جعفر بن أبي طالب . . أنطقه الإيمان فأسلم النجاشي
لله تبارك وتعالى عباد اختصهم بمحبته وعبادته فلما أحبهم أحبوه . ولما أحبوه وضع لهم القبول في قلوب العباد ووصفهم بأجمل الأوصاف وأروعها وقال عنهم سبحانه وتعالى: “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا” وكان من هؤلاء جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
تولى تربيته عمه العباس لما ضاقت المعيشة وكثر الأولاد في بيت أبي طالب، وقد تفتح قلبه وعقله على دعوة الإسلام فأسلم قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، فلما كثر أذى المشركين على المسلمين هاجر جعفر ومعه المسلمون إلى الحبشة، وتزعم الوفد المهاجر أمام نجاشي الحبشة فناقش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد أمام النجاشي، وتغلب عليهما بقوة حجته ودليله وفصاحته .
فلقد جمعت قريش هدايا للنجاشي حتى يسلّم المسلمين لعمرو وجلس عمرو بن العاص عن يمين النجاشي وعمارة بن الوليد على يساره ويروي هذا الحوار الإمام أبو نعيم في كتابه “حلية الأولياء” .
يقول ابن سعد في طبقاته: لما دخل المسلمون وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب على النجاشي قيل لهم: أسجدوا للملك، فقال جعفر: لا نسجد إلا لله، فقال عمرو وعمارة: إنهم لا يسجدون لك .
ثم قال لهم من عنده من القسيسين والرهبان: اسجدوا للملك .
فقال جعفر: لا نسجد إلا لله عز وجل .
فلما وصلوا إلى النجاشي قال: ما منعك أن تسجد؟ قال: لا نسجد إلا لله .
فقال له النجاشي: وما ذاك؟ قال: إن الله بعث فينا رسولاً، وهو الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام من بعده، اسمه أحمد، فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر .
فأعجب النجاشي بقوله .
فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال: أصلح الله الملك، إنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم .
فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبكم في ابن مريم؟ .
قال: يقول فيه قول الله: هو روح الله وكلمته، أخرجه من العذراء البتول التى لم يقربها بشر .
فتناول النجاشي عودا من الأرض فرفعه فقال: “يا معشر القسيسين والرهبان: ما يزيد هؤلاء على ما نقول في ابن مريم ولا وزن هذه، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبل نعليه، امكثوا في أرضي ما شئتم” . وأمر لهم بطعام وكسوة، وقال: ردوا على هذين هديتهما .
وهكذا أسلم ملك الحبشة على يد جعفر وتبعه قومه في إسلامه فعم الخير والفضل في الإسلام .
قدم جعفر من الحبشة على رسول الله في المدينة وكان رسول الله قد فتح الله عليه خيبر فلما رأى جعفر قال “ما أدري أنا بأيهما أسر أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر”، وقام إليه واعتنقه وقبله بين عينيه وجلس جعفر مع رسول الله ومع الصحابة يرتشف معهم من رحيق الإيمان ما ينير الفؤاد ويعمق الإيمان في الروح، إلى أن دعا داعي الجهاد في سبيل الله لغزوة من الغزوات التي أراد بها رسول الله رفع كلمة التوحيد وهي غزوة مؤتة وكانت في شهر جمادى الأولى في السنة الثامنة من الهجرة النبوية، والتي جعل فيها رسول الله زيدا بن حارثة على رأس جيش المسلمين الذي يتكون من ثلاثة آلاف جندي كل جندي فيهم جعله الله كالجبل لا يفزعه شيء ولا يخاف من شيء لأن قلوبهم امتلأت يقينا بالله، وخرجوا جميعا بعد أن ودعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واتجهوا إلى أرض البلقاء في أرض الشام لمواجهة جيش الروم الذين هددوا بمحو الإسلام والمسلمين، ورتب رسول الله صلى الله عليه وسلم القيادة إذا استشهد زيد بن حارثة لجعفر بن أبي طالب ثم لعبد الله بن رواحة، فعن عروة بن الزبير قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثة إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثماني واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس .
يقول ابن إسحاق في سيرته: التقى الناس فاقتتلوا فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل القوم حتى قتل فكان جعفر أول المسلمين عقرا في الإسلام وأنشد يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها
طيبة بارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
كافرة بعيدة أنسابها
يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقد شهد غزوة مؤتة: كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى ووجدنا في جسده بضعا وتسعين طعنة من ضربة ورمية، وأنبأ الله نبيه بخبر جعفر بن أبي طالب: أخذ الراية جعفر فقاتل بها حتى قتل وسالت عيناه بالدموع والحنين والاشتياق إلى جعفر بن أبي طالب . لقد مكن الله بمحبته في قلبه لله وللرسول مكانا له في أعلى درجات الجنان فالمرء يحشر مع من يحب، رضي الله عنه وأرضاه .
__________________