قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
قولُه ـ تعالى جَدُّه: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي} فَلَمَّا تَحَقَّقَ مُوسَى مِنْ بَرَاءَةِ أخيه هارُونَ ـ عليهما السلامُ ـ وَأَنَّهُ قَامَ بِوَاجِبِهِ كَامِلاً نَحْوَ قَوْمِهِ فَبَصَّرهم عاقبةَ أَمْرِهم، وبيّنَ لهم أَنَّ ما يعبدونه مِنْ دون الله تبارك وتعالى سيكون وبالُه عليهم في الآخرة غضبٌ من الله وعذابٌ أَليم، فدَعَا موسى رَبَّهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ مَا فَرَطَ مِنْهُ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، فِيهِما غِلْظَةٌ وَجَفَاءٌ، بِحَقِّ أَخيهِ، وعَجَلَتِهِ في إِلْقاءِ الأَلْواحِ، وَأَنْ يَغْفِرَ لأَخِيهِ مَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَصَّرَ فِيهِ مِنْ نَهيِ القَوْمِ عَنْ فِعْلِ مَا فَعَلُوهُ، مِنْ عِبَادَةِ العِجْلِ، ولِيُرضي أَخاهُ ويُظهرُ لأهلِ الشِماتَةِ رِضاهُ عَنْهُ فَلا يَتِمَّ لهم شماتَتُهم، وهذا يعني أنَّ هارون ـ عليه السلامُ ـ قد أخطأ في عَدَمِ مُقاوَمَتِهِ عِبادَةَ قومِه للعِجْلِ، لأنَّ الاستغفارَ إنَّما يكون من ذنب اقترفه، وفيه دليلٌ على أَنَّ الخَطَأَ في الاجْتِهادِ مَعِ وُضوحِ الأَدِلَّةِ غَيرُ مَعذورٍ فيهِ صاحبُه في إجراءِ الأَحْكامِ عَليْهِ، وهو ما يُسمّيهِ الفُقَهاءُ بالتَأْويلِ البَعيدِ، ولا يُظَنُّ بأنَّ مُوسى عاقَبَ هارونَ قَبْلَ تحقُّقِ التَقصيرِ. ويمكِنُ أَن ْيَكونَ الاسْتِغْفارُ مما لا يَعْلَمُهُ، وذِكْرُ وَصْفِ الأُخُوَّةِ هنا زِيادَةٌ في الاسْتِعْطافِ عَسى اللهُ أَنْ يُكْرِمَ رَسُولَهُ بالمَغْفِرَةِ لأَخيهِ، وهو كَقولِ نبيِّ اللهِ نوح ـ عليه السلامُ: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} سورة هود، الآية: 45. واللهُ أَعْلَمُ.
قولُه: {وأدخلنا فِي رَحْمَتِكَ} وَأَدْخِلْنا جميعاً فِي رَحْمَتِك الواسعةِ التِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ، واغمرنا بِجُودِك وَفَضْلِك، فَأنت أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وهذا ما يَقتضيه المقابلةُ بالمغفرة، والعدولُ عنِ ارْحمنا إلى ما ذُكِرَ، والإدْخالُ في الرَّحمةِ اسْتِعارةٌ لِشُمولِ الرَحمةِ لهُما في سائرِ أَحْوالهِما، بحيثُ يَكونانِ مِنْها كالمُسْتَقِرِّ في بَيْتٍ أو نحوِهِ ممّا يحوي، فالإدْخالُ استعارةٌ أَصْلِيَّةٌ، وحَرْفُ "في" استعارة تَبَعِيَّةٌ، أَوْقَعَ حَرْفَهُ الظَرْفِيَّةَ مَوقِعَ باءِ المُلابَسَةِ، وفي الإخال في الرحمةِ، إشارة إلى سَعتها، وأنها تحتوي على الكثير من المرحومين.
قولُه: {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين} أي أَنْتَ الأَشَدُّ رحمةً، فَلا غَرْوَ إذاً في انْتِظامِنا في سِلْكِ رَحمتِك الواسِعَةِ في الدُنيا والآخِرِةِ، وكيف لا يكون الأمرُ كذلك وجميع ما بين الخلقِ من رحمة يتراحمون بها فيما بينهم إنّما هو جزء من مئةِ جُزءٍ من رحمة الله تعالى وضعه بينهم يتراحمون به لتعمر الحياة به وتستمر وادَّخَرَ تسعة وتسعين جزءً لعباده المؤمنين في الآخرة كما سَبَقَ أنْ وضَّحْنا غير مرةٍ، للحديث الشريف: ((الله قسم رحمته مئة جزءٍ، فأنزل جزءً من تلك المئة إلى الأرض بها تتراحمون، وبها ترفع الدابة حافرها أن تضعه على ولدها رحمة به، وادَّخَرَ تِسْعَةً وتِسْعين رحمةً لِرَحمَةِ العِبادِ يَومَ القيامة)). ثمَّ إنَّ قولَه: "أَرْحَمُ الراحمين" أو {خَيْرُ الرازقين}، أو غيرُ ذلك مما ينسبُ اللهُ تعالى فيه شيئاً من صفاته إلى خلقه، فإنَّهُ بهذا يَدْعُو خَلْقَهُ إلى التَخَلُّقِ بهذا الخُلُقِ، وقد أمرنا رسولُه بذلك فقال: ((تخلَّقوا بأخلاق الله)). لأنَ الله لم يحرمهم من وصفهم بهذه الصفات ولهم فيها عملٌ وإنْ كان محدوداً يَتَناسَبُ مَعَ قدرتهم، أما صفاتُ اللهِ فهي صفاتٌ لا محدودةٌ ولا مُتناهِيَةٌ جَلالاً وجمالاً وكمالاً فهو سُبْحانَهُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، فإذا كان اللهُ "أَرْحَمُ الراحمين" فهذا يَعني أَنَّهُ سُبحانَه لم يمنعِ الرَّحمةَ مِنْ خَلْقِهِ على خَلْقِهِ؛ فَمَنْ رَحِمَ أَخاهُ سُميِّ رحيماً، وراحماً، ولكنَّ اللهَ أَرْحَمُ الراحمين؛ لأنَّهُ مصدرُ الرحمة.
وادَّعى بعضُهم أَنَّ فيهِ إشارةٌ إلى أَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ اسْتَجابَ دُعاءَه وفيهِ خَفاءٌ. وبهذا يَكونُ القرآنُ الكريمُ قدْ بَرَّأَ ساحةَ هارونَ مِنَ التَقْصيرِ، وأَثْبَتَ أَنَّه قدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ للأَذَى في سبيلِ أَنْ يَصْرِفَ الذين عَبَدو العِجْلَ عَن ضلالتِهم، كما أنَّ فيه تَصحيحٌ لما جاءَ في التوراةِ المحرَّفة (الفصل الثاني والثلاثين مِنْ سِفْرِ الخروج) مِنْ أَنَّ هارون ـ عليه السّلامُ ـ هو الذي صَنَعَ العِجْلَ لِبَني إسْرائيلَ لِيَعْبُدوهُ في غَيْبَةِ مُوسى ـ عليه السَّلامُ ـ وقد سبق أن بيَّنا ذلك في موضعِهِ.
وقولُهُ: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وأنت: والواو للحالِ أَوْ اعْتِراضِيَّةٌ، والجُمْلَةُ اعْتِراضٌ تَذْييلِيٌّ مُقَرِّرٌ لمضمونِ ما قِبْلَهُ.