عرض مشاركة واحدة
قديم 07-09-2011
  #4
عمرالحسني
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرالحسني
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 93
معدل تقييم المستوى: 15
عمرالحسني is on a distinguished road
افتراضي رد: دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص: ( مقدمات)

. دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص : ( في تحديد المفاهيم :الخليفة و الولي )

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي و على آله و صحبه ، وبعد
لا أحد ينكر كما تطرقنا سابقا ، في الموضوع السابق ، عن رؤية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ونقلنا شهادات حية في عصرنا لهذه الكرامة.وهي تعد شأنا خاصا في حياة المسافر إلى الله ، أجتماعه بالحضرة العلية في عالمه القلبي ، بعيدا عن الحواس و العالم المرئي ، وضوضاء الحياة اليومية.
الإنسان خليفة الله في أرضه بوجه عام ، وولي لله تعالى بوجه خاص ، وعندما تجتمع الخلافة كتدبير لشئون الأرض مع الفقه القلبي لأوامر الشرع ، يقف الإنسان حينها على شاطئ الأمان : الكمال العلمي العملي ، والفقه التدبري القلبي النوراني ، مااصطلح عليه عند العلماء الكمال في الإتباع.
الخليفة والولي ، و أخبارهما تعج في كتب التاريخ ، وفي مذكرات أهل الله التربوية.
فالخليفة يرعى شئون الخلق ، والولي يباشر تربية الأرواح ، وتنقية الأفكار ، لكي يكون العقل تابعا للقلب و ليس العكس.
1.الولي الكامل كالنبي في أمته :
أجمع أهل الله تعال أن الشيخ وهو الولي الكامل في قومه كالنبي في أمته وأن مبايعته كمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم ، لكونه نائبا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والنيابة هنا يعني الخلافة ن لكن الخلافة بمعناها التربوي فقط ، ما يسميه أهل الله بالإذن في التربية كابرا عن كابر ، إلى أن يصل التلقي في منبعه برسول الله صلى الله عليه وسلم، سندا متصلا مشهودا بالصحة و المعاصرة و المشافهة و المخاللة.
و لايشترط في معرفة كيفية وقوع هذا الإذن ، بقدر ما يطلب من السالك أن يعلم سند شيخه التربوي ، حتى لايقع في براثن أدعياء السوء.
يقول ابن عربي في الفتوحات المكية ص 243الولاية نعت إلهي وهو للعبد خلق لا تخلق ، وتعلقه في الطرفين عام ، و لكن لا يشعر بتعلقه عموما من الجناب الإلهي ، وعموم تعلقه من الكون أظهر عند الجميع ، فأن الولاية نصر الولي أي نصر الناصر ، فقد تقع لله و قد تقع حمية و عصبية ، فلذلك هو عام التعلق .
ولما كان هذا النعت للإله كان عام التعلق ، وهذا كل نعت إلهي لا بد أن يكون عام التعلق ، وإن لم يكن كذلك فليس بنعت إلهي ، لكن بعض النعوت مثل نعت الولاية لا ينسبه الله لنفسه إلا بتعلق خاص للمؤمنين خاصة و الصالحين من عباده وهو ذو النصر العام في كل منصور.
ولما كان نعتا إلهيا هذا النصر المعبر عنه بالولاية و تسمى به سبحانه وهو إسمه الولي و أكثر ما ياتي مقيدا كقوله تعالى : " الله ولي الذين آمنوا" البقرة آ 257.) كتاب الفتوحات ص 243،244.
الولاية إذن بحسب ابن عربي رضي الله عنه خلق و تعلق ، و نسبة سرت من الجناب الإلهي الى الإنسان لطفا منه و توددا و إحسانا و نعمة وهي نصرة بتأييد رباني بعبده على الهوى و النفس و الدنيا و الشيطان ، حتى يكون العبد لله تعالى في قبضته يتقلب.
ثم نجد ابن عربي رضي الله عنه يتحدث عن مقام الولاية البشرية فيقول : ( فاعلم أن الولاية البشرية على قسمين : خاصة و عامة.
فالعامة توليهم بعضهم بعضا بما في قوتهم من إعطاء المصالح المعلومة في الكون فهم مسخرون بعضهم لبعض ، الأعلى للأدنى و الأدنى للأعلى ، وهذا لا ينكره عاقل فإنه الواقع، فإن أعلى مراتب الملك ، فالملك مسخر في مصالح الرعايا و السوقة ، و الرعايا و السوقة مسخرون للملك ، فتسخير الملك للرعايا ليس من أمر الرعايا ، ولكن لما تقتضيه المصلحة لنفسه و تنفع الرعايا بحكم اللأتباع لا أنهم المقصودون بذلك الإنتفاع الذي يعود عليهم بالتسخير ..........
وأما القسم الخاص فهو ما لهم من الولاية التي هي النصرة في قبول الأحكام الأسماء الإلهية على غيرها من الأسماء الأخر بمجرد أفعالهم وما يظهر من أكوانهم لكونهم قابلين لآثار السماء فيهم ، فينزلون في هذه الولاية منازل الحقائق الإلهية ، فيكون الحكم لهم مثل ماهو الحكم للأسماء بما هو عليهم من الإستعداد، وهذه الولاية في أصحاب الأحوال أظهر في العامة من ظهورها في أصحاب المقامات ، وهي في أصحاب المقامات في الخصوص أظهر من ظهورها في أصحاب الأحوال ولكن مدركها عسير، فأن صاحب هذا المقام على العادة المستمرة وهو متغير في كل زمان مع كل نفس لأنه في كل نفس في شأن إلهي لا علم لكل أحد به مع قيامه من حيث لا يشعر فلا يحمد عليه ، وهذا الخاص يحمد عليه و صاحب الخال خارق للعادة فتحيد إليه الأبصار و تقبل عليه النفوس وهو ثابث مدة طويلة على حالة واحدة لا يشعر لتغيرها عليه و يحجبه عن معرفة ذالك حبه لسلطنته التي أعطاها الحال فهو على النفيض من صاحب المقام ، ولو استشعر بنقصه في مرتبته لما رغب في الحال فأنه يدل على جهله.
و لصاحب هذا المقام أحوال مختلفة :منها حال الأمانة،وحال الدنو، وحال القرب،وحال الكشف،وحال الجمع، وحال اللطف ، وحال القوة ، وحال الحماسة ، وحال الطيب ، وحال اللين ، وحال النظافة ، وحال الأدب ، فأذا تجلى في السلطنة ارتاض و قيل فيه سلطان ، و إذا تجلى في الجلال تأدب فهو أديب ، و في تجلي الجمال نظيف ، و في تجلي العظمة طاهر زكي قدوس ، و إذا تجلى في الطيب عطر عرفه ، و في الهيبة جعله سيدا ، و في اللطف ذوبه ، و في الحسن عشقه فروحنه ، فللأولياء التفريع و الإقبال ، ولهم الستور و الحجاب ف‘ذا قربهم صانهم و سترهم و خباهم فجهلوا ، و إذا عاقبهم و ليسوا بأنبياء أظهر عليهم خرق العوائد فعرفوا فحجبوا الخلق عن الله وهم مأمورون بدعوتهم إلى الله ، فالحق لأصحاب المقامات من الأولياء مطيع و لكلامهم سميع ، لهم جميع المقامات و الأحوال ، وهم الذكران الرجال لا يلحقهم العيب و لايقوم بهم فيما هم فيه ريب ، لهم الآخرة مخلصة كماهي ، ولهم الدنيا ممتزجة كما هي لسيدهم ، فهم بصفات الحق ظاهرون و لذلك جهلوا.) كتاب الفتوحات المكية ص 246.
ليس بعد هذا الوصف من وصف يضاف ، و قد أشار ابن عربي رضي الله عنه في هذا الفصل عن أحوال الولي،وهي أحوال راسخة مهيبة ، تضع العبد الحائر الباحث عن الخير و أهله كيف أكون مثل ما قال ابن عربي رضي الله عنه.
اتسم أولياء الله بالأمانةدائما وهم ينقلون إلينا منازلاتهم التربوية ، فكانت شهاداتهم حية عبر الأجيال ،توقظ الهمة و الإرادة و العزم للسير إلى الله ، فجازوا قدم السبق في السيادة و الريادة ، بالأدب الرفيع ، والرحمة الجامعة لصفوف المسلمين ، والدنو العام و الخاص من شأن المؤمنين ، وتركوا لنا نصائح غالية ، حول الصحبة و الذكر و فضائل العلم و العمل ، فكانوا بمثابة العقد الفريد الذي تجتمع عليه الأمة في حوالك الليالي.
يقول ابن عربي رضي الله عنه في نفس المصدر ص 359 ......الشيوخ نواب الحق في العالم كالرسل عليهم السلام في زمانهم ، بل هم ورثة الذين ورثوا علم الشرائع عن الأنبياء عليهم السلام غير أنهم لا يشرعون ، فلهم رضي الله عنهم حفظ الشريعة في العموم مالهم التشريع ، ولهم حفظ القلوب ومراعاة الآداب في الخصوص ، هم من العلماء بالله بمنزلة الطبيب من العالم بعلم الطبيعة ، فالطبيب لا يعرف الطبعة إلا بما هي مدبرة للبدن الإنساني خاصة و العالم بعلم الطبيعة يعرفها مطلقا وأن لم يكن طبيبا ، وقد يجمع الشيخ بين الأمرين ، ولكن حظ الشيخوخة من العلم بالله أن يعرف من الناس موارد حركاتهم ومصادرها ، والعلم بالخواطر مذمومها و محمودها ، وموضع اللبس الداخل فيها من ظهور الخاطر المذموم في صورة المحمود ، و يعرف الأنفاس و النظرة و يعرف ما لهما وما يحويان عليه من الخير الذي يرضي الله ومن الشر الذي يسخط الله ، ويعرف العلل و الأدوية ، و يعرف الأزمنة و السن و الأمكنة و الأغذية وما يصلح المزاج و يفسده ، و الفرق بين الكشف الحقيقي و الكشف الخيالي ، ويعلم التجلي الإلهي ، و يعلم التربية ومتى إنتقال المريد من الطفولة إلى الشباب إلى الكهولة ، و يعلم متى يترك التحكم في طبيعة المريد و يتحكم في عقله ، و متى يصدق المريد خواطره ، و يعلم ما للنفس من الأحكام و ما للشيطان من الأحكام ، وما تحت قدرة الشيطان ، ويعلم الحجب التي تعصم الإنسان من إلقاء الشياطين في قلبه ، و يعلم ما تكنه نفس المريد مما لايشعر به المريد ، و يفرق للمريد إذا فتح عليه في باطنه بين الفتح الروحاني و بين الفتح الألهي، و يعلم بالشم أهل الطريق الذين يصلحون له من الذين لا يصلحون ، و يعلم بالتحلية التي يتحلى بها نفوس المريدين الذين هم عرائس الحق وهم له كالماشطة للعروس تزينها ، فهم أدباء الله عالمون بآداب الحضرة و ما تستحقه من حرمة). الباب الأحد و الثمانون و المأئة ، في معرفة مقام أحترام الشيوخ.
يقول الشيخ عبد السلام ياسين في كتاب الأحسان حول الصحبة : ( لا يهم من احترق فؤادُه حسرة على ضياع عمره بعد أن "أُسمع" أن لله أولياء أن يكون الشيخ الدال على الله بمثابة إمام الصلاة أو حاضنة ترضع أو طبيبا يناول القاصد تَرياقا. همُّه المقيم أن يعثر على من يحدثُه عن الله وعن الطريق إلى الله. هذا المريد اليائس من كل شيء دون الله، المنقطعُ للبحث عن الدليل صنفٌ نادر. قال الشيخ عبد القادر رحمه الله: "مريدو الدنيا فيهم كثرة، ومريدو الآخرة فيهم قلة، ومريدو الحق عز وجل الصادقون في إرادته أقل من كل قليل. هم في القلة والعدم كالكبريت الأحمر. هُم آحاد أفراد في الشُّذوذِ والندور"[1]. وكذلك المشايخ الكمل قلة من قِلة من قِلة. قال الشيخ رحمه الله: "من صحت تبعيته للرسول صلى الله عليه وسلم ألبسه دِرعا وخَوْذَة، وقلّده بسيفه، ونَحَلَه من أدبه وشمائله وأخلاقه، وخلع عليه من خِلَعِه، واشتد فرحُه به كيف هو من أمته، ويشكر الله ربه عز وجل على ذلك. ثم يجعله نائبا له في أمته، ودليلا وداعيا لهم إلى باب الحق عز وجل(...) وهم آحاد أفراد، من كل ألفِ ألفٍ إلى انقطاع النفس واحدٌ"[2].
إن وجد الطالبُ الغريبُ الفريد، الصادق في طلبه، فكيف لقاؤه مع ذلك الوارث الكامل المتحقق بتبعيته الشاملة للرسول صلى الله عليه وسلم، النادر حتّى لا تجد إلاّ واحدا في الخلق بعد أن تصعد الحساب إلى آلاف الآلاف تعدها حتى ينقطع نَفَسُك؟
تلتفت إلى مصدر الهداية والنّور والدلالة على الله وهو الرسول المكرم صلى الله عليه وسلم فيخبرك أن: "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"[3]. انظر وابحث وتحرَّ لئلا تسقط على أول خطيب يسحرك ببيانه، أو أول واعظ رقَّقَ قلبك فأبكاك وأبكى الناس، أو أول ذي رئاسة في العلم الظاهر حوله هالة وتلامذة، أو أول متشايخ من أبناء الفقراء له في الطريقة نسب عريق، أو حتى أول مُبَهْرِج نصّاب مرتزق، بل أول شيطانيٍّ عراف يُخبرك أخبار بيتك ويُمخرق وتزدحم العامة الذبابية على بابه.
رتبة المشيخة الحقيقية عالية نادرة عزيزة الوجود، فكيف السبيل إلى معرفة صاحب الأهلية وأنت قاصر؟ قال الإمام أبو النجيب السهروردي: "رتبة المشيخة من أعلى الرتب في طريق الصوفية ونيابة النبوة في الدعاء إلى الله". ولقب "شيخ" لقب ذائع شائع حتى ليطلقه عامة العامة وعامة القُراء على كل من يفتح الكتابَ ويُنَسِّق بعض العبارات ويتصدّى للفتوى وفصل الأحكام.
أمامك إحدى ثلاث طرائق للنظر والبحث فيمن تخالل. فالأمر موكولٌ إليك.
أول طريقة أن تعتمد على موازينك المسكينة وتزن بها من يُشار عليك بصحبته. تجيء بمواصفات مسبقة وَقَرَتْ في فهمك، فربَّما تتصور هذا الوارثَ الكامل النائبَ في مقام الدعوة إلى الله على صورة ما يشبه الملائكة، فكن على ثقة أنك لن تعثر على شيء ولو انقطعت أنفاسك مرات في عد الآلاف، ولو انقطع عمرك في السياحة شرقا وغرباً تحمل معك تلك الموازين المسكينة. ذلك أن أولياء الله أصنافٌ ومراتبٌ وألوانٌ، منهم الوسيم الجميل الفصيح البليغ الجامع بين علم الظاهر وعلم الباطن، ومنهم الأشعث الأغبر، الذي لا يكاد يُبين. وربما يفوتُك الفَوْت حين تتخطّى رجلا عاديا في مظهره لا يُؤبَهُ له، وهو من هو. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: "رُبَّ أشعث أغبرَ مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرَّه".
ويعقد نفس الإمام مسلم في كتاب "فضائل الصحابة" بابا لذكر نموذج الولي الأشعث الأغبر: "بابٌ من فضائل أُوَيْسٍ القَرنِيِّ رضي الله عنه". روى في هذا الباب أن وفدا من أهل الكوفة وفدوا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمان خلافته، وفيهم رجل ممن كان يسخر بأُوَيْس. فقال عمر: "هل ههنا أحد من القَرَنِيِّينَ؟" فجاء ذلك الرجل فقال عمر: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن رجلا يأتيكم من اليمن يقال له أُويس. لا يدع باليمن غير أم له. قد كان به بياضٌ فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضعَ الدينار أو الدرهم. فمن لقيه منكم فليستغفر لكم".
الصحابة ذوو القدر العالي عند الله ورسوله يُنصحون بالتماس بركة رجل ما هو من الصحابة ولا ممن يؤبه بهم، دعاؤه مستجاب. فأين تقع موازينك من معرفة الرجال؟
الطريقة الثانية أن تجرِّب ثم تجرب حتى تعرف من نفسك هل عثرت على من: "ينهض بك حاله ويدلك على الله مقاله". وهنا أيضا إن اعتمدت على يقظتك وفطنتك ستقضي عمرا طويلا في بلاد التيه لأنك لا تستطيع تُميز بين"النهضة" التي يحدثها فيك مقال الواعظ الصادق الذي يسمعه العاصي فيتوب إلى الله على يديه، وبين "نهضة" القلب الذي تنتزعه صحبة العارف الوارث من لصوقه بالدنيا، وتحلق به في سماء طلب وجه الله. ثم إنك قد تجرِّب على المطلوب الحقيقي فتجده على غير ما كنت ترجو. وقد يصدر منه السلوك البشريُّ العاديُّ فتنكره، فلا تستطيع معه صبراً كما لم يستطع موسى صبراً مع الخضر عليهما السلام. نعم، لا يكون أحد من الصالحين، بَلْهَ أن يكون من الأولياء المتبوعين وهو مرتكب للكبائر مصر على الصغائر. ميزان الشرع معك هو وحده عاصمك. لكن ما زاد عليه مما هو من مثاليات معاييرك المسبقة فأوهام لا تنفع.
كنتُ حين استوحشت من الدنيا عِفْتُ نفسي وطار لُبّي في طلب الحق عز وجل. اخْشَوْشَنْتُ وانقبضت وانصرفت للعبادة والتلاوة والذكر آناء الليل وأطراف النهار. فلما منّ علي الحنان المنان له الحمد والثناء والشكر بلقاء شيخي رحمه الله وجدت أنْساً ورحمة وطلاقة وبشرا وفرحا بالله. ما كنت أتصور مدة انقباضي و"أزمتي" وبحثي أن من شأن مريد صادق أن يضحك، ولا أن يلتذ بطعام وشراب، ولا أن يستقرّ به فراش وينعم بنوم.
دعك من الاعتماد على غير الله، وابحث واحمِلْ معك ميزان الشرع، لكن لا مخرجَ لك من البحث التائه إلى أن تقف على باب الملك الوهاب الهادي. استخره واستعنه وتوكل عليه ولن تعدُوَ قدرك ومقدورك وسابقتك على كل حال. قال الشيخ عبد القادر رحمه الله: "إذا أشكل عليك الأمر ولم تفرق بين الصالح والمنافق فقم من الليل وصل ركعتين ثم قل: يا رب دلَّني على الصالحين من خلقك، دلني على من يدلني عليك، ويطعمني من طعامك، ويسقيني من شرابك، ويكحل عين قلبي بنور قربك، ويخبرني بما رأى عيانا لا تقليدا"[4]. وقال: "إذا أردت أن تصحب أحدا في الله عز وجل، فأسبغ الوضوء عند سكون الهمم ونوم العيون، ثم أقبل على صلاتك تفتح باب الصلاة بطُهورك، وباب ربِّك بصلاتك. ثم اسأله بعد فراغك: من أصحب؟ من الدليل؟ من المخبر عنك؟ من المفرِّدُ؟ من الخليفة؟ من النائب؟ هو كريم لا يخيِّبُ ظنَّك. لا شك يُلهم قلبك، يوحي إلى سرِّك، يفتح الأبواب، يضيء لك الطريق. من طلب وجدَّ وجد"[5].
من علامات صدق طلبك أن تُديم الوقوف بباب الملك الوهاب، وأن تديم التوسل إليه والضراعة والاستغفار والاستخارة. ثم توكل عليه بعد أن يطمئن قلبك، ولا تلتفت إلى وراء. فإن حَسْبَك الله.
يقول المعترض الخليُّ من هم الله وهمِّ نفسه وعُمْرِه: ما بالنا وبال الشيخ! الشيخ، الشيخ! القصد معروف، وطريق الآخرة واضحة، والكتاب والسنة بين أيدينا. يقول ذلك وهو في دار الغفلة راقد، طاب له المأكل وهَنَأَ بالمشرب. مجنون بالدنيا وبنفسه، مغرور بهما. لمثل هذا أحملُ رسالة من الشيخ عبد القادر رحمه الله يقول فيها: "تعلّق برجال الحق. أنتم مجانين غَرْقى في بحر الدنيا. رجال الحق يداوون المرضى، وينجون الغرقى، ويرحمون أهل العذاب. كن عنده إذا عرفته، فإن لم تعرفه فابك على نفسك!"[6].
ابك على نفسك إن كنت خاليا من الإرادة العليّة، بارد الهمة، نزّاعا إلى الأرض، مخلداً إليها، راضيا بالحياة الدنيا. وإلا فابك على الله عز وجل أن يتداركك بمن يحملك ويحمل عنك. من فاته الله فاته كل شيء.
يا بارد يا شاردُ! اسمع مقالة الشيخ الرفاعي: "من فاته الله فاته كل شيء. بالله عليك هذه المعرفة تمر! هيهاتَ هيهاتَ! من خرج عن نفسه وغيره، وصفع أبَّهَة طبعه، تخلّص من الجهل. جُبَّة صوف وتاج وثوب قصير! جبة حزن وتاج صدق وثوب توكل! وقد عرفتم! العارف لا يخلو ظاهره من بوارق الشريعة وباطنه من نيران المحبة. يقف مع الأمر، ولا ينحرف عن الطريق وقلبُه يتقلب على جمر الوَجد"[7].
يا هذا! ما معرفة الله عبارات تلوكها الألسنة وتُسطَّرُ جملا مرصوفةً على القرطاس. ما هي بضاعة يمر بها التاجر في الشارع، سهلة المتناول رخيصة الثمن. الجبة من الصوف، والتاج من عمامة الفقراء، والثوب القصير شعار الزهاد، كانت براهينَ صدق المريدين زمان الخلوة والانزواء والانطواء. ذهب ذلك الزمان وبقي نداء أهله الصادقُ المُرَدِّد لوصية النبوة بالحزن على ما فات، والصدق في طلب الحق، والتوكل على الله عز وجل في اقتحام العقبة. والطريق مُشْرَعَةٌ إلى الله عز وجل إلى يوم القيامة في وجه من طلب، وجدَّ، وصبر، ووجد الدليل والرفيق، ووجد من يغسله وينقيه ويغذوه ويكسوه ويُجَمِّله حتى يصلح لتلك الحضرة.
الشيخ بمثابة الماشطة، وهي العجوز الخبيرة التي يوكل إليها تزيين العروس ليوم جلوتها. قال الشيخ عبد القادر رحمه الله: "يا غلام! العمل بالقرآن يوقِفك على منزِّلِه، والعمل بالسنّة يوقفك على الرسول نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم. لا تَبْرَحْ بقلبك وهمتك من حول قلوب القوم. الشيخ هو المستفتِح باب القرب لها. هو الماشطة. هو السفير بين القلوب والأسرار وبين ربها عز وجل(...). لو ملكت الدنيا كلّها ولم يكن قلبك كقلوبهم كنت لا تملك ذرة.(...) ويحك! اعرف قدْرك! إيش أنت بالإضافة إليهم؟ أنت كل همك الأكل والشرب واللبس والنكاح وجمع الدنيا والحرص عليها. عَمَّالٌ في أمور الدنيا، بطّالٌ في أمور الآخرة. تعبِّئ لحمك، وتهدفه للدود وحشرات الأرض"[8].
وقال: "إنك عبد مَنْ زِمامُكَ بيده. إن كان زمامك بيد الدنيا فأنت عبد لها. وإن كان زمامك بيد الأخرى فأنت عبد لها. وإن كان زمامك بيد الحق عز وجل فأنت عبد له. وإن كان زمامك بيد نفسك فأنت عبد لها(...). منكم من يريد الدنيا، والقليل منكم من يريد وجه رب الدنيا والآخرة)

نسأل الله ان يرحمنا آمين
عمرالحسني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس