مناظرة
بين إبليس لعنه الله
وسيدنا سهل بن عبد التستري رضي الله عنه
"ولقد طمع في تلك الرحمة إبليس !؛ فإنه لما تقابل مع سيدنا سهل التستري (1) ، وقال له: إن الله قال: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } (2) ، وأنا شيء!، فرحمته وسعتني.
فقال له سهل: إن الله قيَّدها بقوله: { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ } (3) .
فقال إبليس: إن التقييد منه لأجلك، والتقييد لا يحكم عليه لأنه فوق القيود والحدود، فهو الملك المطلق.
قال تعالى: { يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ } (4) .
قال سيدنا سهلٌ - رضي الله عنه -: فمن فتح عليه في هذه المسألة بجواب فليثبته هنا، وقد سمعت من الإمام أبي العزائم رضي الله عنه – في هذا الجواب أنه قال:" إن الله تعالى له أسماء جمال، وأسماء جلال، مثل اسمه "الغفَّار، القهَّار، الضار، النافع، المعطي، المانع" فكلُّ اسمٍ له مظاهر من عباد سبق في علمه تعالى، أنهم أهلٌ لتلك المعاني لا تغيير ولا تبديل، فلا بدَّ من أن يأخذ كل منهم ما قسم له في الأزل، ولا مفرَّ من القدر، ومع ذلك فإننا إن تتبَّعنا جميع المظاهر والمناظر وجدنا الكلَّ في عين الرحمة، فمثلاً اسمه "المانع" رحمة بمن منع لأنه لو أعطاه لطغى وبغى (5) . قال تعالى: {كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى }. (6)
فالناس في نظر الله كالمرضى، فهو يعطيهم الدواء على قدر الداء، فإذا أعطى الفقر أو المرض، أو أي بلاء للإنسان، وهو دواء مر، ففي باطنه الرحمة والمرارة نعمة. فقد يمنع الإنسان ولده المريض عن أكل اللحم والحلوى، وهو كلُّه رحمة بولده، وقد يمسكه بيده للطبيب لعملية جراحية أو يفصد له عرقاً والولد يتألَّم والوالد كلُّه رحمة.
بل إنك إذا نظرت إلى النار بعين الاعتبار وجدت في باطنها رحمةً لأنها حمَّام يذيب الأوساخ، ويأكل الغواشي، ويرجع الإنسان إلى حقيقته، فيعرف نفسه وربه، ولولا النار ما عرف "القهَّار".
النار تطهِّر من المعاصي والحجب الظلمانية، وتحرق من الكافر الأنانية.
وما من سيف لقمع ظالم ، أو سلاح لقهر غاشم، إلا وهو رحمة بالمتمع الإنساني، وأكثر رحمة تتجلَّى في القصاص؛ فإذا وجب القتل على إنسان فقُتِل، كان ذلك رحمة.
وإذا ثبتت السرقةعلى لصٍّ فقطعت يده كان ذلك هو الرحمة.
وأعظم رحمة للأرواح والأشباح تتجلَّى في الشريعة المحمدية، إلا أن أعظم رحمة وهبت للوجود هي رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فإن الله تعالى قال: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } . (7)
فقد رحم الله به - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - القلوب فانتبهت وعرفت، ورحم به الأرواح فشاهدت وعشقت، ورحم الله به النفوس فتزكَّت وخضعت، ورحم به الأجسام فركعت وسجدت.
رحم الله العوالم فعرفت الحرية والمساواة، وكشف الستار عن الجمال الإلهي فدخل المؤمنون في معية الله.
فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو مظهر الرحمة الجامعة الكلية، ومن أراد أن يسبح في بحار الرحمة فليتشبَّه برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في أعماله وأخلاقه المرضية.
ومن جلائل النعم ومظاهر الرحمة والكرم: القرآن الكريم، ولولا تنـزل الرحمن ببيان القرآن، لما تحمَّله إنسان؛ وكيف تتحمَّل البريَّة كلام الذات العلية؟. ولكنه أمدَّ القلوب بواسع الرحمة، ثم واجهها بوافر النعمة، فتجمَّلت بمدده الرحماني." اهـ 211
اقتباس:=============================== الحاشية =============================
(1) : سهل بن عبد الله التستري أبو محمد، أحد أئمة القوم وعلمائهم. والمتكلمين في علوم الرياضيات والإخلاص. وعيوب الأفعال، وكان رضي الله عنه ذا ورع، وله كرامات، سكن البصرة زماناً، وعبادان مدة. قال ابن الملقن: وأظنه مات بتستر، سنة 273 أو 283 هـ.
انظر: حلية الأولياء 10/189، طبقات ابن الملقن 232، طبقات السلمي 206.
(2) : سورة الأعراف – الآية 156.
(3) : سورة الأعراف – الآية 156.
(4) : سورة الرعد – الآية 39.
(5) : ذلك لأنه سبحانه وتعالى خلق عباده على أوصاف شتى فمنهم القوي والضعيف والوضيع والشريف فمن علم من قلبه قوة على حمل أعباء الفقر الذي هو أشد البلاء صبر على تجرع مرارته أفقره في الدنيا ليرفعه على الأغنياء في العقبى ومن علم ضعفه وعدم احتماله وأن الفقر ينسيه ربه صرفه عنه لأنه لا يحب أن عبده ينساه أو ينظر إلى من سواه، فسبحان الحكيم العليم.
قال سيدي ابن عطاء الله في حكم: "ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك"، "متى فتح لك باب الفهم في المنع عاد المنع هو عين العطاء"، "متى أعطاك أشهدك بره ومتى منعك أشهدك قهره فهو في كل ذلك متعرف إليك ومقبل بوجود لطفه عليك"، "إنما يؤلمك المنع لعدم فهمك عن اللّه فيه".
وقال سيدي العارف بالله عبد القادر الجيلاني: للنفس حالان ولا ثالث لهما حال عافية وحال بلاء فإن كانت في بلاء فشأنها غالباً الجزع والشكوى والاعتراض والتهمة للّه بغير صبر ولا رضى ولا موافقة بل محض سوء أدب وشرك بالخلق والأسباب وإن كانت في عافية ونعمة فالأشر والبطر واتباع الشهوات كلما نالت شهوة تبعت أخرى وتطلب أعلا منها وكلما أعطيت ما طلبت توقع صاحبها في تعب لا غاية له وشأنها إذا كانت بلاء لا تتمنى إلا كشفه وتنسى كل نعيم ولذة فإذا شفيت رجعت إلى رعونتها وأشرها وبطرها وإعراضها عن الطاعة وتنسى ما كانت فيه من البلاء فربما ردّت إلى ما كانت فيه من البلاء عقوبة وذلك رحمة من اللّه بها ليكفها عن المخالفة فالبلاء أولى بها ولو أنها لم ترجع لرذائلها لكنها جهلت فلم تعلم ما فيه صلاحها.
(6) : سورة العلق الآيتان 6و7.
(7) : سورة الأنبياء – الآية 107."اهـ211
(يتبع إن شاء الله تعالى مع: المعلِّم للأكوان هو الله الرحمن.... )
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات