عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #7
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الحادي عشر


الشعاع الحادي عشر - ص: 300
النقطة الثانية:
ان جميع ما دعت اليه الكتب والصحف السماوية وفي مقدمتها القرآن الكريم وجميع الدعوات التي قام بها الانبياء عليهم السلام وفي مقدمتهم محمد صلى الله عليه وسلم تدور على اسس ثابتة، واركان معينة. ولقد سعى جميعهم لاثبات الاسس وتلقينها للآخرين. لذا فجميع الحجج والدلائل التي تشهد على نبوتهم وصدقهم متوجهة معا الى تلك الاسس والاركان مما يزيدها قوة وأحقية. وما تلك الاسس الا الايمان بالله، وباليوم الآخر، وبملائكته، وكتبه، ورسله، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى.
فلا يمكن اذن التفريق بين اركان الايمان الستة اطلاقاً، حيث أن كل ركن من الاركان يثبت الاركان عامة بل يستدعيها ويقتضيها، لذا فان الاركان الستة كلٌ لايقبل التجزأة البتة، وكلّي لا يمكن ان ينقسم ابداً. فكما ان كل غصن من اغصان الشجرة المباركة (شجرة طوبى) الممتد جذرها في السماء، وكل ثمر من ثمارها وكل ورقة من اوراقها يستند على الحياة الخالدة لتلك الشجرة، فلا يمكن لأحد ان ينكر حياة ورقة واحدة متصلة بتلك الشجرة ما لم يتمكن له إنكار حياة تلك الشجرة الظاهرة ظهوراً ساطعاً كالشمس. ولئن انكر فان تلك الشجرة تكذبه بعدد اغصانها وثمارها واوراقها وتسكته، كذلك الايمان بأركانه الستة هو بالصورة نفسها.
هذا ولقد كانت النية معقودة على بيان الاركان الايمانية الستة في ست نقاط وفي كل نقطة خمس نكات ذات مغزى، وكانت الرغبة متوجهة الى اجابة السؤال المثير الوارد في المقدمة ببيان اكثر وتوضيح أوسع، الا أن عوائق وعوارض حالت دون ذلك. بيد أنني أخال أن "النقطة الاولى" لم تدع سبيلا لايضاح اكثر لاهل الدراية، حيث انها مقياس كاف للموضوع.
وهكذا وضح تماماً انه؛ اذا ما انكر المسلم اية حقيقة ايمانية كانت فانه يتردى الى الكفر المطلق؛ اذ تسلسلت الاركان الايمانية بعضها ببعض، وفصّل الاسلام ووضح ماأجمل في الاديان الاخرى. فالمسلم الذي لايعرف محمداً صلى الله عليه وسلم ولايصدق به فلايعرف الله سبحانه (بصفاته) ولايعرف الآخرة كذلك.. فايمان المسلم قوي
الشعاع الحادي عشر - ص: 301
ورصين الى درجة لايتزعزع ابداً ولايدع مجالاً للانكار قطعاً لاستناده الى حجج كثيرة جداً، حتى كأن العقل يرضخ رضوخاً لقبول هذا الايمان.
النقطة الثالثة:
قلت ذات مرة "الحمد لله". ثم بحثت عن نعمة عظيمة جداً تقابل معناها الواسع جداً، فخطر على القلب الجملة الآتية:
[الحمد لله على الايمان بالله، وعلى وحدانيته، وعلى وجوب وجوده وعلى صفاته، واسمائه، حمداً بعدد تجليات اسمائه من الازل الى الابد].
فتأملت فيها فوجدتها مطابقة تماماً للمعنى.. وهي كالآتي 1:
.................................................. .................................................. .....
* * *
_____________________
1
انتهى النص هنا وكأن الستار اسدل امام الاستاذ فلم يستمر بالكتابة، او لعل الظروف المحيطة به حالت دون ذلك، فاكتفى بالفقرات السابقة. - المترجم.

الشعاع الحادي عشر - ص: 302
المسـألة العاشرة
زهرة اميرداغ
(رد شاف ومقنع على اعتراضات ترد حول التكرار في القرآن الكريم)
اخواني الاعزاء الاوفياء!
