كتاب سوانح قلبية
هو كتاب يجمع وصايا سيدي الشيخ أحمد الجامي خلال اعتكافه العشرالأخير من رمضان والتي تناقلها تلاميذه عنه ليشع نور هذه الكلمات ولنتستفيد من خلاصة تجارب العارفين بالله وأحوالهم
لسيدي الشيخ أحمد فتحُ الله جامي خادم الطّريقة الشّاذليّة القادريّة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين ، الذي منَّ علينا بهذا الدّين القويم ، وجعلنا من أتباع سيّد المرسلين ، ودلّنا على وارث من ورّاث نبيّه الصّادقين . فله الحمد وله الفضل وله المِنَّة وله الثناء الحسن الجميل .
والصّلاة والسّلام على هادي الأنام ، ومنقذ البشريّة من الظّلام ، سيّدِنا وحبيبِنا وقدوتِنا محمّدٍ دليلِنا إلى دار السّلام ، وعلى آله وأصحابه الأعلام ، رضي الله تعالى عنهم وعمَّن تبعهم بإحسان .
وبعد : يقول الله تعالى في مُحْكَم آياته : ) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( [ النحل / 18 ] . فمِن أجلّ النّعم وأعظمها ـ بعد نعمة الإيمان والإسلام ـ نعمةُ السّلوك في الطّريق الموصل إلى التَّحقيق في بلوغ المرام من مقام الإحسان ، على يد مَن جعلهم الله ورَّاثاً لأنبيائه في دلالة الخلق عليه ، ومشاعلَ نور تضيء درب السّالكين إليه .
أحمدك اللهم حمدَ الحامدين ، وأشكرك شكر الشّاكرين ، أنْ عَرَّفتنا على عَلَمٍ فردٍ من هؤلاء الأعلام ، عزَّ أمثاله ، وقلَّ أن يوجد أشباهه ، وخاصّة في هذا الزّمان ؛ ألا وهو شيخي وقرَّة عيني وحبيب قلبي سيّدي أحمد فتحُ الله جامي ، خادم الطّريقة الشّاذليّة القادريّة ، الدّالُّ على الله تعالى بحاله قبل قاله ، والموجّه إلى التّمسّك بشرع الله تعالى وسنّة نبيِّه المصطفى عليه الصّلاة والسّلام بفعله قبل وعظه ، الخليفةُ الأوحدُ لسيّدي الشّيخ عبد القادر عيسى رحمه الله ، وطيَّب ثراه ، وجَعَلَ في أعالي الجِنان مثواه ، وجزاه عنّا وعن المسلمين كلَّ خير ؛ فإنّه ـ رحمه الله ـ لصدق أمانته أبى أن يَترك على رأس هذه الطّريقة المباركة إلاّ رجلاً بل جبلاً شامخاً يتابع بعده المشوار ، و يأخذ بيد السّالكين ويسير بهم في مدارج الكمال على درب التّوحيد الخالص والمعرفة الحقّة والعبوديّة الصّادقة . فجزاه الله عنّا خير ما جزى شيخاً عن مريديه .
بعد هذا أيُّها القارئ الكـريم : أظنّ أنّـك تعذرني إن لم أُوفِّهِ حقَّه ، ولم أُعْطِهِ قَدْره . فأنّى لمثلي أن يتحـدّث عن مثله ، وأين الثّرى من الثّريّـا .
ولِما عرفْتُ منه ـ حفظه الله ـ مِن كُرهِهِ للمدح وبُغضِهِ للثناء ، فإنّي لن أتحدّث عن شخصيّته العظيمة ، وصفاته النّبيلة ، ومزاياه الكريمـة ، ومقاماته الرّفيعة ، لكنّـني سأتحدّث عن آثاره الملموسة وعطاءاته المحسوسة .
فإنّني ـ واللهِ ـ مُذْ رأيتُهُ لأوّل وهلة أخذ لُبّي وسبى عقلي ، وملَكَ روحي ، قبل أن أسمع منه كلاماً ، أو يوجِّهَ إليَّ خطاباً . فعرفتُ فيه سرَّ الوراثة النَّبويِّة الكاملة ، فلَمْ أعُدْ أُطيقُ البعد عنه ، فلازمتُه ما استطعتُ إلى ذلك سبيلاً ، فإذا بصحبته تغذّي الأرواح ، وبنظراته تمزِّق حُجُبَ النّفوس ، وبكلامه يدغدغ القلوب . وهذا من ميزات الطّريقة الشّاذليّة المباركة وتأثيـرها في أتبـاعها عن طريق شيوخهم بالتّسلسل إلى رسول الله r .
ولستُ وحدي في هذا الشّعور ، بل هذا شعور كلِّ مَن صاحَبَه وجالَسَه وسمع كلامه ، إلاّ مَن حُجِبَ بحجاب النَّفس ، أو تمسّك باتّباع الهوى . نسألُ اللهَ تعالى لنا ولهم الهداية والسّداد .
وممّا منَّ الله تعالى به عليَّ أن شرَّفني بصحبته ـ حفظه الله ـ في أيّام وليالي الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان لسنين عديدة ، وكنت أكتب عنه جواهر كلامه الذي يُفيضُ الله به على قلبه الشّريف ، من نفحات تلك الأوقات المباركة ، حيث كانت تتدفّق أحياناً كالشّلاّل الذي لا يملك هو أن يوقِفَهُ ، ولا يستطيع تكراره إذا ما طُلِبَ منه ذلك ، لأنّه ما خرج من عُصارة عقل ، ولا من إعمالِ فِكر ، ولا من استرجاع حافِظةٍ ، ولكنَّه فيضٌ من العلوم اللّدنّيّة والتّوجيهات الربّانيّة التي أكرمه الله تعالى بها ، وهذا من لوازم الطّريقة الشّاذليّة المباركة . فكانت هذه الوصايا والحِكَمُ مليئة بتوجيه القلوب إلى الله عزَّ وجلّ ، والحثِّ على التّمسّك بالشّريعة ظاهراً وباطناً ، واتّباع رسول الله r سرَّاً وعلناً ، والتّخلّي عن الأخلاق الذّميمة ، والتّحلّي بالأخلاق الحميدة ، وتصحيح المفاهيم الخاطئة عن الطّريق والتّصوّف والمرشد ، وما يحيط بذلك من أوهامٍ ومفاهيمَ مغلوطةٍ وبدعٍ مذمومةٍ ، انتشرت بين مَن تمسّكوا بقشور الطّريق وتركوا لُبَّه وحقيقته ، فكانوا سبباً لإعراض الكثيرين عن التزام طريق الحقّ ، والتّمسّك بأهل الصِّدق . وكان أثر هذه الوصايا كبيراً ، وفعْلُها بيِّناً في كلِّ مَن سمعها بعد ذلك أو قرأها .
من هنا جاءت فِكرة جمعها في كتاب ، لعلَّ نفعَها يكون أعمَّ وأثرَها يكون أشمل .
فجُمِعَتْ ثمّ أُضيفَ عليها في نهاية الكتاب نخبةٌ من الوصايا الرّبَّانيّة الّتي ساقها الله تعالى على لسانه ـ حفظه الله تعالى ـ في مناسبات متفرّقة ولقاءاتٍ مختلفة غير الاعتكاف .
وقد ارتأى ـ حفظه الله ـ أن يكون هذا الكتاب بعنوان : (( سوانح قلبيّة )) ؛ أيْ : معانٍ عَرَضَتْ للقلب بفضل الله سبحانه وتعالى دون طلبٍ منه ، إكراماً للحاضرين ، وإجابةً للسّائلين ، ورزقاً للمحتاجين .
فمِمَّا يُميِّز هذه الوصايا والحِكَم ـ وهذا سِرُّ فاعليَّتِها ـ أنَّه ـ حفظه الله ـ ما نقَلها من كتاب ، ولا تعلَّمها من معلِّم ، ولا هيّأها وجهَّزها مُسبقاً ، ولا حضَّرها من مراجع ، وإنَّما انسابت على لسانه الطّاهر من قلبه العامر بمدد إلهيٍّ باهر ، رزقاً للسّامعين ، وهدىً للسّائلين .
ففي اعتكاف عام ألفٍ وأربعِمائة وواحد وعشرين للهجرة ، قبل العيد بيومين ، نظر ـ حفظه الله ـ إلى دفاترنا الّتي كادت تمتلئ من كتابة وصاياه ، فقال : قبل أن تأتوا بيوم أو يومين تفكَّرت بيني وبين الله ، قلت : يا ربّ ! غداً يأتي الأحباب للاعتكاف ، ماذا أقول لهم ؟ تفكّرت . . . تفكّرت . . . واللهِ ما وَجدْتُ ولا كلمة ، ووجدْتُ نفسي فقيراً . انظروا الآن كمْ كتبتم ، واللهِ هذا ليس منّي ، هذا رزقكم أتاكم من ربِّكم ، فهو معنا ، كلَّما سألتم يأتي الجواب منه تعالى ، لأنّه يعرف ضعفنا ويعرف احتياجنا .
فاللهَ العظيم أسأل ، وبجاه نبيِّه الكريم أتوسَّل أن يَمُدَّ في عُمُر شيخنا مع كمال الصحّة والعافية ودوام التَّرقِّي ، وأن ينفعنا به وبوصاياه ، وينفع بها أهلَ الطّريق وعامّةَ المسلمين ، وأن يجزيَه عنّا خير الجزاء ، فإنّا عاجزون عن شكره .
وصلّى الله تعالى على سيِّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلِّم
ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليِّ العظيم
والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصَّالحات
كتبه العبد الفقير إلى الله تعالى
بشير فرح
الأربعاء / 7 / شـعـبان / 1422 هـ
الموافق / 24 / تشرين الأوّل / 2001 م" اهـ.
من هنا