وأما ما الطريقة الأخرى في حب النساء فإنهن محال الانفعال والتكوين لظهور أعيان الأمثال فيك كل نوع ولا شكل أن الله ما أحب أعيان العالم في حال العالم في حال عدم العالم إلا لكون تلك الأعيان محل الانفعال فلما توجه عيها من كونه مريد أقال لها كن فكانت فظهر ملكه بها في الوجود وأعطت تلك الأعيان لله حقه في ألوهيته فكان إلهاً فعبدته تعالى بجميع الأسماء بالحال سواء علمت تلك الأسماء أو لم تعلمها فما بقي اسم لله إلا والعبد قد قام فيه بصورته وحاله وإن لم يعلم نتيجة ذلك الاسم وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه بأسماء الله (
أو استأثرت به في علم غيبك أو علمته أحداً من خلقك ) يعنى من أسمائه أن يعرف عينه حتى يفصله من غيره علماً فإن كثيراً من الأمور في الإنسان بالصورة والحال ولا يعلم بها ويعلم الله منه أن ذلك فيه فإذا أحب المرأة لما ذكرناه فقد رده حبها إلى الله تعالى فكانت نعمة الفتنة في حقه فأحبه الله برجعته إليه تعالى في حبه إياها0
وأما تعلقه بامرأة خاصة في ذلك دون غيرها وإن كانت هذه الحقائق التي ذكرناها سارية في كل امرأة فذلك لمناسبة روحانية بين هذين الشخصين في أصل النشأة والمزاج الطبيعي والنظر الروحي فمنه ما يجرى إلى أجل مسمى ومنه ما يجري إلى غير أجل بل أجله الموت والتعلق لا يزول كحب النبي صلى الله عليه وسلم عائشة فإنه كان يحبها أكثر من حبه جميع نسائه وحبه أبا بكر أيضاً وهو أبوها فهذه المناسبات الثواني هي التي تعين الأشخاص والسبب الأول هو م ذكرناه ولذلك الحب المطلق والسماع المطلق والرؤية المطلقة التي يكون عليها بعض عباد الله ما تختص بشخص في العالم دون شخص فكل حاضر عنده له محبوب وبه مشغول ومع هذا لا بد من ميل خاص لبعض الأشخاص لمناسبة خاصة مع هذا الإطلاق لا بد من ذلك فإن نشأة العالم تعطي في آحاده هذا الأبد من تقييد والكامل من يجمع بين التقييد والإطلاق فالإطلاق مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم (
حبب إلى من دنياكم ثلاث - النساء ) وما خص امرأة من امرأة ومثل التقييد ما روى من حبه عائشة أكثر من سائر نسائه لنسبة إلهية وحانية قيدته بها دون غيرها مع كون يحب النساء فهذا قد ذكر يا من الركن الواحد ما فيه كفاية لمن فهم 0
وأما الركن الثاني
في بيت الفتن وهو الجاه المعبر عنه بالرياسة يقول فيه الطائفة التي لا علم لها منهم (
آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الرياسة ) فالعارفون من أصحاب هذا القول ما يقولون ذلك على ما تفهمه العامة من أهل الطريق منهم وإنما ذلك على ما نبينه من مقصود الكمل من أهل الله بذلك وذلك أن في نفس الإنسان أموراً كثيرة خبأها الله فيه ((
وهو الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون )) أي ما ظهر منكم وما خفى مما لا تعلمونه منكم فيك فلا يزال الحق يخرج لعبده من نفسه مما أخفاه فيها ما لم يكن يعرف أن ذلك في نفسه كالشخص الذي يرى منه الطبيب من المرض ما لا يعرفه العليل من نفسه كذلك ما خبأه الله في نفوس الخلق ألا تراه يقول صلى الله عليه وسلم (
من عرف نفسه عرف ربه ) وما كل أحد يعرف نفسه مع أن نفسه عينه لا غير ذلك فلا يزال الحق يخرج للإنسان من نفسه ما خبأه فيها فيشهد فيعلم من نفسه عند ذلك ما لم يكن بعلمه قبل ذلك فقالت الطائفة الكثيرة (
آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الرياسة ) فيظهر لهم إذا خرج فيحبون الرياسة بحب غير حب العامة لها فإنهم يحبونها من كونهم على ما قال الله فيهم إنه سمعهم وبصرهم وذكر جميع قواهم وأعضاءهم فإذا كانوا بهذه المثابة فما الحب أحبوا الرياسة إلا بالله إذاً لتقدم لله على العالم فإنهم عبيده وما كان الرئيس غلا بالمرؤوس وجودا وتقديراً فحبه للمرؤوس أشد الحب لأنه المثبت له الرياسة فلا أحب من الملك في ملكه لأن ملكه المثبت له كونه ملكاً فهاذ معنى (
آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الرياسة ) لهم فيرونه ويشهدونه ذوقاً لا أنه يخرج من قلوبهم فلا يحبون الرياسة فإنهم إن لم يحبوها فما حصل لهم العلم بها ذوقاً وهي الصورة التي خلقهم الله عليها في قوله صلى الله عليه وسلم (
إن الله خلق آدم على صورته ) في بعض تأويلات هذا الخبر ومحتملاته فأعلم ذلك
والجاه إمضاء الكلمة ولا أمضى كلمة من قوله ((
إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون )) فاعظم الجاه من كان جاهه بالله فيرى هذا العبد مع بقاء عينه فيعلم عند ذلك أنه المثل الذي لا يماثل فإنه بعد رب والله عز وجل رب لا عبد فله الجمعية وللحق الإنفراد0
(
وأما الركن الثالث ) وهو المال وما سمي المال بهذا الاسم إلا لكونه يمال إليه طبعاً فاختبر الله به عباده حيث جعل تيسير بعض الأمور بوجوده وعلق القلوب بمحبة صاحب المال وتعظيمه ولو كان بخيلاً فإن العيون تنظر غليه بعين التعظيم لتوهم النفوس باستغنائه عنهم لما عنده من المال وربما يكون صاحب المال أشد الناس فقراً إليهم في نفسه ولا يجد في نفسه غلا كتفاء ولا القناعة بما عنده فهو يطلب الزيادة مما بيده ولما رأى العالم ميل القلوب إلى رب المال لأجل المال أحبوا المال فطلب العارفون وجهاً إلهياً يحبون به المال إذ ولا بد من حبه وهنا موضع الفتنة والابتلاء التي لها الضلالة والمهداة 0
فأما العارفون فنظروا إلى أمور إلهية منها قوله تعالى ((
وأقرضوا الله قرضاً حسناً )) فما خاطب إلا أصحاب الجد فاحبوا المال ليكونوا من أهل هذا الخطاب فيلتذوا بسماعه حيث كانوا فإذا أقرضوه أو أن الصدق تقع بيد الرحمن فحصل لهم بالمال وإعطائه مناولة الحق منهم ذلك فكانت لهم وصلة المناولة وقد شرف الله آدم بقوله (
لما خلقت بيدي ) فمن يعطيه عن سؤاله القرض أنتم في الالتذاذ بالشرف ممن خلقه بيده فلولا المال ما سمعوا ولا كانوا أهلاً لهذا الخطاب الإلهي ولا حصل لهم بالقرض هذا التناول الرباني فإن ذلك يعمم الوصلة مع الله فاختبرهم الله بالمال ثم اختبرهم بالسؤال منه وأنزل الحق نفسه منزلة السائلين من عباده أهل الحاجة أهل الثروة منهم والمال بقوله في الحديث المتقدم في هذا الباب (
يا عبدي استطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني ) فكان لهم بهذا النظر حب المال فتنة مهداة إلى مثل هذا 0
وأما فتنة الولد فلكونه سرّ أبيه وقطعة من كبده وألصق الأشياء به فحبه حب الشيء نفسه ولا شيء أحب إلى الشيء من نفسه فاختبره الله بنفسه في صورة خارجة عنه سماه ولدا ليرى هل يحجبه النظر إليه عما كلفه الحق من إقامة الحقوق عليه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق ابنته فاطمة ومكانتها من قلبه المكانة التي لا تجهل ( لو أن فاطمة بنت محمد سرقت قطعت يدها ) وجلد عمر بن الخطاب انبه في الزنا فمات ونفسه بذاك طيبة وجاد بأعز بنفسه والمرأة في إقامة الحد عليهما الذي في إتلاف نفوسهما وقال في توبتهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأي توبة أعظم من أن جادت بنفسها والجود بإقامة الحق المكروه على الولد عظم في البلاء يقول الله في موت الولد في حق الولد ما لعبدي إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا عندي جزاء إلا الجنة فمن أحكم هذه الأركان التي هي من أعظم الفتن وأكبر المحن وآثر جناب الحق ورعاه فيها فذلك الرجل الذي لا أعظم منه في جنسه ومن وصيتي إياك - أنك لا تنام إلا على وتر لأن الإنسان إذا نام قبض الله روحه إليه في الصورة التي يرى نفسه فيها إن رأى رؤيا فإن شاء ردها إليه إن كان لم ينقض عمره وإن شاء أمسكها إن كان قد جاء أجله فالاحتياط أن الإنسان الحازم لا ينام إلا على وتر فإذا نام على وتر نام على حالة وعمل بحبه الله ورد في الخير الصحيح ( إن الله وتر يحب الوتر) فما أحب إلا نفسه وأي عناية وقرب أعظم من أن أنزلك منزلة نفسه في حبه إياك إذا كنت من أهل الوتر في جميع أفعالك التي تطلب العدد والكمية وقد أمرك الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فقال ( أوتروا يا أهل القرآن ) وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته وكذلك إذا اكتحلت فاكتحل وترا في كل عين واحدة أو ثلاثة فإن كل عين عضو مستقل بنفسه وكذلك إذا طعمت فلا تنزع يدك إلا عن وتر وكذلك شربك الماء في حسواتك إياه أجعله وترا وإذاً أخذك الفواق اشرب من الماس سبع حسوات فإنه ينقطع عنك هذا جربته بنفسي وإذا تنفست في شربك فتنفس ثلاث مرات وأزل القدح عن فيك عند التنفس هكذا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أهنأ وأمرأ وأروى وإذا تكلمت بالكلمة لتفهم السامع فأعدها عليه ثلاث مرات وتراً وحتى تفهم عنك فهكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني ما أوصيك إلا بما جرت السنة الإلهية عليه وهذا هو عين الإتباع الذي أمرك الله تعالى به في القرآن فقال (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )) فهذه محبة الجزاء وأما محبته الأولى التي ليست جزاء فهي المحبة التي وفقك بها للإتباع فبك قد جعله الله بني حبين إلهيين حب منة وحب جزاء فصارت المحبة بينك وبني الله وتراحب المنة وهو الذي أعطاك التوفيق للإتباع وحبك إياه وحبه إياك جزاء من كونك اتبعت ما شرعه لك (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة )) وبهذه الآية ثبتت عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لو لم يكن معصوماً ما صح التأسي به فنحن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع حركاته وسكناته وأفعاله وأحواله وأقواله ما لم ينه عن شيء من ذ لك على التعيين في كتاب أو سنة مثل نكاح الهبة خالصة لك من دون المؤمنين ومثل وجوب قيام الليل عليه والنجد فهو صلى الله عليه وسلم يقومه ونحن نقومه تأسياً وندباً فاشتركا في القيام يقول أبو هريرة ( أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث ) فاوتر في وصيته وفيها ( أن لا أنام إلا على وتر) ورد في الحديث الصحيح ( إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة ) فإن الله وتر يحب الوتر وقد تقدم في هذا الكتاب في باب سؤالات الترمذي الحكيم وهو آخر أبواب فصل المعارف في حب الله التوابين والمتطهرين والشاكرين والصابرين والمحسنين وغيرهم مما ورد أن الله يحب إتيانه كما وردت أشياء لا يحبها الله قد ذكرناها في هذا الكتاب فأغنى عن إعادتها .
يتبع بعون الله تعالى 0000