كنت اعاني من حالة مضطربة بائسة حينما تناولت هذه المسألة بالكتابة، لذا اكتنفها شئ من الغموض لكونها بقيت كما جاءت عفو الخاطر. ولكني ادركت ان تلك العبارات المشوشة تنطوي على اعجاز رائع. فيا اسفى لم استطع ان اوفي حق هذا الاعجاز من الاداء والتعبير. فعبارات الرسالة مهما كانت خافتة الانوار الا انها تعد - من حيث تعلقها بالقرآن الكريم - "عبادة فكرية" و صَدَفَة تضم لآلئ نفيسة سامية، فالرجاء ان تصرفوا النظر عن قشرتها وتمعنوا النظر بما فيها من لآلئ ساطعة. فان وجدتموها جديرة حقا فاجعلوها "المسألة العاشرة" - لرسالة الثمرة - والا فاقبلوها رسالة جوابية عن تهانيكم.
ولقد اضطررت الى كتابتها في غاية الاجمال والاقتضاب، لما كنت اكابد من سوء التغذية واوجاع الامراض، حتى انني ادرجت في جملة واحدة منها حقائق وحججا غزيرة، واتممتها - بفضل الله - في يومين من ايام شهر رمضان المبارك، فارجو المعذرة عما بدر مني من تقصير 1.
_____________________
1
هذه المسألة "زهرة " لطيفة وضاءة لهذا الشهر الكريم ولمدينة "اميرداغ " الحقت بـ "ثمرة " سجن "دنيزلي " على انها "المسألة العاشرة ". فهي تزيل باذن الله ماينفثه اهل الضلالة من سموم الاوهام العفنة حول ظاهرة التكرار فى القرآن، وذلك ببيانها حكمة من حكمها الكثيرة. - المؤلف.

الشعاع الحادي عشر - ص: 303
اخوتي الاوفياء الصادقين!
حينما كنت اتلو القرآن - المعجز البيان - في الشهر المبارك رمضان، تدبّرت في معاني الآيات الثلاث والثلاثين - التي وردت اشاراتها الى رسائل النور في "الشعاع الاول" - فرأيت أن كل آية منها - بل آيات تلك الصفحة في المصحف وموضوعها - كأنها تطل على رسائل النور وطلابها من جهة نيلهم غيضا من فيضها وحظا من معانيها - لاسيما آية النور "في سورة النور" فهي تشير بالاصابع العشر الى رسائل النور، كما أن الآيات التي تعقبها - وهي آية الظلمات - تطل على معارضي الرسائل واعدائها بل تعطيهم حصة اكبر، اذ لايخفى ان مقام تلك الايات وأبعادها ومراميها غير قاصرة على زمان ومكان معينين بل تشمل الأزمنة والامكنة جميعها، اي تخرج من جزئية الامكنة والازمنة الى كلّيتهما الشاملة، لذا شعرت ان رسائل النور وطلابها انما يمثلون في عصرنا هذا - حق التمثيل - فرداً واحداً من افراد تلك الكلية الشاملة.
ان خطاب القرآن الكريم قد اكتسب صفة الكلية والسعة المطلقة والرفعة السامية والاحاطة الشاملة؛ لصدوره مباشرة من المقام الواسع المطلق للربوبية العامة الشاملة للمتكلم الازلي سبحانه.. ويكتسبها من المقام الواسع العظيم لمن اُنزل عليه هذا الكتاب، ذلكم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الممثل للنوع البشري والمخاطب باسم الانسانية قاطبة، بل باسم الكائنات جميعا.. ويكتسبها ايضا من توجه الخطاب الى المقام الواسع الفسيح لطبقات البشرية كافة في العصور كافة.. ويكتسبها ايضا من المقام الرفيع المحيط النابع من البيان الشافي لقوانين الله سبحانه المتعلقة بالدنيا والآخرة، بالارض والسماء، بالازل والابد، تلك القوانين التي تخص ربوبيته وتشمل امور المخلوقات كافة.
فهذا الخطاب الجليل الذي اكتسب من السعة والسمو والاحاطة والشمول ما اكتسب، يبرز اعجازاً رائعاً وإحاطة شاملة، بحيث:
ان مراتبه الفطرية والظاهرية التي تلاطف أفهام العوام البسيطة - وهم معظم المخاطبين - تمنح في الوقت نفسه حصة وافرة لأعلى المستويات الفكرية ولأرقى الطبقات العقلية، فلايهب لمخاطبيه شيئا من ارشاداته وحدها، ولايخصهم بعبرة من
الشعاع الحادي عشر - ص: 304
حكاية تأريخية فقط، بل يخاطب ايضاً كل طبقة في كل عصر - لكونها فرداً من افراد دستور كلي - خطاباً ندياً طرياً جديداً كأنه الآن ينزل عليهم. ولاسيما كثرة تكراره: "الظالمين.. الظالمين.." وزجره العنيف لهم وانذاره الرهيب من نزول مصائب سماوية وأرضية بذنوبهم ومظالمهم، فيلفت الانظار - بهذا التكرار- الى مظالم لانظير لها في هذا العصر، بعرضه أنواعا من العذاب والمصائب النازلة بقوم عاد وثمود وفرعون. وفي الوقت نفسه يبعث السلوان والطمأنينة الى قلوب المؤمنين المظلومين، بذكره نجاة رسل كرام امثال ابراهيم وموسى عليهما السلام.
ثم ان هذا القرآن العظيم يرشد كل طبقة من كل عصر ارشاداً واضحاً باعجاز رائع مبينا:
ان "الازمنة الغابرة" والعصور المندثرة التي هي في نظر الغافلين الضالين واد من عدم سحيق موحش رهيب، ومقبرة مندرسة أليمة كئيبة، يعرضها صحيفة حية تطفح عبرا ودروسا، وعلما عجيبا ينبض بالحياة ويتدفق بالحيوية من أقصاه الى اقصاه، ومملكة ربانية ترتبط معنا بوشائج وأواصر، فيبينها - باعجازه البديع - واضحة جليلة كأنها مشهودة تعرض أمامنا على شاشة، فتارة يأتي بتلك العصور ماثلة شاخصة أمامنا، وتارة يأخذنا الى تلك العصور.
ويبين بالاعجاز نفسه "الكون" الذي يراه الغافلون فضاء موحشا بلا نهاية، وجمادات مضطربة بلا روح تتدحرج في دوامة الفراق والآلام، يبينه القرآن كتابا بليغا، كتبه الاحد الصمد، ومدينة منسقة عمرها الرحمن الرحيم، ومعرضا بديعا أقامه الرب الكريم لاشهار مصنوعاته. فيبعث بهذا البيان حياة في تلك الجمادات، ويجعل بعضها يسعى لامداد الاخر، وكل جزء يغيث الآخر ويعينه، كأنه يحاوره محاورة ودية صميمة، فكل شئ مسخر وكل شئ انيط به وظيفة وواجب.. وهكذا يلقي القرآن دروس الحكمة الحقيقية والعلم المنور الى الانس والجن والملك كافة فلاريب ان هذا القرآن العظيم - الذي له هذا الاعجاز في البيان - قمين بان يحوز خواص راقية عالية، وميزات مقدسة سامية، امثال:
الشعاع الحادي عشر - ص: 305
في كل حرف منه عشر حسنات، بل ألف حسنة أحيانا، بل ألوف الحسنات في احيان اخرى.. وعجز الجن والانس عن الإتيان بمثله ولو اجتمعوا له.. ومخاطبته بني آدم جميعهم بل الكائنات برمتها مخاطبة بليغة حكيمة.. وتلهف الملايين من الناس في كل عصر الى حفظه عن ظهر قلب بشوق ومتعة.. وعدم السأم من تلاوته الكثيرة رغم تكراراته.. واستقراره التام في اذهان الصغار اللطيفة البسيطة مع كثرة ما فيه من جمل ومواضع تلتبس عليهم.. وتلذذ المرضى والمحتضرين - الذين يتألمون حتى من أدنى كلام - من سماعه، وجريانه في اسماعهم عذبا طيبا.. وغيرها من الخواص السامية والمزايا المقدسة التي يحوزها القرآن الكريم، فيمنح قرّاءه وتلاميذه انواعا من سعادة الدارين.
ويظهر اعجازه الجميل ايضا في "اسلوب ارشاده البليغ" حيث راعى أحسن الرعاية أمية مبلغه الكريم صلى الله عليه وسلم باحتفاظه التام على سلاسته الفطرية، فهو أجلّ من ان يدنو منه تكلف او تصنع او رياء - مهما كان نوعه - فجاء اسلوبه مستساغا لدى العوام الذين هم اكثرية المخاطبين، ملاطفاً بساطة اذهانهم بتنزلاته الكلامية القريبة من أفهامهم.. باسطاً امامهم صحائف ظاهرة ظهورا بديهيا كالسموات والارض.. موجهاً الانظار الى معجزات القدرة الإلهية وسطور حكمته البالغة المضمرتين تحت العاديات من الامور والاشياء.
ثم ان القرآن الكريم يظهر نوعا من اعجازه البديع ايضا في "تكراره البليغ" لجملة واحدة، اولقصة واحدة، وذلك عند ارشاده طبقات متباينة من المخاطبين الى معان عدة، وعبر كثيرة في تلك الآية او القصة، فاقتضى التكرار حيث أنه: كتاب دعاء ودعوة كما انه كتاب ذكر وتوحيد، وكل من هذا يقتضي التكرار، فكل ما كرر في القرآن الكريم اذاً من آية او قصة إنما تشتمل على معنى جديد وعبرة جديدة.
ويظهر اعجازه ايضا عند تناوله "حوادث جزئية" وقعت في حياة الصحابة الكرام اثناء نزوله وارسائه بناء الاسلام وقواعد الشريعة فتراه يأخذ تلك الحوادث بنظر الاهتمام البالغ، مبينا بها: أن ادق الامور لاصغر الحوادث جزئية انما هي تحت نظر رحمته سبحانه، وضمن دائرة تدبيره وإرادته، فضلا عن انه يظهر بها سننا إلهية جارية في الكون ودساتير كلية شاملة. زد على ذلك ان تلك الحوادث التي هي بمثابة
الشعاع الحادي عشر - ص: 306
النويات عند تأسيس الاسلام والشريعة ستثمر فيما يأتي من الازمان ثماراً يانعة من الاحكام والفوائد.
ان تكرر الحاجة يستلزم التكرار، هذه قاعدة ثابتة، لذا فقد اجاب القرآن الكريم عن أسئلة مكررة كثيرة خلال عشرين سنة، فارشد باجاباته المكررة طبقات كثيرة متباينة من المخاطبين. فهو يكرر جملا تملك ألوف النتائج، ويكرر ارشادات هي نتيجة لأدلة لاحد لها، وذلك عند ترسيخه في الاذهان وتقريره في القلوب ما سيحدث من انقلاب عظيم وتبدل رهيب في العالم وما سيصيبه من دمار وتفتت الاجزاء، وما سيعقبه من بناء الآخرة الخالدة الرائعة بدلا من هذا العالم الفاني.
ثم انه يكرر تلك الجمل والايات ايضا عند اثباته ان جميع الجزئيات والكليات ابتداء من الذرات الى النجوم انما هي في قبضة واحد أحد سبحانه وضمن تصرفه جل شأنه.
ويكررها ايضا عند بيانه الغضب الإلهي والسخط الرباني تجاه المظالم التي يرتكبها الانسان عند خرقه الغاية من الخلق، تلك المظالم التي تثير هيجان الكائنات والارض والسماء والعناصر وتؤجج غضبها على مقترفيها.
لذا فان تكرار تلك الجمل والايات عند بيان امثال هذه الامور العظيمة الهائلة لايعد نقصاً في البلاغة قط، بل هو اعجاز في غاية الروعة والابداع، وبلاغة في غاية العلو والرفعة، وجزالة - بل فصاحة - مطابقة تطابقاً تاماً لمقتضى الحال، فعلى سبيل المثال:
ان جملة (بسمِ الله الرّحمنِ الرّحيم) هي آية واحدة تتكرر مائة واربع عشرة مرة في القرآن الكريم، ذلك لانها حقيقة كبرى تملأ الكون نورا وضياء وتشد الفرش بالعرش برباط وثيق ــ كما بيناها في اللمعة الرابعة عشرة ــ فما من أحد الاّ وهو بحاجة ماسة الى هذه الحقيقة في كل حين، فلو تكررت هذه الحقيقة العظمى ملايين المرات، فالحاجة مازالت قائمة باقية لا ترتوي. اذ ليست هي حاجة يومية كالخبز، بل هي ايضاً كالهواء والضياء الذي يُضطر اليه ويُشتاق كل دقيقة.
الشعاع الحادي عشر - ص: 307
وان الآية الكريمة (وإنَّ رَبَّكَ لَهوَ العزيزُ الرّحيم) تتكرر ثماني مرات في سورة "الشعراء". فتكرار هذه الآية العظيمة التي تنطوي على الوف الحقائق في سورة تذكُر نجاة الانبياء عليهم السلام وعذاب اقوامهم، انما هو لبيان:
ان مظالم اقوامهم تمس الغاية من الخلق، وتتعرض الى عظمة الربوبية المطلقة، فتقتضي العزة الربانية عذاب تلك الاقوام الظالمة مثلما تقتضي الرحمة الإلهية نجاة الانبياء عليهم السلام. فلو تكررت هذه الآية الوف المرات لما انقضت الحاجة والشوق اليها، فالتكرار هنا بلاغة راقيةذات اعجاز وايجاز.
وكذلك الآية الكريمة (فبِأيّ آلاءِ رَبّكما تُكذّبان) المكررة في سورة "الرحمن" والآية الكريمة (ويلٌ يَومئذٍ للمُكذبينَ) المكررة في سورة "المرسلات" تصرخ كل منهما في وجه العصور قاطبة وتعلن اعلانا صريحاً في اقطار السموات والارض أن كفر الجن والانس وجحودهم بالنعم الإلهية، ومظالمهم الشنيعة، يثير غضب الكائنات ويجعل الارض والسموات في حنق وغيظ عليهم.. ويخل بحكمة خلق العالم والقصد منه.. ويتجاوز حقوق المخلوقات كافة ويتعدى عليها.. ويستخف بعظمة الالوهية وينكرها، لذا فهاتان الآيتان ترتبطان بألوف من امثال هذه الحقائق، ولهما من الأهمية ما لألوف المسائل وقوتها، لو تكررتا الوف المرات في خطاب عام موجه الى الجن والانس لكانت الضرورة قائمة بعد، والحاجة اليها مازالت موجودة باقية. فالتكرار هنا بلاغة موجزة جليلة ومعجزة جميلة.
(ومثال آخر نسوقه حول حكمة التكرار في الحديث النبوي صلى الله عليه وسلم) فالمناجاة النبوية المسماة بالجوشن الكبير مناجاة رائعة مطابقة لحقيقة القرآن الكريم ونموذج مستخلص منه. نرى فيها جملة "سبحانك يالاإله إلاّ انت الامان الامان خلصنا من النـــار.. اجرنا من النار.. نجّنا من النار" هذه الجمل تتكرر مائة مرة، فلو تكررت الوف المرات لما ولدت السأم، إذ انها تنطوي على أجلّ حقيقة في الكون وهي التوحيد، وأجل وظيفة من وظائف المخلوقات تجاه ربهم الجليل وهي التسبيح والتحميد والتقديس، واعظم قضية مصيرية للبشرية وهي النجاة من النار والخلاص من الشقاء الخالد، وألزم غاية للعبودية وللعجز البشري ألا وهو الدعاء.
الشعاع الحادي عشر - ص: 308
وهكذا نرى امثال هذه الاسس فيما تشتمل عليه انواع التكرار في القرآن الكريم. حتى نرى أنه يعبر اكثر من عشرين مرة عن حقيقة التوحيد - صراحة او ضمنا - في صحيفة واحدة من المصحف وذلك حسب اقتضاء المقام، ولزوم الحاجة الى الافهام، وبلاغة البيان، فيهيج بالتكرار الشوق الى تكرار التلاوة، ويمد به البلاغة قوة وسموا من دون أن يورث سأماً او مللاً.
ولقد اوضحت اجزاء رسائل النور حكمة التكرار في القرآن الكريم وبينت حججها واثبتت مدى ملاءمة التكرار وانسجامه مع البلاغة، ومدى حسنه وجماله الرائع.
اما حكمة اختلاف السور المكية عن المدنية من حيث البلاغة، ومن جهة الاعجاز ومن حيث التفصيل والاجمال فهي على النحو الآتي:
ان الصف الاول من المخاطبين والمعارضين في مكة كانوا مشركي قريش وهم اميون لا كتاب لهم، فاقتضت البلاغة اسلوبا عاليا قويا واجمالا معجزا مقنعا، وتكراراً يستلزمه التثبيت في الافهام؛ لذا بحثت اغلب السور المكية اركان الايمان ومراتب التوحيد باسلوب في غاية القوة والعلو، وبايجاز في غاية الاعجاز، وكررت الايمان بالله والمبدأ والمعاد والاخرة كثيرا، بل قد عبرت عن تلك الاركان الايمانية في كل صحيفة أو آية، او في جملة واحدة، او كلمة واحدة، بل ربما عبرت عنها في حرف واحد، في تقديم وتأخير، في تعريف وتنكير، في حذف وذكر. فاثبتت اركان الايمان في امثال تلك الحالات والهيئات البلاغية أثباتا جعل علماء البلاغة وائمتها يقفون حيارى مبهوتين امام هذا الاسلوب المعجز. ولقد وضحّت رسائل النور ولاسيما "الكلمة الخامسة والعشرون مع ذيولها" اعجاز القرآن في اربعين وجها من وجوهها، وكذلك تفسير "اشارات الاعجاز في مظان الايجاز" باللغة العربية الذي يبين بيانا رائعا اعجاز القرآن من حيث وجه النظم بين الآيات الكريمة. فاثبتت كلتا الرسالتين فعلاً علو الاسلوب البلاغي الفذ وسمو الايجاز المعجز في الآيات المكية.
اما الآيات المدنية وسورها فالصف الاول من مخاطبيها ومعارضيها كانوا من اليهود والنصارى وهم اهل كتاب مؤمنون بالله. فاقتضت قواعد البلاغة واساليب الارشاد واسس التبليغ أن يكون الخطاب الموجه لأهل الكتاب مطابقا لواقع حالهم،
الشعاع الحادي عشر - ص: 309
فجاء باسلوب سهل واضح سلس، مع بيان وتوضيح في الجزئيات - دون الاصول والاركان (الايمانية) - لان تلك الجزئيات هي منشأ الاحكام الفرعية والقوانين الكلية، ومدار الاختلافات في الشرائع والاحكام.. لذا فغالباً ما نجد الايات المدنية واضحة سلسة باسلوب بياني معجز خاص بالقرآن الكريم. ولكن ذكر القرآن فذلكة قوية او نتيجة ملخصة او خاتمة رصينة او حجة دامغة تعقيبا على حادثة جزئية فرعية، يجعل تلك الحادثة الجزئية قاعدة كلية عامة، ومن بعد ذلك يضمن الامتثال بها بترسيخ الايمان بالله الذي يحققه ذكر تلك الفواصل الختامية الملخصة للتوحيد والايمان والاخرة. فترى أن ذلك المقام الواضح السلس يتنور ويسمو بتلك الفواصل الختامية. (ولقد بينت "رسائل النور" واثبتت حتى للمعاندين مدى البلاغة العالية والميزات الراقية وانواع الجزالة السامية الدقيقة الرفيعة في تلك الفذلكات والفواصل وذلك في عشر مميزات ونكت في النور الثاني من الشعلة الثانية للكلمة الخامسة والعشرين الخاصة باعجاز القرآن).
فان شئت فانظر الى (إن الله على كلِّ شئٍ قدير) ( إن الله بكل شئٍ عليم) ( وهو العزيز الحكيم) ( وهو العزيز الرحيم) وامثالها من الآيات التي تفيد التوحيد وتذكّر بالآخرة، والتي تنتهي بها اغلب الآيات الكريمة، تَرَ أن القرآن الكريم عند بيانه الاحكام الشرعية الفرعية والقوانين الاجتماعية يرفع نظر المخاطب الى آفاق كلية سامية، فيبدل - بهذه الفواصل الختامية - ذلك الاسلوب السهل الواضح السلس اسلوباً عالياً رفيعاً، كأنه ينقل القارئ من درس الشريعة الى درس التوحيد. فيثبت أن القرآن كتاب شريعة واحكام وحكمة كما هو كتاب عقيدة وايمان، وهو كتاب ذكر وفكر كما هو كتاب دعاء ودعوة.
وهكذا ترى أن هناك نمطا من جزالة معجزة ساطعة في الآيات المدنية هو غير بلاغة الآيات المكية، حسب اختلاف المقام وتنوع مقاصد الارشاد والتبليغ.
فقد ترى هذا النمط في كلمتين فقط: (ربك) و (رب العالمين) إذ يعلّم الاحدية بتعبير (ربك) ويعلّم الواحدية بـ (رب العالمين)، فيفيد الاحدية ضمن الواحدية.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس