستاذ هذا الـمكان فسوف يفتر العمل للقرآن ولو مؤقتاً. فجاءتني العقوبة في هذه الاثناء، وكانت لطمة قوية جداً مع ما فيها من حنان ورأفة. حتى انني لـم أفق من شدتها منذ ثلاثة شهور.

فأملي عظيـم في سعة رحـمته تعالى أن يـجعل كل دقيقة من دقائق تلك الـمصيبة بـمثابة عبادة يوم كامل – كما أخبرني به الاستاذ بـما ألـهمه الله – حيث أن ذلك الـخطأ لـم يكن قد بدر مني لدوافع شخصية، وانـما هو خطأ اجتهادي في التفكير، ولـم ينـجـم الا عن تفكيري بآخرتي وحدها.

الـخامس: هو ((السيد حقي)). وحيث أنه ليس حاضراً معنا، فسأنوب عنه كما نُبْتُ عن ((خلوصي)) فأقول:

كان السيد حقي يوفي حق مهمته في العمل للقرآن أيـما ايفاء. ولكن عندما عُين قائمقام سفيه للقضاء، فكـَّر السيد حقي أن يـخبىء ما لديه من رسائل خشية أن تصيبه واستاذه أذىً منه، فترك خدمة النور مؤقتاً، واذا بلطمة ذات رحـمة وحنان تواجهه، اذ فُتـحت عليه دعوى كادت تلـجئه الى دفعٍ ألف ليرة كي يبرأ منها، فبات تـحت وطأة التهديد طوال سنة كاملة. حتى أتانا عائداً الى وظيفته طالباً في خدمة القرآن، فأنقذه الله من تلك الورطة ورُفع عنه الـحكم، وبرئت ساحته.

ثم عندما فُتـح أمام الطلاب ميدان عمل جديد للقرآن وهو استنساخه بـخط جـميل وبنـمط جديد، أُعطي للسيد حقي حصته من الاستنساخ، فأجاد القيام بـما كلف، وكتب جزءاً كاملا من القرآن الكريـم أحسن كتابة، ولكن لأنه كان يرى نفسه في حالة مضطرة من حيث ضروريات العيش، فقد لـجأ الى القيام بوكالة الدعاوى أمام الـمـحاكم، من دون علـمنا، واذا به يتلقى لطمة أخرى فيها الرأفة والرحـمة لـه، اذ انثنت اصبعه التي كان يكتب بها القرآن الكريـم. وحيث اننا لـم نكن نعلـم تورطه في هذا العمل فقد كنا حائرين أمام ما نزل باصبعه من بأسٍ، وعجزه عن الاستـمرار في كتابة القرآن.

ثم علـمنا أن الـخدمة الـمقدسة هذه لاتقبل أن تدخل تلك الاصابع الطاهرة في أمور ملوثة(1)، فكأن الاصبع تقول بهذا الانثناء: لا يـجوز لك أن تغمسني بنور القرآن الكريـم ثم تغرقني في ظلـمة الدعاوى. فنبهته..

وعلى كل حال، فقد وضعت نفسي موضع ((خلوصي))، وتكلـمت بدلاً منه، فالسيد حقي أيضاً مثلـه تـماماً. فان لـم يرض بوكالتي عنه فليكتب بنفسه اللطمة التي تلقاها.

السادس: هو ((السيد بكر))(2) وسأتولى مهمة الكلام عنه لعدم حضورة معنا مثلـما تكلـمت بدلاً عن أخي عبدالـمـجيد، فهو مثلـه أيضاً، أتوكل عنه معتـمداً على اخلاصه ووفائه وصداقته الصميـمة وثباته في الـخدمة، واستناداً الى ما يرويه ((السيد سليـمان))(3) و ((الـحافظ توفيق الشامي))(4) وأمثالـهم من الأخوة الأحبة:

ان السيد بكر هو الذي تولـّى القيام بطبع ((الكلـمة العاشرة)) في استانبول، فاردنا طبع ((رسالة الـمعجزات القرآنية)) أيضاً هناك قبل احداث الـحروف اللاتينية الـحديثة، أرسلت رسالة كتبت لـه فيها: سنرسل لك ثمن طبع هذه الرسالة مع ثمن الرسالة السابقة. ولكنه عندما لاحظ ان الطبع يكلـّف اربعمائة ليرة، وهو يعلـم ما انا فيه من فقر، اراد هو ان يدفع الـمبلغ من خالص مالـه وخطر ببالـه أنني لاأرضى بهذا العمل، فخدعته نفسه فلـم يباشر بالطبع، فاصاب الـخدمة القرآنية من جراء تفكيره هذا ضرر بالغ.. وبعد مرور شهرين سُرِقَت منه تسعمائة ليرة، فكانت لطمة رؤوفة وشديدة تـجاه ما أصاب العمل من فتور. نسأل الله ان يـجعل تلك الاموال الضائعة بـمثابة صدقة عن نفسه.

السابع: هو ((الـحافظ توفيق)) الـملقب بالشامي، وسيورد بنفسه الـحادثة:

نعم! لقد قمت بأعمال ساقتني الى الفتور في خدمة القرآن. فأتتني لطمة من جرائها، وتيقنت بـما لا يقبل الشك ان هذه اللطمة ليست الا من تلك الـجهة، اذ كانت نتيـجة خطأ مني في التفكير وجهل مني في التقدير.

اللطمة الاولى: عندما وزع الاستاذ أجزاء القرآن الكريـم علينا، كان حظي منها كتابة ثلاثة أجزاء، حيث قد أنعم الله عليَّ قدرة على كتابة الـحروف العربية وتـجويدها كخط القرآن الكريـم. فالشوق الى كتابة كتاب الله العزيز ولـَّد فيّ فتوراً عن كتابة مسودات الرسائل وتبييضها، فضلا عن أنه قد أصابني منه شيء من الغرور، حيث كنت أعدّ فائقاً على أقراني في هذا العمل، بـما أجده في نفسي من كفاية في حسن الـخط العربي. حتى أنه عندما اراد الاستاذ ارشادي الى أمور تـخص الكتابة العربية، قلت بشيء من الغرور: هذا الامر يعود لي، أعرف هذا فلا أحتاج الى توصية! فتلقيت لطمة عطف ورأفة نتيـجة خطأي هذا، وهي انني عجزت عن بلوغ أقراني في الكتابة، فسبقوني في الـجودة.. فكنت احار من أمري هذا، لـماذا تـخلفت عنهم رغم تـميزي عليهم؟! ولكن الآن أدركت أن ذلك كان لطمة رحـمانية، ضربتني بها كرامة خدمة القرآن، حيث لا تقبل الغرور!

ثانيتها: كانت لديَّ حالتان تـخلان بصفاء العمل للقرآن، تلقيت على أثرهما لطمة شديدة. والـحالتان هما:

كنت أعد نفسي غريباً عن البلد، بل غريباً حقاً، فلأجل تبديد وحشة الغربة جالست أناساً مغرورين بالدنيا، فتعلـمت منهم الرياء والتـملق، علاوة على تعرضي لفقر الـحال – ولا أشكو – حيث لـم اراع دستور الاستاذ الـمهم في الاقتصاد والقناعة، رغم تنبيه الاستاذ لي على هذه الامور وتـحذيري، بل توبيـخي أحياناً. فلـم أستطع – مع الاسف – انقاذ نفسي من هذه الورطة.. نسأل الله العفو والـمغفرة.. فهاتان الـحالتان استغلتهما شياطين الـجن والانس فاصاب العمل للقرآن الفتور، وتلقيت لطمة قوية، الا انها كانت لطمة حنان ورأفة، فأيقنت بـما لا يدع مـجالا للشك أن هذه اللطمة انـما هي من ذلك الوضع وكانت على الوجه الآتي:

