عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #9
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الحادي عشر


الشعاع الحادي عشر - ص: 320
خطر لي: لِمَ يحشّد القرآن الكريم هذا الحشد العظيم لأهل الايمان بذكر إمداد الله إياهم بالملائكة وهم يواجهون دسائس شيطانية واهية ضعيفة؟..
وبما ان رسائل النور قد وضحت حكمة ذلك بحجج قاطعة. فسنشير هنا الى الجواب عن ذلك السؤال في غاية الايجاز:
نعم، يتولى احياناً مائة من الاشخاص المحافظة على قصر، عندما يحاول أحدُ الشريرين أو أي شخص مخرّب إلقاء النار فيه خفية لتدميره. بل قد يُلجأ الى السلطان أو الدولة للحفاظ على القصر، ذلك لأن بقاء بناء القصر يتوقف على جميع الشروط والاركان والاسباب الداعية الى البقاء. اما تخريبه وهدمه فيكون بانعدام شرط واحد فقط. فعلى غرار هذا المثال نفهم كيف ان شياطين الجن والانس يقومون بتخريب مدهش وبحريق معنوي عظيم بفعل قليل جدا، بمثل مايقوم شرير بتدمير بناءٍ فخم بالقاء عود كبريت فيه.
نعم، ان اساس وخميرة الشرور والرذائل والخطايا كلها هو العدم والهدم. وما يبدو من وجودها الظاهر يختفي تحته الافساد، والتعطل، والعدم.
واستناداً الى هذه النقطة فان شياطين الجن والانس والشريرين يتمكنون بقوة هزيلة جدا، أن يصدّوا قوة لاحد لها لاهل الحق والحقيقة ويلجئوهم الى باب الله عز وجل والسعي اليه دائماً. ولأجل هذا يضع القرآن الكريم تلك الحشود الهائلة لحمايتهم. وتسلّم الى ايديهم تسعة وتسعين اسماً من الاسماء الحسنى، ويصدر اوامر مشددة ليثبتوا تجاه اولئك الاعداء.
ومن هذا الجواب ظهر فجأة اساس مسألة مدهشة وبداية حقيقة عظيمة وهو:
كما أن الجنة تخزن محاصيل جميع عوالم الوجود ونتائجها، وتستثمر النوى المزروعة في الدنيا، فتجعلها تؤتي اُكلها كل حين. فان جهنم تحمص محاصيل العدم وتعصف بها لاجل اظهار النتائج الأليمة جدا لعوالم العدم والفناء غير المحدودة، فمصنع جهنم الرهيب - فضلا عن وظائفها العديدة - يطهّر ما في عالم الوجود من اوساخ عالم العدم وأدرانه. سنوضح هذه المسألة العظيمة فيما بعد ان شاء الله لأننا لانريد فتح بابها هنا.
الشعاع الحادي عشر - ص: 321
وكذا فان جزءاً من ثمرات الايمان بالملائكة هو الذي يعود الى المنكر والنكير 1، وهو كالآتي:
قلت ذات يوم: "انني لابد - كأي فرد كان - داخل لامحالة في القبر".. فدخلت اليه خيالا: وفيما كنت استوحش يائسا من سجن القبر الانفرادي، ومن تجردي المطلق من كل شئ، وحيداً دون معين، في ذلك المكان الضيق المظلم البارد، اذا بصديقين كريمين من طائفة "المنكر والنكير" قد برزا وجاءا اليّ وبدءا بالمناظرة معي.. وسّعا كلا من قلبي وقبري، فاستضاءا وتدفئا، وفُتحت شبابيك نوافذ مطلة على عالم الارواح.. سُررت من اعماق روحي وشكرت الله كثيرا على ما رأيت من الاوضاع التي ستتحقق حتما في المستقبل وان كنت أراها الآن خيالا.
فكما أنه عندما توفي طالب علم اثناء تعلمه الصرف والنحو، سأله المنكر والنكير في القبر: مَن ربك ؟ أجاب: مَن مبتدأ وربُك خبره.. أسألوني سؤالاً صعباً فهذا سهل!! - يحسب نفسه انه لايزال في المدرسة يتلقى الدرس - كما أن هذا الجواب أضحك الملائكة والارواح الحاضرة وذلك الولي الصالح الذي انكشف له القبر فشاهد الحادثة، بل جعل الرحمة الإلهية تبتسم؛ فأنقذه من العذاب.. كذلك فقد أجاب شهيد بطل من طلاب رسائل النور وهو (الحافظ علي) 2 وقد توفي في السجن وهو لايزال يقرأ ويكتب "رسالة الثمرة" بكمال الشوق، أجاب عن اسئلة المَلَكين في القبر - مثلما أجاب في المحكمة - بحقائق "رسالة الثمرة". وأنا كذلك وسائر طلبة رسائل النور سنجيب إن شاء الله عن تلك الاسئلة التي هي حقيقة في المستقبل، ومجاز في الوقت الحاضر. سنجيب عنها بحجج رسائل النور الساطعة وبراهينها الدامغة ونسوقهم بها الى التصديق والاستحسان والتقدير.
_____________________
1
روى الترمذي (جنائز/70) وابو داود بمعناه (2/540، 541) وابن ماجة (جنائز/65) واحمد (3/126، 4/288): «اذا قبر الميت أتاه ملكان اسودان ازرقان يقال لاحدهما المنكر وللآخر نكير فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول: هو عبدالله ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم انك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين ثم ينور له فيه، ثم يقال له: نم فيقول: ارجع الى اهلي فاخبرهم فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا بوقظه الاّ احب اهله اليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وان كان منافقاً قال: سمعت الناس يقولون قولاً فقلت مثله، لا ادري. فيقولون: قد علمنا انك تقول ذلك، فيقال للارض التئمي عليه، فتختلف اضلاعه فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك». - المترجم.

2
وهو من الاوائل الذين تتلمذوا على الاستاذ النورسى، كان دؤوباً في الاستنساخ، لما انعم الله عليه من جودة الخط ومن علو الهمة، استشهد في سجن (دنيزلي) سنة 1944 رحمه الله رحمة واسعة.

الشعاع الحادي عشر - ص: 322
وكذا فان نموذجا جزئياً للايمان بالملائكة محوراً لسعادة الدنيا هو:
بينما كان طفل برئ يتلقى درسه الايماني في مبادئ الفقه، اذ يأتيه طفل آخر باكياً مولولا لوفاة أخيه البرئ فيهدئه ويسليه، قائلا: لاتبك ياأخي، بل اشكر الله؛ لأن أخاك قد ذهب مع الملائكة ومضى الى الجنة وسيتجول ويسرح هناك بحرية كاملة كالملائكة وسيجد الفرحة والهناء احسن منا، وسيطير كالملائكة ويشاهد كل مكان.. فبدّل بكاءه وصراخه وعويله ابتسامة وسروراً.
فانا كذلك مثل هذا الطفل الباكي، فقد تلقيت مع ما انا فيه من وضع أليم وفي هذا الشتاء الكئيب نبأ وفاة اثنين ونَعيَهما بأسى وألم بالغين.
احدهما: هو ابن اخي المرحوم "فؤاد" الذي أحرز الدرجة الاولى في المدارس العليا وهو الناشر لحقائق رسائل النور.
الثاني: تلك التي حجت وطافت البيت وهي تعاني سكرات الموت وسلمت روحها في الطواف، وهي المرحومة اختي العالمة "خانم".
فبينما ابكاني وفاة هذين القريبين كبكائي على "عبد الرحمن" 1 - المذكور في رسالة الشيوخ - رأيت بنور الايمان - قلباً ومعنى - صداقة الملائكة ورفاقة الحُور العين لذلك الشاب الطيب "فؤاد" ولتلك السيدة الصالحة، عوضاً عن صداقة الناس، ورأيت نجاتَهما من مهالك الدنيا وخلاصهما من خطاياها. فبدأت أشكر الله وهو أرحم الراحمين ألف شكر وشكر، بما حوّل ذلك الحزن الشديد الى الشعور بالبهجة، والاحساس بالسرور.. وبدأت أهنئهم واهنئ اخي عبدالمجيد 2 (ابا فؤاد) واهنئ نفسي كذلك. ولقد كُتب هذا وسُجل هاهنا من اجل أن ينال هذان المرحومان بركة الدعاء.
ان جميع ما في رسائل النور من موازين ومقارنات انما هو لبيان ثمار سعادة الايمان ونتائجها التي تعود للحياة الدنيا والحياة الاخرى، فتلك الثمار الكلية الضخمة تُري في
_____________________
1
هو عبد الرحمن بن عبدالله، ابن شقيق الاستاذ النورسى ولد سنة 1903 فى نورس وتوفي سنة 1928 ودفن في قرية (ذو الفضل) في انقرة. كتب تاريخ حياة الاستاذ حتى عام 1918 ونشره بكتاب طبع في استانبول. - المترجم.

2
عبد المجيد: هو اصغر اخوة الاستاذ النورسى. ترجم كثيراً من رسائله الى اللغة العربية الا انها نشرت فى وقتها فى نطاق ضيق وترجم الى التركية رسائله العربية (اشارات الاعجاز) و(المثنوى العربى). كان مدرساً للغة العربية ثم مفتياً ثم مدرساً للعلوم الاسلامية فى معهد الائمة والخطباء والمعهد الاسلامي فى قونيا. توفى سنة 1967م عن ثلاث وثمانين سنة من العمر رحمه الله رحمة واسعة. - المترجم.

الشعاع الحادي عشر - ص: 323
الدنيا سعادة الحياة وتذيق لذائذها خلال العمر، كما تخبر: أن ايمان كل مؤمن سيُكسبه في الآخرة سعادة ابدية، بل ستثمر وتتكشف وتنبسط بالصورة نفسها هناك. فمن نماذج تلك الثمار الكلية العديدة كتبت خمس ثمار منها على أنها (للمعراج) في نهاية "الكلمة الحادية والثلاثين" وخمس ثمار في "الغصن الخامس من الكلمة الرابعة والعشرين".
فكما ذكرنا آنفاً ان لكل ركن من اركان الايمان ثماراً كثيرة جداً بلا حدود، فلمجموع اركان الايمان معاً ثمرات لاحدّ لها ايضاً: احداها: الجنة العظيمة.. والاخرى: السعادة الابدية.. والثالثة: هي ألذّها وهي رؤية الله جل جلاله هناك.
وقد وضح بجلاء في المقارنة المعقودة في نهاية "الكلمة الثانية والثلاثين" بعض ثمار الايمان الذي هو محور سعادة الدارين.
هذا وان الدليل على ان "الايمان بالقدر" له ثماره النفيسة ايضاً في هذه الدنيا هو ما يدور على ألسنة الجميع، حتى غدا مضرباً للأمثال: (مَن آمن بالقدر أمِنَ من الكدر). وفي نهاية "رسالة القدر" بينت احدى ثماره الكلية بمثال هو: دخول رجلين حديقة قصر سلطاني.. حتى انني شاهدت من خلال حياتي بالاف من تجاربي وعرفت أن لاسعادة للحياة الدنيا دون الايمان بالقدر، فلولا هذا الايمان لمُحيت اذاً تلك السعادة وفنيت. بل كنت كلما نظرت الى المصائب الأليمة من زاوية الايمان بالقدر كانت تلك المصائب تخف ويقل وطؤها علىّ، فكنت أسأل بحيرة: ياترى كيف يستطيع العيش من لايؤمن بالقدر؟
وقد أشير الى احدى الثمار الكلية للركن الايماني (الايمان بالملائكة) في المقام الثاني للكلمة (الثانية والعشرين) بما يأتي:
ان عزرائيل عليه السلام قال مناجياً ربه عز وجل: ان عبادك سوف يشتكون مني ويسخطون علىّ عند ادائي وظيفة قبض الارواح. فقيل له جواباً: سأجعل الامراض والمصائب ستائر لوظيفتك لتتوجه شكاواهم الى تلك الاسباب لا اليك. ووظيفة عزرائيل نفسها هي الاخرى ستار من تلك الستائر كيلا تتوجه الشكاوى الباطلة الى الحق سبحانه وتعالى، وذلك لان الحكمة والرحمة والجمال والمصلحة الموجودة في الموت قد لايراها كل أحد؛ اذ ينظر الى ظاهر الامور ويبدأ بالاعتراض والشكوى،
الشعاع الحادي عشر - ص: 324
فلاجل هذه الحكمة - اي لئلا تتوجه الشكاوى الباطلة الى الرحيم المطلق - فقد اصبح عزرائيل عليه السلام سِتاراً.
ومثل هذا تماما ما يقوم به جميع الملائكة، وجميع الاسباب الظاهرة من واجبات ووظائف إنما ستائر لعزة الربوبية، لتبقى عزة القدرة الإلهية وقدسيتها ورحمة الله المحيطة الشاملة مصونةً في الامور والاشياء التي لاترى فيها اوجه الجمال، ولاتعلم فيها حقائق الحكمة، من دون ان تكون هدفاً للاعتراضات الباطلة. ولايشاهد عندئذ بالنظر الظاهري مباشرةُ يد القدرة في الامور الجزئية والمنافية للرحمة والاشياء التافهة. هذا وأن رسائل النور قد اثبتت بدلائلها الغزيرة جداً، انه ليس لأي سبب من الاسباب تأثير حقيقي، وليس له قابلية الايجاد اصلاً. وان سكك التوحيد واختامها غير المحدودة موضوعة على كل شئ وان الخلق والايجاد يخصه هو سبحانه وتعالى، فليست الاسباب الاّ مجرد ستائر، وليس للملائكة - وهم ذوو شعور - غير جزءٍ من الاختيار الجزئي الذي له الكسب دون الايجاد، وهو نوع من الخدمة الفطرية ونمط من العبودية العملية لا غير.
اجل ان العزة والعظمة تقتضيان وضع الاسباب الظاهرية ستائر امام نظر العقل، الا ان التوحيد والجلال يرفعان ايدي الاسباب ويردّانها عن التأثير الحقيقي.
وهكذا، فكما ان الملائكة والاسباب الظاهرية المستخدمة في امور الخير والوجود، هي وسائل للتقديس الرباني وتسبيحه، فيما لايُرى ولايُعلم جماله من الاشياء، وذلك بتنزيه القدرة الربانية وصيانتها عن التقصير والظلم، كذلك فان استخدام شياطين الجن والانس والعناصر المضرة في امور الشر والعدم، هو الآخر نوع من الخدمة للتسبيحات الربانية ووسيلة للتقديس والتنزيه والتبرئة من كل مايُظن نقصاً وتقصيراً في الكائنات وذلك لصيانة القدرة السبحانية، كيلا تكون هدفاً لإلصاق الظلم بها وتوجيه الاعتراضات الباطلة اليها، ذلك لأن جميع التقصيرات تأتي من العدم، ومن العجز، ومن الهدم، ومن اهمال الواجبات - الذي كل منه عدم - ومما ليس له وجود من الافعال العدمية. فهذه الستائر الشيطانية والشريرة قد أضحت وسائل لتقديس الحق سبحانه وتعالى لما حملت على عاتقها - باستحقاق - تلك الاعتراضات والشكاوى لكونها مرجعاً لتلك التقصيرات ومصدراً لها. اذ الاعمال الشريرة والعدمية والتخريبية
الشعاع الحادي عشر - ص: 325
لا تتطلب - اصلاً - القوة والقدرة، فالفعل القليل او القوة الجزئية بل إهمال لواجبٍ ما احياناً، يؤدي الى انواع من العدم والفساد. لذا يُظن ان القائم بتلك الافعال الشريرة هو ذو قدرة، بينما الامر في الحقيقة أنه لاتأثير له الاّ العدم ولاقوة له الاّ الكسب الجزئي. ولما كانت تلك الشرور ناشئة من العدم فان اولئك الاشرار يعدّون هم الفاعلين الحقيقيين لها؛ فان كانوا من ذوي الشعور استحقوا ان يذوقوا وبال امرهم. وهذا يعني؛ ان اولئك الاشرار الفاسدين هم فاعلون للسيئات. اما في الحسنات والخير والاعمال الصالحة فلانها وجودية، فان الاخيار ليسوا هم الفاعلين الحقيقيين لها، وانما هم اهلٌ لكي تجري الحسنات على ايديهم فيقبلوا الكرم الإلهي. وما إثابتهم على اعمالهم الاّ كرم وفيض إلهي محض. والقرآن الكريم يوضح هذا بأمره:
(ما أصابَكَ مِنْ حَسَنةٍ فَمِنَ الله وما أصابَكَ مِنْ سَيّئةٍ فَمِنْ نَفسِكَ) (النساء:79)
ومجمل القول:
ان عوالم الوجود وعوالم العدم غير المحدودتين عندما تتصادمان معاً، وعندما تثمران الجنة والنار، وعندما تقول جميع عوالم الوجود: "الحمد لله، الحمد لله" وتردد جميع عوالم العدم: "سبحان الله، سبحان الله" وحتى عندما تتصارع الملائكة مع الشياطين، والخيرات مع الشرور، بل حتى عندما يدور الجدال حول القلب بين الالهام والوسوسة.. عندما يحدث كل هذا بقانون المبارزة المحيط، تتجلى ثمرة من ثمار الايمان بالملائكة فتحسم القضية وتحل المشكلة، منورةً الكائنات المظلمة مبدية لنا نوراً من أنوار: (الله نور السموات والارض) فتذيقنا من حلاوتها.. ما احلاها! وما ألذها!!.
هذا وان كلاً من الكلمة "الرابعة والعشرين"، "والكلمة التاسعة والعشرين" قد اشارتا الى ثمرة كلية اخرى واثبتتا اثباتاً ساطعاً وجود الملائكة ووظائفهم.
نعم ان ربوبية جليلة رحيمة واسعة التي عرّفت نفسها وحببتها، بما بثت من كل شئ في جنبات الكون سواء أكان كلياً ام جزئياً، يجب ان يقابَل ذلك الجلال، وتلك الرحمة، وذلك التعرّف والتحبب بعبودية واسعة محيطة شاملة شاكرة ضمن تقديس وحمد وثناء.
الشعاع الحادي عشر - ص: 326
وحيث ان الجمادات والاركان العظيمة للكون التي ليس لها شعور لايمكنها القيام بهذه العبودية العظيمة، فلايقوم بها عنهم الاّ ما لايحصى من الملائكة.. فهؤلاء هم الذين يمكنهم أن يمثلوا - بكل حكمة وجلال - أجراءات سلطنة الربوبية في كل ركن من اركان الكون، وفي كل جزء من أجزائه من الثرى الى الثريا من اعماق الارض الى اعالي الفضاء.
فمثلاً: ان ما تصوره القوانين الميتة للفلسفة من خلق الارض ووظيفتها الفطرية بشكل موحش مظلم، تحوّلها هذه الثمرة الايمانية صورةً مؤنسة مضيئة حيث المَلَكان المسمّيان بالثور والحوت، يحملان على كتفهما - اي تحت اشرافهما - الكرة الارضية، حيث قد اُحضرت من الجنة وجُلبت منها تلك المادة الأخروية، وتلك الحقيقة الاخروية المسماة بـ"الصخرة" لتصبح الحجر الاساس الباقي لهذه الكرة الارضية الفانية، اشارةً الى أن قسماً من الارض سيُفرغ ويحوّل الى الجنة الباقية، فاصبحت الصخرة نقطة استناد للمَلكين "الثور والحوت".. هكذا رويت هذه الرواية عن بعض انبياء بني اسرائيل السابقين، وهي مروية كذلك عن ابن عباس رضي الله عنه. ولكن المؤسف جداً ان يتحول هذا التشبيه اللطيف وهذا المعنى السامي بمرور الزمن الى حقيقة مادية مجسّمة عند العوام، بحيث اصبحت خارجة عن نطاق العقل؛ اذ الملائكة يستطيعون أن يصولوا ويجولوا في التراب وفي الصخور وفي مركز الارض كجولانهم في الهواء، فليسوا اذاً بحاجة أبداً - ولا الكرة الارضية نفسها بحاجة - الى صخرة مادية مجسمة ولا الى ثور وحوت ماديين مجسمين! بمعنى ان تلك الرواية ليست الا للتشبيه 1.
ومثلا: لما كانت الكرة الارضية تسبّح لله بعدد رؤوس الانواع الموجودة فيها، من حيوان ونبات وجماد. وبعدد ألسنة افراد تلك الانواع، وبمقدار اعضاء تلك الافراد،
_____________________
1
عن مالك في قوله عز وجل (وسع كرسيه السموات والارض) قال: ان الصخرة التي تحت الارض السابعة، ومنتهى الخلق، على ارجائها اربعة من الملائكة، لكل ملك منهم اربعة وجوه: وجه انسان ووجه اسد، وووجه نسر، ووجه ثور، فهم قيام عليها قد احاطو بالارض والسموات ورؤسهم تحت الكرسي والكرسي (تحت) العرش. قال: وهو واضع رجليه تبارك وتعالى على الكرسي.
أخرجه عبدالله بن الامام احمد في كتاب (السنة) برقم 589، 1/3: 3 في اسناده مجهول والمدى معروف بالوهم وبقية رجاله ثقات. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/329 لعبد بن حميد وابو الشيخ في العظمة واخرجه ايضا البيهقي في الاسماء والصفات ص/403 وقد اخرجه عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور باختلاف في السياق 6/261 من كلام وهب بن منبه وهو ثقة كثير النقل من كتب الاسرائيليات (انظر الميزان 4/352).

الشعاع الحادي عشر - ص: 327
وبعدد اوراقها واثمارها، فان تقديم هذه العبودية الفطرية غير الشعورية العظيمة جداً، وتمثيلها، وعرضها بعلم وشعور، على الحضرة الإلهية المقدسة، يتطلب حتماً مَلكاً موكلاً له اربعون ألف رأس، وفي كل رأس اربعون ألف لسان يسبح بكل لسان اربعين ألف تسبيحة، مثلما أخبر المخبر الصادق بهذه الحقيقة نفسها. نعم إنه من مقتضيات جلال الربوبية وعظمتها وسلطانها أن يكون جبرائيل عليه السلام على ماهية عجيبة وهو المؤهل لتبليغ العلاقات الربانية للانسان الذي هو اهم نتيجة لخلق الكون. وأن يكون إسرافيل وعزرائيل عليهما السلام على ماهية عجيبة ايضاً، وهما يمثلان - مجرد تمثيل - الاجراءات الإلهية الخاصة للخالق سبحانه، ويشرفان بعبودية خالصة على أعظم شئ في عالم الاحياء، وهو البعث والموت. وأن يكون ميكائيل عليه السلام على ماهية عجيبة ايضاً، اذ يمثل بشعور كامل أنواع الشكر غير الشعورية على الاحسانات الرحمانية في الرزق الذي هو أجمع دائرة من دوائر الحياة وأوسعها للرحمة واكثرها تذوقاً، فضلاً عن اشرافه عليها.
نعم، انه من مقتضيات جلال الربوبية وأبهتها، بقاء الروح، ووجود امثال هؤلاء الملائكة على ماهية عجيبة جداً، اذ إن وجود هؤلاء، ووجود كل طائفة خاصة منهم، قطعي الثبوت ولاريب فيه مطلقاً، فهو ثابت بدرجة تليق بثبوت وجود الجلال والسلطنة الظاهرة في الكون كالشمس. وليقس على هذا المواد الاخرى التي تخص الملائكة.
نعم، ان الذي يخلق في الكرة الارضية اربعمائة الف نوع من الاحياء، بل يخلق من ابسط المواد ومن العفونات، ذوات أرواح بكثرة هائلة، ويعمّر بهم أرجاء الارض ويجعلهم ينطقون بلسانهم اعجاباً: "ماشاء الله، بارك الله، سبحان الله" امام معجزات صنعته سبحانه، والذي جعل حتى الحيوانات الدقيقة تنطق بـ "الحمد لله والشكر لله والله اكبر" حيال احسانات الرحمة الواسعة وآلائها. ان هذا القدير ذا الجلال والجمال قد خلق بلاريب ولاشبهة سكنةً روحانيين تناسب السموات الشاسعة، ممن لايعصون أمره، ويعبدونه دوماً، فيعمّر بهم السموات دون أن يدعها خالية مقفرة. فأوجد أنواعاً كثيرة جداً من الملائكة هي اكثر بكثير من انواع الاحياء وطوائفها، فقسم منهم صغير جداً يمتطون قطرات الامطار وبلورات الثلوج، ويباركون
الشعاع الحادي عشر - ص: 328
الصنعة الإلهية مهللين لرحمتها الواسعة بلسانهم الخاص، وقسم منهم يمتطون ظهور الكواكب السيارة فيسيحون في فضاء الكون معلنين للعالم أجمع عبوديتهم بالتكبير والتهليل امام عظمة الربوبية وعزتها وجلالها 1.
نعم، ان اتفاق كل الكتب السماوية، وجميع الاديان، منذ زمن سيدنا آدم عليه السلام على وجود الملائكة وعلى عبوديتهم، وان ما روي من الروايات الكثيرة المتواترة من التحدث مع الملائكة والمحاورة معهم خلال جميع العصور، اثبت اثباتاً قاطعاً وجود الملائكة وعلاقتهم معنا، بدرجة ثبوت وجود الناس الذين لم نرهم في امريكا..
والآن انظر بنور الايمان الى هذه الثمرة الكلية الثانية وذقها لترى كيف أنها ابهجت الكائنات من أولها الى آخرها وعمرّتها وزيّنتها وحوّلتها الى مسجد اكبر ومعبد اعظم، فالكون المظلم البارد الذي ليس فيه حياة - كما تصوره مادية العلم والفلسفة - يصبح بالايمان، كوناً ذا حياة وشعور، ومنوراً ومؤنساً ولذيذاً، فتذيق هذه الثمرة أهل الايمان شعاعاً من لذة الحياة الباقية وهم لايزالون في الدنيا كلٌ حسب درجته.
تتمــة:
كما ان بسر الوحدة والاحدية، توجَد القُدرة نفسها، والاسمُ نفسهُ، والحكمةُ نفسها والابداع نفسه، في كل جهة من جهات الكون، فيعلن كلُ مصنوع - كلياً أم جزئياً - بلسان حاله: وحدانيةَ الخالق سبحانه وتصرفه وايجاده وربوبيته وخلاّقيته وقدسيته، كذلك فانه سبحانه يخلق ملائكة في ارجاء الكون كله ليقوموا - بألسنتهم الذاكرة الحامدة - بتسبيحات يؤديها كل مخلوق بلسان حاله بلا شعور منه. فالملائكة لايعصون الله ما يأمرهم. وليس لهم الاّ العبودية الخالصة، وليس لهم اي ايجاد كان، ولا دخل لهم دون إذن، ولا تكون لهم شفاعة دون إذن منه سبحانه، لذا نالوا شرف:
(بل عبادٌ مكرَمون) (الانبياء: 26) (وَيفعلون ما يُؤمرون) (التحريم: 6).
* * *
_____________________
1
روى ابو داود بسند صحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: اُذن لي ان اتحدث عن ملَك من حملة العرش رجلاه في الارض السفلى وعلى قرنه العرش، ومن شحمة اذنه وعاتقه خفقان الطير سبعمائة عام فيقول ذلك الملك: سبحانك حيث كنت. - المترجم.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس