الموضوع: إشارات الإعجاز
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-19-2011
  #22
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: إشارات الإعجاز


إشارات الإعجاز - ص: 210
فوقها في قيمة البلاغة أو في الصغر أيضا فالتعبير بـ (مافوقها) اشارة الى ان الصغير اغرب بلاغة وأعجب خلقة.
واعلم! ان الهيئات كخيوط الحرير باجتماعها يظهر النقش الحسن.
وأما هيئات جملة (فأما الذين آمنوا فيعلمون انه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا) فاعلم! ان الفاء للتفريع، والتفريع اشارة الى دليل ضمني ينتج هذه الجملة ذات الشقين: أي لايترك التمثيل لأن البلاغة تقتضيه؛ فمن انصف يعرف انه بليغ وحق وكلام الله تعالى. ومن نظر بالعناد لايعلم الحكمة فيتردد.. فيسأل.. فينكر.. فيستحقر. فانتج: ان المؤمن - لأنه منصف - يصدق انه كلام الله، والكافر - لأنه معاند - يقول ما الفائدة فيه؟ وان "اما" فلانها شرطية لزومية في الوضع اشارة الى ان الخبر لازم للمبتدأ وضروريّ له، يعني من شأن المبتدأ هذا الخبر.. وان ايراد (الذين آمنوا) بدل "المؤمنين" اشارة الى التنصيص على ان الايمان هو سبب العلم بحقيته وان العلم بحقيته ايمان 1.. وان (انه الحق) بدل "انه البليغ" الأنسب بالمقام اشارة الى آخر نتيجة اعتراضهم اذ غرضهم نفى كونه كلام الله.. وان حصر "انه الحق" اشارة الى ان هذا هو المستحسن الذي لا يستقبح بخلاف ما يزعمون اذ السلامة من العيب لاتثبت الكمال.. وان (من ربهم) اشارة الى ان هدف غرضهم انكار النزول.. وان "اما" في "واما الذين كفروا" للتأكيد والتحقيق والتفصيل.. وان ايراد (الذين كفروا) بدل "الكافرين" الأوجز ايماء كما مر الى ان انكارهم يجئ من الكفر ويذهب الى الكفر.. وان ايثار (فيقولون) على "فلا يعلمون" مع انه الظاهر كما مر فلاختيار طريق الكناية للايجاز أي: من كفر لايعرف الحقيقة فينجر الى التردد.. فينجر الى الانكار.. فينجر الى الاستحقار بصورة الاستفهام.. وأيضاً في "يقولون" رمز الى أنهم كما كانوا ضالّين، كذلك كانوا مضلين بأقوالهم.

_____________________
1 الظاهر: ان ههنا حذفاً من نسيان النساخ - كما انه نسي تحليل ماذا اراد الله بهذا مثلاً برمته - مع الاسف - يُعلم من عدم ارتباط الكلام، ومن فقد كلمة "فيعلمون " ومن عديله "الذين كفروا " مع الاحالة هناك على ما هنا. فاقول بدلاً عن المؤلف على نسق ما يأتي، فان حلّ محله فبها والاّ فعليّ:
ان ايراد الذين آمنوا بدل "المؤمنين " الاوجز ايماء الى ان انصافهم يجئ من الايمان، ويذهب الى الايمان.. وان ايثار "فيعلمون " على "فيقولون " الانسب بما يأتي اشارة الى التنصيص على ان الايمان هو سبب العلم بحقيقته، وان العلم بحقيقيته ايمان (ش).

إشارات الإعجاز - ص: 211
وأما هيئات جملة (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراَ) فاعلم! ان الترتيب يقتضي تقديم الثانية لكن لما كان الغرض ردّ اعتراض المتردِّد المستفهِم المستنكِر المستقبح كان (يضل) أهمّ. أما العدول عن "الضلالة والهداية" المناسبتين للسؤال الى صورة الفعل المضارع فاشارة الى ان كفرهم يتكاثف ظلمة على ظلمة بنسبة تزايد النزول تجدداً؛ كما ان المؤمن يتزايد ايمانه بدرجات النزول نوراً على نور.. وكذا في الفعل - بناء على كونه جوابا - رمز الى بيان حال الفريقين وبيان السبب. وأما (كثيراً) ففي الأُولى كمية وعدداً، وفي الثانية قيمة وكيفية. نعم! ان كرام الناس كثيرون وان قلّوا. فالتعبير بالكثير في الثانية رمز الى سرّ كون القرآن رحمة للبشر 1. تأمل..
وأما جملة (وما يضل به الاّ الفاسقين) فاعلم! انه لما ذكر الكثير في الاولى دفع الوسوسة والخوف والتردد وتهمة النقص في القرآن ببيان: ان الضالين من هم؟ وان منشأ الضلالة فسقهم، وان سببها كسبهم، وان القصور منهم لا من القرآن، وان خلق الضلالة جزاء لفعلهم..
ثم اعلم! ان كل واحدة من هذه الجمل كما انها كشّافة لسابقتها؛ كذلك مفسَّرة بلاحقتها كأنها دليل للسابقة نتيجة للاحقة.
وايضاحه: ان فيها سلسلتين.
إحداها هكذا: انه لايستحي.. لأنه لايترك.. لأنه بليغ... لأنه حق.. لأنه كلام الله.. لان المؤمن يعلمه.
والثانية هكذا: انه لايستحي كما يقول المنكر.. لأنهم يقولون يلزم تركه.. لأنهم لايعلمون حكمته.. لأنهم يقولون ما الفائدة فيه.. لأنهم ينكرونه.. لأنهم يستحقرونه.. لأنهم يقعون في الضلالة بسماعه.. لأنهم يضلهم القرآن.. لأنهم هم الذين فسقوا وخرجوا عن قشرهم.. لأنهم نقضوا عهد الله.. لأنهم مزقوا ما اتصل بأمر التكوين والتشريع.. لأنهم يفسدون النظام الالهيّ في الارض. فاذاً هم الخاسرون في الدنيا باضطراب الوجدان وبقلق القلب وبتوحش الروح، وفي الآخرة بالعذاب الأبديّ وبغضب الله، فتأمل في سلاسة السلسلتين!..(2)

_____________________
1اِذ من لطف القرآن وشمول رحمته للناس اظهار فضائل المهتدين القليلين كثيرةً، وبيان ان صاحب فضلية وهداية اولى" من الفٍ من المحرومين منها، لذا فالكرام كثيرون وان قلّوا (ت: 196)
(2) جزاك الله خيراً كثيراً لقد أحسنت في فهم السلسلتبن وتفهيمهما( بخط المؤلف على نسخة مطبوعة)

إشارات الإعجاز - ص: 212
وأما هيئات جملة (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به ان يوصل ويفسدون في الأرض) فاعلم! ان توصيف الفاسقين المشككين في اعجازه ونظمه بهذه الأوصاف في هذا المقام، انما هو لمناسبة لطيفة عالية. كأن القرآن يقول: ليس ببعيد من الفساق - الذين لم يروا اعجاز القدرة في نظام الكائنات التي هي القرآن الأكبر - ان يترددوا ويجهلوا اعجاز نظم القرآن؛ اذ كما يرون نظام الكائنات تصادفيا، والتحولات المثمرة عبثا اتفاقية فتستر عنهم - لفساد روحهم - حِكَمَه؛ كذلك بفطرتهم السقيمة وتهوسهم الفاسد رأوا النظم المعجز مشوشا ومقدماته عقيمة وثمراته مرّة.
اما جملة (ينقضون عهد الله) فلأن النقض لغةً تفريق خيوط الحبل وتمزيقها اشارة الى اسلوب عال،كأن عهده تعالى حبل نوراني فتل بالحكمة والعناية والمشيئة فامتد من الازل الى ان اتصل بالأبد. فتجلى في الكائنات بصورة النظام العمومي وأرسلت تلك السلسلة سلاسلها الى الأنواع وامتدّ أَعْجُبُها 1 الى نوع البشر فاورثت واثمرت في روح البشر بذور استعدادات وقابليات تسقى وتتزاهر بالجزء الاختياريّ المعدَّل بالأمر التشريعيّ، أي الدلائل النقلية. فوفاء العهد صرف الاستعدادات فيما وضعت له؛ ونقض العهد خلافه وتفريقه، كالايمان ببعض الأنبياء وتكذيب بعض.. وقبول بعض الأحكام ورد بعض.. واستحسان بعض الآيات واستنكار بعض .. فانه يخل بالنظام والنظم والانتظام.
وأما جملة (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) فاعلم! ان هذا الأمر عام للأمر التشريعيِّ والأمر التكوينيِّ المندمج في القوانين الفطرية والعادات الالهية. فالقطع لما أمر بوصله شرعاً كقطع صلة الرحم وقطع قلوب المؤمنين بعض عن بعض. وعلى هذا القياس!.. وتكويناً كقطع العمل عن العلم.. وقطع العلم عن الذكاء .. وقطع الذكاء عن الاستعداد. وقطع معرفة الله عن العقل.. وقطع السعي عن القوة.. وقطع الجهاد عن الجسارة وهكذا!.. اذ إعطاء القوة أمر معنوي تكويني بالسعي، وإعطاء الذكاء أمر معنوي بالعلم.. الى آخره...
وأما جملة (ويفسدون في الأرض) فاعلم! ان من فسد وتورط في الوحل يطلب أن يكون له رفقاء متورطون ليتخفف عنه دهشة الحال بسر "اذا عمّت البلية

_____________________
1 جمع عجب وهو الدنب.

إشارات الإعجاز - ص: 213
طابت" وكذا اذا وقع في قلب أحد اختلالٌ، تخرب في قلبه الكمالاتُ وتتساقط الحسيات العالية، فيتولد فيه ميل التخريب فينتج له لذة في التخريب فيتحرى لذته في الافساد والاختلال.
p فان قلت: كيف يؤثر فساد فاسق في عموم الأرض المشار اليه بلفظ في الأرض؟
قيل لك: الذي فيه نظام ففيه موازنة ، حتى ان النظام مبني على الموازنة فتداخل شئ حقير بين دواليب ماكينة تتأثر به، وان لم يُحس. والميزان الذي في كفتيه جبلان يتأثر بوضع جوزة على كفة..
وأما جملة (اولئك هم الخاسرون) فاعلم! ان حق العبارة "هم خاسرون في عدم الهداية به " فلفظ "اولئك" ولفظ "هم" والتعريفُ والاطلاقُ لنكت:
أما (اولئك) فلأن وضعه لإِحضار محسوسٍ، فالإِحضار المستفاد منه اشارة الى ان السامع اذا سمع حالهم الخبيثة من شأنه ان يحصل له حدّة عليهم ونفرة منهم. فلتطمين نفرته وتشفّي حدّته يطلب أن يستحضروا إلى خياله ليشاهدهم وقت اتصافهم بالعاقبة الوخيمة. . والمحسوسية اشارة الى أن أوصافهم الرذيلة تكثرت بدرجة تجسمهم محسوسين نصب نظر النفرة. فمن الإِشارة ايماء إلى علة الحكم بالخسارة. . والبعدية إشارة إلى أنهم قد بعدوا عن طريق الحق بدرجة لايرجعون فيستحقون الذم والتشنيع بخلاف من كان في معرض الندامة ومسافة الرجوع.. و(هم) اشارة الى ان الخسارة منحصرة عليهم حتى ان خسارات المؤمنين لبعض اللذائذ الدنيوية ليست خسارة. وكذا خسارات أهل الدنيا في تجاراتهم ليست خسارة بالنسبة إلى خساراتهم.. والألف واللام اشارة الى تصوير الحقيقة أي من أراد أن يرى حقيقة الخاسرين فلينظر اليهم. . وكذا ايماء الى أن مسلكهم محض خسارة لا كالخسارات الأخر التي فيها وجوه من النفع لكن الضر أكثر. فالتعريف اما للكمال أو للبداهة أو لتصوير الحقيقة.. واطلاق الخسارة اشارة باعانة المقام الخطابيّ الى عموم أنواع الخسارات. أي خسروا في وفاء العهد بالنقض، وفي صلة الرحم بالقطيعة، وفي الاصلاح بالإِفساد، وفي الايمان بالكفر، وبالشقاوة خسروا السعادة الأبدية..
* * *
إشارات الإعجاز - ص: 214
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِالله وَكُنْتُمْ اَمْوَاتاً فَاَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
ثُمَّ اِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 28
اعلم ان لهذه الآية أيضاً الوجوه الثلاثة النظمية:
أما نظم مآلها بسابقها، فاعلم! ان الله تعالى لما دعا الناس إلى عبادته والاعتقاد به، وذكر أصول العقائد والأحكام مشيراً إلى دلائلها إجمالاً؛ عاد في هذه الآية مع لواحقها الثلاث إلى سرد الدلائل عليها بتعداد النعم المتضمنة للدلائل. ثم إن أعظم النعم "الحياة" المشار اليها بهذه الآية، ثم "البقاء" أي كمال الحياة بتنظيم السموات والأرض المشار اليه بالآية الثانية، ثم تفضيل البشر وتكريمه على الكائنات بالآية الثالثة، ثم تعليمه العلم بالرابعة.. فهذه النعم نظراً الى "صورة النعمة" دليل العناية والغاية، وكذا دليل العبادة؛ اذ شكر المنعم واجب وكفران النعم حرام في العقول. ونظراً الى "الحقيقة" دليل اختراعيّ على وجود المبدأ والمعاد.. وكذا ان هذه الآية كما تنظر الى سابقتها كذلك تنظر إلى الأسبق من بحث الكافرين والمنافقين فأشار بهذا الاستفهام الانكاريّ التعجبيّ إلى تقريعهم وتشنيعهم وتهديدهم وترهيبهم.
وأما نظم الجمل، فاعلم! ان هنا إلتفاتاً من الغيبة الى الخطاب؛ اذ حكى عنهم اوّلاً ثم خاطبهم، لنكتة معلومة في البلاغة وهي:
انه اذا ذكر مساوئ شخص شيئاً فشيئاً تزيد الحدّة عليه، الى ان يلجئ المتكلم - لو كان انساناً - الى المشافهة والمخاطبة معه.. وكذا اذا ذكرت محاسن أحد درجة درجة يتقوى ميل المكالمة معه الى أن يلجئ إلى التوجه اليه والخطاب معه. فلنزول القرآن على أسلوب العرب التفت فقال: (كيف تكفرون) مخاطباً لهم.
ثم اعلم! انه لما كان المقصد هنا سرد البراهين على الأصول السابقة من الايمان والعبادة، ورد الكفر ومنع كفران النعمة. ثم ان أوضح الدلائل هو الدليل المستفاد من سلسلة أحوال البشر، وان أكمل النعم هي النعم المتدلّية في أنابيب تلك السلسلة
إشارات الإعجاز - ص: 215
والمندمجة في عقدها؛ قال: (وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم اليه ترجعون) اشارة الى تلك السلسلة العجيبة المترتبة ذات العقد الخمس التي تدلت من أنابيبها عناقيد النعم. فلنمهّد خمس مسائل لحلّ تلك العقد.
المسألة الأولى: في (وكنتم أمواتا).
اعلم! ان الانسان باعتبار جسده بينما كان ذرّاتٍ جامدةً منتشرةً في العالم، اذ تراها دخلت بقانون مخصوص ونظام معيّن تحت انتظام.. ثم بينما تراها متسترة ساكتة في عالم العناصر اذ تراها انتقلت متسلّلة بدستور معّين وانتظام يومئ إلى قصد وحكمة الى عالم المواليد.. ثم بينما تراها متفرقة ساكنة في ذلك العالم اذ تراها تحزبت بطرز عجيب وصارت نطفة.. ثم بانقلابات متسلسلة علقة فمضغة.. فلحماً وعظاماً وهلم جرا.. فكلٌّ من هذه الأطوار وان كان مكمَّلاً بالنسبة الى سابقه الا انه ميّت وموات. 1
p فان قلت: الموت عدم الحياة وزوالها ولا حياة فيها حتى تزول؟
قيل لك: اختار المجاز لاعداد الذهن لقبول العقدة الثالثة والرابعة.
المسألة الثانية: في (فأحياكم).
اعلم! ان أعجبَ معجزات القدرة وادقّها الحياةُ.. وكذا هي أعظم كل النعم وأظهر كل البراهين على المبدأ والمعاد.
أما وجه أدقيتها وغموضها فهو:
ان ادنى أنواع الحياة حياة النبات، وان أوّل درجاتها تنبه العقدة الحياتية في الحبة. وهذا التنبه مع شدة ظهوره وعمومه والالفة به من زمان آدم الى الآن قد بقي مستوراً عن نظر حكمة البشر.
وأما وجه كونها أعظم النعم فهو:
ان الجسم الذي لاحياة فيه ليس له مناسبة إلاّ مع مكانه المشخص وما به يختلط فيكون يتيماً منفرداً ولو كان جبلا. لكن اذا رأيت جسما ولو صغيراً كالنحل مثلا وقع

_____________________
1 بالنسبة الى لاحقه.

إشارات الإعجاز - ص: 216
فيه الحياة حصل له دفعةً مناسباتٌ مع عموم الكائنات وتجارة مع الأنواع حتى يحقّ له أن يقول: "مكاني الكائنات وهي كملكي". اذ اذا انتقل إلى الحياة الحيوانية تراه يجول بحواسه ويتصرّف بها في أطراف الكائنات فيحصل بينه وبين أنواعها اختصاص ومبادلة ومحبة.. ولا سيما اذا ترفع إلى طبقة الانسانية تراه بنور العقل يجول في عوالم. فكما يتصرّف في العالم الجسماني يجول في العالم الروحاني، ويطوف في العالم المثالي. وكما يسافر هو الى تلك العوالم؛ كذلك تسافر هي اليه بالتمثل في مرآة روحه حتى يستحق أن يقول: "ان العالم مخلوق لأجلي بفضل الله تعالى".. فتتنوع حياته وتنبسط الى الحياة المادية والمعنوية والجسمانية والروحانية التي يشتمل كل منها على طبقات. فحق أن يقال: كما ان الضياء سبب لظهور الألوان والأجسام؛ كذا ان الحياة كشافة لكافة الموجودات وسبب لظهورها، وان الحياة هي التي تصيّر ذرّة كعالم. وان الحياة هي الوسيلة لإِحسان مجموع العالم لذي حياة برأسه مع عدم المزاحمة والانقسام إلاّ في أقل قليل بين البشر.
وأما وجه كونها أظهر الدلائل على الصانع وكذا على الحشر:
فاعلم! ان انتقال بعض ذرات جامدة وانقلابها دفعة الى هيئة ووضعية تخالف الوضعية الأولى - بلا توسط سبب معقول - برهان أيّ برهان. حتى ان الحياة لكونها أشرف الحقائق وأنزهها، لا خسّة فيها بوجهٍ ولا رَيْن عليها، لا في جهة الملك ولا في جهة الملكوت، فكلا وجهيها لطيفان، حتى ان حياة أخس حيوان جزئي أيضاً عالية. ولهذا السر(1) لم يتوسط بينها وبين يد القدرة سبب ظاهريّ؛ اذ مباشرتها لا تنافي عزة القدرة، مع ان وضع الأسباب الظاهرية - كما مر - لمحافظة عزة القدرة في مباشرة الأمور الخسيسة في ظاهر النظر.
وأما وجه كونها أظهر الدلائل على المبدأ والمعاد فقد سمعت آنفا، فلنلخص لك وهو:
ان من نظر في هذه الحياة وتدرج بنظره الى الأطوار المترتبة إلى أبسط صور الجسم يرى أجزاء منتثرة في عالم الذرات. ثم يبصرها قد تلبس في عالم العناصر صوراً أخرى. ثم يصادفها في عالم المواليد في وضعية أخرى.. ثم يلاقيها في نطفة ثم في
(1) تدقيق حسن ( بخط المؤلف على نسخة مطبوعة)
إشارات الإعجاز - ص: 217
علقة ثم في مضغة. ثم يراها دفعة بانقلاب عجيب قد لبست صورة ويرى في هذه الانقلابات حركات منتظمة على دساتير معينة يتراءى منها: ان كل ذرة كانت معينة في أول الأطوار كأنها موظفة للذهاب إلى الموضع المناسب من جسد الحي، فيتفطن الذهن انها بقصد تُساق وبحكمة تُرسل، وكانت الحياة الثانية في نظره أهون وأسهل وأمكن بدرجات فيقنع بها قلبه بالطريق الأَولى. فهذه الجملة كالدليل للاحقتها والكل معا برهان على الانكار المستفاد من "كيف".
المسألة الثالثة: في (ثم يميتكم).
اعلم! ان آية (خلق الموت والحياة) 1 تدل على ان الموت ليس إعداماً وعدماً صرفاً، بل تصرف، وتبديل موضع، واطلاق للروح من المحبس. وكذا ان ما وجد في نوع البشر الى الآن من امارات غير معدودة، ونَجَمَ من اشارات غير محدودة؛ القت الى الأذهان قناعة وحدسا بأن الإِنسان بعد الموت يبقى بجهة، وان الباقي منه هو الروح. فوجود هذه الخاصة الذاتية في فرد يكون دليلا على وجودها في تمام النوع للذاتية. ومن هنا تكون الموجبة الشخصية مستلزمة للموجبة الكلية، فحينئذ يكون الموت معجزة القدرة كالحياة. لا انه عدمٌ علتُه عدمُ شرائط الحياة.
فإن قلت: كيف يكون الموت نعمة حتى نُظِّم في سلك النِعَم؟
قيل لك: أما:
أوّلا: فلأنه مقدمة للسعادة الأبدية، ولمقدمة الشئ حكم الشئ حُسنا وقبحاً؛ اذ مايتوقف عليه الواجب واجب وما ينجر إلى الحرام حرام..
وثانيا: فلأن الموت عند أهل التحقيق من المتصوِّفين نجاة للشخص بخروجه عن نظير المحبس المشحون بالحيوانات المضرّة الى صحراء واسعة..
و ثالثا: فلأنه باعتبار نوع البشر نعمة عظمى؛ اذ لولاها لوقع النوع في سفالات مدهشة..
ورابعا: فلأنه باعتبار بعض الأشخاص نعمة مطلوبة اذ بسبب العجز والضعف لا يتحمل تكاليف الحياة وضغط البليات وعدم شفقة العناصر، فالموت باب فوزه.
_____________________
1سورة الملك: 2.

إشارات الإعجاز - ص: 218
المسألة الرابعة: في (ثم يحييكم).
اعلم! ان باشارة آية (اَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَاَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) 1 وكذا برمز تعقيب هذه بـ ثم اليه ترجعون مع النظر إلى ايجاز القرآن، ايماء الى حياة القبركما تدل على حياة الحشر.
p فإن قلت: اذا اُحرق انسان واُعطي رماده للهواء كيف يتصور فيه الحياة القبرية؟
قيل لك: ان البنية ليست شرطا للحياة عند أهل السنة والجماعة فيمكن تعلق الروح ببعض الذرات.
p فإن قلت: كيف يتصور عذاب القبر مع انه لو وضعت بيضة على صدر جنازة بأيام لا يحس فيها أدنى حركة فكيف الحياة والعذاب؟
قيل لك: ان العالم المثاليّ قد بُرهن عليه في موقعه، حتى ان وجوده قطعي عند المحققين الإلهيين. وخاصةُ ذلك العالم تحويلُ المعاني أجساماً والأعراضُ جواهرَ والمتغيرات ثابتةً. والعيون الناظرة من عالم الشهادة اليه، الرؤيا الصادقة والكشف الصادق والأجسام الشفافة فانها تلوِّح بوجوده. ثم ان عالم البرزخ اثبتُ حقيقةً من عالم المثال الذي هو تمثاله. وظل هذا العالم عالم الرؤيا، وظل هذا عالم الخيال، ونظير هذا الاجسام الشفافة كالمرآة. فاذ تفهمت هذا فانظر في عالم الرؤيا وتأمل في شخص نام عندك وهو ساكن وساكت مع انه في عالمه يقاتل ويضارب فيصير مجروحا أو تلدغه الحية فيتألم. ولو أمكن لك أن تدخل في رؤياه وتقول له: يا هذا! لا تعجز ولا تغضب فإن هذا ليس حقيقة وحلفتَ له ألف يمين لما يصدقك. ويقول لك: هذا ألمي يوجعني وهذا جرحي! أما ترى هذا وبيده السيف، واما ترى الحية تهجم عليّ؛ اذ تجسم معنى وجع الكتف أو نزلة الرأس 2 في صورة سيف جارح، اذ النتيجة واحدة. أو تصوَّر معنى الخيانة الموجعة لقلبه في لباس الحية اذ الألم واحد. فيا هذا! اذ ترى ذاك في ظل عالم المثال أفلا تصدقه في عالم البرزخ الذي هو أثبت حقيقة بدرجات وأبعد منا؟ أما (يحييكم) بالنظر الى الحياة الأخروية. فاعلم! ان تلك

_____________________
1سورة غافر: 11.
2 مرض الزكام.

إشارات الإعجاز - ص: 219
الحياة نتيجة لكل العالم. ولولاها لم تكن الحقيقة ثابتة ولانقلبت الحقائقُ - كالنعمة - نقمةً. وقس!.. ولقد لخصنا دلائلها في تفسير (وبالآخرة هم يوقنون)..
المسألة الخامسة: في (ثم اليه ترجعون) آخر العقد من تلك السلسلة.
اعلم! ان الخالق جلّت قدرته مزج الاضداد في عالم الكون والفساد لِحِكَم دقيقة ووضع أسبابا ظاهرية ووسائط اظهاراً لعزته فترتبت سلسلة العلل والمعلولات. ثم لما تصفّت الكائنات وتميزت وتحزبت في الحشر ارتفعت الأسباب واُسقطت الوسائط فارتفع الحجاب وكُشف الغطاء فيرى كلٌّ صانعَه ويعرف مالكه الحقيقي.
تذييل لخلاصة نظم الجمل: اعلم! انه تعالى لما أنكر كفرهم الواقع بطريق الاستفهام الاستخباريّ في "كيف" ودعا الناس الى التعجب منه؛ برهن عليه بما بعد الواو الحالية أي باراءة أربعة انقلابات عظيمة كلها وكل منها شاهد على وجوب الايمان. ثم ان كل انقلاب منها مشتمل على أطوار ومراتب، ومقدمة ومُعدّة للانقلاب الذي يليه فمن الطور الاول من الانقلاب الأول إلى الطور الآخر من الانقلاب الآخر يتجدد أصلُ جسد الحي دائما فيلقى قشراً ويلبس الأكمل ثم يخلعه ويلبس صورة أعلى ثم يلقيها أيضاً فيلبس صورة أحسن وهلم جرا!.. فهو دائماً في استبدال صورة بأخرى كاملة إلى أن يصل إلى أعلى الأعالي فيستقر بتقرر السعادة الأبدية، وكلها بنظام معيّن وقانون منتظم. فأشار إلى أول الانقلابات بقوله (وكنتم أمواتا) وهذا مشتمل على أطوار آخر الأطوار ينتج مآل (فأحياكم) الدال على الانقلاب الثاني الذي هو أعجب حقائق العالم المشتمل على أطوار آخرها تنتهي بانقلاب (ثم يميتكم) المشتمل أيضاً على أطواره البرزخي التي تتم بانقلاب (ثم يحييكم) المشتمل على أطواره القبرية ثم الحشرية المختومة بقوله (ثم اليه ترجعون). فمن أمعن في هذه الانقلابات كيف يتجاسر على الانكار؟
ولنشرع في نظم هيئات جملة جملة:
أما الجملة الأولى أعني (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا) فالاستفهام فيها لتوجيه ذهنهم الى قباحتهم ليروا بأنفسهم فينصفوا فيقرّوا. و(كيف) اشارة الى الاستدلال على عدم الكفر بانكار الحال اللازم. والخطاب في (تكفرون) ايماء كما
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس