عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - حبة


المثنوي العربي النوري - ص: 248
فلاحول عن العدم ولا قوةَ على الوجود الاّ بالله..
لاحول عن الزوال ولا قوةَ على البقاء الاّ بالله..
لاحول عن المضار ولا قوةَ على المنافع الاّ بالله..
لاحول عن المصائب ولا قوةَ على المطالب الاّ بالله..
لاحول عن المعاصي ولا قوةَ على الطاعات الاّ بالله..
لاحول عن النقم ولا قوةَ على النعم الاّ بالله..
لاحول عن المساوئ ولا قوةَ على المحاسن الاّ بالله..
لاحول عن الآلام ولا قوةَ على الآمال الاّ بالله..
لاحول عن الظلمات الهائلة ولا قوة على الانوار المتلألئة الاّ بالله العلي العظيم.
اعلم! 1 من توكل على الله فهو حسبه:
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ)؛ لانه مالكنا ومالك الكل، فالكلُّ كمُلكنا إن كنّا له تعالى.
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ)؛ لانه الكامل المطلق والكمال محبوب لذاته، من شأنه ان يُفدى له الوجود.
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ)؛ لانه الجليل الجميل ذو الكمال والجلال والجمال المحبوب لذاته، فلشوق تجديد تجليات جماله نموت ضاحكين ونحيا مسرورين.
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ)؛ لانه الواجب الوجود الموجد لكل موجود فعلمنا بوجوب وجوده يعطينا كل الوجود، وبعدم العلم يصير في يدنا نقطة وجود يتحامل عليها أعدام هو ملء الدنيا.
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ): لانـــه القديـــم الابـــدي الدائـــم البـــــــــاقي (كلُ شئ هالكٌ الاّ وجهه) 2.
_____________________
1 [ان ايضاح هذا القسم الذي يخص »حسبنا الله« في اللمعة التاسعة والعشرين العربية وفي الشعاع الرابع والرجاء الرابع عشر والخامس عشر من رسالة الشيوخ] المؤلف.
2 القصص : 88


المثنوي العربي النوري - ص: 249
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ)؛ لان الدنيا فانية والحياة زائلة.
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ)؛ لان بدونه يصير كلُ لذائذ الدنيا منغّصة بآلام هائلة، وبالتوجه اليه والارتباط برحمته لاتزيد اللذائذُ الزائلة الا لذة تجدّد الامثال خالصة عن آلام الزوال.
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ)؛ لان به انوارَ الوجود وبدونه ظُلمات الأعدام الهائلة.
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ)؛ لانه إن عرفناه وشكونا اليه وأرضيناه كفانا كلّ حاجاتنا الى انواع الكائنات، وأما اذا توجّهنا الى الاسباب - التي حاجاتُنا عندها في النظر الظاهري - وشكونا اليها فمعانها عمي صم لاتسمعنا ولاترانا، تتشوش علينا الامورُ وتتشتت بنا الطرقُ، كمثل مَن شكى الى سلطان فانفذ في آن، ومَن شكى الى كلّ اهلِ البلد فرداً فرداً ليتفقوا على إمداده. ولو اتفقوا ما اتفقوا الا في زمان طويل وتكلف عظيم!!
اعلم! ان من لطائف اعجاز القرآن ومن دلائل انه رحمة عامة للكافة:
انه كما ان لكلِ احد من العالم عالماً يخُصُّه، كذلك لكلٍ باعتبار مَشْرَبه من القرآن قرآن يخُصُّه ويربّيه ويُداويه.
ومن مزايا لطف ارشاده:
ان آياته مع كمال الانسجام وغاية الارتباط وتمام الاتصال بينها، يتيسرُ لكل احدٍ ان يأخذَ من السّوَر المتعددة آياتٍ متفرقة لهدايته وشفائه، كما أخذَها عمومُ اهل المشارب واهل العلوم؛ فبينما تراها أشتاتاً باعتبار المنازل والنزول، اذاً تراها قد صارت كقلادةٍ منظمةٍ إئتلفت واتصلت مع أخواتها الجديدة. فلا بالفصل من الاصلِ تنتقص، ولا بالوَصْل بالآيات الاُخر تَستوحش. فهذا السر يشير الى ان لاكثر الآيات الفرقانية مع سائر الايات مناسباتٌ دقيقة يجوز ذكرها معها واتصالها بها.
فكما أن سورة "الاخلاص" اشتملت على ثلاثين سورة بضمّ جُمَلها بعضٌ الى بعض دليلاً ونتيجةً، كما ذكر في [اللوامع] 1 كذلك القرآن الكلّي الجزئي والنوع

_____________________
1 المنشورة ملحقة بمجلد "الكلمات".


المثنوي العربي النوري - ص: 250
المنحصر في الشخص يشتمل بجامعية الايات للمعاني المتعددة ومناسبة الكل للكل يحتوي على الوف الوف قرآنٍ في نفس القرآن. فلكل ذي حقيقة فيه كتابٌ يخصُّه ومن اتبعه..
اللهم يامنزلَ القرآن
بحقّ القرآن
اجعلْ القرآنَ مونِساً لي في حياتي وبعد مماتي
ونوراً في قلبي وقبري..
لا إله الاّ الله مُحمّدٌ رسُولُ الله..
الوداع 1
_____________________
1 ظننت بشدة مرضى قرب الاجل في ذلك الوقت فقلت : الوداع. انا اسافر من باب القبر الى مجمع احبابي واساتيذي ورفقائي من طلبة المدارس والنور. المؤلف

المثنوي العربي النوري - ص: 251
ذيل الذيل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الرحمن الذي من لطائف عظائم ثمرات طوبى رحمته: "سيدُنا محمد" عليه الصلاة والسلام والجنّةُ المتدلّيَيْن على الدارين.. والقديرُ الذي هذه الموجوداتُ الجديدةُ الجلية، والاجرامُ العلوية في بستان الكائنات شواهدُ ربوبيته، وهذه النباتاتُ المتلونة والحيوانات المتنوعة في حديقة الارض خوارقُ صنعتِه وبراهينُ اُلوهيته، وهذه الازهارُ المنوّرةُ والاشجارُ المُثمِرةُ في هذه الجنان معجزاتُ قدرته ودلائلُ رحمته، وهذه الشجرةُ بأوراقها وازهارها واثمارها في هذه الروضة معجزاتُ قدرته.. تشهد كلّ على انه على كل شئ قدير.
فالواقعاتُ الماضية معجزاتُ قدرتهِ، تدلُّ على انه قادرٌ على كل الممُكناتِ الآتية لم يَخرج فيما مضى ولن يَخرجَ فيما يأتي شئ من حكم قُدرته. تتساوى بالنسبة اليه الذراتُ والشموسُ.. وهو الحقُّ المُبين الواحدُ الاحدُ الذي تُنشدُ ذرات الكائناتِ ومركّباتُها بدلالاتها المختلفة وألسنتها المتنوعة مشيرةً الى جماله المطلق:
عباراتنا شتّى وحسنك واحد وكلٌ الى ذاك الجمال يشيرُ
ويتلو كتابُ الكائنات بابوابه وفصوله وصحفه وسطوره وجُمله وحروفه آيات وجوبه ووحدته، وتقرأ سطورهُ على العقول:
تأمل سطور الكائنات فانها من الملأ الأعلى اليك رسائل
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين..
المثنوي العربي النوري - ص: 252
اعلم! ياسعيد الشقي! لاتنظر الى ماليس لك، بل انظر اليكَ، ايُّ شئ انت؟ وما انت؟ وبِمَ تستند؟ اذ انت عَجزٌ متجسّدٌ واحتياجٌ محضٌ ومجسّمُ إنعامٍ ونومٌ مموَّهٌ باليقظة.
فالعجز جسدُك والاحتياجُ روحٌ فيه يتحرك، والإنعام جسمك، وحياتُك نومٌ تسكن به. (اي واه) واشقاوتا أغرقُ في قطرة تصير بحراً عليّ، واغيبُ في آن يصيرُ كالأبد، واظن لمعةَ هذه الحياة شمساً شارقة!
ايها السعيد المسكين! مارأس مالك الا ستون ديناراً تقريباً، اخذت خمسة واربعين فصرفتها كلَّها لمصارف يوم في خانِ الدنيا، ونسيتَ بيتكَ وما يلزم له فصار مالُكَ عليكَ ديْناً وناراً، وما بقيَ من خمسة عشر ديناراً مجهولٌ لاتدري أتأخُذُها او بعضها او لاتأخذ شيئاً منها. فكلما اخذت شيئاً منها فاصرفه لبيتك الدائمي. ولا اقل استَبْقِ لكَ ثُلثه ليَصيرَ لك ديناً ونُوراً. فما اجهلكَ واشدكَ خسارة! صرفت كلِّ الماخوذ ليوم زائل وما بقي في يدك لمقامك الباقي الا اقلَّ قليل، وانت راحلٌ غافلٌ، كانت لك ثلاث درجات.. خطوت على اثنتين بخروجك من المنزل والبلد، فرفعت قدمك لتخطى على الدرجة الثالثة بالخروج من الدنيا الفانية.
اعلم! 1 انه كَبُرَتْ كلمةً تخرجُ من افواه الناس، اذ يقولون: "تشكَّل بنفسه".. و"اقتَضَتْهُ الطبيعة" و"اوجَدَتْهُ الاسباب". فهذه الجمل الثلاث باطلة، ومن ظروف المحالات: اذ انك موجود، فإما انتَ مصنوعُك بالنظر الى الجملة الاولى.. وإما مصنوع اسباب العالم كما اقتضته الثانية.. وإما مصنوعٌ بطبيعة موهومة، وقوة عمياء كما تدل عليه الثالثة.. وإما مصنوع الله كما يستلزمه الحق والحقيقة.
اما الاوّل: فمحالٌ بوجوهٍ غير محصورة:
منها: لابد ان تعطي لكل ذرةٍ من ذراتك عيناً ترى كلَّكَ بل كلَّ الكون وشعوراً كذا، وهكذا ممّا يستلزمه كمال صنعتك لنظر نسب الجزء الى نقوش الكل.
ومنها: لابد ان توجد فيك عدد المركبات المتداخلة المتصاعدة المتنازلة في ذراتك قوالب كقوالب الطبع من الحروف الحديدية المصنوعة ايضاً، لو لم تُكتب بقلم القدير الازلي الواحد.
_____________________
1 اللمعة الثالثة والعشرون "رسالة الطبيعة" تفصيل لهذه الفقرات.

المثنوي العربي النوري - ص: 253
ومنها: لابد ان يكون كل ذرة بسر وحدة الاثر حاكمةً على الكل ومحكومة للكل، كالاحجار في البناء المعقد بفرض نفي الباني.. وكذا ضداً ومثلاً، ومُطلقةً ومقيدةً، ومصدراً ومنبعاً لصفاتٍ تستبعد وجودها حتى فيمن يطوي السماء كطي السجل!
واما الثاني: فمحالاته لاتحصى:
منها: ان المواد التي صُنِعت منها كزجاجات الادوية في "صيدلية"، فإن أمكن عندك ان يخرج بانصباب وسيلان بلا مداخلة أحدٍ من كل زجاج مقدارٌ معين بميزان حساس، ثم تجتمع المقاديرُ المتفاوتة لتشكيل علاج الحياة او تركيب معجون حيويّ، أمكنَ لك ان تتوهم صدورك من اسباب جامدة.
ومنها: صدور شئ واحدٍ بكمال الانتظام من اسبابٍ غير محدودة جامدين متشاكسين عُمياً صماً مترددين بين الامكانات. تزداد بالاختلاط أعمّيتها وأصميّتها، ومع ان مباشرتها بظاهر الشئ. والحال ان باطنه ألطفُ واكمل صنعة، فمحاليةُ صدورك منها اظهرُ من ان يُخفى.
ومنها: ان اجتماع تلك الاسباب الغير المحصورة بكمال الاتفاق والانتظام بميزان الحاجة في حجيرة من حجيرات عينك ليس بأسهل من اجتماع اركان العالم بوجوده الخارجي بأجرامه العظيمة في كفِّك، بل في ظُفركَ، بل في حجيرةٍ منه؛ اذ من يعمل في بيت، جاز اشتمال البيت عليه ان كان العامل مادياً، فما دام العالم باجزائه عاملاً في جزئكَ جاز دخوله في ذرتك. وهذه سفسطة يخجل منها السوفسطائي.. وهكذا من المحالات المتسلسلة والممتنعات العقلية والاباطيل التي تمجّها الاوهام.
والاحتمال الثالث: وهو تأثير الطبيعة، فابطلُ وافسد.
اذ الطبيعة لها ظاهرٌ عرفي موهوم ظَنّته الغفلةُ والضلالة حقيقةً، ولها باطنٌ هو الصنعة الإلهية والصبغة الرحمانية.
واما القوةُ فحقيقتها تجلي قدرة الحكيم العليم الخبير المريد. واما ما يصوره نظرُ الغفلة والتغافل من الصانع الواحد وما اتصل به من جناحي التصادف الاعمى والاتفاقية العوراء.. فمن مخترعات الشياطين بالاضطرار الناشئ من الضلالة.
المثنوي العربي النوري - ص: 254
ولقد حققنا في "نقطة، وقطرة وذيلها، وشمة، وذرة، وحبة وذيلها" بما لم يُبق شبهة: ان هذه الصنعة الخارقة لاتصدر الاّ من قدرة خبير بصير، يتصف بجميع اوصاف الكمال.
فاين يد الممكن المسكين المقيد المحدود الجامد الكثيف من نسج حلة الكائنات؟! وأين يد البعوضة من نسج قميصات مطرزات منقشات لَبِستْها هذه العوالم؟!
فلم يبقَ الاّ ان تكون انت وكلُّ شئ، مصنوعَ الصانع الازلي الذي شواهدُ خلاقيته بعدد الموجودات:
منها الكائنات بجميع ذراتها ومركباتها. كُلٌّ يشهدُ عليه بخمس وخمسين لساناً كما في "قطرة".
ومنها: القرآن مع كل كتب الانبياء والاولياء والموحّدين، مع الآيات التكوينية في الكون..
ومنها: سيدُ الانام مع كل الانبياء، والاولياء والمَلك..
ومنها: ما في الجن والانس من الفطرة بانواع احتياجاتها..
ومنها:
(شَهِدَ الله أنّهُ لا إلهَ الاّ هُوَ) 1 فمع ما سمعت:
فاعلم! ان مَثَل اسناد الصنعة الى الممكن على الوجوه الثلاثة الاُول، والى الواجب كما هو الحقُّ؛ كَمَثلِ الشجرة باثمارها إن اسندتها للوحدة، بان اسندتها بقوانين النمو الى جرثومها المستمد من النواة الممتثلة للاوامر التكوينية المُفاضة من أمر "كُن" الصادر من الواحد الواجب. فالشجرةُ بجميع اجزائها واوراقها وازهارها واثمارها كثمرةٍ واحدة، ولا فرق بين شجرة ذات ثمرتين كخردلتين، وشجرة كجبل ذات اثمار غير محدودة من الجوز الهندي (لسر مجهول 2 في وجود السهولة واليُسر في الوحدة والاتفاق، حتى في تشريك المساعي وتوحيدها بتقسيم الاعمال.. ووجود الصعوبة والعسر في الكثرة والتشتت).
_____________________
1 آل عمران : 18
2 [لم ينكشف ذلك السر بعد اثناء تأليف هذه الرسالة، الاّ انه اتضح بعد ذلك بـ" الشفافية والمقابلة والموازنة والانتظام والتجرد والاطاعة"]. المؤلف.

المثنوي العربي النوري - ص: 255
وأما اذا اسندت الى الكثرة الامكانية وغير ما عيّنه الصانع؛ لاحتاج كُلُّ ثمرةٍ وكلُّ زهرةٍ وكلُ ورق وكل غصن الى كلِّ ما يحتاج اليه كلُّ الشجرة، لاندماج انموذج الكل في جزءٍ جزءٍ. فانظر ما تَرَى: ما بين الشقين، كما بين الوجوب والامتناع؛ اذ سهولة الاوّل بدرجة جاز أن يقال يجب ان يكون هكذا.. وصعوبة الثاني بدرجة تضطرنا ان نقول : يمتنع ان يكون كذا.
الحاصل: ان أعطيتَ التصريف لغيره تعالى لزمك:
اما ان تجعل كلَّ حجيرة من حجيرات اجزائك محيطة بصفاتها بالكائنات، إن اسندتها الى نفسها.. وإما ان تجعل كلَّ حجيرة كحجرة تجتمع فيها مجموع أسباب العالم العاملة فيها، إن اسندتها الى الاسباب؛ لأن وحدةَ الحجيرة الى ان تصل الى وحدة العالم تدل على وحدة الصانع، اذ الواحد لايصدر الا عن الواحد، لاسيما الحجيرة التي لاتسع اصبعين لبعوضتين، فكيف تسع ما لايسعه كلُّ الكون من تصرف الهين؟ فدليل الوحدة هو الوحدة. وزجيجة - كخردلة - يمكن ان توجد فيها الشمسُ بضيائها والوانها وحرارتها بالتجلي بكمال السهولة، ولايمكن وجود خردلتين في خردلةٍ بمصدريتها لهما.
فكما ان الوجود الخارجي اثبتُ واثقلُ واحكمُ من الوجود المثالي، فتسع ذرةُ ذاك جبلَ هذا، وشمسُ هذه تدخل في لمعةِ ذاك.. كذلك الوجود الوجوبي اثبت وارسخ وارزن وارصن بل هو الوجود الحقيقي والخارجي البحت، واحقّ بما لايُحد من الوجود الامكاني، فالموجودات الامكانية بحذافيرها المتمثلة في مرآة العلم الازلي المحيط تصيرُ كالمرايا لتجليات انوار الوجود الوجوبي. فالعلمُ مرآتُها، وهي مرآة الوجود الوجوبي. فوجودها خرج من مرتبة العلم الى الوجود الخارجي، ولم يصل الى مرتبة الوجود الحقيقي...
اعلم! انه من تأمل في الكون يتحدس منه: ان الفاعلية والتأثير من شأن اللطيف، والنوراني، والمجرد.. وان الانفعال والقابلية والتأثر من شأن المادي والكثيف والجسماني.
فان شئت انظر الى النور والى الجبل، فالاول: يقوم في السماء، ويدهُ الرقيقة اللطيفة في الارض فعالة جوالة. والثاني: بعظمته وباياديه الغليظة لايقتدر على فعل
المثنوي العربي النوري - ص: 256
وتأثير حتى في لصيقه وجاره.. وكذا نرى في تفاعل الاشياء في الظاهر: ان بدرجة لطف الشئ ونورانيته تظهر مرتبة السببية فيه، وبالكثافة يتقرب الى درجة المسَبَّب. فيُعلم من هنا ان خالق الاسباب الظاهرية وموجد المسَّببات هو نورُ الأنوار الذي: (لَيسَ كَمثلهِ شَئٌ وهوَ السميعُ البصير) 1 (لاتُدْرِكهُ الأبصارُ وهو يُدركُ الابصارَ وهوَ اللطيفُ الخبير..) 2 لا إله الاّ هو...
اعلم! ان التفكر نور يُذيبُ الغفلة الباردة الجامدة، والدقةُ نارٌ تحرق الاوهامَ المظلمةَ اليابسة، لكن. اذا تفكرتَ في نفسِك فدقّق وتمهّل وتغلغل وفصّله تفصيلاً،
اذا تفكرتَ في نفسِك فدقّق وتمهّل وتغلغل وفصّله تفصيلاً، بمقتضى الاسم "الباطن" المتعمق؛ اذ كمالُ الصنعة اتمُّ في تحليله وتفصيله..
واذا تفكرت في الآفاق، فاجمل واسرع ولاتَغُص ولا تَخُضْ الاّ لحاجة ايضاحِ القاعدة، ولا تحدِّد النظر، كما هو مقتضى الاسم "الظاهر" الواسع؛ اذ شعشعةُ الصنعة أجلى وابهرُ واجملُ في إجماله ومجموعه، ولئلا تغرق فيما لا ساحل له. فاذا فصلتَ هناك - يعنى في نفسك - واجملتَ هنا، تقرّبتَ الى الوحدة. فصارت الجزئياتُ اجزاءً، والانواعُ كلاً، والمختلط ممتزجاً، والممتزج متحداً فيفور منه نورُ اليقين. واذ عكستَ بان اجملتَ فيك، وفصّلتَ في الآفاق تتشتت بك الكثرةُ وتستهوي بك الاوهامُ وتستغلظ انانيتُك وتتصلّب غفلتُك، فتنقلب طبيعةً. فهذا طريق الكثرة المنجرة الى الضلالة... اللّهمَّ لاتجعلنا من الضالين آمين...
اعلم! انه قد روي ان الانسان "اذا تحرك سكن رزقهُ، واذا سكن تحرك رزقهُ". الحق انه من لمعات حقيقة واسعة.. فانظر الى الاشجار لما سكنتْ متوكلةً تحركتْ اليها ارزاقُها، والى الحيوانات لما تحركتْ حريصاتٍ سكنتْ عنها ارزاقها ثابتة في مقامها نابتةً على عروقها، تدعو بالوانها وروائحها الى انفسها مَن جاع واحتاج من الحيوانات المتحركة باهوائها والدائرة بهَوَساتها..
اعلم! انه ما اجهل الانسان الغافل وما اضلّه وما اضرّه لنفسه!. يترك خيراً عظيماً لوجود احتمال عائقٍ بين تسعة احتمالات سائقة، ويرتكب الضلالة بترك الهداية لشبهةٍ سوفسطائية مع وجود الوفِ براهين الهداية، والحال ان الانسان وهّام ذو
_____________________
1 الشورى : 11
2 الانعام : 103

المثنوي العربي النوري - ص: 257
احتياط وحزمٍ يتجنب من المضار العاجلة باحتمالٍ واحدٍ من عشرة احتمالات. فكيف لايتجنب من اضرّ المضرات بتسعة احتمالات بل بتسعة وتسعين؟!.
_ (اعلم): ان في روح الانسان احتياجاتٍ لاتتناهى وقابليةً لتألمات لاتتناهى واستعداداً لتلذذات لاتتناهى ومهيءٌ لآمال والآم لاتتناهى؛ حتى ان الشفقة مع ضلالة القلب تتضمن آلاماً غير متناهية. كما ذكر في "قطرة"، فليس لك ان تقول: ما انا ومَن انا وايُّ شئ انا حتى تقوم لي القيامة، ويوضَع لي الميزان، ويجري عليّ الحساب! فيا ايها الضال الشاك..! لاتغتر بهذه الحياة، فان لذتها معلقةٌ بمغلطة مربوطةٍ بالشك لأهل الضلالة. فيفرُّ الضالّ الشاك من دهشةِ ألم الزوال والفناء الى احتمال السعادة الابدية. ويفرُ ايضاً من تكلف تحمل التكاليف الدينية الى احتمال عدمِ الآخرة، فيتخلص بهذه المغلطة من الألَمين مؤقتاً. ففي قريب من الزمان تنحلُّ عليه العقدة، وتنكشف الحقيقة. فلا الاحتمال الاول، يهوِّن ألَمه بل يحسه كلَّ الألم دفعةَ، ولا الثاني، يخفف حمله بل يضاعف عليه آلاماً جهنمية. وكذا يقول - لكن في زمان قليل - : فالمصيبة عمّت وطابت، فلا عليّ اني كأمثالي فلا اُبالي! لكن يجيء زمان عن قريب، تتضاعف عليه المصيبة بدرجة عمومها، كاصابة الشخص في نفسه ثم أقاربه وأحبابه، لأن في روح المرء علاقات بأبناء جنسه فمهما عمّت المصيبةُ تضاعفت البلية.
ايها الشاك الغافل! لاتحسب ان تذوقه بيدي الغفلة والشك لذة لذيذة، بل فيه ادخار آلام أليمة، ستهجم عليك دفعةً وتنقلب آلاماً جهنمية. فإن احببتَ ان يتبدل لك هذه الآلامُ المترصدة لذائذَ متجددةً، وتنقلب هذه النارُ نوراً؛ فقوِّس انفَ غرورك بالركوع في الأوقات الخمسة، ووسِّع رأسه لنزول ضيفِ الفرقان مع فيض الايمان. فلابد من المداواة بالتفكر بالآيات وملازمة مَرارة هذه الضلالات، وتنكشف لذة المناجاة..
(اعلم): 1 ان العبودية تستلزم التسليمَ دون الاختيار والتجربة والامتحان اذ "للسيد أن يختبر عبدهُ، وليس للعبد ان يختبر ربّه"!..
_____________________
1 تراجع المذكرة الثالثة عشرة من اللمعة السابعة عشرة.

المثنوي العربي النوري - ص: 258
اعلم: ان دائرة الاسم "الباطن" ودائرة الاسم "الظاهر" متداخلتان ومتقابلتان. فاهل الاُولى يقولون قدرته، مثلا كالبحر. واهل الثانيةيقولون كالشمس. فالبحر كالكل ذي الاجزاء. والشمس كالكلي ذي الجزئيات تماثيلها كجزئياتها. والباطني المحض المفرط لايخلص من شائبة التجزء والاتحاد. والظاهري السطحي المخالف للسنة لايخلص من شوب شرك الاسباب، فالصراط المستقيم هو القرآن..
فيا مُنزلَ القرآن، بحق القرآن اهدنا الصّراط المُستقيم
آمين آمين آمين
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس