جرح غزة
أثار العنف المدمر الذي سلكه اليهود في محاولتهم اجتثاث المقاومة شجوناً أليمة في نفوس المؤمنين ، بل والشرفاء في العالم كله ، وهذا الجرح الذي مسَّ جسد المؤمنين هو في ظاهره شرٌّ ، إلا أن المؤمن ينظر في المصائب التي تنزل به نظرة إيجابية تحولها إلى عبر ودروس تزيد في فوائدها وثمراتها على ما رزأته تلك المصائب من نكبات وشرور ، وإن حال المؤمن كله له خير وليس ذلك إلا للمؤمن كما ورد في الحديث الشريف .
وإن القرآن الكريم حينما خلَّد وقائع وشدائد نزلت بالمؤمنين وأبرزها ما نزل بهم يوم أحد ، ليعطي المؤمن الضياء الذي يبدد به ظلمات القنوط واليأس ، فلقد تحولت انتصارات المسلمين في أول النهار إلى هزيمة ، وهُددت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسالت دماء الشهداء - لاسيما أسد الإسلام حمزة بن عبد المطلب - غزيرة ، ومن شأن واقعة كهذه هي الثانية في المواجهات بينهم وبين قريش أن توجَِّه ضربة قوية إلى معنوياتهم ، ولكن القرآن الحكيم عالج هذه المصيبة بدوائه ، وعزَّى المسلمين في حزنهم قائلاً لهم : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ، إن يمسسكم قرحٌ فقد مسَّ القومَ قرحٌ مثله ، وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحبُّ الظالمين ) . فأول عبارة : تشجع المؤمن بأنه سيعلو لأنه رجلُ قيمٍ وعلى حق ، والحق يعلو ولا يُعلى عليه ، فلا ييأس المؤمن من التغلب على هذه الأزمة .
والعبارة الثانية : تؤكد له أنه ليس الوحيد المصاب ، بل عدوه أيضاً مصاب ، والحياة الدنيا ليست دار كمال وخلوٍ من المصائب .
والعبارة الثالثة : تشير إلى أن النصر إن كان للأعداء اليوم فهو غداً للمؤمنين ، فما هي مصيبة دائمة بل تتحول بالصبر والثبات إلى نصر وقد قيل : للباطل جولة ولكن للحق الدولة .
والعبارة الرابعة : إن هذه الشدائد تفرز الصادق من الكاذب ، والمؤمن الحق من المنافق ، وفعلاً فقد كشفت عن منافقين قالوا لو نعلم قتلاً لاتبعناكم ثم انسحبوا قبل المعركة .
والعبارة الخامسة : إن كثيراً ممن تمنوا الشهادة كانوا يترقبون مثل تلك العبادة على أحر من الجمر وشاء الله أن يمنحهم هذا الشرف .
والعبارة السادسة : إن الله عز وجل بيده الأمر ، وإدالته المجرمين على المؤمنين ليس لمحبته لهم بل محبته هي للمؤمنين ، ولكن للأسباب الخمسة المتقدمة الذكر كان ما كان ، ونلاحظ أن هذه العبارة لو أتت في البداية لما أحدثت أثرها المطلوب ، ولكن بعد تقديم الحجج الخمسة قبلها أصابت المطلوب .
ولنأتِ على مصيبة غزة وأهل غزة
فأول عبارة : تنطبق على حالهم ، فالدمار الهائل والخسائر البشرية الكبيرة ، كلها ستُعوَّض ، والحال المستقبلة ستكون أحسن ، والجيل القادم عاش ولمس بنفسه ظلم الظالمين ، ولم يعد من السهل خداعه بدعاوى السلام وتحضر الغرب ، ولو تفكرنا في ما يحدث من كوارث طبيعية من زلازل وفيضانات لوجدنا خسائر مثلها وأشد على الصعيدين المالي والإنساني ، ولكن أين تلك من هذه في فوائدها المعنوية.
العبارة الثانية : أيضاً منطبقة ، فاليهود أصابهم الهلع وانتابهم الضيق ، وإن الاستمرار في إزعاجهم ضروري لوقف الهجرة وتحجيم الاستيطان وإشعار اليهود بأنهم مغتصبون دخلاء ، غير مرغوب بهم في المحيط العربي من حولهم .
العبارة الثالثة : إنها تبشر المؤمنين بتحول ، ولكن هذا التحول يتم إذا ساروا في طريق الإعداد الجدي للنصر ، فحشدوا القوى وتجاوزوا نقاط الضعف وسدوا الثغرات .
والعبارة الرابعة : لم نجد كهذه المناسبة فرزاً لأنصار الغرب ومحبيه من الأحرار والشرفاء ، فالأوائل عذلوا المقاومة وحمَّلوها المسؤولية ، والآخرين أدانوا المجرمين الحقيقيين .
والعبارة الخامسة : تحققت حيث سمعنا ببعض القيادات المقاومة كانت تطلب الشهادة ونالتها فعلاً .
والعبارة السادسة : فيها أيضاً مواساة لنا ، فقد كنا نتألم حينما نجد الآلة الحربية المتقدمة من الأسلحة الثقيلة ، وشبكة الاتصالات المتطورة التي كانت تصوِّر وتنقل المعلومات ، وتنسق بين الأسلحة المختلفة ، فقد أهمَّنا ذلك الأمر وأضرَّ بنا ولكن ... أحبُّ أن أتوقف وقفة بسيطة أمام النقطة الأخيرة ، وحيث أن الغرب في الآونة الأخيرة يفرض حظراً على توريد الأسلحة للدول التي لا تسير في فلَكه أو يخشى أن تستخدم في معاكسة مصالحه ، فهل هذا الوضع جبري لا انفكاك منه كما سَيرانُ الكواكب في أفلاكها ، وهبْ ذلك فهل كُتب علينا أن نبقى تحت رحمة هذه الآلة الحربية التي تحمل لنا الأذى الموجع وتردع الكثيرين من الضعفاء عن مجرد التفكير في المطالبة بحقوقهم ومغالبة الظالمين ، إننا لوعدنا إلى تاريخنا الإسلامي لاستطعنا أن نجد حلاً لهذه المشكلة ، علماً أن هذا لا يمنع من الاستفادة من تجارب أمم أخرى في مثل تلك الحالات ، والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها وكان أحق بها وأهلها .
إن الدروع والحديد كانت متوفرة للروم وللصليبيين في الوقت الذي كان جيش المسلمين خفيف التسليح ، إلا أن سرعة الحركة والقدرة على المناورة كان في مقابل فائدة الدروع التي لها سيئة بطء الحركة ومحدودية المناورة ، فلك الميزة عادلت ذلك التفوق ، فالرسول صلى الله عليه وسلم أكد أن الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، ومازالت حروب العصابات التي تحتوي على الكر والفر وتعتمد على سرعة الانتقال أهمَّ رداء لمقابلة الجيوش ذات القوة الغاشمة والتفوق المادي ، ثم إن العلوم الالكترونية الحديثة أفادت متقنيها فوائد عديدة إذا أرادوا الإفادة منها في الجهود القتالية ، فإيجاد أنظمة اتصالات اعتماداً على الأدوات الالكترونية الخفيفة التي توفرت الآن لكل الناس ، والهواتف النقالة وميزاتها ، والبرمجة الالكترونية وتطبيقاتها سواء في التخطيط أو التعمية أو الاختراق أو تأمين البدائل الإعلامية الضرورية للحفاظ على الروح المعنوية أثبتت نجاعتها في حرب لبنان الأخيرة .
وما على المؤمنين إذا صدقت نيتهم إلا أن يختاروا المتفوقين فيها ويفرغونهم ليعدوا للمعركة القادمة عدتها ، وليكن لنا عبرة بالوسائل التي تفتقت عنها أذهان المقاومين تحت الحصار لابتكار قذائف ووقود وتطوير بدائل جعلت العالم يتعجب من بقاء المحَاصرين على هذا المستوى المادي المتدني على قيد الحياة فضلاً عن معنوياتهم المصرة على المقاومة ومجابهة العدو ، علماً بأنه يجب ألا نتكاسل عن محاولة ولوج التصنيع الحربي الثقيل ، وقد كان لنا أسوة في باكستان التي لما أحسَّت أن الهند قد امتلكت القدرة النووية قامت بجهد مكثف ، وأوفدت علماءها وتجارها فجابوا البلاد وأحضروا المواد اللازمة ، وما راع اليهود إلا وباكستان تجري تجاربها على أول قنبلة نووية ، حيث ثبت أن طائرات من عندهم كانت تراقب الآفاق حيث أجريت تلك التجارب ، ومن المهم أيضا إيجاد بنية صناعية تحتية عموماً لأنها بيئة ضرورية لقيام صناعات تسليح ثقيل يعوِّض قدر الإمكان ما عند المسلمين من نقص في هذا لمجال ، ولكن لو فرضنا استحالة ذلك لما يئسنا من التعويض عنه ، وبمناسبة مقارنتنا لقضية العدوان اليهودي مع العدوان الصليبي في الأيام الغابرة ، لا بد من استذكار حقيقة هامة وهي أن صف المسلمين كان متوحداً عندما خاض المعركة الفاصلة في حطين وكان قبل ذلك مشرذماً ومتفرقاً ، ولكن صلاح الدين وسلفه نور الدين سارا في خطة توحيدية جمعت القوى ونفت الفرقة ، وكذلك في غزوة أحد كان انشقاق المنافقين قبل الغزوة وعودتهم عنها خيراً لهم من وجودهم بينهم كما قال تعالى ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سمَّاعون لهم ) ينبغي أن نتوقف طويلاً عند هذا الدرس ، فوجود فئة من المعادين للمقاومة من أبناء جلدتنا الذين تربطهم بنا روابط عشائرية أو قومية أو مصلحية تجعلنا نسَّمع لهم ، كما تؤثر دعايتهم غير البريئة فينا ، وتوهن صفنا وتخذل جهودنا أمرٌ طبيعي ، لقد كانوا أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وما منعوه أن بناجز اليهود ، وكانوا يتولونهم ، وان يقضي على تجمعاتهم الواحدة تلو الأخرى ، ويعاقبهم على خياناتهم ونقضهم مواثيقهم .
إذا لم نستطع حل مسألة وحدة الصف الوطني حلاً يوفق بين مصانعة أبناء جلدتنا وعدم انخداعنا بما يسربه العدو لنا عبرهم من تخذيل أو تجسس أو تقييد ، فإن مزيداً من التضحيات سيتوجب تقديمها ، وليس فقط ذلك بل إن استشراف النصر في مثل تلك الظروف سيكون ضئيل التوقع ، وهذا يقتضي بذل جهد معنوي ونفسي هو جزء من الجهاد بمعناه الأوسع .
...............................................
بقلم الأستاذ مأمون جويجاتي
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات