عرض مشاركة واحدة
قديم 08-07-2009
  #3
بنت الاسلام
بنت الاسلام
 الصورة الرمزية بنت الاسلام
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,350
معدل تقييم المستوى: 17
بنت الاسلام is on a distinguished road
افتراضي رد: الاسلام والاستعمار والهوية فى دول ساحل الصحراء

ثالثاً: طبيعة الدين الإسلامي:
ونقصد بطبيعة الدين الإسلامي في هذا السياق ما اتسم به من سمات وما قام عليه من دعائم، جعلت منه قريبا من قلوب الأفارقة. هذا بالإضافة إلي موقفه من بعض القضايا التي تهم الأفارقة كقضية الرق وقضية الاستعمار وقضية التفرقة العنصرية.
وواقع الأمر بأنه باستثناء حالات قليلة فإن الإسلام لم يفرض على شعوب أفريقيا الوثنية فرضاً، ولم يحمله إليهم حكم استعماري أجنبي وإنما حمله قوم من أهل أفريقيا نفسها، وقوم اتخذوا صفة التجار والمعلمين أو في حالات قليلة صفة الحكام المجاهدين من أجل نشر الإسلام [18]، وعلى هذا لم يكن غريباً أن يلقى الإسلام قبولاً من الأفارقة إذ هو في نظرهم دين أفريقي غير دخيل.
والإسلام حين انتشر على هذا النحو لم يستعبد الشعوب التى دانت به، وإنما أشعرها بالعزة والكرامة، وقوى فيها النزعة إلى الحرية والاستقلال. أضف إلى هذا أنه لم يقض على النظم المحلية لهذه الشعوب، وإنما أكسبها شكلا جديدا تلاءمت بمقتضاه مع قيم الإسلام وتقاليده ولعل هذا هو ما دفع مراقباً إنجليزياً أن يقرر منذ ما يربو على المائة عام أنه "كيفما كانوا" وحيثما ذهبوا، فإن المبشرين المسلمين أظهروا رفقاً وتعاطفاً واحتراماً للعادات المسيحية والعصبيات المحلية.. الشئ الذي كان دون ريب أحد أسباب نجاحهم، والذي يحسن بمبشرينا ومعلمينا أن يقلدوه"[19] إن الموقف المتميز بالتسامح والاحترام للأعراف والعادات المحلية الذي استوقف كاتب هذه الفقرة كسبب أساسي للاستجابة العفوية الايجابية للإسلام من قبل الأفارقة، قد دعمه حقيقة أن فقهاء المسلمين يقرون – منذ قرون عدة- باعتبار العادات ويدخل فيها العرف وشرع من قبلنا) مصدرا للتشريع بجانب مصادره الأساسية وغير الأساسية الأخرى. وعلى هذا فإنه مما لاشك فيه أن كلا من الموقف المتميز بالتسامح من جانب، والقاعدة الشرعية آنفة الذكر من جانب آخر، قد أسهما في تطور ونماء الإسلام كديانة محلية أفريقية، وعززوا قدرته على المضي قدماً في طريقه نحو التوسع والانتشار في هذه القارة.
"فانتشار الإسلام إذن جاء- على حد تعبير ترمنجهام- نتيجة رحلات لم يكن نشر الدعوة هو مقصدها ، بل كانت التجارة هدفها وغاياتها، ولم يكن له مبشرون يسيرون في البلاد داعين الناس إليه، ومع ذلك فقد تغلغل بالمخالطة، إلى نفوس الأهالي والسكان من الوطنيين ، وأصبحنا نرى أمثلة من الورع الشديد والتقوى الزائدة التى لا تقوم إلا في نفس أشربت الدين في طفولتها عن أبوين هما أيضاً على درجة كبرى من التقوى والورع، وتكمن روعة الإسلام في أنه لم يتخذ وسيطاً إلى نفوس الأفارقة ولم يجعل لنفسه داعية إلى أفئدتهم، بل خاطبهم بنفسه: دين الفطرة خاطب أهل الفطرة ودخل قلوبهم واستولى على مشاعرهم، ولم يلجأ إلى التغيير بالعنف حتى لا ينفر الأهالي منه. فقد كان حكيماً في أن تعايش مع العادات والطقوس القديمة وأبقى على ما لا يضر منها بالجوهر والأساس في الدين ولا يغير من منحاه واتجاهه، وترك من يريد من الأفارقة يحتفظون بما يشاءون من عادات يمارسونها إرضاء لكيانهم وتركيب مجتمعاتهم القبلي"[20].
ففي المجتمعات الإسلامية في غرب وسط أفريقيا – على سبيل المثال – نجد التعاليم الإسلامية منسجمة مع التقاليد المحلية[21] ومن المعلوم أن الإسلام – بما هو دين خاتم نزل للناس كافة- يتلائم مع البيئات التي ينتشر فيها مهما اختلفت تقاليد سكانهم وعاداتهم، ويخلق في كل منها نظام حياة يتوافق مع تعاليمه من جانب ومع القيم السائدة –ما لم تكن مخالفة لمبادئه- من جانب آخر[22] . ومن ثم فقد رأت فيه الجماعات الأفريقية نظاماً سياسياً يناسب تقاليدها، فآمنت به لشد أزرها في نضالها من أجل الاستقلال والتخلص من حكم المستعمرين، أو للتفوق على جيرانها من الوثنيين.
علاوة على هذا فإن الإسلام لم يكن ديناً فحسب، وإنما كان ديناً ونمط حياة متآلفين غير متنافرين. فقد رآه الناس يدعو إلى الصدق والأمانة واحترام الكلمة وما شاكل ذلك، ورأوا التجار المسلمين وعلماء الدين المسلمين نموذجاً لهذه القيم والمبادئ يطيقونها في أقوالهم وفي أفعالهم. على عكس ما كان عليه الحال بين المسيحية كدين يدعوا إلى مثل هذه القيم ، والنزعة المادية للحضارة الغربية التي مثلها المستعمرون الأوروبيون الذين كانوا يزعمون قيام حضارتهم على هدى من مبادئ الدين المسيحي.
وكان أن ارتبط الإسلام بالعلم، فكان لهذا الارتباط أثر عظيم في حياة الزنوج . فالمرء منهم لا يكاد يسلم حتى يتعلم القراءة والكتابة، ويرتفع قدره اجتماعيا كلما زادت ثقافته . وفي كل مكان انتشر فيه الإسلام ظهرت الكتاتيب وأقبل الافريقيون عليها يتعلمون القراءة والكتابة. ومما تجدر الإشارة إليه أن الإسلام في نظامه التعليمي لا يجعل الهوة سحيقة بين المعلم وتلاميذه ، بل هو يوثق الصلة بينهما، على عكس الحال في النظام التعليمي الذي جلبه المستعمر الأوروبي المسيحي والذي يحول دون تقريب الفجوة بين المعلم ومن يتلقون العلم على يديه[23] . فعلماء الدين المسلمين –أو بالأحرى الدعاة – الذين يعملون على نشر الدين في بلاد كالبلاد الأفريقية التي تتسم نسيباً بانخفاض المستوى الثقافي . يمكن إعدادهم للقيام بعملهم بعد تدريب بسيط يحفظون خلاله بعض سور القرآن وبعض أصول الدين، ثم هم لا يختلفون عن أهل البلاد الأصليين الذين يتلقون العلم على أيديهم في شئ على حين نجد الكهنوت الغربي المسيحي بمراسيمه وتقاليده معقدا غاية التعقيد، وهو ما يتنافر مع طبيعة الأفارقة الساعية إلى البساطة، فقل أن نجد من بينهم الكهنة ورجال الدين الذين يقومون على أمر نشر المسيحية بين الناس.
أضف إلى ما تقدم أن الإسلام دين سهل واضح، ليس فيه أسرار أو طقوس معقدة، ولا يستدعي الأمر من المرء حتى يكون مسلماً إلا أن يقول الشهاديتن وبعدها يصبح مسلماً له من الحقوق وعليه من الالتزامات مثل ما لإخوانه المسلمين وعليهم بالضبط فصورة الإسلام بسيطة وواضحة، تنضح بالإيمان دون غموض أو أساطير. كذلك فإن صورة البساطة والتعاضد التي تقدمها العقيدة الإسلامية يؤكدها ويدعمها مظهر التماسك الاجتماعي والروحي للمجتمعات التي يشكلها المسلمون.
وعلى الجانب الآخر نجد المسيحية تقدم صورة للتعددية والانقسام في ظل العداء للكاثوليكية والبروتستانتية، الأمر الذي زاد – حين تتم المقارنة – من صورة الوحدة التي يقدمها الإسلام. أضف إلى هذا أن التعارض الجوهري بين الوحدانية التي يدعو إليها الإسلام. والتعددية الوثنية لم يصدم العقل الأفريقي، فحقيقة أن هناك إلها واحدا خالقا للكون وهي الحقيقة المعترف بها في معظم أنحاء أفريقيا- تزود الديانات التقليدية بفكرة عن الكائن الأسمى. وهو الاعتقاد الذي فتح الطريق لإمكانية تغلغل عقيدة التوحيد وانتشارها. وهكذا كان الإسلام دائما عنصراً من عناصر التوحيد وانتشارها .يقاوم عوامل الفرقة وله قيمته الايجابية في تقوية الشعور بالجماعة والقضاء على حواجز اللون والجنس، ولقد ظهر الإسلام كأسلوب حياة روحية مع بدء تفتت المجتمعات الوثنية تحت تأثير التكنولوجيا الأوروبية . ومن ثم ظهر ليقدم العلاج ضد تفتت القبلية، وللمحافظة على استمرار الميراث الثقافي الأفريقي. فمشاعر الأخوة الطبيعية الموجودة في الدين الإسلامي مثلت خط الدفاع ضد مشاعر العزلة الناجمة عن هدم المجتمعات التقليدية . وقد كانت الحاجة إلى مثل هذه المشاعر قوية، ولاسيما في حالة الشعوب التي اعتادت العيش في مجتمعات شديدة التماسك، حيث تبرز الأهمية الكبيرة للمؤسسات الاجتماعية بأشكالها المختلفة. وبالتالي فإن الأخوة الإسلامية –إذ المسلم في ظل الإسلام يشعر وكأنه في وطنه حيثما وجد أخاً مسلماً – حلت محل المجتمعات القبلية السابقة بطريقة شاملة . فبمجرد أن يصبح الوثنيون أقلية- بفعل انهيار القبلية -، فإن المجتمعات التي يعيشون فيها تقف منهم موقف السخرية والتحدي، وهو ما يدفعهم إلى اعتناق الإسلام رغبة في التخلص من مثل هذه السخرية[24] . وهنا يبرز موقف الإسلام من قضايا الرق والتفرقة العنصرية والاستعمار، كعوامل ساعدت على نشر الإسلام في أفريقيا.
فبالنسبة لموقف الإسلام من الرق فإنه كان من أهم ما حبب أهل أفريقيا في الإسلام. ذلك أن الأوروبيين حين اقتحموا القارة كانت تجارة الرقيق من أهم أهدافهم، فراحوا يخطفون الأطفال والشبان ويحشرونهم على ظهور البواخر إلى أمريكا، حيث باعوهم هناك في أسواق النخاسة كما تباع الدواب، وإذا كان الإسلام لم يحرم تجارة الرق تحريما نهائيا ومطلقا، حيث أتى الإسلام والرق مؤسسة مشروعة على مستوى العالم بأسره فلم يكن منطقياً- من ثم – أن يلغيه الإسلام بين عشية وضحاها، فإنه قد فتح الأبواب التي يتم من خلالها تحرير الرقيق الكثير والكثير. بالإضافة إلى أنه قد حصر مصدر الرقيق في الحرب المشروعة فحسب، وحتى في مثل هذه الحال أقر إمكانية المن والفداء "حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً أما فداءً"(الآية الرابعة من سورة محمد). أما ماعدا ذلك من مصادر الرق كالخطف مثلاً فكان محرماً تماماً في شريعة الإسلام. وهكذا كانت تجارة الرق في أفريقيا تجارة أوروبية بالأساس، وإذا مارسها بعض التجار المسلمين، فإنما كان ذلك إثماً وانحرافاً عن نهج الدين الإسلامي[25] . ومن ثم كان طبيعياً في ضوء هذا أن يقبل الأفارقة على الإسلام الذي يحترم إنسانية الفرد ويحافظ على حريته.
أما موقف الإسلام من التفرقة العنصرية فإنه قريب الصلة بموقفه من الرق. ذلك أن الأوروبيين البيض حينما اضطروا إلي إيقاف تجارة الرقيق، لم يضعوا رقيق الأمس على قدم المساواة مع نخاسيهم، فاصطنعوا التفرقة والتمييز العنصرين، وقد تسرب هذا التفكير السقيم إلي بعض القسس العاملين في مجال التبشير في أفريقيا مما جعل كثيراً من الأفارقة يفرون بأنفسهم إلى الإسلام ومن هؤلاء القسس ومن المسيحية التي يدعون إليها. فالإسلام لا يعرف تفرقة على أساس الجنس أو اللون، ويجعل الناس فيه سواء كأسنان المشط، حيث لا يميز الواحد منهم عن الأخر إلا عمله وتقواه. وهو من ثم لا يحول بين زنجي مسلم وبين التمتع بحقوقه السياسية والاجتماعية كاملة "فالديانة المحمدية-على حد تعبير أحد الباحثين الغربيين – تبحث عن الإنسان الحقيقي، تتجاهل العرض الجوهري ،والتجزئ للمتكامل، فتقضي من ثم على كافة الفوارق المؤسسة على العنصر واللون والجنسية. فالدين الإسلامي يزود الأفريقي بأعظم العزاء وأعظم الدفاع".وهذا بالطبع مختلف بعض الشئ عن موقف الإنجيل من أبناء "حام" الملعونين والذين كتب عليهم أن يكونوا أرقاء وفقاً للأسطورة الإنجيلية، فهي فكراً"عقيدة تقع موقع القلب من التفرقة العنصرية" وبالتأمل في نفس النقطة ولكن من زاوية مختلفة، علق كاتب أفريقي بقوله(" علمت "المحمدية") الأفارقة الذين اعتنقوا الإسلام أن الشعائر الدينية تستطيع أن تساوي بين الأجناس وتجعلها تعيش كأخوة. فالمسلمون الهنود والعرب مثلا لا يشجعون قيام مساجد مختلفة بين الأجناس..بينما شيد المبشرون المسيحيون كنائس منفصلة للأفارقة والأوروبين"[26]. وتاريخ الإسلام في أفريقيا حافل بأمثلة كثيرة للسلطنات الزنجية الخالصة التي ارتفع قدرها في نظر المعاصرين جميعاً بصرف النظر عن اللون أو الجنس[27].
وهو ما حدا ببعض الكتاب الغربيين أن يقرر في هذا الصدد أنه " لاشك أن نجاح الإسلام قد تقدم في أفريقيا الزنجية تقدماً جوهرياً بسبب غياب أي شعور باحتقار السود، فالإسلام لم يعامل الأسود قط على أنه من طبقة منحطة كما كانت الحال لسوء الحظ في العالم المسيحي"[28]. وقد قادت هذه التصرفات إلى نتيجة حتمية شاعت في جميع أنحاء أفريقيا في كافة العصور ، وهي أن الإسلام دين الجميع أن المسيحية دين البيض، وهو ما دفع الكثرة من الأفارقة إلى اعتناق الإسلام.
أما بالنسبة للاستعمار فقد وقف من الإسلام موقفا عدائياً حين التقيا بأفريقيا،إذ أدرك المستعمرالأوروبي أن القوى الإسلامية هي أكبر عقبة في سبيل استقرار الاستعمار ، ومن هنا أخذ يتحدث عن الخطر الإسلامي ويحاربه ويسعى إلي الحيلولة دون انتشاره. وعلى عكس ما كان يقصده المستعمر، فإن موقفه هذا جعل الأفارقة يرون الإسلام عدواً للاستعمار ووسيلة هامة من وسائلهم في الصراع ضد المستعمر، فتدفقوا على الإسلام ليتجمعوا تحت لوائه لمقاومة المستمر الغاصب.
رابعاً : الطرق الصوفية:
تزدهر الطرق الصوفية وتنمو معها حلقات الذكر في البيئات البسيطة، حيث يوجد فراغ روحي ، وحيث لا تستغرق الأعمال أوقات الناس. ومن ثم كان طبيعيا أن تزدهر هذه الطرق في أفريقيا، حيث بساطة الحياة وفراغ الوقت، وحيث أفاقت القارة من وثنيتها التي كانت تقوم على عبادة الأنهار والأشجار والأشخاص وغيرها من ظواهر الطبيعة، وأخذت تتطلع إلى ما يملأ فراغها الروحي، فوجد الناس في التجمع حول الشيخ وفي الانضمام إلي حلقات الذكر ما يشبع هذا الظمأ ويسد هذه الحاجة. وكثيراً ما جذبت الطرق الصوفية إلى الإسلام جموعاً من الأفارقة، فقد كان الشيخ ومريدوه ينزلون على القبيلة ، ويقيمون به حلقات الذكر، وينشدون الأناشيد والتراتيل الدينية، والشيخ تكسوه حالة من وقار ، والمريدون يبرزون له أسمى آيات الطاعة والولاء، يتلمسون منه البركة والدعوات الصالحات، فتتوافد على الشيخ جموع الراغبين في دخول الدين والانضمام إلي المريدين.
وهكذا كان للطرق الصوفية جهود غير تلك التي رأيناها عند الحديث عن التجار والمهاجرين ، فإذا كان التجار ينزلون المدن، فإن رجال الطرق الصوفية ينزلون القرى والنجوع، إذا كان التجار يسعون إلى الربح فإن رجال التصوف لا يكترثون بالمال ولايسعون إلا للكفاف.
والحق أنه حينما أظل العالم الإسلامي القرن التاسع عشر أسدت الطرق الصوفية إلي الإسلام خدمات عظيمة. فقد دب فيها دبيب النهضة الذي دب في الثقافة الإسلامية عامة حين بدأ الاحتكاك بالغرب، في وقت ضعفت فيه السلطة السياسية في العالم الإسلامي بضعف الخلافة العثمانية، وفي وقت أخذت تتفتت فيه وحدة المسلمين ويستولى المستعمرون على أوطانهم. وقد استطاع الصوفية أن يحافظوا على الوحدة في الميدان الديني بعد أن عزت في الميدان السياسي ، فقاموا بجهود لخدمة الإسلام لم تكن الحكومات الإسلامية بقادرة على القيام بها بعد أن أصابها الوهن وأفلت منها الزمام.وقد تجلت هذه الجهود في أفريقيا على وجه الخصوص[29]. والحق أن رجال الطرق الصوفية كان عليهم أن يحاربوا في جهتين أحداهما ضد القبائل الوثنية المنتشرة في القارة، والأخرى ضد التوسع الأوروبي الذي بدأ تكالبه على مختلف مناطق القارة ومنها غرب أفريقيا، حيث شهدت هذه المناطق حركات إصلاحية ريادية قادها الزعيم الديني"عثمان بن فودي" في نيجيريا، بحيث أضحت حركته بؤرة للإصلاح الديني والجهاد، والتي امتدت إشعاعاتها وتوسعت شرقا وغربا وأثرت في العديد من مناطق القارة. ولعل أشهر الطرق الصوفية التي لعبت دوراً هاماً في نشر الإسلام في المنطقة من غرب أفريقيا هي الطريقة القادرية، والتيجانية، بالإضافة إلي الطريقة السنوسية[30].
أما الطريقة الأولى وهي القادرية والتي تنسب إلي "عبد القادر الجيلاني"أحد أقطاب التصوف الأربعة، فقد دخلت أفريقيا الغربية في القرن الخامس عشر على يد مهاجرين كانوا يتخذون من تواث مركزاً لهم، ثم انتقل هؤلاء إلى ولاته فجعلوا منها أول مركز لطريقتهم، ثم انتقلوا منها بعد حين إلى أن تمبكتو (مالي حاليا) وجمعيها مناطق تقع في غرب أفريقيا بالأساس.
ولم يكتف القادرية بما درج عليه المتصوفة من حلقات ذكر وتراتيل، بل جلس الكثيرون منهم يعلمون الصبية الصغار، وتفقه بعضهم في الدين فجلس عالماً وخطيباً. أما أغنيائهم فاتجهوا إلي الشباب يختارون أذكارهم ويرسلون بهم إلى مراكز الثقافة في الشمال ليتزودا بالعلم ويعودوا قادة ومعلمين بين أهليهم، كما فتح هؤلاء الأغنياء المدارس ليتلقى فيها الطلاب العلم. وما أن حل القرن التاسع عشر حتى كانت السيطرة الروحية والفكرية في أكثر نواحي أفريقيا الغربية في يد رجال الطريقة القادرية ،والذين تحول الدخول إلى الإسلام معهم من حالات فردية إلي حالات جماعية .
أما التيجانية والتي تنسب إلي الفقيه الجزائري "أبي العباس احمد بن محمد بن المختار". فقد وجدت لها أنصارا عديدين في الصحراء الكبرى وغربي أفريقيا ووسطها. وقد ارتبطت بالطريقة التيجانية فكرة اللجوء إلى إلى القوة عند الضرورة وهم يعللون ذلك بأنه من المحتم إنقاذ الوثنين من الضلال، وبهذا فقد اختلفت التيجانية عن القادرية التي عرفت بالتسامح،وكانت تكتفي بالدعاء للوثنيين بالهداية دون محاربتهم.
ولعل أهم الحركات الحربية التي قام بها أفراد من التيجانية لنشر الإسلام هي تلك الحركة التي قادها الحاج "عمر الفوني" في بلاد السنغال.ولقد تمكن الحاج عمر من تحقيق انتصارات واسعة، إذ سارت حملاته الواسعة تنشر الدعوة بين الوثنيين في حوض النيجر والسنغال، وحقق كثيراً من النجاح السياسي والديني، فأصبح يحكم إمبراطورية واسعة تمتد من تمبكتو إلي المحيط الأطلسي، وظلت تدين له بالولاء طيلة الأربعين سنة، وكانت الطريقة التيجانية هي الطريقة الرسمية في كل هذه الإمبراطورية . وكان الحاج عمر – والذي استشهد في إحدى غزاوته عام 1865- متمسكا بالشرع في حربه وسلمه، عالماً ذا بصيرة في دينه، لم يشغله الجهاد عن تدريس العلم لجيوشه الغازية في سبيل الله. فانتشر الإسلام على يديه في هذه المناطق أيما انتشار.
وبالنسبة للسنوسية والتي أسسها الفقيه الجزائري "محمد بن علي بن السنوسي" والذي استقر به المقام في واحة جغبوب في ليبيا، فقد انتشرت في شمال أفريقيا كلها وأوغلت في واحات الصحراء وامتدت آثارها إلى إرجاء واسعة من القارة، وكان نشر الإسلام بين الوثنيين بأفريقيا بهدف هدايتهم إلي الحق من جانب، ولمواجهة حركة التبشير المسيحية التي كانت تغزو القارة منذ أواسط القرن التاسع عشر من جانب آخر ، هي أهم أهداف السنوسية، والذي استطاعت من خلاله أن تدخل العديد من مناطق أفريقيا في الإسلام.
وإذا كان نشاط الطرق الصوفية في نشر الإسلام في أفريقيا قد بدأ متأخراً للغاية، ولم يبرز جلياً إلا في القرن التاسع عشر، فإن هذا لا ينفي ما حققه من نجاح كبير في هذا الصد، يؤكده ما ذكرناه آنفا من إن التحول إلى الإسلام قد انتقل على يد هذه الطرق من حالات فردية إلى حالات جماعية، وأن هذه الطرق لم ترتبط بالخطوط التجارية والمدن الكبرى، وإنما اندفعت إلى الناس في القرى والنجوع تنشر الإسلام بينهم، وهي مآثر لا ينافسها فيها سواها في هذا المجال[31].
__________________
بنت الاسلام غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس