عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #8
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الحادي عشر


الشعاع الحادي عشر - ص: 310
بل قد ترى ذلك النمط من البلاغة في جملة واحدة فيريك في آية واحدة مثلا نفوذ علمه في موضع الذرة في بؤبؤ العين وموقع الشمس في كبد السماء، واحاطة قدرته التي تضع بآلالة الواحدة كلاً في مكانه، جاعلة من الشمس كأنها عين السماء فيعقب (وهو عَليمٌ بذاتِ الصُدور) بعد آيات (هو الذى خلقَ السموات والارض… يُولج الليلَ في النهارِ ويُولجُ النّهار في الليل) (الحديد: 4- 6) أي يعقب نفوذ علمه سبحانه في خفايا الصدور بعد ذكره عظمة الخلق في السموات والارض وبسطها امام الانظار. فيقر في الاذهان أنه يعلم خواطر القلوب وخوافي شؤونها ضمن جلال خلاقيته للسموات والارض وتدبيره لشؤونها. فهذا التعقيب: (وهو عَليمٌ بذاتِ الصُدور) لون من البيان يحول ذلك الاسلوب السهل الواضح الفطري - القريب الى افهام العوام - الى ارشاد سام وتبليغ عام جذاب.
سؤال:
ان النظرة السطحية العابرة لاتستطيع ان ترى ما يورده القرآن الكريم من حقيقة ذات اهمية، فلاتعرف نوع المناسبة والعلاقة بين فذلكة تعبّر عن توحيد سام او تفيد دستوراً كلياً، وبين حادثة جزئية معتادة؛ لذا يتوهم البعض ان هناك شيئا من قصور في البلاغة، فمثلا: لاتظهر المناسبة البلاغية في ذكر دستور عظيم: (وفَوقَ كل ذي عِلم عَليم) (يوسف: 76) تعقيبا على حادثة جزئية وهي ايواء يوسف عليه السلام اخاه اليه بتدبير ذكي، فيرجى بيان السر في ذلك وكشف الحجاب عن حكمته ؟
الجواب: ان اغلب السور المطولة والمتوسطة - التي كل منها كأنها قرآن على حدة - لاتكتفي بمقصدين او ثلاثة من مقاصد القرآن الاربعة (وهي: التوحيد، النبوة، الحشر، العدل مع العبودية) بل القرآن بماهيته، أي كل منها: كتاب ذكر وايمان وفكر، كما أنه كتاب شريعة وحكمة وهداية، يتضمن كُتباً عدة، ويرشد الى دروس مختلفة متنوعة. فتجد ان كل مقام - بل حتى الصحيفة الواحدة - يفتح امام الانسان ابوابا للايمان ولمعرفة الله ومراتب التوحيد يحقق بها اقرار مقاصد عديدة، حيث أن القرآن يقرأ ما هو مسطور في كتاب الكون الكبير ويبينه بوضوح، فيرسخ في اعماق المؤمن احاطة ربوبيته سبحانه بكل شئ، ويريه تجلياتها المهيبة في الافاق والانفس، لذا فإن ما يبدو ظاهراً من مناسبة ضعيفة، يبنى عليها مقاصد كلية، فتتلاحق مناسبات وثيقة
الشعاع الحادي عشر - ص: 311
وعلاقات قوية بتلك المناسبة الضعيفة ظاهراً، فيكون الاسلوب مطابقا تماما لمقتضى ذلك المقام، فتتعالى مرتبته البلاغية.
سؤال آخر:
ما حكمة سَوق القرآن الوف الدلائل لاثبات امور الآخرة وتلقين التوحيد واثابة البشر ؟ وما السر في لفته الانظار الى تلك الامور صراحة وضمنا واشارة في كل سورة بل في كل صحيفة من المصحف وفي كل مقام ؟
الجواب: لان القرآن الكريم ينبه الانسان الى اعظم انقلاب يحدث ضمن المخلوقات ودائرة الممكنات في تاريخ العالم.. وهو الآخرة. ويرشده الى اعظم مسألة تخصه وهو الحامل للامانة الكبرى وخلافة الارض.. تلك هي مسألة التوحيد الذي يدور عليه سعادته وشقاوته الابديتان. وفي الوقت نفسه يزيل القرآن سيل الشبهات الواردة دون انقطاع، ويحطم اشد انواع الجحود والانكار المقيت.
لذا لو قام القرآن بتوجيه الانظار الى الايمان بتلك الانقلابات المدهشة وحمل الآخرين على تصديق تلك المسألة العظيمة الضرورية للبشر.. نعم لو قام به آلاف المرات وكرر تلك المسائل ملايين المرات لايعدّ ذلك منه اسرافاً في البلاغة قط، كما أنه لايولد سأما ولا مللا ألبتة، بل لاتنقطع الحاجة الى تكرار تلاوتها في القرآن الكريم، حيث ليس هناك اهم ولا اعظم مسألة في الوجود من التوحيد والآخرة.
فمثلاً: ان حقيقة الآية الكريمة: (انّ الذينَ آمنوا وعَملوا الصّالحات لَهُم جَناتٌ تجري من تحتها الانهارُ ذلك الفوز الكبير) (البروج: 11) هي بشرى السعادة الخالدة تزفها هذه الآية الكريمة الى الانسان المسكين الذي يلاقي حقيقة الموت كل حين، فتنقذه هذه البشرى من تصور الموت اعداما ابديا، وتنجيه - وعالمه وجميع احبته - من قبضة الفناء، بل تمنحه سلطنة ابدية، وتكسبه سعادة دائمة.. فلو تكررت هذه الآية الكريمة ملياراً من المرات لايعد من الاسراف قط، ولايمس بلاغته شئ.
وهكذا ترى أن القرآن الكريم الذي يعالج امثال هذه المسائل القيمة ويسعى لاقناع المخاطبين بها باقامة الحجج الدامغة يعمق في الاذهان والقلوب تلك التحولات العظيمة والتبدلات الضخمة في الكون، ويجعلها امامهم سهلة واضحة كتبدل المنزل
الشعاع الحادي عشر - ص: 312
وتغير شكله. فلابد أن لفت الانظار الى امثال هذه المسائل - صراحة وضمنا واشارة - بالوف المرات تجديد لإحسانه وضروري جداً كضرورة الانسان الى نعمة الخبز والهواء والضياء التي تتكرر حاجته اليها دائما.
ومثلاً: ان حكمة تكرار القرآن الكريم في: (والذين كَفروا لهُم نار جهنم) (فاطر: 36). (ان الظالمين لَهُم عَذاب أليم) (ابراهيم: 22) وامثالها من آيات الانذار والتهديد. وسوقها باسلوب في غاية الشدة والعنف، هي (كما اثبتناها في رسائل النور اثباتا قاطعا):
ان كفر الانسان انما هو تجاوز - ايّ تجاوز - على حقوق الكائنات واغلب المخلوقات، ممايثير غضب السماوات والارض، ويملأ صدور العناصر حنقا وغيظا على الكافرين، حتى تقوم تلك العناصر بصفع اولئك الظالمين بالطوفان وغيره. بل حتى الجحيم تغضب عليهم غضبا تكاد تتفجر من شدته كما هو صريح الآية الكريمة: (اذا اُلقوا فيها سمِعوا لها شهيقاً وهي تفور_ تكاد تميَّزُ من الغيظِ) (الملك: 7، 8). فلو يكرر سلطان الكون في اوامره تلك الجناية العظمى (الكفر) وعقوبتها باسلوب في غاية الزجر والشدة ألوف المرات، بل ملايين المرات، بل مليارات المرات لما عدّ ذلك اسرافا مطلقا ولانقصا في البلاغة، نظراً لضخامة تلك الجناية العامة وتجاوز الحقوق غير المحدودة، وبناء على حكمة اظهار اهمية حقوق رعيته سبحانه وابراز القبح غير المتناهي في كفر المنكرين وظلمهم الشنيع. اذ لايكرر ذلك لضآلة الانسان وحقارته بل لهول تجاوز الكافر وعظم ظلمه.
ونحن نرى ان مئات الملايين من الناس منذ الف ومئات من السنين يتلون القرآن الكريم بلهفة وشوق وبحاجة ماسة اليه دون ملل ولا سأم.
نعم، ان كل وقت وكل يوم انما هو عالمٌ يمضي وباب ينفتح لعالم جديد لذا فان تكرار " لا إله إلاّ الله " بشوق الحاجة اليها ألوف المرات لاجل اضاءة تلك العوالم السيارة كلها وانارتها بنور الايمان، يجعل تلك الجملة التوحيدية كأنها سراج منير في استار تلك العوالم والايام. فكما أن الامر هكذا في " لاإله إلاّ الله " كذلك بتلاوة تكرارات القرآن الكريم يعرف المرء عظم جزاء الجنايات الحاصلة بالظلام المخيم على
الشعاع الحادي عشر - ص: 313
تلك الكثرة الكاثرة من المشاهد السارية، وعلى تلك العوالم السيارة المتجددة، وقبح صورها المنعكسة في مرآة الحياة، وتجعل تلك الاوضاع المقبلة شهوداًًً له يوم القيامة لاشهوداً عليه، وترقّيه الى مرتبة معرفة عِظم جزاء الجنايات، وتجعله يدرك قيمة النذر المخيفة لسلطان الازل والابد التي تشتت عناد الظالمين الطغاة، وتشوّقه الى الخلاص من طغيان النفس الامارة بالسوء.. فلأجل هذه الحكم كلها يكرر القرآن الكريم مايكرر في غاية الحكمة، مظهراً ان النذر القرآنية الكثيرة الى هذا القدر، وبهذه القوة والشدة والتكرار حقيقة عظمى، ينهزم الشيطان من توهمها باطلا، ويهرب من تخيلها عبثا. نعم ان عذاب جهنم لهو عين العدالة لأولئك الكفار الذين لايعيرون للنذر سمعاً.
ومن المكررات القرآنية "قصص الانبياء" عليهم السلام، فالحكمة في تكرار قصة موسى عليه السلام - مثلاً - التي لها من الحكم والفوائد ما لعصا موسى، وكذا الحكمة في تكرار قصص الانبياء انما هي لاثبات الرسالة الاحمدية وذلك بإظهار نبوة الانبياء جميعهم حجة على أحقية الرسالة الاحمدية وصدقها؛ حيث لايمكن أن ينكرها الا من ينكر نبوتهم جميعا. فذكرها اذن دليل على الرسالة.
ثم ان كثيراً من الناس لايستطيعون كل حين ولا يوفقون الى تلاوة القرآن الكريم كله، بل يكتفون بما يتيسر لهم منه. ومن هنا تبدو الحكمة واضحة في جعل كل سورة مطولة ومتوسطة بمثابة قرآن مصغر، ومن ثم تكرار القصص فيها بمثل تكرار اركان الايمان الضرورية. اي أن تكرار هذه القصص هو مقتضى البلاغة وليس فيه اسراف قط. زد على ذلك فان فيه تعليماً بأن حادثة ظهور محمد صلى الله عليه وسلم اعظم حادثة للبشرية واجل مسألة من مسائل الكون.
نعم! ان منح ذات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم اعظم مقام واسماه في القرآن الكريم، وجعل "محمد رسول الله" - الذي يتضمن اربعة من اركان الايمان - مقروناًً بـ"لا اله الا الله" دليل - وأيّ دليل - على أن الرسالة المحمدية هي اكبر حقيقة في الكون، وان محمداً صلى الله عليه وسلم لهو اشرف المخلوقات طراً. وان الحقيقة المحمدية التي تمثل الشخصية المعنوية الكلية والمقام السامى والمرتبة الرفيعة لمحمد صلى الله عليه وسلم هي السراج المنير للعالمين كليهما، وانه صلى الله عليه وسلم اهل لهذا المقام الخارق، كما قد اثبت ذلك في اجزاء رسائل النور بحجج وبراهين عديدة اثباتا قاطعاً. نورد هنا واحداً من الف منها. وكما يأتي:
الشعاع الحادي عشر - ص: 314
ان كل ما قام به جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم من حسنات في الازمنة قاطبة يكتب مثلها في صحيفة حسناته صلى الله عليه وسلم، وذلك حسب قاعدة "السبب كالفاعل".
وان تنويره لجميع حقائق الكائنات بالنور الذي اتى به لايجعل الجن والانس والملك وذوي الحياة في امتنان ورضى وحدهم بل يجعل ايضاً الكون برمته والسماوات والارض جميعا راضية عنه محدثة بفضائله.
وان ما يبعثه صالحو الامة - الذين يبلغون المليارات - يوميا من أدعية فطرية مستجابة لاترد - بدلالة القبول الفعلي المشاهد لأدعية النباتات بلسان الاستعداد، وادعية الحيوانات بلسان حاجة الفطرة - ومن ادعية الرحمة بالصلاة والسلام عليه، وما يرسلونه بما ظفروا من مكاسب معنوية وحسنات هداياً، انما تقدم اليه اولا.
فضلا عما يدخل في دفتر حسناته صلى الله عليه وسلم من انوار لاحدود لها بما تتلوه أمته - بمجرد التلاوة - من القرآن الكريم الذي في كل حرف من حروفه - التي تزيد على ثلاثمائة الف حرف - عشر حسنات وعشر ثمار اخروية، بل مائة بل الف من الحسنات..
نعم ! ان علام الغيوب سبحانه قد سبق علمه وشاهد أن الحقيقة المحمدية التي هي الشخصية المعنوية لتلك الذات المباركة صلى الله عليه وسلم ستكون كمثال شجرة طوبى الجنة، لذا أولاه في قرآنه تلك الاهمية العظمى، حيث هو المستحق لذلك المقام الرفيع. وبيّن في اوامره بأن نيل شفاعته هو باتباعه والاقتداء بسنته الشريفة وهو اعظم مسألة من مسائل الانسان. بل أخذ بنظر الاعتبار - بين حين وآخر - اوضاعه الانسانية البشرية التي هي بمثابة بذرة شجرة طوبى الجنة.
وهكذا فلأن حقائق القرآن المكررة تملك هذه القيمة الراقية وفيها من الحكم ما فيها، فالفطرة السليمة تشهد أن في تكراره معجزة معنوية قوية وواسعة، الامَن مرض قلبه وسقم وجدانه بطاعون المادية، فتشمله القاعدة المشهورة:
قد ينكر المرءُ ضوء الشمس من رَمَد ويُنكر الفمُ طعم الماء من سَقَم
* * *
الشعاع الحادي عشر - ص: 315
خاتمة
هذه المسألة العاشرة في حاشيتين
الحاشية الاولى:
طرق سمعي قبل اثنتي عشرة سنة، ان زنديقاً عنيداً، قد فضح سوء طويته وخبث قصده باقدامه على ترجمة القرآن الكريم، فحاك خطة رهيبة، للتهوين من شأنه بمحاولة ترجمته. وصرح قائلاً: ليترجم القرآن لتظهر قيمته؟ اي ليرى الناس تكراراته غير الضرورية! ولتتلى ترجمته بدلاً منه! الى آخره من الافكار السامة. الا أن رسائل النور بفضل الله بحججها الدامغة وبانتشارها السربع في كل مكان، قد شلت تلك الفكرة وجعلتها عقيمة بائرة فاثبتت اثباتاً قاطعاً أنه:
لايمكن قطعا ترجمة القرآن الكريم ترجمة حقيقية.. وان أية لغة غير اللغة العربية الفصحى عاجزة عن الحفاظ على مزايا القرآن الكريم ونكته البلاغية اللطيفة.. وان الترجمات العادية الجزئية التي يقوم بها البشر لن تحل - باي حال - محل التعابير الجامعة المعجزة للكلمات القرآنية التي في كل حرف من حروفها حسنات تتصاعد من العشرة الى الالف، لذا لايمكن مطلقا تلاوة الترجمة بدلاً منه.
بيد ان المنافقين الذين تتلمذوا على يد ذلك الزنديق، سعوا بمحاولات هوجاء في سبيل الشيطان ليطفئوا نور القرآن الكريم بأفواههم. ولكن لما كنت لا التقي احداً، فلا علم لي بحقيقة ما يدور من اوضاع، الا أن اغلب ظني ان ما أوردته آنفا هو السبب الذي دعا الى إملاء هذه "المسألة العاشرة" على الرغم مما يحيط بي من ضيق.
الحاشية الثانية:
كنت جالسا ذات يوم في الطابق العلوي من فندق "شهر" عقب اطلاق سراحنا من سجن "دنيزلي" أتأمل فيما حوالي من اشجار الحَوَر (الصفصاف) الكثيرة في الحدائق الغناء والبساتين الجميلة، رأيتها جذلانة بحركاتها الراقصة الجذابة، تتمايل بجذوعها واغصانها، وتهتز اوراقها بادنى لمسة من نسيم. فبدت امامي بابهى صورة واحلاها، وكأنها تسبح لله في حلقات ذكر وتهليل.
الشعاع الحادي عشر - ص: 316
مسّت هذه الحركات اللطيفة أوتار قلبي المحزون من فراق إخواني، وانا مغموم لانفرادي وبقائي وحيداً.. فخطر على البال - فجأة - موسما الخريف والشتاء وانتابتني غفلة، اذ ستتناثر الاوراق وسيذهب الرواء والجمال.. وبدأت أتألم على تلك الحَوَر الجميلة، واتحسر على سائر الاحياء التي تتجلى فيها تلك النشوة الفائقة تألماً شديداً حتى اغرورقت عيناي واحتشدت على رأسي أحزان تدفقت من الزوال والفراق تملأ هذا الستار المزركش البهيج للكائنات !.
وبينما أنا في هذه الحالة المحزنة اذا بالنور الذي اتت به الحقيقة المحمدية عليه الصلاة والسلام يغيثني - مثلما يغيث كل مؤمن ويسعفه - فبدّل تلك الأحزان والغموم التي لاحدود لها مسرات وأفراحاً لاحد لها، فبتّ في امتنان أبدي ورضى دائم من الحقيقة المحمدية التي انقذني فيض واحد من فيوضات انوارها غير المحدودة، فنشر ذلك الفيض السلوان في ارجاء نفسي واعماق وجداني، وكان ذلك على النحو الآتي:
ان تلك النظرة الغافلة أظهرت تلك الاوراق الرقيقة والاشجار الفارعة الهيفاء من دون وظيفة ولامهمة، لانفع فيها ولاجدوى، وانها لاتهتز اهتزازها اللطيف من شدة الشوق والنشوة بل ترتعد من هول العدم والفراق.. فتباً لها من نظرة غافلة اصابت صميم ما هو مغروز فيّ - كما هو عند غيري - من عشق للبقاء، وحب الحياة، والافتتان بالمحاسن، والشفقة على بني الجنس.. فحولت الدنيا الى جهنم معنوية، والعقل الى عضو للشقاء والتعذيب. فبينما كنت اقاسي هذا الوضع المؤلم، اذا بالنور الذي أنار به محمد صلى الله عليه وسلم البشرية جمعاء يرفع الغطاء ويزيل الغشاوة ويبرز حِكماً ومعاني ووظائف ومهمات غزيرة جداً تبلغ عدد اوراق الحَور. وان نتائجها ليست الى العدم والعبث والإعدام والفناء.. وقد أثبتت رسائل النور ان تلك الوظائف والحكم تنقسم الى ثلاثة أقسام 1:
القسم الاول: وهو المتوجه الى الاسماء الحسنى للصانع الجليل. فكما ان صانعا ماهرا اذا ما قام بصنع ماكنة بديعة، يثني عليه الجميع ويقدرون صنعته ويباركون ابداعه، فان تلك الماكنة هي بدورها كذلك تبارك صانعها وتثني عليه بلسان حالها،
_____________________
1
اكتفى الاستاذ هنا بذكر الوظيفتين، حيث الثالثة تعود الى الشئ نفسه. - المترجم.

الشعاع الحادي عشر - ص: 317
وذلك باراءتها النتائج المقصودة منها اراءة تامة. كذلك كل حي وكل شئ مثل تلك الماكنة، يبارك صانعه بالتسبيحات.
اما القسم الثاني: فهو المتوجه الى انظار ذوي الحياة وذوي الشعور من المخلوقات اي يكون موضع مطالعة حلوة وتأمل لذيذ، فيكون كل شئ كأنه كتاب معرفة وعلم، ولايغادر هذا العالم - عالم الشهادة - الاّ بعد وضع معانيه في اذهان ذوي الشعور، وطبع صوره في حافظتهم، وانطباع صورته في الالواح المثالية وفي سجلات عالم الغيب، اي لاينسحب من عالم الشهادة الى عالم الغيب الاّ بعد دخوله ضمن دوائر وجود كثيرة ويكسب انواعاً من الوجود المعنوي والغيبي والعلمي، بدلاً عن وجود صورى ظاهرى.
نعم مادام الله موجوداً، وعلمه يحيط بكل شئ، فلابد ألاّ يكون هناك في عالم المؤمن عدم، واعدام، وانعدام، وعبث، ومحو، وفناء، من زاوية الحقيقة.. بينما دنيا الكفار زاخرة بالعدم والفراق والانعدام ومليئة بالعبث والفناء. ومما يوضح هذه الحقيقة ما يدور على الالسنة من قول مشهور هو:
"
من كان له الله كان له كل شئ، ومن لم يكن له الله لم يكن له شئ".
الخلاصة: ان الايمان مثلما ينقذ الانسان من الاعدام الابدي اثناء الموت، فهو ينقذ دنيا كل شخص ايضا من ظلمات العدم والانعدام والعبث. بينما الكفر - ولاسيما ان كان مطلقا - فانه يعدم ذلك الانسان، ويعدم دنياه الخاصة به بالموت. ويلقيه في ظلمات جهنم معنوية محولا لذائذ حياته آلاما وغصصا.
فلترّن آذان الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، وليأتوا بعلاج لهذا الامر ان كانوا صادقين، او ليدخلوا حظيرة الايمان ويخلصوا انفسهم من هذه الخسارة الفادحة.

(سبحانك لا علمَ لنا إلاّ ما عَلمتَنا إنكَ انت العليمُ الحكيم)
اخوكم الراجي دعواتكم والمشتاق اليكم
سعيد النورسـي
الشعاع الحادي عشر - ص: 318
المسألة الحادية عشرة
ان الشجرة المقدسة للاركان الايمانية الكلية لها ثمرات يانعة احداها هي الجنة، والاخرى هي السعادة الابدية، والثالثة هي رؤية الله جل جلاله. ولما كانت رسائل النور قد اوضحت مئات من تلك الثمار - كلّيها وجزئيها - مع حججها الدامغة في "سراج النور" فنحيل اليها ونشير هنا الى بضعة نماذج فقط لثمرات جزئية بل الى جزء الجزئي والخاص من تلك الثمار الطيبة.
احداها: كنت ذات يوم ادعو دعاء بهذا المضمون "يارب أتوسل اليك بحرمة جبرائيل وميكائيل واسرافيل وعزرائيل وبشفاعتهم ان تحفظني من شرور شياطين الجن والانس.." وحالما ذكرتُ اسم عزرائيل - الذي يملأ ذكره الناس رعباً وارتجافاً - شعرتُ بحالة ذات طعم في غاية الحلاوة والسلوان، فحمدت الله قائلا: الحمد لله، وبدأت أحب عزرائيل حباً خالصاً، على أنه واحد من الملائكة الذين يعتبر الايمان بوجودهم ركناً من أركان الايمان. وسنشير بإلمامة قصيرة الى ثمرة جزئية واحدة من عديد الثمار للايمان بهذا المَلَك.
منها: ان اثمن ما عند الانسان، واعظم ما يحرص عليه ويدافع عنه ويجهد في الحفاظ عليه، هو روحه بلاشك.. فلقد أحسستُ يقيناً بفرح عميق ازاء تسليم الانسان لأعز ما يملكه في الوجود - وهو روحه - الى يد "قوي أمين" ليحفظه من العبث والضياع والفناء.
ثم تذكرت الملائكة الموكَّلين بتسجيل اعمال الانسان، فرأيت أن لهم ثمرات لذيذة جداً كهذه:
منها: ان كل انسان لأجل أن تخلد أعماله الطيبة، وتبقى كلماته القيمة، يسعى للحفاظ عليها وصيانتها من الضياع، سواء عن طريق الكتابة او الشعر، او حتى
الشعاع الحادي عشر - ص: 319
بالشريط السينمائي، وبخاصة اذا كان لتلك الاعمال ثمراتها الباقية في الجنة، فيشتاق الى حفظها اكثر..
والكرام الكاتبون واقفون على منكبي الانسان ليُظهروه في مشاهد أبدية، وليصوروا اعماله في مناظر خالدة، ليكافأ اصحابها ولينالوا الجوائز الثمينة الدائمة.. ولقد تلذذت من طعوم هذه الثمرة بلذائذ حلوة لا أستطيع أن أصفها.
وعندما جردني اهل الضلالة من اسباب الحياة الاجتماعية، وابعدوني عن كتبي وأحبتي وخدمي وكل ما كان يمنحني السلوان، وألقوني في ديار الغربة والوحشة، وكنت في ضيق وضجر من حالي الى درجة كنت أشعر أن الدنيا الفارغة ستتهدم على رأسي.. فبينما انا في هذه الحالة اذا بثمرة من ثمرات الايمان بالملائكة تأتي لأغاثتي، فتضئ ارجاء دنياي كلها، وتنور العالم من حولي، وتعمّره بالملائكة وتؤهله بالارواح الطيبة حتى دب السرور والبهجة في كل مكان 1. وأرتني كذلك كم كانت دنيا اهل الضلالة ملآى بصرخات الوحشة وحسرات العبث والظلام..
فبينما كان خيالي فرحاً جذلاً بالتمتع بلذة هذه الثمرة، اذا به يتسلم ثمرة من الثمار الوفيرة - الشبيهة بهذه - من الايمان بالرسل عليهم السلام، فذاقها فعلا، واحسست تواً أن ايماني قد توسع ونما وانبسط حتى اصبح كليا شاملا، اذ أشرقت لدىّ تلك الأزمنة الغابرة كلها واستضاءت بنور التصديق والايمان بهم، حتى كنت أشعر كأنني أعيش معهم، وبات كل نبي من الانبياء يصدق بآلاف التصديق على اركان الايمان التي جاء بها ودعا اليها، خاتمهم صلى الله عليه وسلم، مما أخرس الشيطان وأسكته..
ثم قفز الى القلب السؤال ذو الجواب الشافي الوارد في لمعة "حكمة الاستعاذة" وهو: ان اهل الايمان الذين لهم مثل هذه الثمرات للايمان، ومثل هذه الفوائد والنتائج اللذيذة ذات الطعوم غير المحدودة، ولهم النتائج الجميلة الطيبة للحسنات ومنافعها الكثيرة، ولهم العناية الدائمة من "أرحم الراحمين" وتوفيقه ورحمته.. كل ذلك يمنحهم القوة والاسناد، فلِمَ إذاً يتغلب اهل الضلالة غالباً عليهم، بل قد يتغلب عشرون من اهل الضلالة على مائة منهم، ويهلكونهم؟!.. وفي ثنايا هذا التفكير
_____________________
1
"اطت السماء وحق لها ان تئط، ما من موضع اربع اصابع الا عليه ملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى". رواه احمد (5/173) والترمذي (زهد/9) وابن ماجة (زهد/19) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس