المسحر شاعر وحكواتي ومنشد ...للمسحرين تنظيم حرفي وشيخ صنعة يأتمرون بأمره وينظم شؤون الحرفة
قصة المسحراتي
من مظاهر الاحتفال برمضان المسحراتي أو كما يسميه أهالي حلب المطبل أو الطبال ففي كل ليلة من ليالي رمضان يجول المسحرون ولكل حي من الأحياء مسحر خاص به ويمسك بشماله طبلة صغيرة تسمى بازاً وبيمينه عصا صغيرة
أو سيراً من الجلد ويصحبه غلام يحمل قنديلين يقفان أمام كل بيت وفي كل مرة يضرب المسحر طبلته ثلاث مرات ثم ينشد قائلاً" لا إله إلا الله" ثم يضرب بالطريقة نفسها ويضيف قائلاً : محمد الهادي رسول الله ثم يعود إلى ضرب طبلته ويواصل كلامه.
"يا غافلين وحدوا الله قولوا لا إله إلا الله" ثم يعود إلى ضرب طبلته ويواصل كلامه:
"أبرك الليالي وأسعدا على المنازل والسكان, حياكم الله لكل عام بجاه مظلل بالغمام , ويا نايم وحد الدايم ويا قاعد اذكر الله", ثم يواصل كلامه "أسعد لياليك يا فلان ويسمى صاحب المنزل وكل من في المنزل ما عدا النساء ويخص البنات الأبكار قائلاً: "أسعد الليالي إلى ست العرايس فلانة ويضرب طبلته بعد كل تحية صاحب البيت وقد يطيل المسحراتي وقفته أمام بيوت الأثرياء ويواصل في الإنشاد والثناء وقد يروي قصة الإسراء والمعراج والضرتين والأميرة فاطمة ذات الهمة وغيرها من قصص المعجزات والبطولات بسجع غير موزون ضارباً طبلته بعد كل مقطع ولا يبرح الباب حتى يرد عليه صاحب البيت أو يرى قنديل الكاز قد أضاء نافذته أو المصباح الكهربائي في عصرنا الراهن.
وكان المسحراتي لا يقف على بيوت الحزانى أو النساء أو الأرامل احتراماً لمشاعرهن أو تقديراً لمصابهن وكان يتقاضى منحاً مادية أو هدايا أو طعاماً وحلوى لقاء قيامه بهذه المهمة في كل يوم أو في أول أيام العيد حسب حالة كل عائلة.
وقد يطل سكان البيوت من النوافذ أو الكوات والطاقات وخاصة النساء يطلبن المزيد من الإنشاد ويشجعونه بإلقاء النقود عليه في ورقة صغيرة ويشعلون هذه الورقة حتى يرى مكان سقوطها, وبعد الانتهاء من الإنشاد يترك المسحر أبواب الحارة ليقصد حارة أخرى أو زقاق آخر فيوقظ نيامها ورنين الطبلة ما يزال يسمع قوياً كما كان إلى أن يخف ويغيب من هدأة الليل مع حديث المتسحرين.
وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر كما ورد في كتاب حلب في القرن الثامن عشر للأخوين "رسل" إن كل شخص لا يحمل فانوساً عند حلول الظلام كان حارس الحارة الليلي يأخذه إلى( القره قول) أي قسم الشرطة ليتم استجوابه عن سبب تجوله بدون فانوس وقد يتم توقيفه إذا لم يقدم حجة مقنعة وإلا اعتبر من أبناء الليل لصاً أو قاتلاً أو غير ذلك.
وكانوا يسمون من يعمر الفوانيس ويعلقها وينزلها من على الأعمدة (الدومري) وإذا كانت الشوارع والحارات خالية من المارة يقولون ما في الدومري أي حتى الدومري غير موجود في الحارات أي خالية من كل إنسان.
وقد قيل الكثير من الأشعار في الفانوس وارتبط بالكثير من الحكايا والأساطير وكلنا يعرف مصباح علاء الدين السحري ومن هذه الأشعار:
ونجم من الفانوس يشرق نوره
ولكنه دون الكواكب لا يسري
ولم أر نجماً قد قبل طلوعه
إذا غاب ينهي الصائمين عن الفطر
وكان الأطفال في مصر يرددون الأغاني بإدخال كلمة" وحوي" التي ترجع إلى المصريين القدماء حيث كانوا يحتفلون ببداية الشهور القمرية ويطلقون على القمر أيوح في اللغة الفرعونية.
وكان قديماً يسحر مدينة حلب مسحر واحد يقف في كان مرتفع ومعه طبل صغير يضرب عليه وينشد بأعلى صوته بعض المدائح النبوية ثم تطورت الحياة وبدأ عدد المسحرين يزداد حتى أصبح لكل حي مسحر خاص به بل قسم الحي إلى مناطق يتوزعها المسحرون تتناسب مع عددهم.
وفي منتصف الليل يهب المسحرون من رقادهم ليتزودوا بعدة العمل الطبلة والسلة والفانوس وسير الجلد الذي يضرب به الطبلة وينطلقون عبر الليل والهدوء في الحارات الملتوية المظلمة يمرون بالأبواب يقرعونها ويرددون بأصواتهم التي تتفاوت بين الخشونة والحدة والعلو والجمال عبارات رمضان التقليدية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من شخصية هؤلاء المسحرين.
وإذا أمعنت النظر في هذه الوجوه تجد فيها السماحة والبراءة والإيمان والطيبة والقناعة بما تدر عليهم هذه الحرفة من دخل محدود.
وكانت حرفة التسحير تابعة لتنظيمات حرفية أو ما يسمى بمشيخة الكارات وهذه كانت تدير شؤون الحرفة وتسوي مشاكلها وكانت مشيخة التسحير تضم شيخ الكار - النقيب - الشاويش إضافة إلى المسحرين ولكل من هؤلاء عمل يختص به بغية تأمين سير التسحير في المدينة على وجهه الأكمل وشيخ الكار هو أعلى المسحرين رتبة وله سلطة معنوية ويكن له المسحرون جميعاً المودة ومنصبه وراثي وقد ينتخب في حال عدم وجود وريث يليق بالمقام وشيخ الكار هو الذي يجمع المسحرين ويلقنهم أصول الصنعة ويقوم بإجراء فحوص المبتدئين من المسحرين ويحل الخلافات والخصومات بين المسحرين ومقابل كل هذا يقدم كل مسحر للشيخ بعض النقود في كل رمضان كما يدفعون من ذلك في ليلة السابع والعشرين من رمضان وذلك لقاء إعداد أكلة "الرز بحليب" أو الهيطلية يولم عليها المسحرون يأخذ من المبلغ ويوفر الباقي لشيخ الصنعة.
أما النقيب فيعتبر نائباً عن شيخ الكار وممثلاً له ويقوم بمهامه الدورية ليتأكد من قيام كل مسحر بواجبه ويسأل الحارس وأهل الحي عن المسحر وإذا صادف وسمع أن أحداً من المسحرين قد قصر بواجبه فإنه يبلغ عنه شيخ الكار الذي يفرض عليه غرامة مالية أو قطع جزء من المساحة المخصصة له للتسحير أو أخذ الطعام منه.
أما الشاويش فهو مساعد شيخ الحرفة ويقوم بكل عمل يسنده إليه الشيخ كإخبار المسحرين عن يوم الاجتماع والاستعداد لرمضان والعيد وإلى جانب ذلك هناك شخصان يمثلان السلطة في حل المشاكل التي تقع بين المسحرين بالإضافة إلى عملهما كمسحرين ويكونا بمثابة المحكمين.
ولا بد من الإشارة إلى أن المسحرين متحابون ومتعاونون لا ينسون بعضهم بعضاً بل يعايدون بعضهم بعضاً ويتزاورون في المناسبات الاجتماعية وإذا مرض أحد يعودونه ويأخذون له هدية كعكا وطبيخا ونقود وإن توفى أحدهم يساعدون أهله وغير ذلك مما يزيد الالفة والمحبة والمودة فيما بينهم.
المسحر والعيد
وفي العيد يدور المسحر على البيوت ليأخذ العيدية وهو يغني:
أولادكن أروشوني
حيطانكن طرمخوني
بالرز بحليب غسلوني
من المعمولات لا تنسوني
هاتو الدفاتر وحاسبوني
كل سنة وأنتم سالمون
وكان كل سكان الحارة يعطون لمسحرهم العيدية وكميات من الحلوى والطعام والثياب وكان المسحر يعطي بعض الطعام للفقراء والمحتاجين.
وكان من عادة المسحر أن يأخذ ولده معه أثناء التسحير ليعلمه هذه الحرفة من حيث تعلم الإيقاع والنغمات والأشعار والحكايا والقصص التي يرددها أثناء التسحير والابن يحمل سلة التي يجمع فيها أعطيات الطعام وسكان حلب كانوا يقدرون مهنة المسحر ويرون أن للشخص الذي يتولاها ثواباً عندالله وما أن نذكر اسم المسحر حتى تتداعى على المخيلة أقوال المسحرين ومدائحهم وتفننهم في وصف الشهر وفضائله وحضهم على الكرم وتنديدهم بالبخل.
وكانت سلة المسحر تحوي مختلف ألوان الأطعمة والحلويات والفواكه والخضار يحملها هو وابنه فرحاً بسبب فقره كان يبيع بعض هذه الأطعمة في أحد الأسواق أو للمارة.
المسحر والأطفال
أما المسحر عند الأطفال فله سحر خاص وجاذبية لا توصف فمجرد سماع رنين طبلته حتى يتراكضوا حوله ويرافقوه في جولاته طالبين أغاني تفرحهم وتخفف على من صام منهم درجات المئذنة أي الصيام حتى الظهر وكانوا يمدونه بالسكاكر وراحة الحلوم وكعك المعروك الخاص بهذا الشهر وفي كثير من الأحيان كان يسمح بحمل سلته أو النقر على طبلته.
وكان سكان حلب يتفاءلون بالمسحر في رمضان وحامل بشارته ولياليه الحلوة وإن ندر وجوده اليوم إلا في بعض الأحياء القديمة أو الحديثة أحياناً فإن وظيفته ظلت على أصولها التي يرى البعض أنها لا تلائم متطلبات العصر فخف بريقه وانقضى عزه.
ويشعر المسحرون أنفسهم بذلك ولذا انكفؤوا بعدما بردت حماستهم وأصبح خروجهم نادراً فهل نحن على وشك توديع المسحر.
الإنسان الذي لطالما نذر نفسه منبهاً إلى فضائل الشهر الكريم أم أن صحوة تراثية تختبئ عند منعطف آت.