على الرغم من أنني كنت موضع خطاب الاستاذ وكاتب مسودات رسائلـه وتبييضها طوال ثماني سنوات. فلـم أنل مع الاسف من نورها ما كان يفيض على غيري في ثـمانية شهور. فكنت انا والاستاذ حائرين أمام هذا الوضع! ونتساءل: لـماذا؟ أي لـماذا لا يدخلٍ نور حقائق القرآن شغاف قلبي.. بـحثنا عن الاسباب كثيراً، حتى علـمنا الآن علـماً جازماً، ان تلك الـحقائق انـما هي نور وضياء، ولا يـجتـمع النور مع ظلـمات الرياء والتصنع والتزلف للآخرين.. لذا ابتعدت معاني حقائق هذه الانوار عني وغدت كأنها غريبة عني. أسألـه سبـحانه وتعالى أن يرزقني الاخلاص الكامل اللائق للعمل، وينقذني من الرياء والتذلل لأهل الدنيا. وارجوكم جـميعاً – وفي الـمقدمة ارجو الاستاذ – ان تـجهدوا في الدعاء لي.

العبد الـمقصر

الـحافظ توفيق الشامي

الثامن: هو ((سيراني)): هذا الأخ صنو ((خسرو))(1) من الـمشتاقين لرسائل النور، ومن طلابي الأذكياء الـمـجدّين.

استطلعت ذات يوم رأي طلاب ((اسبارطة)) حول التوافق الذي يعدّ مفتاحاً مهما لأسرار القرآن ولعلـم الـحروف. اشترك الـجـميع في الـمناقشة بـجد، عدا هذا الشخص، ولـم يكتف بعدم الـمشاركة في الـمناقشة بل اراد أن يصرفني عمّا أنا اعلـمه من حقائق علـماً يقيناً، اذ كان لـه اهتـمامات بأمور أخرى، ثم بعث اليّ رسالة جارحة جداً، اصابتني في الصميـم. فقلت: وا أسفاه ! لقد ضيعت هذا الطالب النابه، فعلى الرغم من مـحاولتي توضيـح الأمر لـه الاّ أن شيئاً آخر خالط الـموضوع؛ فأتته اللطمة الرؤوفة.. ودخل السجن زهاء سنة.

التاسع: هو ((الـحافظ زهدي الكبير)).

كان هذا الاخ يشرف على عمل طلاب النور في قصبة ((أغروس)) ولكن كأنه لـم يكتف بالـمنزلة الـمعنوية الرفيعة والشرف السامي الذي يتـمتع به طلاب النور، لاتباعهم السنة الشريفة واجتنابهم البدع، فرغب في العثور على هذه الـمنزلة لدى أهل الدنيا فتسلـم وظيفة القيام بتعليـم بدعة سيئة، مرتكباً خطأً جسيـماً منافياً لـمسلكنا الذي هو اتباع السنة الشريفة. فتلقى لطمة رهيبة جداً. اذ تعرض لـحادثة كادت تـمـحو شرفه وشرف أهلـه، وقد مست الـحادثة ((الـحافظ زهدي الصغير)) أيضاً مع الاسف بالرغم من انه لا يستـحق اللطمة. نسأل الله ان تكون تلك الـحادثة الـمؤلـمة بـمثابة عملية جراحية لتصرف قلبه عن الدنيا وتدفعه للاقبال على العمل القرآني الـخالص لوجه الله، لتنفعه يوم القيامة.

العاشرة: هو ((الـحافظ أحـمد)).

كان هذا الاخ يستنسخ الرسائل وينهل من انوارها طوال ثلاث سنوات، وهو دؤوب شغوف في عملـه، ثم تعرض للاختلاط بأهل الدنيا لعلـه يدفع أذاهم عنه، ويتـمكن من ابلاغ الكلام الطيب لـهم وليكسب شيئاً من الـمنزلة لديهم، فضلاً عن انه كان يرغب في أن يوسّع ما ضاق عليه من أمور الدنيا وهموم العيش ففتر شوقهُ. واستغل اهل الدنيا ضعفه بهذا الـجانب فأصابه فتور في عملـه القرآني جراء تلك الأوضاع، فأتته لطمتان معاً.

اولاها: ضُمّ الى عائلته خـمسة اشخاص آخرين بالرغم من ضيق معيشته، فأصبـح حقاً في رهق شديد من العيش.

ثانيتها: على الرغم من أنه كان مرهف الـحس ولا يتـحـمل شيئاً من الكلام من أحد، فقد اصبـح وسيلة لدساسين من حيث لا يعلـم، حتى فقد موقعه ومنزلته كلياً، وأصبـح كثيرٌ من الناس يهجرونه، ففقد صداقتهم بل عادوه.. وعلى كل حال؛ نسأل الله أن يغفر لـه، ونسألـه ان يوفقه للافاقة من غفلته ويعي الامور ويعود الى مهمته في خدمة القرآن.

الـحادي عشر: لـم يسجّل ربـما لا يرضى!.

الثاني عشر: هو ((الـمعلـم غالب))(1) لقد خدم هذا الاخ باخلاص وصدق في تبييض الرسائل، فقام بـخدمات جليلة كثيرة، ولـم يبد منه ضعفٌ أمام أية مشكلة من الـمشاكل مهما كانت.

كان يـحضر الدرس في أغلب الاوقات وينصت بكل أهتـمام وشوق، ويستنسخ الرسائل لنفسه أيضاً، حتى استكتب لنفسه جـميع ((الكلـمات والـمكتوبات)) لقاء أجرة قدرها ثلاثون ليرة. كان يقصد من وراء هذا الاستنساخ نشر الرسائل في مدينته، وارشاد اصدقائه، وبعد ذلك فتر عن العمل ولـم يقم بنشر الرسائل كما هو دأبه، وذلك بسبب ما ساوره من الـهواجس، فحجب نور هذه الرسائل عن الانظار فأصابته على حين غرة حادثة أليـمة جداً، تـجرّع من جرائها العذاب غصصاً مدة سنة كاملة، فوجد أمامه عدداً غفيراً من أعداء ظالـمين بدلاً من عداوة بضعة موظفين لقيامه بنشر الرسائل، ففقد أصدقاء أعزاء عليه.

الثالث عشر: هو ((الـحافظ خالد))(2) وسيذكر لكم الـحادثة بنفسه:

عندما كنت أعمل بشوق وحـماسة في كتابة مسودات رسائل النور، كانت هناك وظيفة شاغرة، وهي أمامة الـمسجد في مـحلتنا. ورغبة مني – رغبة شديدة – لألبس جبتي العلـمية القديـمة وعمامتها فترتُ مؤقتاً عن العمل وضعفتْ همتي وشوقي في خدمة القرآن فانسحبتُ من ساحة العمل القرآني جهلاً مني، فاذا بي أتلقى لطمة ذات رأفة بـخلاف ما كنت أقصده. اذ رغم الوعود الكثيرة التي قطعها الـمفتي على نفسه بتعييني، ورغم أني كنت قد توليت هذه الوظيفة لـما يقرب من تسعة اشهر سابقاً الا انني حُرمت من لبس الـجبة والعمامة، فأيقنت أن هذه اللطمة انـما هي من ذلك التقصير في العمل للقرآن. اذ كان الاستاذ يـخاطبني بالذات في الدرس فضلاً عن قيامي بكتابة الـمسودة، فانسحابي من العمل، ولاسيـما من كتابة الـمسودة، اوقعهم في حرج وضيق.. وعلى كل حال فالشكر لله وحده الذي جعلنا نفهم فداحة تقصيرنا ونعلـم مدى سمو هذه الـخدمة، ونثق باستاذ مرشد كالشيـخ الكيلاني ظهيراً لنا كالـملائكة الـحفظة.

اضعف العباد

الـحافظ خالد

الرابع عشر: لطمات حنان ثلاث صغيرة، أصابت ثلاثة أشخاص كل منهم يسمى ((مصطفى)).

أولـهم: ((مصطفى جاويش))(1) كان هذا الاخ يتولى خدمة الـجامع الصغير، وتزويد مدفأته بالنفط، بل حتى علبة الكبريت كان يوفرها للـجامع، فخدم طوال ثماني سنوات، ويدفع كل ما تـحتاجه هذه الامور من خالص مالـه – كما علـمنا بعدئذٍ – ولـم يكن يتـخلف عن الـجـماعة ابداً، ولاسيـما في ليالي الـجـمع الـمباركة الاّ اذا اضطر الى ذلك بعمل ضروري جداً. أخبره أحد الأيام بعض أهل الدنيا مستغلين صفاء قلبه: بلـّغ الـحافظ فلاناً – وهو من كتّاب رسائل النور – لينزع عمامته قبل ان يتأذى ويـجبر على نزعها، وبلـّغ الـجـماعة ان يتركوا الآذان سراً(2). ولـم يعلـم هذا الدنيوي الغافل ان تبليغ هذا الكلام ثقيل جداً على شخص مثل مصطفى جاويش من ذوي الأرواح العالية. ولكن لصفاء سريرته بلـَّغ صاحبه الـخبر، فرأيت تلك الليلة في الـمنام ان يدي مصطفى جاويش ملطختان وهو يسير خلف القائمقام ويدخلان معاً غرفتي..! قلت لـه في اليوم التالي لذلك اليوم: أخي مصطفى! مَن قابلت اليوم؟ رأيتك في الـمنام وانت ملطخ اليدين سائراً خلف القائمقام. قال: واأسفاه، لقد أبلغني الـمـختار كلاماً وانا بلـّغته الـحافظ الكاتب، ولـم أعلـم ما وراءه من كيد.

ثم حدث في اليوم نفسه ان جاء بكمية من النفط للـمسجد. وعلى غير الـمعتاد فقد ظل باب الـمسجد مفتوحاً فدخل عناق (صغير العنز) الى حرم الـمسجد فلوث قريباً من سجادتي، وجاء احدهم فاراد تنظيف الـمكان فلـم يـجد غير اناء النفط، وحسبه ماءً فرشّ ما في الاناء الى أطراف الـمسجد والعجيب انه لـم يشم رائحته. فكأن الـمسجد يقول بلسان حالـه لـ((مصطفى ضاويش)): ((لا حاجة لنا الى نفطك بعد الآن، لقد أرتكبت خطأً جسيـماً)) واشارة لـهذا الكلام الـمعنوي لـم يشعر ذلك الشخص برائحة النفط بل لـم يتـمكن مصطفى من الاشتراك في صلاة الـجـماعة في ذلك اليوم وليلة الـجـمعة الـمباركة بالرغم من مـحاولاته. ثم ندم ندماً خالصاً لله، واستغفر الله كثيراً، فرجع اليه صفاء قلبه وخلوص عبادته والـحـمد لله.

الشخصان الآخران الـمسمى كل منهما بـ ((مصطفى)).

أولـهما: مصطفى من قرية ((قولـه أونلي)) وهو من الطلاب الـمـجدّين، والآخر صديقه الوفي هو ((الـحافظ مصطفى)).

كنت قد بلـّغت طلابي بان لا يأتوا حالياً لزيارتي عقب العيد لئلا يفتر العمل للقرآن من جراء مراقبة أهل الدنيا ومضايقاتهم. واستثنيت من ذلك من كان يأتي فرداً فلا بأس به، واذا بي أفاجأ بثلاثة اشخاص معاً يأتون لزيارتي ليلاً، ويزمعون السفر قبل الفجر – اذا سمـحت احوال الـجو بالسفر – فلـم نتـخذ تدابير الـحذر، لا أنا ولا سليـمان ولا مصطفى جاويش، بل نسيناها حيث ألقى كلٌ منا اتـخاذها على عاتق الآخر. وعلى كل حال غادرونا قبل الفجر، فجاءتهم اللطمة بعاصفة شديدة لـم نكن قد رأينا مثلـها في هذا الشتاء. استـمرت ساعتين متواليتين فقلقنا عليهم كثيراً، وقلنا لن ينـجوا منها، وتألـمت عليهم ألـماً ما تألـمت على أحد مثلـهم. ثم اردت ان ابعث سليـمان – لعدم أخذه بالـحذر – ليتلقى اخبارهم ويبلـّغنا عن سلامة وصولـهم. ولكن مصطفى جاويش قال: اذا ذهب سليـمان فسيبقى هناك ايضاً، ولا يتـمكن من العودة، وسأتبعه أنا ايضاً، وسيتبعني عبدالله جاويش وهكذا.. ولـهذا وكـّلنا الامر الى العلي القدير قائلين جـميعاً: توكلنا على الله. وفوضنا الامر اليه.

* * *

سؤال:

انك تعد الـمصائب التي تصيب اخوانك الـخواص واصدقاءك تأديباً ربانياً ولطمة عتاب لفتورهم عن خدمة القرآن، بينـما الذين يعادون خدمة القرآن ويعادونكم يعيشون في بـحبوحة من العيش وفي سلام وأمان. فلـم يتعرض صديق القرآن للـّطمة ولا يتعرض عدوه لشيء؟

الـجواب: يقول الـمثل الـحكيـم: (الظلـم لا يدوم والكفر يدوم) فأخطاء العاملين في صفوف خدمة القرآن هي من قبيل الظلـم تـجاه الـخدمة، لذا يتعرضون بسرعة للعقاب ويـجازون بالتأديب الرباني، فان كانوا واعين يرجعون الى صوابهم.

أما العدو فان صدوده عن القرآن وعداءه لـخدمته انـما هو لأجل الضلالة، وان تـجاوزه على خدمة القرآن – سواء شعر به أم لـم يشعر – انـما هو من قبيل الكفر والزندقة، وحيث ان الكفر يدوم، فلا يتلقى معظمهم الصفعات بذات السرعة، اذ كما يعاقب من يرتكب أخطاء طفيفة في القضاء او الناحية، بينـما يساق مرتكبو الـجرائم الكبيرة الى مـحاكم الـجزاء الكبرى، كذلك الاخطاء الصغيرة والـهفوات التي يرتكبها أهلُ الايـمان وأصدقاء القرآن يتلقون على إثرها جزاءاً من العقاب بسرعة في الدنيا ليكفـّر عن سيئاتهم ويتطهروا منها، أما جرائم أهل الضلالة فهي كبيرة وجسيـمة الى حد لا تسع هذه الـحياة الدنيا القصيرة عقابهم، فيـمهـّلون الى عالـم البقاء والـخلود والى الـمـحكمة الكبرى لتقتص منهم العدالة الإلـهية القصاص العادل، لذا لا يلقون غالباً عقابهم في هذه الدنيا.

وفي الـحديث الشريف: ((الدنيا سجن الـمؤمن وجنة الكافر))(1) اشارة الى هذه الـحقيقة التي ذكرناها، أي أن الـمؤمن ينال نتيـجة تقصيراته قسماً من جزائه في الدنيا، فتكون بـحقه كأنها مكان جزاء وعقاب، فضلا عن أن الدنيا بالنسبة لـما أعده الله لـه من نعيـم الآخرة سجن وعذاب. أما الكفار فلأنهم مـخلـّدون في النار، ينالون قسماً من ثواب حسناتهم في الدنيا، وتـمهَل سيئاتهم العظيـمة الى الآخرة الـخالدة، فتكون الدنيا بالنسبة لـهم دار نعيـم لـما يلاقونه من عذاب الآخرة. والا فالـمؤمن يـجد من النعيـم الـمعنوي في هذه الدنيا ما لا ينالـه أسعد انسان. فهو أسعد بكثير من الكافر من زاوية نظر الـحقيقة وكأن ايـمان الـمؤمن بـمثابة جنة معنوية في روحه وكفر الكافر يستعر جحيـماً في ماهيته.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس