بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله ربالعالمين وافضل الصلاة واتم التسليم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
خطبة للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
من اذى لي وليا
خطب الجمعة 06_7_1428هـ الموافق 2007-07-20
أما بعد: فيا عباد الله، تأملت في خطاب الله سبحانه وتعالى لعباده، فلم أجد فيه حرباً معلنة إلا على فئتين من الناس؛ الفئة الأولى: تلك التي لا تتقي الله سبحانه وتعالى في ابتعادها عن الربا الذي حرمه الله عز وجل، وتظل، على الرغم من تحذيرات الله لها، عاكفةً على ارتكاب هذا المحرم، وقد سبق أن تحدثنا عن هذه الفئة، وعن خطاب الله عز وجل الذي يتضمن إعلان الحرب عليها؛ يقول الله عز وجل: {يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 2/278-279]، أما الطائفة الثانية التي أعلن الباري سبحانه وتعالى الحرب عليها من خلال خطابه فهي تلك التي تصر على معاداة أولياء الله عز وجل؛ يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي، وهو خطاب من الله سبحانه وتعالى لعباده عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم : ((من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب)).
إذن هما فئتان لم أجد فئة ثالثة لهما، العاكفون على الربا، والمعرضون عن تحذيرات الله سبحانه وتعالى له، والذين يمعنون في إطالة ألسنتهم إيذاءً في حق أولياء الله سبحانه وتعالى. وخطاب الله سبحانه وتعالى في هذا الحديث القدسي ورد في حديث صحيح يرويه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة وغيره أيضاً: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) إلى آخر الحديث الطويل الذي سنذكر بعضاً منه بعد قليل.
وربما قال من الناس قائل: ولكنا لا نعلم أولياء الله سبحانه وتعالى، ومن ثَم فإن الإنسان في حِل من أن يمد لسان الأذى إلى أناس لا يرى فيهم دلائل الولاية، بل لا يرى فيهم دلائل الصلاح فضلاً عن الولاية. هنالك من يجعل هذا الكلام اعتذاراً له، ولكن هذا الذي يقوله بعض الناس هو الذي يستوجب أن يكف هؤلاء ألسنتهم عن الخوض في إيذاء عباد الله سبحانه وتعالى الذين يمكن أن يكونوا من الأولياء الصالحين المقربين إلى الله عز وجل. ما دمت لا تعلم أن هذا الذي تطيل لسانك بالإيذاء في حقه لا تعلم هويته، ولا تعلم أهو من أولياء الله أم لا، إذن فأنت تفترض أنه ربما كان من أولياء الله ولا تعلم، ما الذي تقتضيه مخافتك من الله؟ وما الذي تستلزمه الحيطة أمام قول الله عز وجل في الحديث القدسي: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب))؟ عندما تتوجس خيفة من شيء تبتعد عنه؛ لأن الحيطةَ تقتضي ذلك، عندما تريد أن تسير في طريق وأنت تفترض أن هذا الطريق فيه مخاطر ربما كانت هذه المخاطر أو وجودُها بنسبة عشرين أو عشرة في المئة، فإن العقل يفرض عليك أن تبتعد عن هذا الطريق، لا أن توغل فيه.
فيا عجباً لأناس هم من أبناء جلدتنا، وهم يتجملون بالإسلام وكلماته وشعاراته لا تجد شيئاً يلتذون به ويستمرئونه ويبعث النشوة لديهم في رؤوسهم أو نفوسهم كقالة السوء عندما تمتد ألسنتهم بها، في حق من؟ لا في حق الفاسقين، لا في حق الطالحين، لا في حق الذين أعلنوا الحرب على دين الله عز وجل أو على شرائعه، لا. بل هم في شغل شاغل عن هؤلاء الناس، وإنما يطيلون ألسنتهم بقالة السوء عن أناس هم في الظاهر من عباد الله الصالحين، هم في الظاهر من عباد الله المتمسكين بشرائعه ومبادئه وآدابه، هؤلاء هم الذين يطيلون ألسنتهم في حقهم دون أن يرعوي الواحد منهم عن ذلك، ودون أن يقيم وزناً لهذا الذي يقوله الله جل جلاله: ((من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)). أموقن أنت أن هذا الذي تنتقصه وتؤذيه وتمزق سمعته بجهدك بكل الوسائل التي تمتلكها بين الناس، أموقن أنت أنه ليس ممن قد أحبهم الله عز وجل؟ أموقن أنت أنه ليس من أولياء الله سبحانه وتعالى؟ ما السبب تُرى في أن هؤلاء الناس - وهم موجودون بين ظهرانينا - يُعَرِّضون أنفسهم لحرب معلنة من الله عز وجل عليهم، وهم في الظاهر غيارى على الإسلام، وهم في الظاهر لا يطيلون ألسنتهم في قالة السوء في حق هؤلاء الصالحين إلا لأنهم في الظاهر غيارى على دين الله سبحانه وتعالى. لكن ما الذي يجعلهم تائهين عن هذا التحذير الخطير الذي نقرؤه ونسمعه من كلام الله عز وجل؟ لعل السبب يا عباد الله - ولا أعلم سبباً آخر له - أن هؤلاء الناس إنما تقودهم أمزجتهم فيما يتكلمون وفيما يقولون وفيما يفعلون، ليس الذي يقودهم في كلماتهم التي ينطقون بها ولا في سلوكاتهم التي يصطبغون بها ليس الذي يدفعهم إلى ذلك انضباطاً بأوامر الله عز وجل وتمسكاً بأوامر الله عز وجل وانتهاءً عن نواهيه÷ ولكنه هاجسٌ نفسي ومزاجٌ داخلي هما اللذان يقودان هؤلاء الناس إلى السلوك الذي يسلكونه، وإلى الكلمات التي يقولونها، وإلى مواقفهم من عباد الله سبحانه وتعالى، وإذا تحكَّم المزاج بكيان الإنسان المسلم أودى به إلى الهلاك لاشك في هذا ولا ريب.
أولاً ينبغي أن يعلم كل مسلم - فضلاً عن الإنسان الذي يتظاهر بالغيرة على دين الله - أن الغيبة من المحرمات التي قرر جُل العلماء أنها من الكبائر. ونحن جميعاً نقرأ قول الله عز وجل: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 49/12] هذا بقطع النظر عن الشخص الذي أغتابه أياً كان. ولقد فتح البيان الإلهي السبيل للغيارى على الإسلام وشرائعه فيما يقولون فتح لهم سبيلاً آخر إلى ذلك يغنيهم عن مجالس الغيبة، يغنيهم عن إشفاء الغليل استجابة للأمزجة والهواجس النفسية، أن يطرق أحدنا باب هذا الإنسان الذي تراه قد ارتكب إثماً أو شرد عن أمر من الأمور تطرق بابه، تدخل إليه، ترحب به، ويرحب بك، تعلن عن غيرتك عليه ومودتك له، ثم تحدثه عن هذا المنكر الذي ظننت أنه قد ارتكبه، ربنا سبحانه وتعالى فتح لنا طريقاً نؤجر فيه بدلاً عن الطريق الآخر الذي نرتكب فيه محرماً، الشأن فيه المسألة التي تحدثنا فيها قبل أسبوع أو أسبوعين عندما حرم الله الربا وأغلق بابه، فتح لك باباً آخر إلى الغاية الاقتصادية التي تنشدها، لا ترتكب في سيرك إلى تلك الغاية أي محرم، كذلك.. أأنت تغار على دين الله حقاً ومن ثم تريد أن يقلع هذا الإنسان عن منكر تصورت أنه منكر؟ إذن فليس السبيل إلى ذلك أن تجلس مجلساً تغتاب فيه هذا الإنسان، ثم أن تستبدل به مجلساً ثانياً فثالثاً فرابعاً وكلما وُجِدتَ في مكان شفيت غليلك بالحديث عن هذا الإنسان بحجة أنك تغار على شريعة الله، السبيل المفتوح الذي شرعه الله لك أن تذهب إليه، وأن تجلس إليه، وأن تحدثه وتحاوره، فإما أن يتبين أنك محق فيما تقول ولسوف تجد أن هذا الإنسان قد رجع إلى الصواب، وإما أن تجد أو أن تكتشف أنك مخطئ فيما تصورت، وعندئذ ستعود أنت إلى جادة الصواب.
لكن المصيبة التي حاقت بنا والتي يفيض بها مجتمعنا الإسلامي ما تراه من كثير من الناس، يرتدون أقنعة الغيرة على الإسلام، ثم إنهم آذانٌ صاغية إلى الناس، يلتقطون من هذا وهذا وذاك ما يحسبونه ابتعاداً عن أوامر الله وشروداً عن ميزان شريعة الله عز وجل، ثم إنهم يجعلون من هذا الذي التقطوه أعزوفة بل معزوفة يتغنون بها أينما وُجدوا وحيثما جلسوا، إلا أن يجلسوا إلى هذا الإنسان ذاته، فلا يعرفون عندئذ إلا الصمت، هذا إن وقعوا فيما يفرون من الجلوس إليه، أما في أغلب الأحيان فهم يفرون من هذا الإنسان الذي يوغلون في الحديث عنه، وفي إيذائه، وفي تمزيق عرضه على أسماع الناس. أليس هؤلاء الناس مؤمنين بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثير منهم يعكفون على دراسة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ألا تسري مخافة الله عز وجل في قلوبهم من هذه الحرب المعلنة من الله على هؤلاء الناس؟ ((من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)).
يتبع ...........