الإخلاص هو الذي ننشده اليوم
خطب أ.د. محمد سعيد رمضان البوطي
الإخلاص هو الذي ننشده اليوم
تاريخ الخطبة
الجمعة، 06 جمادى الثانية، 1433 الموافق 27/04/2012
الإخلاص هو الذي ننشده اليوم
استماع
تحميل
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:
إن الله لا ينظر إلى صور الطاعات والعبادات والأعمال الصالحة إذ تتجلى في مظاهر عباده المؤمنين وإنما ينظر الباري سبحانه وتعالى إلى جذور هذه الأعمال والطاعات، ينظر إلى جذورها المستكنة في طوايا القلوب والتي تمثل القصود التي دفعت أصحاب تلك الأعمال إلى تنفيذ ما فعلوا، هذا ما ينظر إليه ربنا سبحانه وتعالى، فإن علم أن القصد المستكن في طوايا قلب هذا الإنسان العامل المقبل على الطاعات وعلى الأعمال الصالحة إنما يتمثل في استنزال رضا الله سبحانه وتعالى من عليائه صافياً عن الشوائب، نقياً عن الأدران، خالياً عن الأهداف والرغائب الأخرى، حقق الله له ثمرات أعماله في الدنيا وأجزل له الأجر على ذلك في العقبى يوم يقوم الناس لرب العالمين، وأما إن علم الله عز وجل أن بواعثه وقصوده المستكنة في طوايا قلبه إنما تتمثل برغائب دنيوية، بمال يريد أن يقتنصه، بمناصب يريد أن يمتطي السُّلَّمَ إليها، بأهداف سياسية يريد أن ينالها فإن الله عز وجل يمحو أعمالها كلها ويجعله مصداق قوله سبحانه:
(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً) [الفرقان: 23].
وهذا الذي أقوله لكم هو الذي يعبر عنه البيان الإلهي في كثير من آي كتابه المبين بالإخلاص، من مثل قوله:
(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء) [البينة: 5].
والآيات التي تقرن الدين سلوكاً بالإخلاص قصداً آيات كثيرةٌ في كتاب الله عز وجل:
(فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [غافر: 14].
ودعوني يا عباد الله أضعكم أمام طائفة من الأمثلة تفرق بين الإخلاص المستكن في طوايا القلوب والذي يطلع عليه مولانا وخالقنا عز وجل ذاك الذي يعلم السر وأخفى، تعالوا نستعرض طائفة من الأمثلة تبين لنا الفرق بين هاتين الحالتين، رجل مدين وقد حان وقت السداد، نظر فوجد الدائن يقبل إليه من بعيد، ترك محله وهُرِعَ إلى أقرب مسجد وراح يمارس سلسلة من النوافل يصليها ابتغاء أن يتخلص من الدائن الذي حان وقت سداده، والرجل مليء يستطيع أن يوفي حقه، هذه عبادة، أفينظر مولانا وخالقنا إلى مظهرها أم ينظر إلى الجذور المستكنة في طوايا نفس المصلي؟ ينظر إلى الجذور، ولذلك فإن هذا العمل عبادة في الظاهر لكنه ليس كذلك في ميزان الخالق سبحانه وتعالى. عامل في معمل – يشتغل في معمل – أذن للظهر، ترك عمله واعتبر أنه متجه إلى أداء صلاة الظهر – وذلك حق بل واجب – أقبل إلى الميضئة فأطال الوضوء ما طاب له أن يطيل ثم أقبل إلى الصلاة فأطالها ركعات وركعات، ولما انتهى انتحى مكاناً ظليلاً وراح يقرأ ما يشاء من الأوراد، وربما يقرأ بعضاً من القرآن، هذا العمل في الظاهر عباده لكن أفينظر الله عز وجل إلى صورتها أم ينظر إلى القصد المستكن في أعمال فاعلها؟ مولانا يعلم السر وأخفى، ينظر إلى القصد المستكن من ثم فإن هذا الإنسان لا يُجزى لا الجزاء الأوفى ولا دون الأوفى، ولعله ممن يصدق عليه قول الله عز وجل:
(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً) [الفرقان: 23].
رجل من هؤلاء الناس الذين تعلقت الهواية السياسية بأنفسهم، يريد أن يسلك أي سبيل للوصول إلى أهدافه السياسية، نظر فوجد أن الناس من حوله يتأثرون بالعاطفة الدينية وأن جلهم ملتزمون يُؤخذون بحديث الدين والدعوة إلى الدين والحديث عن مشاريع تطبيق القيم والمبادئ الإسلامية، يتخذ من عواطف هؤلاء الناس أقصر طريق إلى ما يبتغي ويتخذ من حديثه معهم ووعوده لهم سلماً ليصل إلى ما يبتغيه من أهدافه السياسية، هذا الإنسان لاشك أنه في مظهره داعٍ إلى الله يتحدث عن أوامر الله ويحذر عن نواهيه ويظهر الغيرة على حرمات الله ولكن أفينظر الله عز وجل إلى كلماته وإلى صورته وأعماله؟ لا بل ينظر إلى القصد المستكن في طوايا قلبه. أأزيدكم على هذه الأمثلة أيها الإخوة؟ أحسب أننا جميعاً نعلم الفرق بين الصورتين، الإخلاص لله سبحانه وتعالى هو الروح الذي إن وجد سرت في الأعمال الصالحة والعبادات والمبرات كلها، ورحم الله ابن عطاء الله السكندري القائل: الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها.
ولعلكم تسألون: فما السبيل إلى أن نطهر قلوبنا من الشوائب والأدران والأهداف المنافية للإخلاص؟ ما السبيل إلى أننا إن أقبلنا إلى الله عز وجل لا نخلط قصدنا إليه بفائدة دنيوية، برغبة من رغائب النفس، بشهوة من شهوات أهوائها؟ السبيل إلى ذلك يا عباد الله أن نوقظ مشاعر محبتنا لله عز وجل، وأقولها باختصار أولاً: إذا هيمنت محبة الله عز وجل على قلب المؤمن طردت هذه المحبة من قلبه كل ما سوى الله، طردت من قلبه الدنيا، طردت من قلبه المال والدرهم والدينار، طردت من قلبه أهدافه السياسية التي يبتغي إليها وأصر على أن يجعل السياسة خادماً لدين الله لا أن يجعل من الدين خادماً للسياسة. ولكن كأني بكم تسألون فكيف السبيل إلى أن نوقظ محبتنا لله عز وجل بين الجوانح؟ أقول أيها الإخوة باختصار – وهذا ما أدعو إليه نفسي، وهذا ما أعالج به نفسي الأمارة بالسوء – سبيل ذلك أن نربط دائماً النعم التي تفد إلينا من الله بالمنعم، وأنتم تعلمون أنه ما من لحظة في حياة الإنسان إلا وهو يستقبل نعمة وفدت إليه من رب العالمين، كلكم يعلم أنه في كل لحظة من لحظات أعمارنا نستقبل رسائل الحب من الله عز وجل ممثلة في هذه النعم، المصيبة أننا إذ نستقبل هذه النعم نجعل منها حجاباً دون رؤية المنعم، نذكر النعمة وننسى المنعم، لا نذكره، سبيلنا إلى إيقاظ جذوة المحبة لله بين جوانحنا أن نربط نعم الباري سبحانه وتعالى بذاته العلية، دعوني أضعكم أمام صورة، وأرجو أن تكون هذه الصورة نموذجاً نطبقه، جاء وقت المساء وجاءت ساعة الامتداد على الفراش لأرقد وتمددت على الفراش أستقبل نعمة الرقاد، ينبغي أن أتذكر هذه النعمة من أين تأتي، من الذي يرسلها إلي لتهدأ أعصابي بعد تعب وبعد شدة؟ هو الله، أربط هذه النعمة بالمنعم، وأقول بين يدي رقادي ما كان يقول رسول الله ولا أطيل. واستيقظت وعادت الراحة وعاد النشاط إلى الجسم، من الذي أيقظني يا أخي؟ من الذي أعادني إلى هذه الحياة التي كنت أتمتع بها؟ هو الله، تذكر ذلك، قل: الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور.
دخلت الحمام، اذكر من الذي ينجيك من هذه السموم، من الذي يطهرك لا منها بل من عقابيلها أيضاً، من؟ هو الله عز وجل أليس كذلك. خرجت من الحمام ووقفت أمام الميضأة، نظرت إلى هذه المادة العجيبة التي تسمى الماء، لو كان لها لون، لو كانت لها رائحة لما استطاعت أن تنفذ مهمتها وخدمتها لك، ولكن انظر إلى حقيقتها وإلى الصفات التي أقامها الله فيها لكي تكون أداة لتطهيرك، لو حرمت من هذا الماء ثمانياً وأربعين ساعة ستتألم ولسوف تتقزز من نفسك.
جلست على مائدة الطعام، انظر إلى هذا الطعام ألواناً من أين انبعثت هذه الألوان، من السماء التي أمطرت ومن الأرض التي أنبتت ومن الأنعام ضروعاً وألباناً ولحوماً، هل هنالك مهما تفنن الناس في الأطعمة مصدر آخر؟ من أين جاءت هذه الأطعمة ووضعت بين يديك، من الذي سخر لك سماءه التي أمطرت وأرضه التي أنبتت، من الذي سخر لك الأنعام لحوماً وألباناً؟ إنه الله، اذكر، كلما جاءتك نعمة اربطها بالمنعم.
وقفت أمام المرآة وتأملت في العافية التي يكرمك الله عز وجل بها اربطها بالمنعم.
أيها الإخوة: والله الذي لا إله إلا هو إن لم تمسخ إنسانية الإنسان إلى شيء آخر وعاش يربط النعم بالمنعم لسوف يعشق الله سبحانه وتعالى. فإذا تفجرت مشاعر حبك لله بين جوانحك بهذه الطريقة التي هي أبسط وأيسر طريقة لذكر الله سبحانه وتعالى فإن قلبك يصبح ملكاً لمولاك وخالقك وإن محبة الله تهيمن على قلبك، من هذا الذي يستطيع أن يتسرب إلى قلبك ليشاركك في محبة الله؟ لا الدنيا تستطيع ذلك ولا أهدافك السياسية تستطيع سبيلاً إلى ذلك نهائياً، هذه هي الحقيقة وهذا هو الدواء يا عباد الله. مشكلاتنا كلها تحل، مصائبنا كلها تزول، يعود فيجتمع الشمل، نعم تزول الخصومات بهذا الدواء الذي أقوله لكم، بهذا الدواء الذي أحدثكم عنه، لكن يا أيها الإخوة إن مصيبة المصائب أننا نتعامل مع الشرائع الشكلية التي خاطبنا الله عز وجل بها ولكننا لا نتعامل مع الجذور، لا نتعامل مع القصود، لا نراقب أنفسنا، أفنقصد فيما نسلك إليه مرضاة الله؟ أفنهدف في أعمالنا المختلفة المتنوعة استنزال رضا الله سبحانه وتعالى؟ تلك هي المصيبة. وأحسب أن كثيراً من المسلمين اليوم يتعاملون مع الله عز وجل من خلال شعارات الإسلام، يتعاملون مع الله عز وجل من خلال التقاليد التي تسمى عبادات، هي ليست عبادات وإن كانت في أصلها عبادات لها جذور في القلب، نعم، ومن هنا رأينا من يغير ويبدل في شرع الله عز وجل، من هنا رأينا من يجعل من عملية الفتوى أداة خادماً ذليلاً للمصالح السياسية، للألوان السياسية المتقلبة. ألا ترون. من هنا ننظر فنجد هنالك من يتلاعب بشرع الله كما يتلاعب هؤلاء الرياضيون بالكرة ويتقاذفونها فيما بينهم، لست مبالغاً.
بالأمس في عام 2006 بالضبط وفي شهر آب بالضبط أحد الدعاة الكبار قام يتكلم في مؤتمر وفي مناسبة قام فقال: إن على حكام المسلمين وملوكهم في أقطار الأرض كلها أن يطهروا فلسطين من بحرها إلى نهرها من اليهود، واليوم أسمعه وأمثاله يقول: إن إسرائيل أصبحت حقيقة واقعة ومن ثم فإن علينا أن نعالج هذه المشكلة على ضوء كونها أمراً واقعاً.
أنظر فأجد من يفتي بالأمس بحرمة الربا بأشكاله التي حرمها الله عز وجل وأسمعه وأمثاله اليوم وإذا بهم يقولون: بل إن الحرمة زالت وأصبح المحرم بالأمس مباحاً اليوم. ما المصيبة أيها الأخوة؟ مصيبة هذا الذي أقوله لكم. لو أن الإخلاص وجد لاسترحنا جميعاً، ولن يوجد الإخلاص إلا إذا هيمنت محبة الله على قلوبنا، لو هيمنت هذه المحبة على قلوبنا لرأينا الأسرة الإنسانية تحولت إلى مثالٍ عالٍ عالٍ لقول الله عز وجل:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات: 10].
إذاً لن نجد من يغمض عينيه عن قول الله عز وجل:
(وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [النساء: 93].
لن نجد أيها الإخوة من يغمض عينيه عن كلام رسول الله القائل: (من خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فليس مني).
ترى لو أن محبة الله عز وجل هيمنت على قلوبنا أفنعمي أبصارنا عن كلام رسول الله هذا وهو حديث صحيح لا إشكال فيه؟ أفنعمي أبصارنا عن كلام الله هذا وبدلاً من أن ننغض الرأس لننفذ شرع الله عز وجل نرسل المال ونرسل الأسلحة ونجند المرتزقة ونقول لهم اضربوا عن يمين وشمال ودون أي ضابط ودون أي نظر إلى شرع الله وميزانه.
الإخلاص يا عباد الله هو الذي ننشده اليوم وأسأل الله عز وجل ألا يميتنا إلا ونعمة الإخلاص مهيمنة على قلوبنا حتى نجد من هذا الإخلاص شفيعاً لنا إذا وقفنا بين يديه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
__________________
اللهم يا من جعلت الصلاة على النبي قربة من القربات نتقرب اليك
بكل صلاة صليت عليه من اول النشأة الى ما لا نهاية الكمالات
التعديل الأخير تم بواسطة عبدالقادر حمود ; 04-29-2012 الساعة 12:33 AM