عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - قطعة من شمة

المثنوي العربي النوري - ص: 355
اعلم! اننا نرى الصانع الحكيم بكمال حكمته، وعدم العبثية في صنعه وعدم التضييع، يُنسج من الاشياء الحقيرة الصغيرة القصيرة الاعمار، منسوجاتٍ جسيمةً غالية عالية دائمة، لاسيما في نسج النباتات.. وكذا بسر عدم العبثية مطلقا، وعدم الاسراف، يوظّف الفرد الواحد من الآلات والجهازات بوظائف كثيرة متنوعة، لاسيما في رأس الانسان. فلو انفرد لكل وظيفة من الوظائف المكلفة بها ما في رأسك مقدار خردلة، للزم ان يكون رأسك كجبل الطور 1 في الكبر ليسع اصحاب الوظائف. الا ترى اللسان - مع سائر وظائفه العظيمة - مفتش 2 لمدخرات خزينة الرحمان، ولجميع المطعومات المطبوخة في مطبخ القدرة، فله وظائف بعدد تنوع اذواق المطعومات، وقس . أفلا تشير هذه الفعالية الحكيمة الى ان ذلك الصانع يجوز- بل يجب - ان ينسج من الاشياء السيالة السريعة في سيل الزمان، ومن الايام الميتة والأعوام الماضية والاعصار الخالية نسائج غيبية، ومنسوجات اخروية بمكوك الليل والنهار والشمس والقمر في اختلاف الملوين 3، وتحوّل الفصول؟ كما نسج في الانسان الذي هو فهرستة العالم ما يؤيد هذا، اذ يُبقي دقائق حياته الماضية الفانية بين منسوجات حافظته ومكتوباتها، فيكون الفناء والموت في هذه الشهادة الضيقة، انتقالا باقيا وبقاء صافيا في دوائر عوالم الغيب. وقد نسمع من منابع الوحي "ان دقائق عمر الانسان تعود اليه"؛ فاما مظلمة بالغفلات والسيئآت، وإما مضيئة بمصابيح الحسنات المعلقة في حلقات الدقائق...
اعلم! ان من حكمة تفنن الصانع الجميل الحكيم في تصوير الافراد صغيراً وكبيراً كما في الحيوان لاسيما فيما يطير بجناحَيه، وفي السمك وفي المَلَك وفي العوالم في الجملة، من الذرات الى الشموس، بجعل الصغير مثالاً مصغراً للكبير.. لطف الارشاد، وتسهيل التفكّر، وتيسير قراءة مكتوبات القدرة، واظهار كمال القدرة، وابراز نوعي الصنعة الجمالية والجلالية، اذ من اسباب المجهولية الدقة والخفاء، فيزيلهما بوضوح حروف الكبير. وكذا من اسباب المجهولية، الوسعة والعظمة، فلا يحيط بها
_____________________
1 اي: لواقتضى كل وظيفة من الوظائف التي كلف بها الانسان شيئاً مادياً في رأسه بمقدار خردلة للزم ان يكون حجم الرأس كجبل الطور (ت: 197)
2 بمعنى ناظر او مشرف.
3 اي: الليل والنهار. الواحد: ملاً.



المثنوي العربي النوري - ص: 356
النظر ولا يضبطها الفهم فيزيلهما بتقارب حروف الصغير. واما النفس الأمارة المتتلمذة عند الشيطان فتظن صغر الجسم سبب صغر الصنعة، فتجوِّز صدورها من اسباب صمٍ عُميٍ، وتدّعى في الكبير المنبسط عدم الكتابة بالحكمة، ووجود العبثية والتصادف..
اعلم! 1 انه ان قيل: ان الجود المطلق والرزق بلا حساب يلائمان العبثية، وينافيان الحكمة من جهة ؟ يقال له:
نعم؛ ان انحصرت الغاية في الواحدة مع ان لكل شئ لا سيما حىّ، غايات متعددة وثمرات متنوعة ووظائف مختلفة. الا ترى ان للسانك وظائف بعدد شعر رأسك؟ فالجود باعتبارٍ غاية بلا حساب وباعتبار وظيفةٍ لا ينافي الحكمة والعدالة في وجوده الناظر الى مجموع الغايات والوظائف، كالعسكر المستخدم في تعقيب ذى جناية او في حماية قافلة مثلا. ففي العسكر كثرة وجود بلا حساب بالنسبة الى امثال هذه الخدمات الجزئية مع القلة والمساواة لما يلزم لحفظ الثغور والحدود وسائر الغايات..
اعلم! انه يمكن ان يُتَصَوَّر الانسانُ خلف أثره وصنعته الجزئية، ولا يمكن في مصنوع الصانع الازلي الا من خلف سبعين الف حجاب خلف ذلك المصنوع الجزئي. ولو امكن لك ان تنظر الى مجموع مصنوعاته دفعةً؛ لارتفعت الحجب الظلمانية، وبقيت الحجب النورانية. فالطريق الاقرب في نفسك، لا في الآفاق الاّ بالعشق السديد.
اعلم! 2 ان اغلب من له نسلٌ من الحيوانات والنباتات ينوى كلُّ فرد - من الاغلب - الاستيلاء على وجه الارض، ويريد التسلط عليها ليتخذها مسجداً خالصاً لنفسه يَعبُد باظهار اسماء فاطره، في كل جزءٍ منها عبادةٌ غير متناهية لخالقها الذي لا نهاية للياقته للعبادة. فان شئت انظر الى البطيخ ونواتاته، والشجر والنواتات في ثمراته، والسمك وبييضاته، والطير وبيضاته، الاّ ان ضيق عالم الشهادة واحاطة علم عالم الغيب والشهادة بما كان، وبما يكون، وبما لم يكن لوكان كيف يكون.. اقتضيا قبول عباداتها بالقوة 3، ونياتها المندمجة في بذورها.
_____________________
1 هذه المسألة الدقيقة "حكمة تعدد الغايات" توضحها حاشية الحقيقة السادسة من »رسالة الحشر«.
2 تفصيل هذه المسألة في الثمرة الثانية من الغصن الخامس للكلمة الرابعة والعشرين.
3 حتى ولو لم تخرج بعدُ الى طور الفعل.



المثنوي العربي النوري - ص: 357
اعلم! ان ذكر القرآن لبعض الغايات الراجعة الى الانسان انما هو للاخطار 1 لا للانحصار. اي لتوجيه نظره الى الدقة في فوائد نظام ذلك الشئ ذي الغاية، وفي انتظامه الدال على اسماء صانعه؛ اذ الانسان انما يهتم بما له علاقة ما به، فيرجّح ذرة ما اليه على شمس ليست اليه.. مثلا: (وَالْقَمَر قَدَّرْناهُ مَنَازِلَ) 2 (لِتَعْلَموا عَدَدَ السنّينَ وَالْحِسابَ) 3 هذه غايةٌ من الوف غايات تقدير القمر، وليس المراد الانحصار، اي انما خُلق ذلك لهذا، بل ان هذا المشهود لكم من ثمرات ذاك.
اعلم! ان من سكته التى لا تقلَّد، ومن خاتمه الذي يختص به، ومن أبهر براهين التوحيد في قدرة غير متناهية، وعلم لايتناهى في تصرف مطلق، في اتقان مطلق، في سهولةٍ مطلقةٍ.. خلقُ اشياء مختلفات لا تعد، من شئ واحد بسيط، كالنباتات باشتاتها من التراب وكمختلفات اعضاء الحيوان دماً لحماً عظماً وغيرها من غداءٍ بسيط.. وكذا خلقُ الواحد من انواع متباينة لا تحصى كجسد الانسان - مثلا - من مطعوماته الغير المحصورة..
فسبحان من هو القدير على ان يجعل شيئاً كل شئٍ، ويجعل كل شئٍ شيئاً.
اعلم! ان في
(اَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) 4 سر عظيم ومثل عظيم!.. اذ كما انك تحفظ من التفتت والضياع بعض البذور، وتدخرها ثم تزرعها في مزرعتك.. كذلك ان الوارث الباعث الحفيظ الذي يحي الارض بعد موتها، يكتب ثمرات اعمال جميع النباتات فيرثها حافظا لها، ثم يزرعها منثورة بحكمة توزيعٍ وانتظام تقسيم، باطارة بعض البذور الى الاطراف لا مجتمعة خلف اصلها فقط، ثم ينشر اوراقها وازهارها حتى يصير نظير: (وَاِذا الصّحُفُ نُشِرَتْ) 5 فانظر من شدة اهتمامك حتى تقتدر على حفظ بعض البذور، الى كمال حفيظية الحفيظ المطلق في محافظة ما لا يعد من الصنيدقات اللطيفة المتضمنة لفهرستات امهاتها المعينة بمسطر القدر، من مغيّرات ومُفسدات لا تحد في انقلابات لا تعد، مع نهاية التمييز في نهاية
_____________________
1 للتنبيه.
2 يس: 39
3 يونس: 5
4 الواقعة: 64
5 التكوير: 10




المثنوي العربي النوري - ص: 358
الاختلاط. فهذا الحفظ لا يخليك غاربك على عنقك تفعل ما تشاء ثم تموت وتستريح.. (اَيَحْسَبُ الانسانُ اَنْ يُتْرَكَ سُدىً) 1 كلا ليحاسبنّ على النقير والقطمير..
اعلم! ان من وظائف الحياة الانسانية؛ فهم الانسان بمقياسية جزئيات صفاته وشؤونه وشؤون ابناء نوعه او جنسه، لصفات فاطره وشؤونه. واما فهم عظائم شؤونه الحشرية والاخروية وكليات افعاله في القيامة واحياء الاموات؛ فتحتاج لفهمها بالاذعان الى جعل الفاعلية في الحشر الربيعي والقيامة الخريفية، قياساً لشؤونه في القيامة الكبرى. انظر الى الربيع لترى فيه تنظيراً - كتفسيرٍ - لأمثال:
(اِذَا الشَّمْسُ كوِّرَتْ) 2...
اعلم! ان من عظمة احاطة الاسلامية، امتداد اساسات جدرانها من اعلى عليي كليات صفات ذي العرش، ومسائل خلق العرش والسموات والارض وملائكتها، الى جزئيات خطرات القلب. مع امتلاء ما بينهما بدساتير محكمةٍ رصينةٍ.
بسْمِ الله الرَّحْمــن الرَّحِيْم
(فَلاَ تَغُرَّنّكُمُ الْحَيوةُ الدّنْيَا ولا يَغُرنّكم بالله الغَروُر) 3
اعلم! 4 يامن يدعو المسلمين الى الحياة الدنيوية التي هي لعب في نوم ولهو، ويشوقهم للخروج من دائرة ما احلّه الله من الطيبات الكافية (لكيفهم) 5، الى الدخول في دائرة ما حرَّمه من الخبيثات المنغّصة التي تجبرهم على ترك بعض شعائر دينهم او ترك دينهم.. ان مثلك معهم 6 كمثل سكران بسكر لا يميز بين الاسد المفترس، والفرس المؤنس؛ ولا يفرق بين آلة الصَلب، وآلة لعب الصبيان من الحبل المتحرك في الهواء؛ ولا يعرف الجرح المبرّح من الورد المفرّح، بل يظن الاسد فرساً،
_____________________
1 القيامة: 36
2 التكوير: 1
3 لقمان: 33
4 الدرس الثالث من رسالة »المدخل الى النور«
5 لمسرّاتهم البريئة المباحة شرعاً.
6 جاء هذا المثال بوضوح تام في الكلمة السابعة.



المثنوي العربي النوري - ص: 359
وآلة الصلب حبل اللعب، والجرح المقشعر الورد المحمر. ومع ذلك يظن نفسه مرشداً مصلحاً.. فجاء الى رجل هو في وضعيةٍ مدهشة؛ اذ خلف هذا الرجل اسد عجيب متهئ للهجوم في كل آن ، وقدام الرجل آلة الصلب قد نُصِبتْ، وفي جنبيه جرحة عميقة قد انفرجت ، وقرحة مزعجة قد انفجرت.. وفي يديه علاجان اذا استعملهما، انقلب باذن الله الجرحان وردين محمّرين. وفي لسانه وقلبه طلسمان اذا استعملهما انقلب بامر الله الاسدُ فرساً يركبه الى حضور سيده الكريم الذي يدعوه الى دار السلام يضيّفه. وانقلب حبلُ الفراق والصلب المتدلى من شجر الزوال والفناء بلطف الله آلةَ السير والتنزه، والمرور بالاهتزاز على المناظر السيالة المتجددة وعلى المرايا الجوالة المتبدلة، لازدياد لذة تجدد تجليات الجمال المجرد الدائم التجلي والظهور، على مر الفصول والعصور والدهور. ولازدياد اللذة في تجدد صور الانعام والنعم على مر الانام والايام والاعوام. ثم يقول ذلك السكران الذي هو ايضا في مثل تلك الوضعية لذلك الرجل: اترك الطلسمين واطرح العلاجين وتعال نلهو ونلعب ونرقص ونطرب! فيقول له الرجل: يكفي لكيفي ما يساعده حرز الطلسمين وحفظ العلاجين. ولا يمكن اللذة والسعادة في ما عداه. ان امكن لك ان تقتل اسد الموت الذي "لا يموت الا في الجنة" 1.. وان ترفع هذه الآلة المسمَّرة في الارض الى الثرى بحكم حاكم الارض، أي تزيل آلة الزوال بتبديل الارض غير الارض.. وان تشفى من هذا الجرح المستولى على كلَّية حياتي، بتبديل حياتي العاجزة الفانية حياةً باقيةً قادرة على الاطلاق وان تبرئ هذه القرحة المحيطة بكلية ذاتي، بتحويل ذاتى الفقيرة ذاتاً سرمديةً غنيةً على الاطلاق. واذ لم يمكن لك هذه الامور "الاربعة" لا يتيسر لك ايها الشيطان السكران ان تخدع الا مثلك سكراناً بسُكرٍ لا يميز بين الضحك والبكاء، والبقاء والفناء ، والدآء والدواء، والهوى والهدى. واما انا "فحسبي الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير".. فاذا تفطنت لسر التمثيل، او اشتقت الى رؤية صورة الحقيقة..
_____________________
1 عن ابي سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : »يؤتى بالموت كهيئة كبش املح . فينادي منادٍ : يا اهل الجنة ، فيشرئبون وينظرون. فيقول لهم : هل تعرفون هذا ؟ فيقولون: نعم ، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي منادٍ : يا اهل النار ،فيشرثبون وينظرون. فيقول لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه. فيذبح بين الجنة والنار ،ثم يقول يا اهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت. ثم قرأ : (وانذرهم يوم الحسرة اذ قضي الامر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون) (مريم : 39) واشار بيده الى الدنيا« صحيح : رواه البخاري في تفسير هذه الاية ، ورواه مسلم برقم 2849.



المثنوي العربي النوري - ص: 360
فاعلم! ان تلاميذ المدنية السفيهة الضالة وطلبة الفلسفة السقيمة المضلة، قد سكروا باحتراصات عجيبة وتفرعنات غريبة، فجاؤوا يدعون المسلمين الى اتباع عادات الاجانب، وترك شعائر فيها شعور واشعار بانوار الاسلام، فيقابلهم تلامذة القرآن بـ:
يا ايها الضالون الغافلون! ان اقتدرتم ان ترفعوا من الدنيا الزوال والموت. ومن الانسان العجز والفقرَ فاستغنوا من الدين وشعائره، والاّ فاخسئوا واتركوا وسوستكم ودمدمتكم التي هي كزمزمة الذباب في ما بين نعرات هذه الرعود الاربعة ، والآيات التكوينية المنادية بأعلى صوتها على لزوم الدين بشعائره
(وَاذَا قُرِئَ القُرآنُ فاسْتَمِعوا لَهُ وَانْصِتوُا لَعَلَّكُمْ تُرحَمُونَ) 1
نعم، ان خلفي اسد الاجل يهددني دائماً، فان استمعت بسمع الايمان صدى القرآن، انقلب الاسد فرساً، والفراق براقا يوصلني الى رحمة الرحمن الرحيم والى حضور سيدى الحنان الكريم. والاّ صار الموت اسداً مفترساً يمزقني على رغمي، ويفرّقني عن جميع محبوباتي فراقاً ابدياً. وكذا بين يدي وامامي آلات الفناء والزوال، قد نُصبت وتدلت في اختلاف الليل والنهار، وآلات الهلاك والفراق قد تموجت على امواج الفصول والعصور. فهذه الآلات نصبت لصلبي مع جميع احبابي، فان اصغيت بصماخ الايقان لارشاد القرآن انقلبت تلك الآلات مركب السير والتنزه في نهر الزمان وبحر الدنيا لمشاهدة تجدد تجليات شؤونات القدرة على صفحات الفصول، بزنبرك 2 الشمس وسير القمر ودوران الارض للتعمم 3 بلفائف الليل والنهار، والتقمص بحلتي الصيف والشتاء. ولمشاهدة تجدد جلوات الاسماء على المظاهر السيالة والمرايا المتحولة والالواح المتبدلة في اختلاف الليل والنهار.
وكذا، ان في جنبي الايمن من الفقر الغير المحدود قرحةً مستوليةً، فمع اني اعجزُ من اعجز حيوان من جنس الحيوان، انى افقرُ من جميع الحيوانات، اي: حاجاتي المعنوية والمادية تساوي حاجات الكل، مع ان اقتداري اقل من فعالية عصفورة. فان
_____________________
1 الاعراف: 204
2 المحرك، النابض
3 لبس العمامة.




المثنوي العربي النوري - ص: 361
تداويت بشفاء القرآن انقلب الفقرُ المطلق الاليم، شوقاً لذيذاً الى ضيافة الرحمة، واشتهاء لطيفاً لتناول ثمرات رحمة الرحمن الرحيم. فيزداد لذةُ الفقر والعجز بمراتب على لذة الغناء والقوة. والاّ بقيت في آلام ازعاجات الحاجات، وفي ذل السؤال والتعبد لكل ما عنده حاجة من مطالبي، والتذلل لكل شئ.
وفي جنبي الايسر ايضا جرح عميق هو عجز وضعف بلا حد في مقابلة اعداء ومهالك بلا عد. فألم الخوف يزيل لذة الحياة الدنيوية.. فان انصتُ بالتسليم لدعوة القرآن، انقلب عجزي تذكرة دعوة للاستناد بالقدير المطلق، والاتصال بسر التوكل بنقطة استناد فيها امن وامان من الاعداء. والاّ بقيتُ مضطرباً بين اعداء متشاكسين لا تعد بعجز لا يحد.
وكذا انّي على جناح سفر طويل، يمر على القبر والحشر الى الابد، فلا يرينا العلم والعقل نوراً ينوّر ظلمات تلك الطريق، ولا يعطينا رزقاً يصير زاد ذلك السفر؛ إلاّ ما يُقتبس من شمس القرآن ويؤخذ من خزينة الرحمن. فان وجدت شيئاً يمنعنى عن هذا السفر، لكن غير قطع الطريق بالضلالة التي هي قبول السقوط من فم القبر في دهشة ظلمات العدم الذي هو اهول وادهش، فقل.. وإلاّ فاسكت حتى يقول القرآن ما يقول. فبعدما قرأتْ هذه الآياتُ الخمسة 1 من كتاب العالم على رأس الانسان آية
(فَلاَ تَغُرنَّكُمْ الحَيوةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الغَرورُ) 2 كيف يجوز اتباعك ايها الغر المغرور؟ ولا يختار مشربك الا سكران بشراب السياسة، او حرص الشهرة، او شهوة السُمعة، او رقة الجنسية، او زندقة الفلسفة، أو سفاهة المدنية وغيرها مما يسكر بمثله.. مع ان هذه الضربات القارعة على رأس الانسان، وهذه الاهوال التي تضرب وجه البشر سيطيّر سكره. ومع ذلك ان الانسان ليس كالحيوان مبتلىً بآلام الحال فقط، بل يضرب رأسه خوفُ المستقبل وحزنُ الماضي مع ألم الحال.
فان اردت ان لا تبقى اشقى واذل واحمق واضل من جميع الحيوانات؛ فانصت واستمع بسمع الايمان بشارة القرآن باعلان:
(اَلاَ انَّ اوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون _ الذَّينَ امَنوا وكَانُوا يَتقون _ لَهُمُ البُشرى في الحَياة الدّنيا وفي الآخِرةِ لاَ تَبْديلَ لِكَلماتِ الله ذلِكَ هو الفَوْزُ العْظَيِمُ) 3.
_____________________
1 وهي: زوال الدنيا، موت الانسان، عجزه وفقره وسفره الطويل.
2 لقمان: 33
3 يونس: 62-64



المثنوي العربي النوري - ص: 362
بسْمِ الله الرَّحْمــن الرَّحِيْم
(والتّين وَالزيتون _ وَطورِ سينينَ _ وَهَذا البَلَد الامين _ لَقَد خلقنا الانْسانَ في احْسَن تَقْوِيم _ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ اسفَلَ سَافلِين َ_ الاَّ الَّذينَ امَنُوا وعَمِلُوا الصَّالحِاَت فَلَهُمْ اجْرٌ غَيْرُ مَمْنون) 1.
اعلم ! 2 ان إتقان الصنعة وكمالها في كل شئ يدل على ان صانع الكل كما انه عند كلٍ في كل مكان ليس في مكان وليس عند شئ .
وان الانسان لإحتياجه الى كل شئ من اصغر جزء جزئي الى اكبر كل كلّي، لا يليق ان يَعْبُد الاّ مَن "بيده ملكوت كل شئ وعنده خزائن كل شئ".
وان نفس الانسان من جهة الوجود والايجاد والخير والفعل في غاية الصغر والقصور والنقص، ادنى من النمل والنحل واضعف من العنكبوت والبعوضة. ومن جهة العدم والتخريب والشر والانفعال، اعظم من السموات والارض والجبال. مثلا: اذا احسن، احسن بما تسعه ذات يده وتصل اليه قوة ذاته. واذا اساء، اساء بما يتعدى وينتشر.
فبسيئة الكفر يحقّر مجموعَ الكائنات والموجودات بتنزيل قيمتها من اوج كونها مكتوبات ربّانية ومرايا إلهية الى حضيض صيرورتها مواد متغيرة سريعة الزوال والفراق، يلعب بها التصادف بالعبثية.. ويُسقط الانسان الذي هو قصيدة منظومة موزونة معلنة لجلوات الاسماء القدسية، ونواةٌ لشجرة باقية، وخليفة تفوق على اعاظم الموجودات بحمل الامانة، الى دركة جعلِهِ اذلَّ من اذلّ حيوان زائل فان، واضعف واعجز وافقر.
وكذا ان الانسان من جهة "أنا" له اختيار كشعرة، واقتدار كذرة، وحياة كشعلة، وعمر كدقيقة، وموجودية هي جزء جزئي مما لا يعد من انواع لاتحد في طبقات الكائنات.. ولكن من جهة عجزه وفقره له وسعة عظيمة اذ له عجز عظيم بلا نهاية، وفقر جسيم بلا غاية، يتيسر له ان يصير مرآة واسعة لتجليات القدير بلا نهاية والغني بلا غاية.
_____________________
1 التين
2 الدرس التاسع من "المدخل الى النور" وتوضيحه في الكلمة الثالثة والعشرين .



المثنوي العربي النوري - ص: 363
وكذا ان الانسان من جهة الحياة الدنيوية المادية الحيوانية كنواة، تصرف الجهازات المعطاة لها للتسنبل والتشجر في وسعة عالم الفضاء الى جلب موادَّ واهيةٍ في مضيق التراب الى ان تتفسخ بلا فائدة.. فمن جهة الحياة المعنوية كشجرة باقية امتدت اغصانُ آمالها الى الابد.
وكذا ان الانسان من جهة الفعل والسعى المادي حيوان ضعيف عاجز، له دائرة ضيقة نصف قطرها مَدَّ يده.. ومن جهة الانفعال والدعاء والسؤال؛ ضيف عزيز للرحمن الذي فتح له خزائن رحمته وسخرله بدائع صنعته، له دائرة عظيمة نصف قطرها مدَّ نَظَرِهِ بل خياله بل اوسع.
وكذا ان الانسان من جهة لذة الحياة الحيوانية وكمالها وسلامتها ومتانتها ادنى من العصفور بمائة درجة لتنغُّص لذاتِه باحزان الماضي ومخاوف الاستقبال.. ومن جهة الجهازات وتفصّل الحواس وتنوع الحسيات وانبساط الآلات وتكثّر مراتب الاستعدادات - المشيرة هذه الحالة - الى ان وظيفته الاصلية هي: الشهود لتسبيحات الموجودات، والشهادة عليها، والتفتش بالتفكر والنظارة بالعبرة، والدعاء للحاجة، والعبودية بدرك العجز والفقر والقصور.. ومن وجه جامعية استعداده المستعد لانواع العبادات اعلى من اعلى عصفور بمائة مراتب . فبالبداهة يعلم من له عقل ؛ انّه ما اُعطي له هذه الجهازات لهذه الحياة ، بل لحياة باقية.. مثلاً: اذا رأينا احداً اعطى لأحد خدمه عشرة دنانير ليشتري لنفسه لباساً من قماش مخصوص، فاشترى من اعلاه. ثم اَعطى لآخر الف دينار للاشتراء. نعلم يقيناً ان هذا ليس لاشتراء لباس من ذلك القماش الذي ما قيمة اعلاه، الا عشرة دنانير، بل انما اعطي لما هو اغلى واعلى بمائة مراتب. فاذا اشترى لبلاهته بالالف لباساً من ذلك مع ان ما اشتراه ادنى بمائة درجة من لباس الاول، لابد أن يعاقَب عقاباً مديداً ويؤدب تأديباً شديداً.
وكذا ان الانسان بقوة ضعفه ، وقدرة عجزه اقوى واقدر بمراتبَ، اذ يُسخّر له بالدعاء والاستمداد ما لا يقتدر على عُشر معشاره باقتداره. فهو كالصبي يصل ببكائه الى ما لا يصل اليه بالوف اضعاف قوته. فيتفوق بالتسخير لا بالغلبة والغصب والجلب. فعليه ان يعلن عجزه وضعفه وفقره وفاقته بالاستمداد والتضرع والعبودية.


المثنوي العربي النوري - ص: 364
وكذا ان الانسان من جهة نظاريته لمحاسن كمالات سلطنة الربوبية، ودلاليته لبدائع جلوات الاسماء القدسية وفهمه بطعمه لمدخرات خزائن الرحمة، وعلمه بوزنه لجواهر كنوز الاسماء المتجلية، وتفكره بمطالعته لمكتوبات قلم القدرة، وشوقه برؤيته للطائف المصنوعات.. اشرفُ المخلوقات وخليفة الارض.
بسْمِ الله الرَّحْمـــن الرَّحِيْم
(يَا اَيُّهَا النَّاسُ انْتُمُ الفُقَرَآءُ الى الله) 1
(فَفرّوُا الى الله) 2
اعلم ! ايها السعيد القاصر العاجز الفقير! ان في نفسك قصوراً بلا نهاية، وعجزاً بلا غاية، وفقراً بلا انتهاء، واحتياجاً بلا حد، وآمالاَ بلا عدّ. فكما اُودع فيك الجوعُ والعطش لمعرفة لذة نعمته تعالى، كذلك رُكّبْتَ من القصور والفقر والعجز والاحتياج لتنظر بمرصاد قصورك الى سرادقات كماله سبحانه، وبمقياس فقرك الى درجات غناه ورحمته، وبميزان عجزك الى قدرته وكبريائه، ومن تنوع احتياجك الى انواع نِعَمه واحسانه.
فغاية فطرتك هي العبودية. والعبودية؛ ان تعلن عند باب رحمته:
قصورَك بـ"استغفر الله" وبـ "سبحان الله"..
وفقرَك بـ "حسبنا لله" وبـ"الحمد لله" وبالسؤال..
وعجزَك بـ "لاحول ولا قوة الابالله" و بـ "لله اكبر" وبالاستمداد..
فتُظهر بمرآة عبوديتك جمال ربوبيته.
_____________________
1 فاطر: 15
2 الذاريات: 50


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس