عرض مشاركة واحدة
قديم 11-01-2011
  #32
عمرأبوحسام
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرأبوحسام
 
تاريخ التسجيل: Oct 2011
المشاركات: 47
معدل تقييم المستوى: 0
عمرأبوحسام is on a distinguished road
افتراضي رد: دراسات في القرآن والنبوة:

المؤاخاة
كان الأنصار رضي الله عنهم إذن على بيِّنَةٍ من واجبهم بمقتضى البيعة، وعلموا أنها عداوةُ العرب، وأنها الحرب، وأنه الموتُ. واختاروا عن رِضىً الطاعةَ لله ورسوله مهما كانت النتائج، والتزموا بالتحرك في المنشط والمكره، والتزموا بالنفقة في العسر واليسر، والتزموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي بالقيام في بلدهم بفرض التحول الجذري، وإقامة المجتمع الإسلامي على قواعدَ مُنافية للمألوف. والتزموا بالشجاعة في الله، شجاعة الكلمة، وشجاعة اقتحام صف العدو. والتزموا بحماية حامل الرسالة صلى الله عليه وسلم كما يحمون أنفسهم وأهليهم. وكانت وقْفَةُ أسعد رضي الله عنه تهدف على تركيز الفهم عند قومه لخطورة التزامهم، وكانت استجابتهم الثابتة تأكيدا لصدق غيرتهم التي دفعتهم، بعد أن ذاقوا حلاوة الإيمان، لعرض أنفسهم على النبي الطوَّافِ في جبال مكة الطريد فيها.
فلما رحل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل مكة حل أجلُ الوفاء بالبيعة. فكان الإيثار الذي مدحه الله تعالى في القرآن.
وكانت الهجرة رحلةً منظمة. لم تكن نَفْرَةَ خائف ولا مُغامرةَ يائس. نقرأ في السيرة كيف احتال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج والاختفاء بغار ثور والسفر. ونقرأ كيف هيأ أبو بكر رضي الله عنه الرحلة. ونقرأ كيف احتال كل صحابي للخروج. ولم تكن لتُلهيَ حيلةُ السفر، ولا همومُ الغربة، ولا تَرَبُّصُ قريش، أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإعداد المادي لهجرتهم. فما انثالوا على إخوانهم بيثرب انثيال اللاجئ ليكونوا عبئا على ضيافة قوم كرام وإيثار إخوة رُحماء. قال الإمام الشاطبي: "فكان منهم من احتال على نفسه فهاجر بماله أو شيء منه. فاستعانَ به لما قدم المدينة في حرفته التي كان يحترف من تجارة أو غيرها، كأبي بكر رضي الله عنه، فإنه هاجر بجميع ماله، وكان خمسة آلاف. ومنهم من فر بنفسه ولم يقدر على استخلاص شيء من ماله. فقدم المدينة صفر اليدين. وكان الغالبَ على أهل المدينة العملُ في حوائطهم (حقولهم المغروسة يحيط بها جدار) وأموالهم بأنفسهم. فلم يكن لغيرهم معهم كبيرُ فضل في العمل (لم يكونوا يحتاجون لمساعدين أجراء في أعمالهم). وكان من المهاجرين من أشركهم الأنصارُ في أموالهم، وهم الأكثرون، بدليل قصة بني النضير. فإنَّ ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير قال للأنصار: "إن شئتم قسمتها بين المهاجرين، وتركتم نصيبكم فيها، وخلى المهاجرون بينكم وبين دوركم وأموالكم فإنهم عيال عليكم". فقالوا: نعم!.(...) وقد قال المهاجرون أيضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ما رأينا قوما أبذلَ من كثير، ولا أحسنَ مُواساةً من قليل، من قوم نزلنا بين أظهرهم-يعني الأنصار. لقد كَفَوْنَا المؤونة وأشركونا في المَهْنَإ. حتى لقد خِفْنَا أن يذهبوا بالأجر كلِّهِ".
هكذا تمت إعادة قسمة الأموال، وسُوِّيَت المسألة الاقتصادية. تعفُّفٌ من جانب، وبذلٌ لا حدود له من جانب. وتنافُسٌ في أجر الآخرة ومكارم الأخلاق. أشركوهم وكفَوْهم المؤونة. أشركوهم في المهنإ، أي آثروهم بالراحة، إذ قدموا لهم هديَّةً جهودَ أعمالهم. وردت كلمة أشركوهم مرتين في نص الشاطبي. ولا أريد أن أقف كما يفعل بعضهم يتصيد الكلمات ليشبه أخوة الإسلام وبذل الإسلام باشتراكية تعشش أوْهَامُها في ذهنه، وتسكنه نية تدليس "إسلام يساري" أو "اشتراكية إسلامية" من صنعه وتلفيقه.
لا يمكن تأسيس دولة القرآن على قواعد اقتصاد يكون فيه الإنسان عبدا للمصالح الأنانية، ويحتكر فيه فريق من الناس الأرزاق بينما يبقى فريق يتسول الصدقات. وما كانت المؤاخاة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، رجلا مع رجل، وأسرة مع أسرة، إلْحَاقاً طُفَيْلِيّاً لأسرة عاطلة بأسرة تعمل وتنتج. فقد ذكر الشاطبي رحمه الله أن من المهاجرين من كان يلتقط نوى التمر فَيَرُضُّهُ ويبيعه عَلَفاً للإبل. وقرأنا في السيرة كيف رفض عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه عَرْضَ أخيه سعد بن الربيع رضي الله عنه الذي قدّم له شطر ماله وخيره في إحدى زوجيه يطلقها له. وباستثناء أهل الصُّفَّة الذين كانوا جُندا مرابطا يهب عند كل هَيْعَةٍ، فإن المهاجرين أحدثوا -وهم قريش التاجرة- نشاطا اقتصاديا نافس اليهود الذين كانوا يحتكرون التجارة والصناعة في المدينة.
لم تكن المؤاخاة ولا الإيثار الرائع زَهْرَةً عاطفية أينعت مع الحماس. بل كانت بذلا يحتقر معه المومن متاع الدنيا بجانب حق الأخوة وبجانب الجزاء في الجنة. ثم كانت النفقةُ وفاءً بعقد البيعة كما رأينا. فالتقت ثمار التربية بحكمةِ التنظيم. التقت رحمة الإيمان ببذل الإيمان.
الأسوة في هذا لغد الإسلام في دولة القرآن، ومغزاه ومرماه، أن تكون إعادة القسمة وإحلال عدل الإسلام ورخاء الإسلام القاعدة الماديَّةَ التي يختل البناء وينهار بدونها. فإنه إن زعم زاعم أنه يحكم بما أنزل الله ثم يُبْقِي قوما في المهنإ والترف، وقوما في الكدح والبؤس، فإنما هو زعم وباطل. تُكَذِّبُ فيه الحقائق الأولية النافخين في البوق. ولا بد في ذلك من تَدَرُّج حتى يُكبَحَ جِمَاحُ الرأسمالية والأنانية الطبقية دون أن تُكسر عجلة الاقتصاد.
عمرأبوحسام غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس