من المصدر ©«السبيل» تزينه الزخارف والنقوش الاسلامية
د. أحمد الصاوي
ليس هناك أشهر من سبيل أم عباس بين معالم حي القلعة بالقاهرة، وهو يقع عند تقاطع شارع الركبية وشارع السيوفية مع شارع الصليبة المؤدي لميدان القلعة.
وأم عباس هي السيدة “بنبا قادن” التي تحمل أقدم مدارس تعليم البنات اسمها بالقاهرة وهي زوجة الأمير “أحمد طوسون باشا” ابن محمد علي باشا، ووالدة خديو مصر عباس حلمي الأول الذي حكم البلاد فيما بين عامي 1848م و1854م.
وقد شرعت السيدة “بنبا” في بناء هذا السبيل في عام 1284هـ “1867م”. أي بعد مقتل الخديو عباس ابنها بنحو 13 عاماً، ويعود مقتله بقصره في بنها إلى قسوته مع الرعية وتشككه الدائم في أفراد أسرة محمد علي، حتى يقال إن الشرطة السرية أسست في عهده على النطاق الواسع الذي اشتهرت به مصر لاحقاً. ويعزى لعباس حلمي وسياسته المتشددة توقف الإصلاحات التي بدأها جده محمد علي وبداية تزايد النفوذ البريطاني في مصر، حيث ربطت الخديو علاقة قوية بالسفير البريطاني “مري” في إطار مساعيه لدى الدولة العثمانية لتعديل نظام الحكم بمصر بما يسمح بتولي “إلهامي” ابن عباس العرش من بعده.
أما السبيل الذي خصصته أم عباس لتوزيع مياه الشرب النقية على المارة طلباً للثواب واستجلاباً للدعاء، فقد ألحقت به السيدة بنبا كتاباً أو مكتباً عينت به معلمين لتعليم الأطفال العلوم الحديثة، كما في المدارس الحكومية على عهد الخديو إسماعيل، وهو أمر يستلفت الانتباه في ظل ما عرف عن ابنها “عباس الأول” من ميل نحو وقف تيار التحديث في البلاد حتى وصف بالرجعية.
فعل الخير
السبيل كما هو معروف من المنشآت المائية الخيرية التي تعني بتوفير مياه الشرب للسابلة بالطرقات، وأيضاً للبيوت التي لا يقدر أصحابها على تحمل أجور السقاءين وقد تعددت هذه المنشآت بالقاهرة واشتهر عن عدد من النساء في العصر العثماني الرغبة في فعل الخير بإنشاء الأسبلة رحمة بالناس في فترات القيظ المعروفة بقسوتها في صيف القاهرة، وهو ما يعكس في جانب منه تلك الرقة التي ميزت نساء الطبقة العليا من المماليك والأتراك.
ويتميز سبيل “أم عباس” بين عشرات الأسبلة التي تحتشد بها شوارع القاهرة التاريخية بأن حجرة التسبيل فيه تتخذ هيئة المثمن، وهذا التخطيط من الأمثلة النادرة بالقاهرة، حيث توجد حجرات التسبيل المربعة بكثرة، بينما تقل الحجرات النصف دائرية المنقولة عن الأسبلة العثمانية، ونكاد لا نجد من حجرات التسبيل المثمنة سوى تلك التي بسبيل أم عباس.
ويغلب على الظن أن “بنبا قادن” اعتمدت في تصميم السبيل على مهندس تركي نقل هذا الشكل المثمن المألوف في بعض الأسبلة العثمانية بتركيا.
وقد غطي السبيل بقبة مثمنة شيدت فوق مثمن حجرة التسبيل من دون الحاجة إلى منطقة انتقال، بينما كسيت الواجهة كلها بالرخام الأبيض وزينت بزخارف نباتية من الطراز المعروف باسم “الباروك والركوكو”، وهو طراز من الزخارف النباتية ساد في أوروبا بعد القرن 17م. واستخدمه الأتراك مع بعض التحوير لزخرفة عمائرهم بدءاً من القرن 19م.
وتزدان واجهة السبيل بكتابات بخط النسخ نفذت بقدر كبير من الدقة والإتقان، وقد استقدمت “أم عباس” الخطاط المعروف “عبد الله بك زهدي” لنقش هذه الكتابات التي تحيط بمثمن الواجهة في شريط كتابي بأعلى الجدران فضلاً عن كتابات موزعة على القسم السفلي من الواجهة. وكتب الخطاط زهدي في الشريط العلوي سورة الفتح بأكملها وأتبعها بتوقيعه الشخصي. أما بقية النقوش على واجهة السبيل فتحوي آيات من القرآن الكريم ذات صلة بوظيفة السبيل.
اهتمام أم عباس
واستقدام عبدالله زهدي لكتابة الخطوط بالسبيل يعكس بأمر إنشائه وبذلها المال من أجل إتمامه في أجمل صورة، لأن هذا الخطاط الذائع الصيت كان يتلقى راتباً شهرياً مدى الحياة بأمر من السلطان عبد المجيد الأول وقدره 7500 قرش بعد قيامه بتنفيذ الكتابات التي ازدانت بها الأعمال المعمارية والتوسعات التي أمر بها السلطان العثماني في الحرم النبوي الشريف بالمدينة المنورة.
ويشبه السبيل في تصميمه العام بقية الأسبلة العثمانية، إذ يتكون من طابق تحت الأرض يضم صهريج الماء الذي كان يستخدم لتخزين المياه، وكان السقاؤون يحملونها من النيل في قرب الجلد وقت موسم الفيضان في شهر أغسطس لضمان الحصول عليها من أعماق لا توجد بها شوائب وللصهريج تغطية من قباب صغيرة بوسطها قطعة من الرخام تغلق على فتحة الصهريج وهي تعرف كما في الآبار باسم “الخرزة”.
ويلي ذلك الطابق الأرضي، وهو بمستوى أرض الطريق العام، وهو المعروف بحجرة التسبيل، وهي مثمنة الأضلاع، ولتلك الحجرة شبابيك عددها ثلاثة لتقديم الماء للمارة عبرها، وقد غشيت بمصبعات حديدية لها هيئة زخرفيه بديعة. وبصدر غرفة التسبيل دخلة عميقة بها لوح من الرخام يعرف باسم “الشاذروان”، وهو منقوش بزخارف بارزة لتحقيق فائدتين أولاهما تبريد المياه التي تمر من فوقه والثانية احتجاز أي شوائب قد تكون عالقة بها، ولذا كانت تتم عمليات نظافة يومية للشاذروان في أوقات التوقف عن تسبيل الماء بعد صلاة العشاء.
وفي الجزء الأسفل من الشاذروان لوح التسبيل الرخامي الذي تمر المياه من خلاله إلى أحواض الشرب ويتقدم كل حوض من الخارج لوح رخامي يدور مع شبابيك التسبيل حيث كانت توضع كيزان الشرب النحاسية. وكانت العادة تجري بأن تربط الكيزان من مقابضها بسلاسل طويلة نسبياً في المصبعات الحديدية للشبابيك، ويتناول المارة تلك الكيزان بعد أن يقوم “المزملاتي”، وهو المسؤول عن تقديم مياه الشرب للمارة بتعبئتها بالمياه من الأحواض، وقد يترك الأمر أحياناً للمارة كي يفعلوا ذلك بأنفسهم.
والمعروف أن مياه الشرب المقدمة من الأسبلة كانت تخلط بمواد تعطي عطراً خاصاً مثل ماء الورد أو ماء الزهر أو العنبر، وذلك للتغلب على أي عطن قد يلحق بها من جراء التخزين السنوي لمياه الشرب.
وبنبا قادن التي يعرفها المصريون باسم أم عباس لها مدفن خاص ضمن مقابر أسرة محمد علي الواقعة خلف ضريح الإمام الشافعي بالقاهرة.
خطاط أم عباس و «خوشيار هانم»
عبد الله زهدي الحاصل على لقب “بك”، عربي الأصل وهو ابن عبدالكريم النابلسي أفندي، من سلالة تميم الداري من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد هاجر مع أبيه من بلاد الشام في عام 1215هـ / 1835م. واستقر في كوتاهيه قرب استانبول، حيث أتقن كتابة خطي الثلث والنسخ وذاع صيته حتى استعان به السلطان عبد المجيد. وعقب قدومه إلى مصر لنقش كتابات سبيل أم عباس استقر بها وعمل بعد ذلك في خدمة الخديو إسماعيل. حيث قام بعمل الخطوط التي زخرفت بها جدران مسجد الرفاعي في حياة والدة الخديو “خوشيار هانم” التي شيد المسجد بأمر منها وقد توفي بمصر ودفن على مقربة من مقابر أسرة محمد علي بالإمام الشافعي.