عرض مشاركة واحدة
قديم 03-20-2009
  #2
هيثم السليمان
عضو شرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: دير الزور _ العشارة
المشاركات: 1,367
معدل تقييم المستوى: 17
هيثم السليمان is on a distinguished road
افتراضي رد: قصّة حيّ بن يقظان للفيلسوف الصوفي ابن طفيل

أطوارها :

اعتمد ابن طفيل في تصوّره لقصة حيّ بن يقظان ووضعه لسيرته خبراً أولاً متصلاً بولادة حيّ ينطلق من الواقع المألوف والتقاليد المعرفية والدينية المتوارثة والمقبولة ؛ وهو يقول بتولد حيّ تولداً جسدياً مألوفاً من أب وأم ؛ الأم هي شقيقة ملك إحدى جزائر الهند تحت خط الاستواء , والأب قريب لها اسمه يقظان كان قد تزوجها خفية من شقيقها الملك , فلما وضعت المرأة طفلها خشيت غضب أخيها وانتقامه , فجعلت الطفل في تابوت وألقته في البحر , فاحتملته الأمواج حتى ألقته على ساحل جزيرة الوقواق المجاورة ؛ وصادف أن مرّت به ظبية كانت تبحث عن طلاها الذي فقدته ؛ وسمعت بكاء الطفل داخل التابوت فأزاحت لوحه وحَنَتْ عليه وأرضعته وحضنته حتى كبر .
واعتمد ابن طفيل خبراً ثانياً أسطورياً أساسه القول بالنشوء الطبيعي والتولد الذاتي فيكون أصل حيّ طينة قد تخمرت في بطن أرض جزيرة الوقواق , وكانت احتوت على نَفَّاخة منقسمة إلى جزأين بينهما حجاب رقيق , وممتلئة بجسم لطيف هوائي تعلق به الروح الذي هو من أمر الله , ثم اعتملت هذه الطينة واستحالت إلى جسد طفل بادر إلى الاستغاثة عند اشتداد جوعه , فسمعته ظبية كانت قد فقدت طلاها فقصدته وحنت عليه وأرضعته وحضنته .
وبعد هذا تتفق بقية وقائع الخبرين , ولا نجد اختلافاً في سرد تفاصيل أطوار حيّ ومراحل سيرته .
وبحضانة الظبية لحيّ تبدأ أطوار قصته التي نلخصها بما يلي :

1- حضانة الظبية له مع محاكاته لأصوت الحيوانات ؛ حيث تبدأ مرحلة التفكير لديه : تبدأ هذه المرحلة برضاعة الظبية له وحضانتها له ومعاشرته لها , حتى بلغ السابعة , حيث أخذ بمحاكاة الحيوانات وتقليد أصواتها وحركاتها , ورآها كاسية مسلحة , وهو عارٍ أعزل , فاتخذ من ورق الأشجار لباساً يستره , ومن أغصان الأشجار عصياً يدافع بها عن نفسه .

2- اكتشاف المعرفة عن طريق التجربة والحواس : تبدأ بموت الظبية ؛ حيث حاول معرفة سبب موتها , فلم يرَ في ظاهرها تغيراً , فأدرك أن علتها موجودة في عضو غائب عن بصره , فقام بشق صدرها ووصل إلى القلب فلم يجد في ظاهره آفة , فشقّه فوجد فيه قسمين : الأيمن فيه دم , والأيسر خالٍ , فأدرك أن الظبية ؛هي في الحقيقة ذلك الشيء المرتحل , وما جسدها إلا آلة .
وسرعان ما يتفسخ جسد الظبية فلا يعرف ماذا يفعل به , ويرى غرابين يقتتلان فيقتل أحدهما الآخر ويقوم بدفنه , فيواري جسد الظبية كما فعل الغراب .

3- استنتاجاته حول الروح الحيواني : تبدأ باكتشافه النار , وتعرفه على طرق استخدامها حين ألقى فيها بعض الحيوانات البحرية , فاهتدى إلى شيء من اللحوم الناضجة ... ثم قارن هذه النار وحرارتها مع حرارة الحيوان الحي, وما كان يجده في نفسه من شدة الحرارة عند صدره , واستنتج أن هذا الشيء هو نفسه ؛ أو قريب من الذي يبحث عنه , فأخذ بتشريح الحيوانات والبحث عن ترتيب أعضائها وأوضاعها وكمياتها ... ثم استنتج أن لكل عضو وظيفة .
وقد استفاد من عملية التشريح , حيث اكتسى بجلود الحيوانات التي يشرحها , واتخذ الخيوط من الأشعار , وعمل الخطاطيف , واتخذ بيتاً , واستعان بالجوارح على الصيد , واتخذ الدواجن , ثم راض الخيل والحمر .

4- اكتشافاته الخاصة بوحدة الروح والمادة والصوت : بلغ في هذه المرحلة سن الثامنة و العشرين , وبدأ ينضج فكره , فنظر في مختلف الأجسام , وتوصل إلى إدراك وحدة الروح في الجسم , واتفاق مادة الكائنات , واختلاف صورها, فتفهم علة الحوادث وسرّ تباين الأجسام , حيث أخذ ينظر في عالم الكون ؛ من حيوان ونبات وجماد ... وينظر في خصائصها ويقارنها , فاستنتج الخصائص المشتركة للحيوانات والنباتات والأجسام التي لا تحس , فرأى أن حقيقة وجود كل واحد منها مركبة من معنى الجسمية , ومن شيء آخر زائد على الجسمية , فأيقن أن هذا الشيء الزائد هو الروح الحيواني الذي يبحث عنه , فاطّرح المعنى الجسمي وتعلق فكره بالمعنى الثاني الذي يعبر عنه بالنفس .

5- التطلع إلى الكواكب وأجسامها : يرصد في هذه الفترة الفضاء , محاولاً التطلع إلى ما فيه من كواكب وأفلاك , ويتعرف على كروية شكلها , وعلى ما في العالم من قدم وحدوث , حيث يستنتج أن الكواكب لها نهاية , ثم يستنتج حركتها الدائرية , ووصل إلى أن الفلك وما يحتويه شيء واحد , وأن جميع الأجسام ؛ الأرض , والماء , والهواء , هي كلها ضمنه غير خارجة عليه , ثم قارن بين الكواكب والحيوانات من حيث البنية , ثم انتقل إلى التفكر في العالم بجملته , وكيفية نشأته ووجوده , وهل هو حادث أم محدث ؟! وقرر أن الفاعل لا يمكن أن يدرك بشيء من الحواس , لأنه لو أدرك لكان جسماً , ولو كان جسماً لكان من جملة العالم فهو محدَث , وكما أدرك أنه لا يحس فهو لا يمكن أن يتخيل ؛ لأن التخيل ليس شيئاً إلا إحضار صور المحسوسات بعد غيبتها , وإذا لم يكن جسماً فصفات الأجسام كلها تستحيل عليه ( من طول وعرض وعمق ) , وإذا كان فاعلاً للعالم فهو لا محالة قادر عليه وعالم به .
فتوصل إلى حقيقة الخالق ؛ فهو الوجود , والكمال , والتمام , والحسن , والبهاء , والقدرة, والعلم ...

6- الاستنتاج العقلي : تبتدئ هذه المرحلة باستنتاجاته العقلية وقد بلغ الخامسة والثلاثين , فيستنتج انفصال النفس عن الجسد , واختلافها عنه مصيرياً , وحالات إدراكها الخلود أو الفناء , ويقف على سرّ السعادة بفضل تأملاته ومشاهداته الدائمة , وحالاته الإشراقية , وما زال يقتصر على السكون في قصر مغارته مطرقاً , غاضاً بصره , معرضاً عن جميع المحسوسات والقوى الجسمانية , مجتمع الهمّ والفكرة في الموجود الواجب الوجود وحده دون شِركة , فمتى سنح لخياله سواه طرده عن خياله جهده , ودافعه وراض نفسه على ذلك , ودأب فيه مدة طويلة , بحيث تمر عليه عدة أيام لا يتغذى فيها ولا يتحرك .
وفي خلال شدة مجاهدته هذه ربما كانت تغيب عن ذكره وفكره جميع الأشياء إلا ذاته , فإنها كانت لا تغيب عنه في وقت استغراقه بمشاهدة الموجود الأول الحق الواجب الوجود , فكان يسوءه ذلك , ويعلم أنه شَوْبٌ في المشاهدة المحضة , وشركة في الملاحظة .

7- سبيل السعادة : في هذه المرحلة الأخيرة يدرك حيّ أن سعادته في دوام مشاهدته للموجود الواجب الوجود وقد غابت عنه ذاته وفنيت وتلاشى .
"ومازال يطلب الفناء عن نفسه والإخلاص في مشاهدة الحق حتى تأتى له ذلك ... وشاهد ما لا عين رأت , ولا أذن سمعت , ولا خطر على قلب بشر , وتنتصب الحالة الصوفية الإشراقية التي عاشها بإدراكه أن ذاته مباينة لذات الحق بعد أن خطر بباله أن ذاته هي ذات الحق , وهكذا يشرق عليه الله بنوره فيشاهد لنفسه ذاتاً مفارقة ويرى { ما لا عين رأت , ولا أذن سمعت , ولا خطر على قلب بشر } (1) ".

ثم ينتقل ابن طفيل إلى وصف جزيرة قريبة من جزيرة حيّ بن يقظان , فيها ملّة تدين بدين أحد الأنبياء , وكان فيها رجلان ( أسال و سلامان ) يدينان بهذا الدين , فكان أسال أشد غوصاً على الباطن وأطمع في التأويل , وكان سلامان يقول بظاهر الأشياء ويرفض التأويل والتأمل , فاختلف معه أسال وغادر الجزيرة حتى وصل إلى جزيرة الوقواق , حيث التقى بحيّ وعلمه الكلام وأصول الدين الصحيحة , وتعرف هو بالمقابل على طريقة حيّ بالكشف عن الحقائق الكونية والوصول إلى المعرفة , واتفق معه أن يرافقه إلى جزيرته علّهما يفلحان في هداية أهلها إلى الحق , إلا أنهما لم يفلحا بذلك ؛ حيث نفروا عنهم .
فتحقق عند حيّ أن مخاطبة الناس بطريق المكاشفة لا ينفعهم , وأن تكليفهم من العمل فوق القدر الذي كلفوا به لا يمكن , وأدرك أن الحكمة كلها , والهداية والتوفيق فيما نطق به الرسل , ووردت به الشريعة , وأن لكل عمل رجالاً , وأن {كلاً ميسر لما خلق له} (2) .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ


1- المنهاج شرح صحيح مسلم :ص1973 –رقم2825 , ومختصر صحيح البخاري :ص568 –رقم 1679 .
2- المنهاج : ص1876 –رقم 2649 .
هيثم السليمان غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس